عند الساعة الثالثة فجرا، ارتفعت نغمة الموبايل، نسيت أن أطفئ الجهاز تحسبا لمتصل في مثل هذا الوقت. تركته يكمل معزوفته. تشتت تفكيري، وعليّ أن اجتهد مرة أخرى في نبذ مشاعري الشخصية عن التحقيق الذي اكتب. نظرت إلى اسم المتصل، فوجدت رقما بلا اسم. من يا ترى يمكن أن يتصل الآن؟ لا يهم، الرقم بلا هوية، أغلقت الجهاز، وأرخيت عضلاتي عسى أن استعيد هدوئي.
كنت قد عملت لأسبوع متواصل من اجل جمع المعلومات الكافية عن انتشار ظاهرة الايمو في البلد، ذلك ما كلفني به رئيس تحرير المجلة ــ ندعوه بالرئيس فقط ــ. حملت آلة التسجيل والكاميرا ورحت أطوف بها في الأماكن المشبوهة لألتقي بهم، وأسجل آراءهم في أنفسهم وفيما يدور حولهم. بالنسبة لي كان الأمر غامضا، ربما جاء ردا، لا افهم كيفيته، عن العنف الدموي الذي شهده البلد، لكن التوسع في البحث أخذني إلى أماكن أخرى، بعيدة عن ذلك التسطيح الذي جال برأسي عندما شاهدت الشباب يحشرون أنفسهم في ملابس ضيقة، مليئة بالزخارف والعلامات، ويسرحون شعورهم بطرق غير مألوفة. التقيت بمختصين في علم النفس وآخرين في الاجتماع، وبرجال دين أيضا، أسهم الجميع في تفسير الظاهرة، لكن "الحقائق" التي أشارت اليها التقارير المنشورة على الانترنت، ورؤيتي لهؤلاء الشباب، وما تكلموا هم به عن "حركتهم" جعلني أفكر في الأمر على نحو مختلف، وغامض بحيث لا استطيع أن أضمّنه تحقيقي الصحفي الذي عليّ أن أقدمه غدا.
التقارير التي أشارت إلى ارتباط الايمو بعبادة الشيطان، بدت غير واقعية، إلا أن أحدا لم يغامر باعتبار الظاهرة أمرا طبيعيا، وكما يجب أن يحدث في مجتمع متحضر، أو في نخبة متحضرة تستضاف في القنوات الفضائية، قسّم الضيوف معتنقي الايمو إلى أصناف، وكانت الأغلبية للأبرياء الذين لا يعرفون معنى لارتداء زي خارج عن التقاليد إلا أنه تمرد شبابي سوف يذوب بمرور الوقت كما تلاشت أزياء من قبله لتحل مكانها أزياء أخرى. لكن آخرين كانوا بعيدين جدا عن تلك الصورة الساذجة لظاهرة تنتشر بسرعة مدهشة في كل أرجاء العالم.
همس زميلي في المجلة:"وماذا يريد الشيطان أكثر من أن يتحول الإنسان إلى ايمو، ليعلن انتصاره".
ــ مازال الوقت مبكرا.
ــ قريبا سترى أن الوقت قد تأخر جدا، بحيث لن نجد أمامنا ما سنفعله.
يبدو احمد غريبا أحيانا، لذلك لا أحب الدخول معه في نقاشات طويلة، خاصة وهو يرى أن تشعب الآراء يشبه شجرة كثيرة الأغصان لكنها لن تثمر أبدا.
أكملت التقرير، تماشيا مع رغبتي في التخفيف من وطأة الأمر، بكلام دكتور في علم الاجتماع يرى أن الحل يكمن في اهتمام الدولة بتطوير التنمية البشرية، الاستفادة من طاقات الشباب، وكلام طويل يشبه الخطابات السياسية. وجاءت اللحظة التي يجب أن أكون فيها في منتهى التركيز لأكتب خلاصتي التي خرجت بها من الدوران في العالم الوافد.
الحقيقة أن الشذوذ الجنسي ليس أمرا جديدا، لكن أن يؤسس الشاذون تنظيما ويميزون أنفسهم بزي خاص هو أمر جدير بالانتباه. حذفت كلمة الانتباه لأنها تبدو محرضة نوعا ما، وكتبت بدلا منها، بعناية الجهات المختصة، رغم عدم يقيني من أن الجهات المختصة ستقوم بأية خطوات جادة لدراسة القضية، ومتابعة أثارها المستقبلية على الهوية الجنسية للمجتمع. وربما كان ذلك ليس مجرد شك عند زميلي فهو يرى أن سلب الهوية الذكورية من الرجل لا يحوله إلى أنثى، إنه يحوله إلى شاذ فقط، إنسان غير سوي، خنثى في أحسن تقدير، ولتذهب حرية الرأي، وهذه الهرطقيات إلى الجحيم. هناك من يريد تحطيم مجتمعنا، تلك هي الحقيقة التي يجب علينا أن نواجهها.
وعندما سألته من هذا العدو الذي يجب أن نعيش أعمارنا على أهبة الاستعداد له؟ رد عليّ بكلمة واحدة، اسم لا يشير إلى مسمى معين، ولا يمكنني أن أضع نفسي في مواجهته، لأنه مختف، وإذا أردت أن آخذ رأي زميلي بنظر الاعتبار، فهو غير منظور فقط.
وجدت خلاصتي غير مناسبة، لأن الأمر لا يتعلق بالشذوذ الجنسي، وربطه بهذه الممارسة فخ عليّ تجاوزه، الحقيقة التي توصلت إليها بعد البحث تجبرني على عدّ الايمو دينا جديدا يدعو إلى عدم التمسك بدين محدد، إنها ثورة على الأديان لصالح اعتقاد يرى للإنسان أن يطلق العنان لنفسه في التعبير عن "عواطفه"، ومع أن هذا التعبير مهادن جدا، ويلتف حول الحقيقة
بمكر كبير، فما الذي سيدفعني إلى كتابة "غرائزه".
الساعة تقترب من الرابعة فجرا وعليّ أن أنهي هذا التذبذب بين رغبتي في كتابة تحقيق لا يثير غضب الناس تجاه الايمو وبين أمانتي الصحفية.
وكما تكون القصص مفتوحة النهايات أحيانا، اخترت لتحقيقي أنا أيضا نهاية مفتوحة، لا تشير إلى موقف محدد من الظاهرة، وتترك الرأي بها إلى المستقبل بعد دراستها بجدية. وجدت أن ما كتبته مناسب تماما، فليس علينا أن نصرح بالحقيقة دائماــ في هذه الحالة لن انتظر الوقت المناسب الذي يرى زميلي أنه عامل مهم للتمكن من قول الحقيقةــ ما دام إخفاؤها لا يعني الكذب.
أرسلت التحقيق بالبريد الالكتروني إلى المجلة.
تمطيت قليلا، لأخفف من حدة الألم الساري في ظهري، أغلقت جهاز الكومبيوتر، وشغلت الموبايل لأضبط المنبه على الساعة السادسة والنصف، نصف ساعة لن تكون مكافأة كبيرة على أي حال مقابل الجهد الذي بذلته أسبوعا كاملا.
بعد دقائق من ضبط المنبه والاستلقاء على السرير، ارتفعت النغمة من جديد. نظرت إلى الشاشة لأرى الرقم، فاخترت أن أرد.
ــ الو.
سمعت صوتا ناعسا لفتاة، وربما امرأة تتظاهر بأنها فتاة، أو قد يكون صوت أحدهم يستخدم برنامج تغيير الصوت. لكنه يتغلغل إلى الاعصاب مباشرة، ويطرق على الذّ الحواس.
ــ لماذا لا ترد عليّ؟
ــ عفوا، من تكوني؟
ــ ليس مهما من أكون، ولكن لماذا أغلقت الهاتف؟
ــ أنا لا أعرفك.
ــ نتعرف.
ــ عذرا أريد أن انام.
ــ لم يبق إلا القليل لحلول وقت الصلاة. يمكننا أن نتلسى حتى ذلك الوقت.
ــ آسف، لا استطيع.
قطعت الاتصال، لكن النغمة ارتفعت من جديد، حوّلت وضع الموبايل إلى الصمت، وأطبقت عيني . . في ظلام عيني المطبقتين ارتفع الصوت الناعس من جديد، أسراب من كرات معدنية تسري في دمي، وتوقظ مشاعري. جلست على السرير، اعرف أنني لن أنام. نظرت إلى الجهاز، الاتصال مستمر، وعدد المكالمات التي لم يتم الرد عليها يتراكم على الشاشة. استغربت من هذا الإصرار على الحديث في مشارف اليوم الجديد. لكن خوفا في نفسي كان يقمع رغبتي في الرد. أغلقت الجهاز، وتمددت على السرير. أخذت أتنفس بعمق في محاولة لطرد الهواجس من رأسي، وسمحت للنعاس أن يحل تدريجيا ليأخذني في طريق النوم.
استيقظت، اشعر بتعب غريب يثقل جسدي، وخدر في قدميّ، كانت أشعة الشمس النافذة إلى الغرفة حادة، لا شك أنني تجاوزت الوقت المقرر للنوم. شغلت جهاز الموبايل، وانتظرت ظهور الساعة على الشاشة. بعد ثوان عرفت أنني قد تجاوزت حدودي في النوم بشكل غير معتاد. الساعة تشير إلى التاسعة. أسرعت إلى الحمام، اكتفيت بغسل وجهي، وبعض البلل على شعري كي أتمكن من تمشيطه، ثم غيرت ملابسي. حملت حقيبتي الجاهزة دوما على ظهري، ونزلت إلى الشارع .
اشتريت لفة ودخلت المقهى، أتناول فطوري. كان معظم الزبائن قد غادروا، ولم يبق غير أنفار قليلين، يرتشفون شايهم على مهل، ويتحدثون بكسل كأنهم يمتلكون الوقت كله.
التفت صاحب المقهى إليّ وسأل ببرود: "اليوم متأخر أستاذ؟".
ــ أخذني النوم.
نظر أحد الزبائن إليّ بامتعاض. كان يدقق في شعري الاعكش الطويل، ثم مسح بعينيه ملابسي. طوال الوقت الذي عشته في بغداد وجدتها مأوى لمختلف الاصناف من الناس، حيث لا أحد يعير اهتماما للآخر. لكنني اعرف عمَّ يبحث الآن، وقد تغير كل شيء. ابعد نظره عني بعد أن تأكد من عدم وجود شارات أو جماجم.
قال صاحب المقهى: "يجب أن تتعجل إذن".
وبلهجة مجاملة أجبت: "ليس هناك ما يدعو إلى العجلة، فليس لدي عمل لهذا اليوم."
ــ أنت محظوظ إذن.
وقبل أن أتمكن من رسم ابتسامة كاملة، ارتفعت نغمة الموبايل. كان الرئيس.
ــ الو.
ــ الو، ألا تقول لي أين كنت. أنا اتصل بك منذ الصباح؟
ــ عفوا أستاذ، لقد تأخرت في النوم.
ــ أريدك هنا حالا.
فوّت بعجلتي فرصة الاستمتاع الصباحي بمشاهدة الناس يمارسون أعمالهم، والبحث عن مشهد يمكنني التقاط صورة له.
حالما دخلت إلى غرفته، رمى أوراقا أمامي، عرفت أنها تحقيقي الذي كلل جهود أيام الأسبوع الماضي.
ــ ما هذا؟ سأل.
ــ إنه التحقيق الذي طلبت.
ــ غير مناسب، غير مناسب أبدا. نحن نريد أن نكتب تحقيقا عن ظاهرة الايمو لا أن ندافع عنها، نحن هنا لسنا في جمعية للدفاع عن حقوق الشواذ. ما هذا الكلام، وأين هي صور الايمو؟ هذه صور لشباب عاديين.
اعمل منذ عامين في هذه المجلة، ومع هذا الرجل، ولم أره يوما بهذا القدر من الغضب، واعرف أنه لا يبحث عن الإثارة أكثر مما يبحث عن الحقيقة. جاء ردي مختلفا عما كان متوقعا مني، واحسب أنه كان ممتنا لأنني لم أدر ظهري له واخرج إلى الأبد. جمعت الأوراق، رتبتها، وقدمتها له مرة أخرى.
ــ كل ما في هذا التحقيق حقيقي.
ــ لكنه لم يكتب بالشكل المناسب.
ــ لا باس أن تكتب الحقيقة بأسلوب ملطّف، نحن كما اعتقد لا نبحث عن الإثارة.
ــ لكن أسلوبك هذا سيجعلنا في صف المدافعين عن ظاهرة الايمو.
ــ التحقيق يحتوي على حقائق لم يذكرها أحد.
ــ ربما عليك إعادة صياغة بعض الجمل.
ــ لن أعيد كتابة عبارة واحدة.
ربما يكون على حق في قضية التصنيف، فنحن في بلد لا يقبل أن يقف فيه الإنسان مراقبا فقط، لكن إعادة كتابة التحقيق ستغير موقفه الحيادي تماما.
اضطررت إلى أن اشرح له لجوئي إلى هذا الأسلوب، ووافقت على أن تنشر مع التحقيق صورة من تلك التي تنشر على الانترنت بعد أن يجرى عليها التعديل.
قطب حاجبيه متظاهرا بأنه يتقبل الأمر على مضض، ثم، تغير اسلوبه كليا، فتكلم بصوت يقترب من الهمس، أو الرجاء:
ــ لدي مهمة لك.
ــ ما هي؟
ــ أريد تحقيقا عن موضوع الكرامات.
فهم من صمتي أني لم أفهم قصده.
ــ حدثت في الآونة الأخيرة الكثير من الكرامات. أريد منك تحقيقا حول هذا الموضوع، وأرجو أن تفرغ منه بأقرب وقت.
ــ لك ذلك. قلت، وخرجت إلى غرفتي من المبنى.
سمعت في حياتي عن الكثير من الكرامات التي حدثت لأناس في مدينتي الصغيرة، حيث علاقتهم بالأولياء أقوى مما هي عليه في المدن الكبير. في كل منطقة هناك مزار لولي صالح تشهد الرسوم البدائية على جدران المزار بقدرته على شفاء لدغات الثعابين أو قدرته على الإمساك بها دون أن تلدغه. كان الأمر يثير دهشتي، فالأفعى كائن كريه، سام، ومغطى بالحراشف، مرت سنوات طويلة لأردم هذه الفجوة التي بقيت في ذاكرتي، واحل لغز العلاقة بين الولي والثعبان، فالكثير من الأبطال الأسطوريين، توجوا انتصاراتهم بالتغلب على الأفعى أو التنين. كلكامش وحده غدرت به الأفعى، وسرقت منه عشبة الخلود. لكن موضوع الكرامة بقي أمرا مجهولا بالنسبة لي، وتركت التفكير به منذ زمن طويل، بعد أن لم اعد اسمع به.
ــ ما الذي يشغل تفكيرك؟ سأل احمد.
ــ التحقيق القادم.
ــ ما موضوعه؟
ــ لن تصدق.
ــ ولم لا اصدق؟
ــ أمر غريب لم يعد أحد يفكر به.
ــ ولم اخترته إذن؟
ــ لم اختره أنا، بل هو طلب من الرئيس.
ــ ما هو؟
ــ الكرامات.
ــ الكرامات! قال مستغربا. إنه موضوع مدهش حقا.
تلقى احمد الموضوع بسعادة فاقت تصوري.
ــ بدأ الناس يفقدون الارتباط بالله، ولا بد من إعادتهم إلى الصراط المستقيم.
ــ بالكرامات؟
ــ ولم لا، الكرامات من آيات الله تعالى للناس ليذكرهم بقدرته.
أجبت بفكر مشغول:
ــ نعم، ربما.
وجه لي سؤالا لم يخطر على بالي سابقا:
ــ لماذا تحدث الكرامات عند الأولياء فقط وليس عند غيرهم؟ هل سمعت أن انشتاين مثلا أو سقراط شفى مريضا من مرضه؟
ــ لا.
ــ أرأيت؟ إنها قدرة الله تعالى يظهرها على يد أوليائه.
ــ افهم من ذلك أنك ستساعدني في هذا التحقيق.
ــ بكل تأكيد.
فاجأني إحساس بضرورة الاتصال بأمي. تخيلتها جالسة إلى جانب قبر لأحد الأولياء تدعو لي، وتطلب منه أن يغفر لولدها الذي خربت عقله الكتب، فتمرد على عادات أهله. لم تجب، ربما كانت مشغولة، أو أنها فعلا عند قبر ولي.
القلق يعكر ملامحي، وربما أدركت زميلتي ــ التي دخلت أثناء انشغالي بمحاولة الاتصال ــ أنني كنت اتصل بأمي، ولم أرد على تحيتها.
ــ خير؟ سألت.
ــ أمي لا تجيب.
ــ مازال الوقت مبكرا للاتصال بها.
ــ ما يدريك؟
ــ لأنك لا تتصل بها عادة في مثل هذا الوقت.
ثم أخذت بالنقر على مفاتيح الكي بورد.
ــ ما أخبار تحقيق الايمو؟ سأل احمد.
ــ يبدو أنه لم يعجب الرئيس.
ــ لماذا؟
ــ ليس مباشرا.
ــ التحقيق الصحفي يجب أن يكون مباشرا كما علمونا.
ــ المباشرة غير ممكنة في هذا الموضوع. الأمر ما يزال غامضا.
ــ كل تصرفات الشيطان غامضة يا صديقي.
ضحكت. اخرج من درجه قرصا وناولني إياه.
ــ ما هذا؟
ــ لتعرف كيف يعمل الشيطان.
ــ وهل للقرص علاقة بالايمو؟
ــ ليس بشكل مباشر، ولكنك ستعرف أنهم عبيد الشيطان فعلا، أو في طريقهم ليكونوا كذلك.
ــ لماذا تعطيني اياه الآن؟
ــ كنت افكر باطلاعك عليه منذ مدة، لكنني اعتقد أن الوقت قد حان.
وضعت القرص في حقيبتي، وخرجت.
* * *
تركت العالم يعج بالصخب خلف ظهري، وتوجهت إلى النهر. مشيت على طول الكورنيش أتجنب النظر إلى وجوه الناس، أو التفكير بهم. الوحدة تصبح غايتي عندما ينهكني الاحتكاك بالآخرين، هكذا كنت منذ صغري، اهرب إلى عوالمي، وأعيش أحلام يقظتي.
جلست على المسناة، عندما شعرت بالتعب، ورحت انظر إلى النهر. الأمواج تضرب الصخور برفق، كأنها أكف تمحو الغبار، وتطهر النفس. نبهني ارتفاع صوت المؤذن إلى مرور الوقت. فنهضت بذاكرة جديدة. اخترقت الأسواق صوب مسجد قديم. صليت، ثم عدت اطرق الشوارع من جديد. الناس خليط غير متجانس، وكأنهم من عصور مختلفة. يبدو لي أن هناك صراعا خفيا يدور خلف كل هذه المظاهر، سينفجر يوما ما.
دخلت أول مطعم قابلني عندما شعرت بالجوع. ومرة أخرى حاولت الاتصال بأمي. بعد لحظات أجابت على اتصالي. سألت عن أحوالي، وطلبت مني أن أعود إليها في اقرب وقت. طمأنتها، ووعدتها أنني سأعود قريبا. تنفست بعمق، أمي مازالت تمارس الحياة. تناولت غدائي بشهية مفتوحة، دفعت الحساب، وقررت أن أعود إلى غرفتي في الفندق.
في طريق عودتي ارتفعت نغمة الموبايل، أخرجته من جيبي، فلاح الرقم المجهول على الشاشة. قطعت الاتصال، فعادت النغمة من جديد. حولت وضع الجهاز إلى الصمت، وواصلت طريقي.
مازال هناك وقت حتى حلول العصر، استلقيت على السرير ونمت بلا أحلام أو وساوس، ثم استيقظت بعد ساعة مع دوار خفيف يشوش رؤيتي. غسلت وجهي، أخذت حبة من دواء تجاري سريع المفعول، وعدت إلى السرير. نظرت إلى الموبايل، خمس مكالمات لم يرد عليها للرقم نفسه. فتحت الجهاز، وحذفت الرقم، ثم فتحت حقيبتي، أخرجت حاسوبي المحمول، شغلته، وأدخلت القرص كي أرى ما يريد مني احمد أن اعرف.
بدأ القرص بعبارة رهيبة. اكتشف ما يدور من حولك.
العبودية طواعية
البحث الأهم والأضخم.
النبوءة تقول: إنه في نهاية التاريخ سيكون هناك عبودية كبيرة، اكبر مما مر في التاريخ اجمع. عن أية عبودية تتحدث؟ . . انتبه، قد تكون أنت نفسك تتعبد طواعية. . المال . . الجنس . . العمل . . الشيطان.
كانت هذه العبارات مكتوبة كمقدمة للفلم الذي يفترض أن يعمل بعد النقر على كلمة play. توقعت أن أرى سجونا كبيرة يعذب فيها معتقلون، ومشاهد لجيوش تتقاتل، وعروشا، توقعت ــ وكان لكلمة نبوءة دور في توقعي هذا ــ أن أرى رجال دين يتحدثون عن شياطين وأنبياء. نقرت على play فدار القرص ، وابتدأ الفلم.
ارتفعت موسيقى هادئة ترافق مشهدا شاحبا لريف في طريقه إلى الأفول في مكان ما من العالم، هناك صبي يمشي، لا اعرف إلى أين ، يبدو أنه أيضا لم يحدد هدفا لمسيره، إنه يمشي فقط مغادرا صوب مصير مجهول. ارتفع صوت شجي، يقرأ مقطعا من قصيدة يمثل الشعور الذي يتملكني تجاه العالم. الذاكرة تتلاشى وكأنه لم يكن هناك أمس، ولا أمل يلوح في الغد. وبعد عبارة لراعي أغنام يتحدث فيها عن ضرورة اكتساب ثقة القطيع بالراعي كي يوجهه حيثما يريد، ظهر تايتل الفلم، اسم الشركة المنتجة فقط والرسالة التي يراد للمشاهد أن يعرفها . مشروع استيقظوا من الغفلة . كانت هذه العبارة ضرورية كي استمر في مشاهدة فلم بلا قصة أو ممثلين يبرعون في أداء أدوارهم. صور وكلمات، مشاهد واقعية وتعليقات، حوارات مع علماء وباحثين، ناشطون غاضبون، وموسيقى تنذر بخطر وضياع.
الدول عبارة عن شركات، الحكومات مستثمرون، والشعوب عبيد. وضعت القوانين كي يستمر العبيد في أداء دورهم بلا شعور. من المدهش اكتشاف أن شهادة الميلاد ليست إلا سند ملكية الإنسان ــ الذي يتغير وصفه إلى شخص ــ للدولة / الشركة، فهو رصيد ليس إلا. كان الشخص الذي يعرض شهادة ميلاده أمام الجمهور ويبين لهم حقيقة أنها سند ملكية، يفعل ذلك في ساحة عامة من بلد لم أتمكن من تحديد هويته. أما وسائل الإعلام، فينحصر دورها في تلقيننا ما يجب أن نتعلمه كي لا نتمرد على هذا الواقع.
ورغم أن الفلم يعرض حقائق في بلدان بعيدة ــ يجد الناس فيها على الأقل من يكشف لهم تلك الحقائق ــ إلا أنه فجر أسئلة مضمرة في نفسي. أين تذهب واردات النفط الضخمة في بلد يتزايد فيه الفقراء ــ يعرض الفلم أطفالا ينبشون القمامة بحثا عن الغذاء وهذا يحدث عندنا أيضا ــ وتنتشر فيه الأمية؟ ولماذا تعجز الحكومة عن حل معضلة الكهرباء؟ هل هي عاجزة فعلا؟
اكانو مؤمنين فعلا بحرية الرأي أم أنها وسيلة لرفع الضجيج فقط؟
لماذا اختفت الملابس النسائية المحتشمة من الأسواق؟
من الذي سمح بانتشار المنشطات الجنسية، يمكن أن تعتذر أية صيدلية عن وجود نوع ما من الأدوية لكنك ستجدها مليئة بالمنشطات الجنسية التي تعرض دائما في واجهة الصيدلية، ربما عليّ القيام بتحقيق موسع عن ذلك. والأفلام الإباحية تباع في محلات الأقراص الليزرية وعلى الأرصفة؟
هل من المعقول أن يدا خفية ترسم لنا أسلوب حياتنا؟
عند الساعة الرابعة والنصف عصرا، اتصل احمد ليخبرني أنه التقى بعدد من الناس الذين حصلت معهم الكرامات، ويستطيع أن يرتب لي لقاءات معهم. أخبرته أنني يمكن أن التقي بهم غدا، فسأل:" هل شاهدت الفلم؟".
أجبته:
ــ نعم، شاهدته قبل قليل.
ــ سوف اجلب لك فلما آخر.
ــ لا باس.
كنت أرى احمد شخصا غريب الأطوار ولا يمكن عقد صلة حميمة به، زارني اليوم إلى غرفتي في الفندق يحمل معه فلما آخر. أخذت منه القرص، ووضعته في درج الخزانة. بادر إلى السؤال من غير مقدمات:
ــ هل تعرف ما هي اكبر خدعة مارسها الشيطان على الإنسان؟
ــ لا.
ــ إقناعه أن الشيطان غير موجود.
وابتسم، كأنه يريد مني جوابا ما على كلامه، كنت اعرف أن الشيطان موجود، اسمعه يوسوس في صدري، رأسي، يحضني على بعض الأعمال، وينهاني عن أعمال أخرى. لا سبيل أمامي إلى إنكار وجوده. لكنني لم أتعامل معه بجدية. إنني أعيش حياتي كما أريد، رغم أن الوساوس والأفكار السيئة تراودني باستمرار. لماذا عليّ أن أنكر؟
ــ سترى في هذا القرص أن الشيطان ليس موجودا فقط، بل سترى ذلك بالأدلة العلمية.
ــ اعرف أن الشيطان موجود. ليس هذا هو المهم، مادمت لا اعرف أين هو الآن، ماذا يعمل، وبماذا يفكر؟
ــ ستعرف ذلك أيضا من خلال الفلم.
ــ لماذا أنت مهتم بالموضوع إلى هذا الحد؟
ــ لأنني أراه باستمرار . . أراه في كل مكان يقود الناس إلى الهلاك.
ــ هذه هي وظيفته.
واجهت صعوبة في أن لا احل محله هذه المرة، فأنهي النقاش بتغيير الموضوع.
ــ هل حددت موعدا مع الأشخاص ــ أصبحت هذه الكلمة كريهة إلى نفسي ــ الذين سألتقيهم غدا؟
ــ نعم، تستطيع أن تلتقي الأول عند الساعة التاسعة صباحا، أما الثاني، فسنراه بعد الظهر، وعند العصر سنلتقي بالثالثة، وبعد غد نستطيع أن نلتقي الشخص الرابع.
ــ رجلان وامرأتان، ذلك أمر جميل. لكن هل راعيت التفاوت في مستوياتهم العلمية؟
ــ نعم، لكنهم امرأة وطفلة ورجلين.
ــ هناك طفلة أيضا؟
ــ نعم، سيتكلم عنها أبوها.
ــ نلتقي غدا إذن.
امتلك فكرة لا باس بها عن الكرامات، إنها أحداث غير خاضعة للقوانين المنطقية، ولا يمكن تفسيرها تفسيرا علميا، تقع في حياة بعض الناس، فكتبت مقدمة التحقيق بيسر، ولم انس درج تساؤل الفيلسوف اليوناني الماكر، عن أولئك الذين لم تنقذهم اثينا.
* * *
عبثا أحاول تجاهل القرص.
الكآبة شعور يغطي السماء. لا يمكن لبوصلة الأيام أن تشف عن ملامح القادم، إنها تتأرجح، فيتحول الزمان إلى بحر متقلب المزاج، لا يمكن لأي جهد أن يجبره على الهدوء، كل ما نقوم به يتجه صوب التشبث بذلك الخيط الذي يشعرنا أننا أحياء بانتظار نهاية ما يمكن أن يأتي بها يوم، ليقيننا أن الموت من عادة الأشياء.
لقد سلبت البهجة من حياتنا تماما، فهي لا تظهر إلا لتغيب وتنسى، ثم يرتدي الزمن وجهه المألوف. هل نحن ضحايا ناس تملكهم حب القوة وتمني الخلود، فرهنوا أنفسهم عند الشيطان؟ اشعر، عندما انظر إلى نفسي وإلى الوجوه المطاطية من حولي، إننا نتحرك داخل سجن واسع، لا يمكننا أن نرى أسواره، لكننا نشعر بضغطها علينا، ومع شعورنا بتزايد الضغط، لا نستطيع أن نتمرد، أو أن نفكر بالتمرد حتى، لأن كل خطوة خارج الطرق التي رسمت لنا، هي خطوة في طريق النبذ والضياع.
في التاسعة صباحا ، بدأ السير للعمل على التحقيق الجديد. وقد تكوّن في نفسي غرض آخر للبحث في عوالم اللا مرئي، أخذني بعيدا عن قناعتي الراسخة بالحتميات التي تسيّر الحياة وتحكم الأشياء.
ثلاث مقابلات، ثلاث قصص غريبة عن أمراض مستعصية، وشفاء غير متوقع، ولا يمكن التصديق به لولا أنه حدث.
عرضوا عليّ المستمسكات الطبية التي تؤكد إصابتهم بعلل خطيرة. تقارير سونار، أشعة، تخطيط للقلب، وصفات أدوية، أحاديث عن ألم وخوف، ثم يأتي ذلك التدخل الغيبي، ليشفي المرض ويزيله تماما.
بعد دخولها في غيبوبة، رأت المرأة الإمام عليا ــ عليه السلام ــ والى جانبه وليا صالحا. تكلم معها الولي، طلب منها أن لا تخاف، لأنه سيجري لها العملية، واخبرها أنها ستشفى. كانت تخاف من إجراء العملية. قالت أن نسبة النجاة كانت ضئيلة، لذلك قررت الذهاب إلى الولي وطلب مساعدته، لكنه جاء قبل أن تأتي إليه، انتقل وعيها من السيارة إلى عالم آخر. وجدت نفسها في مستشفى، مع طبيبين من عالم آخر. كان الإمام علي ــ عليه السلام ــ يوجه الولي، وهو يعمل على استئصال الورم، و يردد على سمعها:" لا تخافي ، ستشفين، إن شاء الله".
عند غروب اليوم التالي، انتهت العملية، واستيقظت المرأة من غيبوبتها، لتجد نفسها في بيت أهلها، وقد أجريت لها العملية فعلا، وشفيت من المرض. أخبرتنا أمها، أنهم كانوا يسمعون ابنتهم تتحدث مع الولي، فعرفوا أنه يجري لها العملية، وكانوا يرفعون من تحتها خرقا ملوثة بالدم، مثل تلك التي في المستشفيات.
شفي الشاب من الشلل بوخزة واحدة من عصا الولي الذي زاره في المنام، ونهض ليجد نفسه واقفا على قدميه. قال:" رأيته في المنام، طلب مني أن انهض، فأخبرته أنني مشلول. طلب مني القيام مرة أخرى، ووخزني بعصاه، فقمت".
تكلم الرجل الثالث عن شفاء طفلته من المرض. كان سعيدا، وخمنت أنه على استعداد لسرد القصة لكل من يلتقي به دون أن يشعر بالملل:" لقد طلبت من الإمام الحسين ــ عليه السلام ــ أن يشفيها لأسمع صوتها، فلم يردني أبو عبد الله". ثم طلب من الطفلة أن تتكلم، فألقت السلام علينا، وقد كانت خرساء من قبل.
هكذا بكل بساطة، ومن دون أي تكلف أو تعقيد، طلب الرجل من الإمام الحسين ــ عليه السلام ــ أن تشفى ابنته، فشفيت. لم يخطر في باله أنه يطلب أمرا مستحيلا، أو غير معقول. أرانا الفيديو الذي يصور الحدث لحظة انطلاق لسان الطفلة، لا ليثبت لنا صدقه، بل ليتباهى بتلك اللحظة التي انطلق فيها لسان طفلته بين السائرين، وتجمع الناس حولها يرفعون أصواتهم بالصلوات، وربما لنشاركه فرحته بتلك اللحظة.
عدت إلى غرفتي منهكا بعد التنقل بين أماكن بعيدة عبر زحامات تخترق حدود الصبر. لكنني لم استطع الاستقرار على السرير لأكثر من ربع ساعة لم يكف فيها رأسي عن العمل كماكنة مزعجة لإعادة سرد القصص وتحليلها وعصر الأسئلة منها.
نزلت إلى الشارع، تمنيت لو أنني استطيع سؤال كل من أقابله عن الكرامات.
هل وقعت له؟
لماذا تحدث؟
لماذا لا تحدث للجميع؟
ولماذا لا تقع إلا على يد الأولياء؟
لماذا هي طبيعية ومتوقعة عند البسطاء من الناس؟
لماذا لم يخبرني احمد قصة الرجل الرابع؟ ماذا يمكن أن تكون قصته؟
دخلت كافيتيريا ــ لا يمكن لها أن تعمل في مثل هذا الوقت قبل عام ــ تناولت عشائي بسرعة، ثم عدت امشي بهدوء في طريقي إلى الفندق.
قبل أن اشغل حاسوبي، ارتفعت نغمة الموبايل، وأضاء الرقم المجهول على الشاشة. كنت بحاجة شديدة للحديث مع شخص.
ــ الو.
ــ أخيرا قررت الرد!
ــ لماذا تلحين في الاتصال؟
ــ ولماذا تلح في الرفض؟
ــ أنا لا أعرفك.
ــ لكنني أعرفك، وهذا يكفي.
ــ ماذا تريدين إذن؟
ــ يمر الليل طويلا بلا أحاديث.
ــ تحدثي.
ــ تحدث أنت.
ــ أنت من اتصل بي.
ــ هكذا تجري الأمور. تتصل البنت ويتحدث الولد.
ــ كما ترغبين . . لدي سؤال.
ــ عمري عشرون عاما، وأنا غير متزوجة.
ــ لا اسأل عن عمرك.
ــ أنا جميلة، ليس هذا رأيي، الجميع يقولون ذلك.
ــ لم يخطر لي أن اسأل عن شكلك.
ــ ما هو سؤالك إذن؟
ــ هل سمعت عن الكرامات؟
ــ وسمعت عن السحر، ومثلث برمودا أيضا. كل هذه الأمور سيتم تحليلها علميا، وتتضح حقيقتها يوما ما، فلا تقلق.
ــ لست قلقا.
ــ أنت قلق، يمكنني أن اشعر بهذا في نبرة صوتك.
ــ أنت خبيرة في قراءة الأصوات أيضا.
ــ لن تجد أفضل مني في ذلك.
ــ لا شك أن هذا نتيجة خبرة طويلة من الاتصالات . . كم هو عدد الأشخاص الذين تتصلين بهم؟
ــ أكثر مما تتوقع.
ــ حسنا، تحت أي اسم تريدين أن انشر رأيك؟
ــ تحت الحروف الأولى من اسمي، ش . ر، لكنني اطلب منك أن تجعله آخر الآراء.
ــ أنت أول شخص آخذ رأيه.
ــ لقد أخذت رأي شخص قبلي.
كان احمد يردد ما فهمته من أحد الأفلام التي أراني إياها، نظرية الأبعاد، وتداخل العوالم، ويفسر الظاهرة على أنها قابلية يتمتع بها الأولياء للنفاذ من عالم إلى آخر. لكن كيف عرفت؟
ــ اعرف كل شيء عنك . . استطيع أن أحصي نبضات قلبك.
ــ لا تبالغي.
ــ كما تشاء.
ــ حسنا إذن، لا شك أنك تعرفين الآن أنني متعب، ويجب أن أنهي حديثي معك كي أنام.
ــ اعرف أنك متعب، لكنك لن تنام. سوف تسهر لتعمل . . مع السلامة.
ــ مع السلامة.
كما لو أنني اتّبع وصيتها ــ لست واثقا من كونها فتاة ــ وليس السهر من عادتي، أعدت سماع التسجيل أكثر من مرة قبل أن اكتب الكلمة الأولى.
* * *
الشخص الوحيد الذي استطيع أن أجده مستيقظا حتى الثانية بعد منتصف الليل هو صديق على الماسنجر ــ نادرا ما تحدثنا، لأنني لا اكلمه إلا عندما تكون هناك مناسبة للحديث ــ أنا واثق من أنني سأحصل منه على رأي في الموضوع. فتحت الانترنت، ولم يفاجئني وجوده.
جرت الأمور بيننا على أن لا نضيع الكثير من الوقت بالمقدمات، كي نقلل من احتمال بتر الحديث بمفاجأة غير سارة من الكهرباء، أو سوء خدمة الانترنت.
ــ مرحبا.
ــ مرحبا.
ــ هل اقاطعك؟
ــ لا، تفضل.
ــ هل سمعت عن الكرامات؟
وتركته يتكلم.
"لنطرح هذا السؤال أولا: هل هذه الظاهرة متعلقة بالدين الإسلامي أم أننا يمكن أن نجد لها شبيها في الأديان الأخرى، السماوية والوضعية؟
سوف أقص عليك هذه الحكاية. كانت هناك راهبة يتجمع حولها الناس في مكان معد كما لو أنه مسرح مجهز بمختلف المؤثرات، شاشات عرض، أبخرة تتوهج بألوان مختلفة، موسيقى، وكل ما من شأنه أن يدخل الحضور في جو الطقس الذي تمارسه، وتحقق من خلاله الشفاء للمرضى.
قرر عالمان دراسة سر تأثير هذه الراهبة في المرضى، بعد أن انتشرت أخبار معجزاتها. كان الأول مختصا بالطب النفسي والأخر بطب الأعصاب.
شاهدنا في صالة الانتظار المئات من الأشخاص المتواجدين للمشاركة في الطقس ونيل بركات الراهبة، يتحدث أحد العالمين، ولاحظنا أن هناك بعض الأشخاص يتحدثون بين المنتظرين، ويسألونهم بعض الأسئلة من قبيل تلك التي تدور بين شخصين يجلسان بانتظار شيئا ما. كنا نظن أنهم جاؤوا للمشاركة في الطقس أيضا.
ولما دخلنا القاعة المبهرة في تصميمها المسرحي. نادت الراهبة على رجل مقعد:" أنت أيها الرجل الجالس على الكرسي، قم باسم المسيح، قم باسم المسيح". وبعد عدة دورات قامت بها حوله، وهي تكرر الأمر، وحفنات من البخور ألقت بها في المبخرة. عادت للوقوف على المنصة، وكررت أمرها له بالوقوف، فنهض، وسط دهشتنا، ومشى ليقف إلى جانبها. لقد شعرنا بالقشعريرة، ونحن نشاهد المرضى ينهضون أصحاء بعد أن كان المرض ينهكهم.
في المرة التالية، سجلنا حالات بعض المرضى قبل دخولهم إلى القاعة، وكنا قد تأكدنا من إصابتهم بأمراض خطيرة، لأن قناعاتنا العملية قد دخلت موضع الاختبار، فلم نكن نصدق أن هذا الأمر يمكن أن يحدث. وبعد مرور عدة أيام، لاحظنا اختفاء تلك الأمراض أو تحسنها إلى حد كبير.
لكن بعد مرور أشهر على المراقبة، وجدنا أن الرجل الذي كان مصابا بمرض في القلب قد مات، أما المشلول فقد أصيب بشلل كلي بعد أن كان شلله نصفيا.
هنا بدأنا بدراسة الأمر، فوجدنا أن أحد أهم عوامل التأثير السايكلوجي على الفيزيلوجي هو الإيمان . . إذا توفر الإيمان يتحقق التأثير، فالإيمان إذن يمكن أن يحفز خلايا الجسم على العمل بطريقة مختلفة ليتحقق الشفاء.
هل رأيت؟ الأمر يتعلق بالإيمان، فلو أنك دفعت بشخص ملحد للسير في طريق الإمام الحسين، لن تتحقق معه الكرامة، لأن عنصر الإيمان لن يكون متوفرا."
هنا تذكرت قول الرسول الكريم صلى الله عليه واله:" من آمن بحجر كفاه". لكنني لم أرد خوض نقاش في الموضوع، فليس من حقي كصحفي أن أناقش، بل انقل الآراء فقط، واتركها تتحاور بينها. سألته:
ــ ما هو تفسيرك أن الظاهرة لا تتحقق إلا داخل الإطار الديني؟
ــ لان الإيمان من جوهر الدين.
ــ لماذا تحصل الكرامات على أيدي ناس قد ماتوا؟
ــ هم ليسوا أمواتا، فتأثيرهم مازال مستمرا، الإنسان يموت عندما ينقطع تأثيره في الحياة. وهم ليسوا أمواتا في اعتقاد من يؤمن بهم، لقد قرأت شيئا عن ذلك في الكتب الدينية. إنهم شهداء، والشهداء ليسوا أمواتا.
ما يعجبني فيه، أن كونه علمانيا لا يدفعه إلى التصرف كفتاة اقترب منها صرصر عندما يقرأ أو يصغي إلى حديث ديني.
* * *
يومان مرا على بداية العمل في التحقيق، استطيع أن اختمه الآن، بعد اتصال قصير برجل دين، واقنع نفسي أني أنجزت العمل بوقت قياسي أو أن استمر فيه إلى أقصى الحدود. من الجيد أن امتلك خيارين، واطمئن لسيطرتي على عملي، جعلني ذلك اشعر أنني امتلك فائضا من الوقت يمكنني استغلاله في البحث عن ذلك الحدث الغامض الذي يسمى كرامة.
بدت لي آراء "ش . ر" وصديقي الالكتروني غير كافية، لن يكون توقع وجود غيرها خاطئا. ترى أو يرى"ش . ر" الأمر على أنه من الغوامض التي سيحل العلم لغزها ويضع لها القوانين. ذلك يعني أنها يمكن أن تتحقق في المستقبل على يد أي إنسان. أما هو فقد حسم أمرها بالاعتماد على نقاشاته ومتابعاته العلمية. مشكلتي معه أنني لا استطيع أن اختزل رأيه في الموضوع بعبارة مختصرة، لأنه لم يتوسع في التفسير فقط، بل تناوله من وجهات لا تمثل رأيه الشخصي، وإنما من اطلاعه على آراء الآخرين.
عند العاشرة، توجهت إلى شارع المكتبات بحثا عن كتاب يتناول الموضوع، ولم يكن لبحثي هذه المرة علاقة بالتحقيق. أريد أن امتلك فكرة واضحة عن الكرامة.
طالعت الكثير من العناوين لكتب تتحدث عن الأمور الغيبية: قراءة الكف، السحر، التنجيم، لكنني كنت ابحث عن الكرامات بشكل خاص. أردت كتابا يحلل الظاهرة، لا أن يعرض نماذج منها. بعد التنقل بين عشرات العناوين، عثرت على الكتاب، فاشتريته . وأكملت جولتي بحثا عن جديد، ثم عدت سيرا إلى مقر المجلة.
سألت شيماء عن احمد. قالت أنها لم تره، وأخبرتني أن الرئيس يبحث عني، قالت ذلك بنبرة توحي بأنه يبحث عني لأمر مهم.
ابتسم الرئيس عندما سألته عن سبب بحثه ــ نادرا ما كان يبتسم ــ واخبرني أنه يستغرب وجودي في مثل هذا الوقت في المجلة، تبسمت وعدت إلى غرفتي.
أطلقت شيماء ضحكة تغضن لها وجهها.
ــ مبروك. قالت.
ــ على ماذا؟
ــ المقلب.
ــ الكذب أساس المقالب.
ــ اليوم هو الأول من نيسان . . يوم الكذب العالمي.
تذكرت هذه العادة السخيفة، لا داع للكلام عنها، فهي ليست العادة الوحيدة التي لم أرد لها أن تكون جزء من ثقافتي.
ــ تأخر احمد. قلت لرغبتي في الحديث.
ــ سافر.
ــ ليس للمرة الثانية.
ــ لا، أنا أقول الحقيقة. ألم يخبرك؟
انتابني القلق، وانتشرت التوقعات من قمقمها في فضاء رأسي. أطلقت ضحكة أخرى، ومرة أخرى تغضن وجهها وبان صف أسنانها العلوي.
ــ لا باس أن نخالف بعض القواعد.
ــ نعم، الضحك عادة صحية.
استمرت في ضحكها، فيما عاد إليّ هدوئي، وتسنى لي التفكير في الاتصال بأمي. ردت عليّ بسرعة، وكأنها كانت تتوقع اتصالي، وانساب صوتها حزينا في نفسي.
ــ لماذا تتركني وحيدة؟
ــ لست وحيدة يا أمي، أختي وأبناؤها بقربك.
ــ اشعر بالوحدة عندما تكون بعيدا. أنت تعرف ذلك.
تركت لها أن تتكلم، وتشكو آلام الفراق. أعادني صوتها إلى الأيام الخوالي، إلى تلك اللحظات التي نتحول فيها إلى كيان مرتعب واحد، بينما يجوس رجال الأمن بيتنا بحثا عن أبي، ثم يبدؤون استجوابهم الطويل لنا.
هرب أبي إلى مكان ما من الأرض، كان عقلي الذي لم يتعد الثامنة من عمره، يصور لي أنه مختف في مكان مظلم هربا من الحكومة، لا اعرف عن المكان سوى أنه مظلم، فلا أحد يختبئ في النور. كنت احلم به هناك، أرى وجهه في وسط الظلمة، يقول لي أنه هرب من اجل الإمام الحسين عليه السلام. فلا اعرف لماذا يهرب رجل من اجل الإمام الحسين عليه السلام؟ يقودني الحلم إلى تصور المجالس التي كان يعقدها سرا في البيت، إلى عزلته في غرفته يطالع كتابا. لكني لم افهم أبدا سبب هروبه إلى المكان المظلم.
ــ سأعود قريبا. قلت لأمي.
ــ تعال غدا.
ــ غدا سأعود. أعدك.
أخذ الوقت يمر، ولم يظهر احمد، قررت أنه قد حان الوقت للاتصال به.
ــ لماذا لم تأت حتى الآن؟
ــ آسف جدا، لكن أمورا جديدة حصلت، لا استطيع أن أكلمك فيها على الهاتف . . المهم تعذّر اللقاء بالرجل.
ــ لماذا؟
ــ لا يريد أن يفصح عن الأسباب، رفض اللقاء فقط.
تناولت حقيبتي، وعدت اطرق الشوارع من جديد.
كراج النهضة يبدو خاويا بالمقارنة مع وضعه قبل الاحتلال. لقد فرغ من الجنود تماما، ومن السيارات القديمة أيضا. لكن العاملين فيه لم يتغيروا. محلات بيع اللعب والملابس، المطاعم، مطاعم الوجبات السريعة، بائعات الشاي المتزينات بشكل مبالغ فيه إلى حد التقزز، البائعون الجوالون، اللصوص، القفاصة ــ مجموعات من الشباب يقومون باستغفال الناس وابتزازهم ــ، والشحاذون.
انتظرت لبعض الوقت، قبل أن يكتمل العدد في السيارة لتنطلق باتجاه الجنوب. قبل أن يتسنى لي اغماض عيني، شغل السائق مرثية حسينية بصوت مرتفع ــ كان هذا العمل يؤدي بصاحبه إلى السجن قبل الاحتلال، لأن المراثي الحسينية كانت تعد عملا معارضا للسلطة ــ ومع ارتفاع إيقاع المرثية، دخلت إلى عالم النوم، لتجنب الشعور بالغثيان من الصعود في السيارة.
لم استيقظ حتى توقفت السيارة في أحد المطاعم المنتشرة على جانبي الطريق في الكوت. نزلت لأغسل وجهي وأتمشى قليلا كي يستعيد جسدي شيئا من مرونته. ليس من عادتي تناول الطعام في هذه المطاعم، فهي قذرة، لذلك اكتفي كلما مررت بها بتناول البسكويت وعلبة عصير، ثم انتظر باقي الركاب لينتهوا من تناول طعامهم، أو إفراغ أمعائهم.
جمعتنا السيارة مرة أخرى، بعد استراحة طالت نصف ساعة أو أكثر قليلا، وانطلقت تلتهم الشارع من جديد باتجاه الناصرية. فتحت زجاج السيارة قليلا كي يمر الهواء، وتجنبت النظر إلى الطريق. قررت أنه قد حان الوقت لبدء الحديث مع الشاب الجالس إلى جواري، وهو رجل الدين الأول الذي سأحدثه بموضوع الكرامة.
ــ السائق يقود بسرعة. قلت كي افتح باب الحوار.
ــ إنه يقود بسرعة منذ أن انطلقنا من الكراج.
ــ ربما أصبحت هذه عادتهم.
ــ لكننا تجاوزنا مرحلة الخطر.
ــ أظن أننا نمر في هدنة مع الخطر.
ــ لا ، لن تعود الأيام كما كانت.
كان ارتداء العمامة أمر يثير استغرابي، لأنها تبدو ثقيلة وكبيرة أيضا، لكن الشيخ الشاب لا يبدو متضايقا منها رغم ضيق المكان.
ــ كيف تستطيع وضع العمامة على رأسك في السيارة؟
ــ اعتدت عليها كما يعتاد الجندي على بيريته.
المناطق تستمر في انسحابها أمام زحف سيارتنا المسرعة، واشعر أنني لم الم أطراف الحديث باتجاه واحد. أظن أن الشيخ لمس ذلك، ولا يستطيع هو الآخر أن يسألني عما إذا كنت أريد الحديث في موضوع معين. حدسه كان كافيا كي افتح الحوار معه كأي صحفي ينتهز أول فرصة ليجر محاوره للمنطقة التي يريد.
ــ أود أن أسألك عن شيء.
ــ ما هو؟
ــ الكرامات. أنت شيخ ولا شك أنك قد سمعت بالكثير منها. لا أريد أن أسألك عما إذا كانت حقيقية أو لا، إنما أريد تفسيرك الشخصي للظاهرة.
ــ هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها، إنها هبة من الله تعالى لبعض الأشخاص كي يظهر مكانتهم.
ــ هذا تفسير متوقع من أي إنسان، وأظن أن لديك أكثر من ذلك لتقوله.
ــ هناك عدة تفاسير للكرامة، ومن العلماء من يعدها سرا يجب عدم الخوض فيه، لكن بعضهم حاول تفسيره.
" يقول أحدهم أن الله تبارك وتعالى يعطي كل قوم بحسب ما يعتقدون، فقهيا يعدّ هذا رأيا خاطئا، لكنهم لا يعتمدون الفقه هنا لأن الأمر خارج الفقه وإنما هو متعلق بالقوانين الإلهية، وأنت تجد أن الكرامة موجودة حتى عند الأقوام السابقة حتى وإن كان اعتقادهم بغير الحق. هناك حديث نبوي شائع يقول:" من اعتقد بحجر كفاه". ما أريد قوله هنا هو أن التأثير في هذه الحالة راجع إلى عقيدة الفرد وليس إلى القضية الخارجية التي يؤمن بها، بتعبير آخر التأثير هنا نفسي. أما النوع الآخر من الكرامة، فيمكننا تفسيره بوجود قوانين فوق مادية تتحكم في القوانين المادية يمكن لها أن تؤثر فيها أو أن تلغي دورها. لكي تطير مثلا يجب أن تستخدم الطائرة حسب قوانين الطيران، لكن هناك قوانين أعلى من ذلك يمكن أن تطير بالإنسان أو أن تمشي به على الماء. إذا أردت أن اقرب لك بمثال فيمكن أن نذكر هنا السحر والباراسايكلوجي، فلا وجود هنا للقوانين المادية، إلا أن الكرامة تحدث بقوانين مختلفة، قوانين أعلى من تلك ومسيطرة عليها. كان أول المؤمنين بموسى عليه السلام هم السحرة، كيف آمنوا به؟ لأنهم يعرفون السحر، لذلك عرفوا أن ما جاء به شيء آخر، أعلى وأقوى من السحر، وليس بمتناول الإنسان".
ــ هل توافق أن ينشر كلامك هذا في تحقيق صحفي؟ إنني صحفي واقوم بكتابة تحقيق عن الكرامات.
ــ يمكنك أن تنشره.
دار الحديث باردا بعدها، ثم متقطعا، لينتهي بعد قليل بصمت مطبق.
تجاوزت السيارة لوحة الترحيب لتعلن عن دخولها مدينة الغبار الساقطة من كف التاريخ. الناصرية مدينة الغرائب والمتناقضات، مدينتي التي لم استطع أن آلفها، فأنا غريب عنها منذ أن سفكت دم أبي، وتمزقت مشاعري حيالها بين سفاحين طاردوه حتى النهاية ومواسين ذرفوا الدموع من اجله، لكنهم لم يقدموا شيئا غيرها.
وكلما اجتزت حدود مدينتي شعرت بأن الطريق يصبح طويلا، فيضيق تنفسي. اطلق اغنية في نفسي، وأغمض عيني لأتوهم لحظة الوصول إلى أمي، اتخيل لقاءها، كلمات ترحيبها وعتبها، ودموعها التي تنزل حارة على خديها.
توقفت السيارة عند نقطة التفتيش الرئيسية في مدخل مركز المدينة. القى الشرطي على السائق سؤاله المعتاد، ومر علينا شرطي آخر بجهاز تفتيش عن المتفجرات اثبتت التجارب فشله ورفضت الحكومة الاعتراف بالفشل، ثم سمح لنا بمواصلة الطريق.
سألني الشيخ:"هل أنت من سكنة الناصرية؟"
ــ نعم.
ــ لا يبدو عليك ذلك.
ــ لماذا؟
ــ لهجتك ومظهرك لا تدلان على أنك من الناصرية.
ــ تأثرت لهجتي بالاختلاط الطويل. لكن مظهري ليس غريبا إذا لم تكن تعتمد على الذاكرة.
ــ نعم، اعذرني، مازلت أعيش في ذاكرتي أحيانا.
وصلت السيارة محطتها الأخيرة، ووقفت في كراج مزدحم عند طرف المدينة. ودعت الشيخ، وتمنيت أن التقي به مرة أخرى، وفضلت المشي إلى بيتي القريب من الكراج.
قابلت بعض أصدقاء الدراسة، وآخرين جمعتني معهم ظروف الأعمال المختلفة. كان سلام بعضهم حارا وآخرون القوا تحيات باردة على أيام أصبحت شاحبة في الذاكرة. مررت بالسوق واشتريت ما يلزم لطعام العشاء، وثوبا اسود لأمي، قبل أن اطرق الباب، ويرد عليّ صوتها.
ما إن سمعت شقيقتي بقدومي حتى جاءت مع طفليها ليجتمع شمل العائلة. كانت قد تزوجت منذ أربعة أعوام، لكنني مازلت احمل الشعور بأني والدها حتى اليوم ولا اعتقد أني سأراها تكبر، فصورة رعبها الطفولي القديم تسكن ذاكرتي، ولواذها بي كلما استشعرت خطرا.
غمرني الأمان وأنا أرى وجهها يطفح بالعافية، فيما راح طفلاها يثيران صخبا لذيذا حولنا. لقد زال الخطر، انقلع من حياتنا نهائيا، وكف القلق عن نخر روحي. سألتها عن حالها وعن زوجها، سؤال مثل هذا قد يبدو جزءاً من أي لقاء، لكنها تعرف أنني اعني ما أقوله. أردت التأكد من أنها سعيدة فعلا، وددت لو أفتش ذاكرتها كي أرى بنفسي ما إذا كانت قد تجاوزت الماضي.
نزلت كلماتها على روحي مثل رذاذ المطر. اكدت لي أنها بخير، تكلمت وكأنها واثقة أن لا شيء في العالم يستطيع أن يكدر صفوها.
بعد دقائق، تلمست فيها كياني لتتجاوز مرحلة الاشتياق . عادت لتأخذ دور أمي.
ــ لماذا لا تتزوج؟ أصحابك تزوجوا منذ زمن بعيد وأولادهم الآن بنفس أطوالهم.
ــ سأتزوج في الوقت المناسب.
ــ لقد تجاوزت الثلاثين، فمتى سيأتي الوقت المناسب هذا؟ إنك تهدر السنوات.
كبرت فاطمة كثيرا، وصارت تعرف معنى أن يهدر الإنسان سنواته، غرزت إبر الكلمات في مكمن الألم دون أن تدري أن مشكلتي الجديدة أصبحت مع اشياء أخرى، لا يمكن أن تخطر لها على بال. لا اعتقد أنني ساعيش حياة طبيعية يمكن أن اختزلها في زوجة وأولاد، صرفت النظر عن هذا الأمر منذ أن تحطم أول احلامي وآخرها، ورحت ابحث عن جذور البؤس في حياتنا.
ــ هل تتذكر ابتهال؟
هي تعرف أنني لا أنسى ابتهال.
ــ لديها الآن بنتان وولدان، كلهم دخلوا المدرسة.
شكرت الله أن حلم مراهقتي لم يتحقق. لو أنني تزوجت في تلك السن المبكرة لما أمكنني أن اتمتع بكل هذه الحرية. شكرت الفقر وسنوات الحصار التي تحطمت عليها صور المستقبل القاصرة. كل ما أتمناه الآن أن التقي ابتهال وأطفالها، ويمكنني أن التقي زوجها أيضا وأصافحه من غير ضغينة.
ربما ظنت فاطمة أنها جرحتني، وتصورت نزيف الذكريات يجتاحني، ففضلت القيام لمساعدة أمي التي انشغلت بإعداد الطعام قبل وقت من موعده.
تلونت السفرة بألوان عديدة من الطعام، وكأن أمي تريد الانتقام من سنوات الجوع. تناولنا طعامنا بصمت أجبر الطفلين على التزام الهدوء ووضعهما في موقف لا يليق بسنيهما. ارتفعت نغمة موبايل فاطمة. إبراهيم، قالت، ونهضت لترد. إبراهيم صديقي وجاري قبل أن يكون زوج أختي، هو الإنسان الوحيد الذي كانت علاقتي ستستمر به حتى لو أنه لم يتزوج فاطمة.
ــ إبراهيم قادم. قالت، وجلست لتكمل إطعام طفليها.
خاب أمل أمي في أن التهم كل ما وضعته أمامي من طعام. لقد شبعت بسرعة، لكنني بقيت جالسا إلى السفرة، اغترف من أمان اللحظات، كما لو أنني اجلس إلى مائدة في الجنة.
ــ هل يجب أن ادعوك في كل مرة لتواصل غداءك؟ قالت أمي .
ــ شبعت. أجبتها.
ــ يجب أن تتخلص من هذه الطريقة في الأكل . . من يراك يحسبك مريضا.
ــ إنني أطعم نفسي جيدا.
ــ ليس في أكل المطاعم بركة.
رن جرس الباب، يبدو أن أمي قد أصلحته. أرادت فاطمة أن تنهض، لكنها عادت لتجلس كي أمارس دوري المعهود كرجل للبيت.
استقبلت إبراهيم بعناق طويل، ولأنه يعرف البيت جيدا، توجه مباشرة إلى الغرفة حيث اعتدنا أن نتناول الطعام، وأخذ مكانه، فانتقل ولده الأكبر ليجلس في حضنه. كان يستغل كل لحظة بين لقمة وأخرى ليلقي بسؤال أو يدلي بتعليق، وفي نهاية حديثه كنا قد اتفقنا على الخروج للنزهة عصرا، والعصر عندنا يعني قبل الغروب بقليل.
في الساعة الثانية ظهرا، غادرت فاطمة وزوجها مع طفليهما، ونامت أمي. مرة أخرى أصبحت وحيدا، متعبا، مشوش التفكير، وغير قادر على أي عمل مفيد.
انتقلت إلى غرفة الاستقبال ــ غرف الاستقبال موجودة في كل البيوت حتى الصغيرة منها ــ كانت أمي تحرص على أن لا يتغير فيها سوى موقع الغبار أو ما يتحول إلى غبار. واجهتني لوحة كبيرة تمثل رسما للإمام علي ــ عليه السلام ــ جالس في فضاء مفتوح، يقف خلفه خادمه قنبر، ويجلس أسد إلى جواره، فيما يرقد سيفه المشقوق الطرف في حجره، وقد كتب عليه " لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار ". إلى يمين اللوحة توجد لوحة أخرى تمثل الإمام العباس ــ عليه السلام ــ رأسه مرفوع، وكأنه يصغي إلى نداء يأتي من بعيد، وهناك جرح يشق جبهته، وينزل الماء من كفه الممدود إلى النهر.
على الجدار المقابل، وفي قبال لوحة الإمام العباس ــ عليه السلام ــ لوحة حديثة تمثل الإمام الحسين ــ عليه السلام ــ تبدو كصورة شخصية التقطها قبل واقعة الطف. حلت اللوحة الجديدة مكان لوحة أقدم، أكثر أصالة واتقانا. كانت تمثل موكبا طويلا من السبايا يقوده جيش يحمل رماحا ترتفع عليها الرؤوس، يسير في أرض متموجة نبتت فيها القليل من الأحراش، تظلله سماء حمراء، كأنها صبغت بالدم. الجدار البعيد يختفي خلف معرض خشبي دخل بيتنا حديثا كعلامة على انتقالنا إلى عصر الرفاه، يشغل وسطه تلفزيون لم يشغل ولو لمرة واحدة، وانتقلت كتب أبي إلى أدراجه السفلية بدلا من موضعها القديم في الحقيبة الكبيرة التي كنا نخفيها تحت السرير.
كتب أبي القليلة كانت خطيرة في نظر السلطة، أما مجالس عاشوراء التي كان يقيمها في هذه الغرفة، فقد كانت تستدعي استنفار الأجهزة الأمنية وأزلام حزب البعث خوفا من تجاوز الحزن حدوده المسموح بها. ذكرتني مكتبة أبي بكتاب الكرامات الذي لم افتحه حتى الآن، فجلبته كي أعيد طقسا طالما مارسته.
قرأت عناوين الفصول في الفهرست، فعثرت على فصل خاص بعنوان " القدرة على شفاء الأمراض "، هذا ما كنت ابحث عنه، رغم أنني سمعت عن الكثير من الكرامات الأخرى. قرأت الفصل القصير، ووضعت خطوطا تحت الفقرات التي يمكنني الاستفادة منها في تحقيقي، ثم عدت أتصفح الكتاب من بدايته.
يقول السيد حسين نجيب محمد في كتابه "القوى الروحية لدى النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام":
"يذكر علماء الباراسايكلوجي هذا الشفاء تحت عنوان ــ الشفاء الخارق ــ
فيقول الدكتور جمال نصار: يُعرّف العلاج الخارق بأنه قدرة بعض الأفراد على إحداث تأثيرات ايجابية على الحالة الصحية لكائنات حية أخرى، بشرية أو حيوانية أو نباتية، من دون استخدام أي من وسائل العلاج الطبية التقليدية أو غير التقليدية التي ورد ذكرها في القسم السابق. ولعل أشهر الأساليب المستخدمة في العلاج الخارق هو ما يعرف بأسلوب" وضع الأيدي". . . . . . ورغم أن معظم حالات العلاج الخارق الموثّقة قد حدثت بوجود معالج وعن طريق تدخله، إلا أن هنالك الكثير من الحالات التي حدثت بشكل مفاجئ وغير متوقع ومن دون تدخل معالج، كحوادث العلاج الخارق التي وقعت وتقع في بعض الأماكن الدينية".
وقال: إن نظرة سريعة إلى تفاصيل عمليات الجراحة الخارقة تبين بأن هذه الظاهرة، حالها كحال ظواهر العلاج بشكل عام التي سبقت الإشارة إليها، تقع خارج مدى ما يمكن أن يحتويه النموذج الطبي البيولوجي من الظواهر. إلا أن الأمر الأهم هنا هو أن هذه الظاهرة تتجاوز حدود النموذج التفاعلي أيضا، إذا نظر إلى ما يحدث خلالها على أنه دلائل على قابليات خارقة للجرّاح وليس نتاجا لقابليات اعتيادية تم إيقاظها في جسم المريض".
عند الساعة الرابعة والنصف كنت أقوم مع إبراهيم بجولتنا في شوارع المدينة. اختفت اغلب البيوت خلف واجهات المحلات، فلا تكاد العين تعثر على أبوابها إلا بعد البحث، وحلت عمارات تجارية محل بيوت أخرى. الشوارع مزدحمة بالمارة والسيارات. تحول مركز المدينة إلى سوق كبير. تذكرت ملاحظة الشيخ حول مظهري، تأكدت أنه كان يتكلم بوحي من ذاكرته، لأن الشباب هنا لم يترددوا عن ارتداء ملابس الايمو إلا لأنها غير متوفرة. كلما أمعنت النظر في الناس أكثر، ورحت اقرأ التفاصيل، تظهر لي حدة أوجاع الانسلاخ، وصعوبة التغير.
الكثير من مظاهر التدين التي برزت بحدة بعد سقوط صدام قد انحسرت بسرعة، لم يبق إلا رايات تخفق بلا روح فوق بعض البيوت، وبعض الصور التي محت الشمس معالمها. لم يكن التنافر ظاهرا في لباس الرجال وحدهم، بل لاحظت انتشار ظاهرة ارتداء البنطلون بين النساء أيضا، والعباءات التي تستمر في الانحسار سوف تختفي في المستقبل نهائيا لتكشف عما تحتها من لباس لم تكن حتى العاهرات يرضين ارتداءه قبل سنوات قليلة. ضحكت في سري من تفاهة الإنسان، اغلب المبادئ التي نظن أننا نتبناها ما هي إلا نتيجة التلقين والظرف الاقتصادي، وحدها الحرية والرخاء تكشف عن المعدن الحقيقي للإنسان.
طلبت من إبراهيم تغيير وجهة سيرنا. سلكنا الشارع المؤدي إلى النهر، هنا تكثر المقاهي ومكاتب الانتر نت، والمكتبات، ومحلات بيع الأقراص الليزرية، والحلاقين. فقدت تركيزي تقريبا، أو لم تعد لي الرغبة في النظر إلى ما حولي أكثر، مجرد أشخاص يعبرون الشارع، يعيش كل منهم في عالمه الخاص. بعد قليل من السير، شعرت بالتعب، فقررت الاستراحة في مقهى كبير لا اعرف أحدا فيه.
ــ الناصرية تتغير بسرعة. قلت.
ــ ليس هناك ما يتغير، إنها الأقنعة تتساقط فقط، فللجوع لسان وللشبع لسان.
لمست في حديثه مرارة كبيرة، ورغم أنه لا يعرف احمد ولم يلتق به أو حدثته عنه حتى، بدأ ابراهيم يتكلم عن الحضور الكبير للشيطان في الحياة، لا ليلقي عليه اللوم أو يجعله المسؤول المباشر والوحيد عن تحول الناس عن الدين وخلو المساجد من المصلين، بل ليلوم الناس عن انقيادهم السريع إليه. وجدت إبراهيم يائسا من إمكانية الإصلاح، لأن ذلك يحتاج ــ حسب قوله ــ إلى ظهور مصلح كبير، مؤمن صادق، ومستعد للتضحية، والمهم أيضا أن يظهر من قمة السلم الاجتماعي لكي يكون صوته مسموعا. أدركت أنه كان يتذكر السنوات الماضية، عندما كان هناك السيد محمد محمد صادق الصدر، وبتذكره تذكرت موضوع الكرامات.
ــ حقا، هل سمعت بموضوع كرامات السيد الشهيد ــ هذا هو الاسم المستخدم للدلالة على السيد محمد الصدر ــ وأولئك الناس الذين شفاهم من أمراضهم؟
ــ ليس غريبا أن تكون هناك كرامات للسيد.
إنه لا يجد الكرامات أمرا غريبا، يحسبها ظاهرة يمكن أن تتحقق عند قبر كل ولي أو في حياته حتى، راح يسرد عليّ الكثير من الكرامات التي سمع بها أو شاهدها. واغرب ما سمعته منه، ولا استطيع أن أجد له تفسيرا في الكتب، هي حالة الرجل الذي لا يستطيع قراءة كتابا غير القرآن الكريم.
"كان الحارس في أحد كراجات مبيت السيارات ، يعجز عن قراءة أي كلمة، لكنه يقرأ القرآن الكريم بشكل يثير الدهشة. سأله صاحب الكراج الذي اكتشف ذلك مصادفة، وكان قد اضطر لتشغيل رجل آخر من اجل تسجيل ارقام السيارات واسماء اصحابها، عن السر الذي جعله قارئا بارعا للقرآن فقط ، فاجاب:
عندما كنت شابا اجهل القراءة. كنت اشعر بالم شديد، لعدم قدرتي على قراءة القرآن الكريم، فيما يستطيع غيري أن يفعل ذلك. قررت الذهاب إلى من يساعدني، فذهبت إلى الإمام الحسين عليه السلام، شرحت له حالتي، وبكيت طويلا عنده. في تلك الليلة جاءني في المنام رجل نوراني، طلب مني أن افتح القرآن الكريم واقرأ. اخبرته أني لا استطيع القراءة، فكرر الأمر ثانية، أخذت القرآن الكريم وقرأت. استيقظت فزعا. لكنني اعرف أن أمرا ما قد تغير فيَّ، هذا الرجل لم يكن إلا الإمام الحسين عليه السلام. فتحت القرآن الكريم، ورحت اقرأ".
اضمرت في نفسي أنني سأدون هذه الكرامة أيضا، وربما سأضيفها على شكل تساؤل في نهاية التحقيق، فكيف يمكن تفسير هذه الكرامة علميا؟
بعد صمت قصير، قال إبراهيم:
ــ بمناسبة الحديث عن الكرامات، هل سمعت ما جرى في قرية بقضاء الحي؟
ــ لا.
ــ وتقول أنك صحفي!
ــ لا شك أن بعض الأحداث تفوتني.
ــ حدث مثل هذا يجب أن لا يفوتك مادمت تعمل على موضوع الكرامات . . إنه كرامة كبيرة، لكن الصحافة، اعذرني لهذه الكلمة، تعتم على كل ما يتصل بالله.
ــ كيف؟
تحدث عن أمر غريب، ظننت أن لي الخيار في تجاوزه، إذ أن كل الكرامات غريبة، لكن النهاية التي سردها عليّ أكثر اغراء من أن اتجاوزها، واكثر صعوبة على التفسير. ظاهرة الاحتراق الذاتي أمر غريب حقا، ومدهش. تحترق الأشياء من غير سبب ظاهر، تتوهج وتنطفئ دون أن يمتد الحريق إلى غيرها، وكأن هناك من يقول أنني أريد احراق هذا الشيء بالذات، فيحترق قميص في كومة من الملابس، أو فراش وسط أفرشة كثيرة في مكان واحد، ولا يحرق معه شيئا آخر. الأكثر غرابة في موضوع القرية هو النهاية التي لا يمكن تصديقها.
قررت الذهاب إلى القرية كي أتأكد بنفسي.
عدت إلى البيت وبالون الألم ينتفخ في صدري، خليط من الذكريات ينهال في ذاكرتي، ويبعد من نفسي الشعور المخادع بالأمان. هناك شيء ما . . شيء كنت أراه في وجوه الناس حتى وقت قريب، ضاع ، ولا يمكن استرداده إلى الأبد.
تلقت أمي نبأ ذهابي إلى الحي بارتياح تراءى لي كلوحة مشفرّة على وجهها، وحين أدركت حيرتي، قالت:"اشعر ، أحيانا، أن جهود أبيك تضيع سدى".
ــ لماذا؟
ــ لا شيء مما جاهد من اجله تحقق. صحيح أننا نعيش الآن في وضع مادي أفضل، لكن ليس هذا ما بذل نفسه في سبيله. كان يمكننا دائما أن نكون أفضل ماديا لو أنه اختار أن ينخرط في سلك أزلام النظام.
قتل أبي عندما تجاوزت السنة العاشرة بأشهر قليلة، الكثير من الأحداث يمكن أن تنسى في مثل هذا السن، لكنني اذكر جيدا أحلام أبي، واحترمه لأنه لم يتخل عن الكفاح من اجلها بإخلاص، ولأنه كان يريد مني أن احمل الشعلة من بعده.
ــ كان أبي محظوظا لأنه لم يعش حتى اليوم.
تخيلته يعقد مجلسا حسينيا في بيتنا، يخطب في الناس محاولا حملهم على تغيير الأوضاع، ولا أحد يستجيب. كان أكثر الناس يخافون الحكومة حتى القبول بالموت على مواجهتها.
بعد العشاء لم تجد أمي ما تقوله. ربما اكتفت بأن ولدها حي وابنتها تنعم بالراحة في بيت زوجها. ولكي أزيد اطمئنانها على الجزء الذي خلفه أبي فيَّ. قلت:
ــ أنني اكتب تحقيقا في الكرامات.
انفتحت ذاكرتها على عالم مليء بالقصص الغريبة. وتحدثت عن طفولتها، هذه هي المرة الأولى الني تتحدث فيها عن طفولتها. . المرة الأولى التي تقول فيها عندما كنت طفلة، ولا تقول في الماضي، والعبارة الأخيرة لا توحي بأية صلة بين المتحدث وحديثه أو قصته التي سوف يرويها. دائما كنت اسمع أمي تبدأ قصتها بالقول:" في الماضي كان الناس." وتسرد قصة عن جنة بعيدة، لا استطيع تخيلها فيها.
قالت: إن سيدا ــ هو الرجل من نسل رسول الله صلى الله عليه وآله ــ كبير في السن ــ ذكرت رقما لا يمكنني تصديقه ــ سكن قريتهم. كانت الكرامات تجري على يديه، وكان يخبر أهل القرية عن الكثير من الأحداث التي سوف تقع في المستقبل . . كل ما ذكره وقع فعلا.
قالت: إن القليل من أهل القرية كانوا يهتمون لأمره، وحين بدأت الأحداث التي ذكرها لهم بالوقوع، أخذوا يبحثون عنه، لكنهم لم يجدوه لأنه قد مات. وقصت عليّ الكثير من الكرامات التي سمعت بها في طفولتها، أشياء لا يمكن التصديق بها إلا بعد التحقق منها ــ تعلمت أن لا أنكر أمرا إلا بعد التحقق منه ــ فالقرية ليست قريبة، ولكن يمكنني الوصول إليها.
نامت أمي بهدوء، وبقيت مستيقظا حتى الثانية بعد منتصف الليل. اعتدت البقاء مستيقظا حتى ساعة متأخرة، لكنني قلق من أنني سأكون متعبا بحلول السادسة.
في الثانية والنصف تقريبا، ارتفعت نغمة الرقم المجهول ــ كنت قد خصصت له نغمة ــ ففضلت الرد، لأنه لا أحد يستطيع أن ينام وهو يفكر بالنوم.
ــ الو.
ــ الو، كيف الحال.
ــ بخير.
ــ أنا واثقة من أنك بخير، فأنت في مدينة يؤمن أكثر أهلها بالكرامات، وأنها من فعل الأولياء، وقد قصت عليك أمك الكثير منها، وإبراهيم أيضا.
ــ كيف عرفت؟
ــ لا داعٍ للسؤال يا عزيزي. أخبرتك سابقا أنني اعرف كل شيء عنك، حتى أحاديثك مع نفسك.
ــ يمكنك أن لا تتصلي بي إذن.
ــ لا اتصل بك كي أسمعك، بل لكي تسمعني.
ــ ها أنا مصغ إليك.
ــ اكره من لا يصغون إليّ بجدية.
أحسست بنبرة مهددة في صوتها الأنثوي أيقظت كل حواسي.
ــ الآن يمكنني أن أكلمك وأنا واثقة من أنك لا ترغب في إضاعة الوقت فقط.
كررت رأيها في الكرامات، طلبت مني ــ ذلك أفضل من أن أقول نصحتني ــ أن لا اكتب كرامة الرجل العجوز في التحقيق، لأن التحقيق يتحدث عن كرامات الشفاء أو هكذا كان يريده الرئيس ــ ذكرتني أنه طلب اكماله في اقرب وقت ــ، ثم تسللت في حديثها لتصل إلى موضوع الزواج، العجيب أنها تعرف أكثر مما يمكنني تخيله، فقد أعادت حديث فاطمة وكأنها استنسخته. تحدثت عن الزواج كضرورة حياتية واجتماعية، وعن المرأة، ذلك الكيان الجميل والرقيق، ثم أخذ صوتها يتغير بالتدريج نحو الشهوانية حتى افقدني الإحساس بالجاذبية، فشعرت أنني افقد الارتباط بالمكان والزمان.
ملاحظة: كنت قد دونت حديثها كله، لكنني عدت وحذفته، لأنه حديث داعر، لا يليق بي كتابته ولا يليق بكم قراءته، وقد أيقنت الآن بأنها الشيطان نفسه.
مرت الساعات اللاحقة بطيئة حتى صلاة الصبح، غادرني النعاس تماما، فكأنني صنف غريب من المخلوقات لا ينام إلا سهوا. ذهبت إلى غرفة الاستقبال، مررت على كتب أبي بحثا عن عنوان يليق بهذه الساعة، فعثرت على كتاب لم أره سابقا، كتاب ذو جلد سميك يظهر عليه القدم، حجمه اصغر من الكبير واكبر من المتوسط، ولا يحتوي إلا على القليل من الأوراق. حين فتحته، وجدت أنه مخطوط بعنوان" أحاديث الليالي الخمس ". قلبت أوراقه بسرعة، فتعرفت على خط أبي حين رأيته يشغل بعض الفراغات البيض التي أحدثها الزمن، فعرفت أنه قديم جدا.
أخذت المخطوط، وذهبت إلى أمي المستمرة في التسبيح. سألتها:"منذ متى وهذا المخطوط هنا؟"
ــ منذ زمن طويل، لكن والدك كان يخفيه في جلد الحقيبة.
ــ لماذا؟
ــ وجد أنه كتاب خطير، لكنه بالٍ للأسف، كان يقضي ليال كثيرة في العمل عليه، ولا أدري ما إذا كان قد أتمه.
أحاديث الليالي الخمس
يفتتح الكتاب بقائمة طويلة من الاسماء، محي بعضها وبقي البعض الآخر، وصولا إلى الكاتب الأصلي الذي يدعى مسلم بن عبد الله الذي يروي عن جده سلمان بن قيس، وقد استهل الكاتب سلسلة الاحاديث بأسطر بقيت محفوظة جيدا.
"هذا ما سمعته أنا مسلم بن عبد الله من جدي سلمان بن قيس من أحاديث الأيام الغابرة إلى حين مقتل الإمام الحسين عليه السلام على التل الأعفر. وتحت هذه الاسطر كتب أبي:"وجدت في الحديث الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن الزبير في مكة أنه قال له: لا نستحلها ولا تستحل بنا، ولئن أقتل على تل اعفر خير لي من أن أقتل فيها".
وليس متن الكتاب بأفضل حالا من قائمة الاسماء، فقد أكدت اصابع الزمن مرورها عليه بالكثير من المحو والتلف في اسطره وأوراقه.
حديث الليلة الأولى
في أواخر أيام حكم المختار بن عبيد الله الثقفي للكوفة، أثقل الهم صدر جدي، وأخذ المرض يشتد في جسده، فطلب مني أن اقوده إلى مكان في ظهر الكوفة، قصد فيه موقعا بين ثلاث ربوات بيض، وأخذ بالصلاة والمناجاة، ثم راح يتحدث مع شخص لم أره، وأطال معه الحديث.
"يبدو أن الجد كان يزور قبر الإمام علي ــ عليه السلام ــ لكن الحفيد لم يكن يعرف ذلك، لأن موقع القبر كان مخفيا. يظهر من ذلك أن الجد من الانصار المخلصين ليعرف بهذا الأمر، أو أنه عرف بطريقة لا يمكنني ادعاء معرفتها أو تخمينها".
"ورقة تالفة".
"يبدأ المقطع من وسط الصفحة، ويبدو أن الجد يجيب عن سؤال طرحه حفيده".
فأجابني: بدأت الحكاية في اعماق الزمن، عندما اعلن ابليس اللعين تمرده على أمر الله تبارك وتعالى، ورفض السجود لآدم عليه السلام، وأغواه مع زوجه بالأكل من الشجرة المقدسة، لينزع عنهما لباسهما ويبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما. حسدا منه لآدم وتكبرا، فتسبب باخراجه من الجنة.
"سطران مفقودان يظهر فيهما أن الجد يوجه سؤالا للحفيد، ثم يجيب هو عليه، وربما كان السؤال هو: هل تعرف ما هو الصراط المستقيم؟ حسنا، سوف أخبرك".
الصراط المستقيم هو الانبياء والأوصياء يا ولدي. ومنذ تلك اللحظة بدأت معركة الشيطان مع الإنسان.
"كنت حتى وقت قريب اتوهم، وإن لم اصرح بذلك، أن الشيطان ند لله تبارك وتعالى، وقد اقترب في تصوراتي من أنه إله للشر، الحقيقة أن الأحداث التي جرت هناك، في السماء، تجعل هذا التصور هو الأقرب للذهن، لأننا نجهل طبيعة علاقة الله تبارك وتعالى مع مخلوقاته وأن المعصية تعني ظهور الأنا مقابل الله تبارك وتعالى، فكل من يجعل اختياره مقابل اختيار الله تبارك وتعالى يعلن أنه إله، فيستحق بذلك العذاب الأبدي.
ولفترة طويلة اعتقدت أن الصراع بين الله تبارك وتعالى والشيطان، لكنني لم اتوصل حتى الآن إلى معرفة السبب الذي ابقى الله تبارك وتعالى من اجله الشيطان، قرأت الكثير من البحوث، إلا أن الاقتناع بجواب محدد يبقى أمراً صعباً، مع أنني أرى أن بقاءه يقع في خطة الابتلاء الذي أراده الله تبارك وتعالى للناس ليميز الخبيث من الطيب، أو المؤمن من الكافر، هو السبب الأقرب للتصديق.
ويبقى هناك أمر لم التفت إليه سابقا. لماذا كان هذا الحرص الشديد من ابليس على أن ينزع عن آدم وحواء لباسهما ويريهما سوآتهما، باغوائهما بالأكل من الشجرة؟ ولماذا كانت نتيجة اكلهما من الشجرة هو أن ينزع عنهما لباسهما؟
ما هي هذه الشجرة؟".
"محو نصف صفحة، اعتقد أنه تكلم فيه عن هبوط آدم وحواء إلى الأرض، وقتل قابيل اخاه هابيل". منذ تلك اللحظة انقسم الناس إلى حزبين ، حزب الله ، وحزب الشيطان .
في بداية مسيرة الإنسان على الأرض، كانت الحياة تختلف كثيرا عما هي عليه اليوم. كان الإنسان أكثر ذكاء وقوة وأطول عمرا، وكانت الملائكة تعيش هنا مع الإنسان على الأرض، وكذلك كان الانبياء يعلمون الناس اسباب الحياة وأسرارها.
"مقطع كبير ممحو".
"تخيُل أن يبدأ الإنسان حياته على الأرض من دون معلم أمر بعيد عن الحقيقة، فالكشف عن علاج مرض واحد مثلا سيتطلب منه البحث في كل العناصر الموجودة على الأرض، وهذا أمر مستحيل، وإذا افترضنا أن الأمور كانت تسير في الماضي على هذا النحو، يمكن أن يعترضنا جهل الناس في الوقت الحاضر بعلاج الكثير من الأمراض التي مازالت مستعصية. كيف تمكن الناس في الماضي إذن من علاج أمراضهم؟ ومن الذي كان يرشدهم إلى الدواء إن لم يكن هناك شخصا عارفا بكل ما يصلح لهم شأنهم، وهذا الشخص لن يكون إلا نبيا".
أما النبي ادريس عليه السلام، فقد خرج من أرض بابل إلى مصر، ثم دار الدنيا كلها، ودعا الخلائق وسائر أهل الأرض إلى البارئ باثنين وسبعين لسانا، آتاه الله تبارك وتعالى الحكمة بمناطقهم وعلمهم وأدبهم وبنى لهم مائة مدينة وثماني مدن عظيمة اصغرها الرها وعلمهم العلوم. وكان أول من استخرج علم النجوم، وأقام لكل أهل اقليم سنة تليق بهم وتقارب آراءهم. وخدمه الملوك واطاعه أهل الأرض كلها واهل الجزائر التي في البحار، وخدمه الملوك الاربعة، كل واحد منهم ولي بأمره عليه السلام الأرض كلها، فأولهم ايلاوس وتفسيره الرحيم، والثاني ابنه لاوس، والثالث اسقليبوس، والرابع آمون.
"محو يتبين بعده أن الحديث ما يزال مستمرا عن النبي ادريس عليه السلام".
ووعدهم أنه سيأتي من بعده عدة انبياء، وعرّفهم أن من صفات النبي المبعوث أن يكون بريئا من المذمومات والآفات كلها، كاملا في الفضائل الممدوحات كلها، لا يقصر عن مسألة يسأل عنها في السموات والأرض وأن يدل على ما فيه الشفاء من كل ألم، وأن يكون مستجاب الدعوة في كل ما طلبه من انزال الغيث ودفع الآفات وغير ذلك من المطالب، وأن يكون مذهبه ودعوته المذهب الذي يصلح العالم ويكثر عمارته. وانتهت شريعته وهي الملة الحنيفية وتعرف أيضا بدين القيمة إلى مشارق الأرض ومغاربها، وقد رفعه الله تعالى إليه بعد أن أتم اجله. وهو أول من انذر بطوفان كبير سيعم الله تبارك وتعالى به الأرض في حال فساد الناس، إلا أن سنة الله التي خلت في عباده قد تكررت هنا أيضا، فقست القلوب بعد طول الأمد، وتمكن الشيطان من قلوب الناس بوساوسه، فبعث الله تبارك وتعالى النبي نوحا عليه السلام داعيا إليه ومنذرا بالطوفان، فلم يؤمن به إلا قليل.
هل تظن أن جنود الشيطان من السذج أو البسطاء فقط؟ لا يا بني، للشيطان جيش كبير من العلماء والفلاسفة، كانوا يصدون الناس عن التصديق بدعوة نوح عليه السلام، فالناس في ذلك الوقت لا عهد لهم بمطر ينزل من السماء أو فيضان نهر، لذلك كان من السهل عليهم أن يدفعوا الناس إلى السخرية منه، فلم يؤمنوا حتى حل العذاب، وغرقت الأرض، لتتجدد الحياة مرة أخرى بعد أن رفعت الكثير من البركات، ولم يعد الناس ولا الاعمار كما كانت قبل الطوفان.
"محو بقدر خمسة اسطر".
ومرة أخرى انبت الفرع القابيلي، وتكاثر اتباع الشيطان، رغم توالي الانبياء والرسل. فكلما بعث الله تبارك وتعالى رسولا، جمع الشيطان حزبه لاضطهاد الرسول واتباعه، فينجي الله تبارك وتعالى رسوله والذين آمنوا معه ويمحق الكافرين.
"ثلاث اوراق تالفة".
أما الحق المكروه من الشيطان، فقد اضطهده الباطل، كما هي الحال دائما، فإن فريقا من الاشرار المدعين أنهم تلاميذ، بشروا بأن يسوع مات ولم يقم. وآخرون بشروا بأنه مات في الحقيقة ثم قام. آخرون بشروا ولا يزالون يبشرون بأن عيسى هو ابن الله. ولم يبق من المؤمنين بنبوة عيسى وبشارته غير ثلاثين مؤمنا.
الليلة الثانية
بعد أن أنهى جدي صلاته ومناجاته، جثا على ركبتيه وأخذ بالبكاء حتى اخضلت لحيته بالدموع، ثم نهض يتوكأ على عكازه وتقدم مني. أخذ بيدي، وراح يقودني وكأنه هو المبصر في هذه الليلة. جلسنا على ربوة صامتين. كان يتأمل وكأنه يرى في الظلام ما لا استطيع رؤيته. التفت إليّ وقال: أي سنوات دامية تنتظرك يا بني؟ لم يكن لدي شك في أنه كان ينظر إلى السنوات القادمة ويراني فيها مطاردا، منبوذا. صمت مرة أخرى، ثم عاد ليتم ما بدأه من حديث الليلة الماضية.
وبعد فترة من الرسل، منّ الله تبارك وتعالى علينا بإرسال نبيه محمد صلى الله عليه وآله. هكذا يجب أن تكون الصلاة على النبي يا ولدي، صلى الله عليه وآله. لكن سنة القرون الخالية جرت في هذه الأمة، فغيرت من دينها الكثير.
بعث النبي صلى الله عليه وآله في مكة، وأمر أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم ينطلق بدعوته إلى العالم، فحاربته قريش اشد الحرب، وناجزته العداء، لا لأنها تشك في صدق دعواه، بل لعدم رغبتها في أن يكون محمد صلى الله عليه وآله نبيا، فاحتجوا بأن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يبعث نبيا لبعث أحد رجلين كانوا يعتقدون هم بصلاحهما للنبوة. ولم تقابل أمة نبيها بمثل العناد الذي قابلت به قريش النبي. فكل أمة كانت تطالب نبيها بآية إلا قريش فقد طلبت من الله تبارك وتعالى أن ينزل عليها العذاب إن كان محمد صلى الله عليه وآله نبيا.
"ورقة تالفة"
وتحولت قريش التي حرفت دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه في الماضي إلى سيف بيد الشيطان، فعذبت من اسلم من الناس، وحاولت الكثير من اجل قتل النبي.
"تبدو لي مكة دولة أكثر منها تجمعا قبليا . . دولة تدار من مقر حكم يدعى دار الندوة".
"ورقتان تالفتان".
فلم يكن الرسول هادئ البال في المدينة، وقد كان فيها اليهود والمنافقون. اشد ما يكون العناد عند هؤلاء يا ولدي، وكانوا يكيدون الإسلام ويشنون الحروب من اجل قتل النبي صلى الله عليه وآله، وإطفاء النور الذي بعثه الله تبارك وتعالى به.
"سطر مفقود".
لقد خسر المسلمون الكثير من الجهد والرجال حتى جاء اليوم الذي فتحت فيه مكة، واعلن النبي صلى الله عليه وآله عفوه عمن كان يحاربه بالأمس، وأسماهم الطلقاء . . الطليق يا ولدي هو الاسير غير المقيد. كان يعلم أنهم انما نطقوا الشهادتين خوفا من القتل، فليس من المعقول أن يغير الإنسان عقيدته لأنه خسر في معركة، لكنه قبل اسلامهم ليتفرغ لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
أخذ جدي نفسا عميقا، وأطرق يفكر، ثم رفع رأسه وعيناه تفيضان دمعا. وقال: أي ألم كان يحمله في صدره، وأي خوف على أمته؟.
لم تنتظر قريش لتبدأ العمل بمكيدة جديدة، بل هي لم تتوقف أبدا. عزلوا الوالي الذي نصبه لهم النبي صلى الله عليه وآله، فعاش مختبئا في مكة، وكانت القيادة الفعلية لسهيل بن عمر بعد أن اتهموا ابا سفيان بالتهاون.
الأهداف بقيت كما هي، قتل النبي صلى الله عليه وآله، وعندما لم يتمكنوا من ذلك. كان عليهم انتظار موته، في هذه الفترة كانوا يسافرون إلى المدينة، ويعملون فيها على تشويه صورة النبي في اذهان المسلمين، بعد أن احاطوه بالجواسيس لينقلوا لهم اخباره.
يمكنك أن تدرك هذا من القرآن، فتأديب امرأتين لا يحتاج أبدا إلى أن يكون الله تبارك وتعالى وملائكته والمؤمنون ظهيرا للنبي صلى الله عليه وآله. القرآن يخاطب بالتأكيد من يقف وراء هاتين المرأتين. لعلك تظن أن قريشا كانت تقف وحدها في مواجهة الرسول " باقي السطر ممحو".
ومثلما كانت قريش تعمل، فقد كان الإسلام ينتشر في اصقاع الأرض، ودخل فيه الكثير من الناس بفضل الرسل الذين كان النبي صلى الله عليه وآله يبعثهم لينشروا دين الله بين الناس.
"محو صفحة كاملة".
"محو في بداية السطر". امتحانا آخر للناس، لم تفشل فيه قريش فقط، بل كتبت وثيقة أخرى تتعاهد فيها على نبذ اختيار الله تبارك وتعالى، وحاولت قتل النبي صلى الله عليه وآله في اليوم نفسه.
"اظن أن الشيخ كان يتكلم، في الصفحة الممحوة عن حجة الوداع وخطبة النبي صلى الله عليه وآله في غدير خم عندما عيّن الإمام علي عليه السلام مولى للمؤمنين".
"عدة أوراق تالفة".
"الصفحة تبدأ من وسطها".
اجتمعت قريش لتختار خليفتها فيما النبي يحتضر، وكذلك اجتمع الانصار خوفا من استبداد اعدائهم بالأمس بهم إن هم تمكنوا من تنصيب خليفتهم . . لقد نبذ الجميع اختيار الله تبارك وتعالى وراء ظهورهم، فقريش ما كانت لتقبل بغير رجل يعيد لها مجدها، وكان الانصار يعلمون أن قريشا لن تقبل أبدا بأن يكون عليا اميرا للمؤمنين.
علمت قريش باجتماع الانصار، فدهمتهم بجنودها في سقيفتهم التي اجتمعوا فيها، وفرضت على المسلمين خليفتها.
"ما تنقله كتب التاريخ من قيام الأحداث على أيدي أشخاص هو أمر مضلل حقا، فكيف يستطيع فرد أن يفرض إرادته على مجتمع كامل ما لم يمتلك جيشا؟ وكيف يحصل انقلاب خطير ما لم يكن مخطط له مسبقا؟ حتى ما نقلته لنا كتب التاريخ التي وصلت الينا بعد أن تعرضت للكثير من الغربلة والحذف والتحريف، تشير إلى وجود مؤامرة كبيرة وانقلاب بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وآله عندما تمكن منه المرض، أو السم، وبدون أخذ فكرة الانقلاب، لا يمكننا تبرير امتناع الصحابة من الذهاب في جيش اسامة بن زيد رغم الحاح النبي صلى الله عليه واله عليهم إلى درجة بلغت لعن من لم يلتحق بالجيش، ورفضهم الكتاب الذي أراد أن يكتبه لهم كي لا يضلوا بعده. أي أمة هذه التي تترك نبيها يحتضر وتجتمع لتنصيب خليفة له؟ وما الذي يدفع عنهم الشبهات في أنهم هم الذين دسوا السم له؟
ليست قصة موت النبي صلى الله عليه وآله هي وحدها الغامضة، بل قصة موت ولده إبراهيم أيضا، فلماذا لا تذكر كتب التاريخ سوى أنه مات ولم تذكر كيف مات؟ أيمكن أن يكون مات مريضا أو مسموما؟ الأحداث التي جرت بعد ولادته من رمي أمه بالإفك من قبل "عصبة منكم" لا تتيح لي خيار آخر غير الاعتقاد بأنه مات مقتولا بالسم. فقريش لا يمكن أن تترك للنبي صلى الله عليه وآله وريثا من صلبه، وقد كانت تخطط أن تسيطر على الأمة بدعوى الوراثة".
"ثلاث صفحات، لم يتبق منها غير اسطر قليلة".
اعلنت الكثير من قبائل العرب ارتدادها عن الدين.
جمعوا ما كتب من أحاديث النبي صلى الله عليه وأله واحرقوها، ومنعوا رواية الحديث عنه.
غيروا الكثير من السنن، حتى لبس الإسلام كلبس الفرو مقلوبا.
"كلمة ممحوة، ربما كانت شغلوا" الناس بالفتوح.
وإذا الذين كانوا مرتدين بالأمس، والداخلين الإسلام خوفا من القتل أو هربا من الجزية، اصبحوا جيوش الفتح دون أن يعرفوا من الدين غير الفرائض، فلم يقرأوا قرآنا أو يعرفوا سنة.
"ورقتان تالفتان".
اختاروا أرذل العائلات نسبا، واشدهم لله ورسوله عداء وأسسوا لها دولة في الشام.
لليلة الثالثة
"محو كبير في بدابة الصفحة".
وبايعوا عليا، ليس لأنه امير المؤمنين الذي اختاره الله تبارك وتعالى، بل لأنهم وجدوا فيه الاختيار الافضل، رفض اختيارهم ولم يقبله حتى بايعوه على أن يسلك بهم جادة الحق، وهذا الأمر لم تكن قريش لتقبل به أيضا، فالحق يسلبها الكثير مما أخذت ويعيدها إلى مكانتها الأولى، وما كان امير المؤمنين عليه السلام ليقبل بغير رد الحقوق إلى اصحابها واعادة ما اندرس من معالم الدين.
"أتساءل عن مقدار ما اندرس من معالم الدين؟ إذ يبدو الأمر خطيرا جدا عندما نقرأ أن صحابيا اخذ يبكي لأن صلاة الإمام علي عليه السلام ذكرته بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله!".
عندما يكون امير المؤمنين عليه السلام حاكما يا ولدي، يمكن للشيطان أن يجد الكثير من الأتباع، فقليلة هي المواقف التي لا يجد فيها الشر وسيلة إلا أن يعلن عن نفسه. شكّل الشيطان جيوشا من الطامعين في الحكم ، والمال، والسراق، يتبعهم الاغبياء. وما كان لامير المؤمنين غير القليل من الانصار الخلص والكثير من الجنود الذين لا يرون فيه أكثر من حاكم كمن سبقه من الحكام، يغزو ويوزع الغنائم. من أين لنفوس اطمأنت إلى نمط من الحكم أن تذعن لآخر مختلف، حتى لو كانت على يقين بأنه لن يسلك بها غير طريق الحق؟ النفوس يا ولدي تركن إلى الباطل المألوف وتنفر من الحق الجديد، وهذه خصلة طالما سلمت زمام الناس إلى الشيطان.
توالت الحروب هنا وهناك، كل يوم تزعق طائفة يقودها الشيطان للخروج على امير المؤمنين عليه السلام، مرة يقودها صحابة سابقون يرفعون زوج النبي صلى الله عليه وآله راية في مقدم ركبهم، وأخرى عباد منحرفون، وحرب طويلة يقودها شياطين بني "أمية".
"ثلاث صفحات ممحوة".
"أظن أن الشيخ كان يتحدث في المقاطع الممحوة عن الحروب التي خاضها الإمام علي عليه السلام مع من خرج عليه، وهي مروية في كتب التاريخ مع فارق أساسي، هنا يعتبر الشيخ أن الشيطان هو القائد الرئيسي للجيوش التي خرجت ضد الإمام عليه السلام، فيما تخلو كتب التاريخ من ذكره. وربما احتوت الصفحات على حقائق لم يتطرق إليها أحد غيره، لا لأنه عاصر الأحداث فقط، بل لأنه ينظر إليها من زاوية أخرى".
"حذف في بداية السطر". ليس كملك، سار بالناس كما يسير الانبياء واوصياء الانبياء. يرحم الضعيف ويؤوي اليتيم، يوزع العطاء بين الناس بالسوية، حتى من كان منحرفا عنه. كان في الناس كواحد منهم، فإذا حانت ساعة الجد واشتدت الخطوب عرفوا أنه في مقدمتهم يقودهم إلى حيث الصواب. ملء صدره علم ونفسه ورع. لكن رجلا كهذا يا ولدي يلاقي من الناس الكثير من العناء. اعتدنا أن نطيع القوي الظالم ولا نأبه للعادل الرحيم، فكيف بمن لم يحمل الناس على طاعته بسيف أو سوط، وترك لهم حتى أن لا يقروا به حاكما؟
ما تشهده الكوفة اليوم يا بني هو حنين إلى ماض فرطوا به عندما كان بينهم. وهيهات، هيهات أن تنتزع السلطة من الظالم عندما يتسلق كرسي الحكم، لأنه لن يتنازل عنها ولو سالت الشوارع بالدماء.
"ورقة تالفة".
ليس الولاة الراغبون في جعل السلطة وسيلة للحصول على رغائبهم وحدهم من يكره حاكما عادلا، بل كل تابع للشيطان، ولو كان من عامة الناس، سيمقت هذا الحاكم، لأنه يغلق الابواب على النفوس أن تحقق رغباتها الدنيئة.
واتباع الشيطان متنوعون، تجد فيهم الفاجر المتهتك، والمنافق الذي امتلأ باطنه كفرا، والجاهل المتنسك، والعابد الذي لم يطهر قلبه من الحسد . . نعم، حتى العابد قد يصبح عبدا للشيطان عندما تمتلئ نفسه بالغرور وهو يرى نفسه مجهولا بين الناس، فيشتعل قبله حقدا على من هو اشرف منه. وقد كانت الكوفة مليئة بعباد غيبت نجومهم شمس علي، فتبعوا أول صوت اطلقه الشيطان فيهم، واصبحوا خوارجا.
"محو بقدر نصف صفحة".
من دون أن يشعروا اصبحوا وسيلة بيد غيرهم، يملي عليهم عقائد ضالة وهم يحسبون أنها عقائدهم، يوجههم إلى أعمال يحسبون أنها أعمالهم، لأنها تلامس رغبة في أنفسهم، فالشيطان يتلمس أقصى رغبات الإنسان ليقوده من خلالها.
"ورقة تالفة، تليها صفحة لم يسلم منها سوى سطر واحد".
بعد يومين، التحق امير المؤمنين بابن عمه صلى الله عليه وآله، وهاجت الكوفة كبحر متلاطم الأمواج، ليدرك الشيطان غايته.
الليلة الرابعة
"يحتل المحو مساحات كبيرة من صفحات هذه الليلة، لكن ما تبقى منها سيوفر لنا فكرة جيدة، عندما نضم إليه بعض المعلومات التي توفرها لنا كتب التاريخ الحالية، عن الفترة الزمنية القصيرة لحكم الإمام الحسن عليه السلام".
"محو في بداية السطر". بعد أن جلسنا مرات عديدة للاستراحة. كنت خائفا من موت جدي قبل أن نبلغ أعلى الهضبة، لكنه طمأنني أن ساعة موته لم تحن بعد.
"محو بمقدار نصف صفحة تقريبا".
بدأ من حيث انتهى أبوه، فأعلن عن نيته تجييش الحملات للقاء معاوية الذي كان يشن الغارات على أطراف بلاد المسلمين ويوقع فيهم القتل والسلب . . هل يمكن أن تأخذ الأمور مجرى آخر غير ما حدث فعلا ؟ نعم، كان يمكن أن يحدث ذلك، ويتجنب الناس ويلات الخذلان.
صدقني يا ولدي، لا استطيع حتى اليوم أن أجد سببا معقولا يفسر كيف انتكست العقول، وتخلت القلوب عن إيمانها. لماذا كان يسرع القادة إلى الخيانة؟ ما الذي جعلهم يعشقون المال إلى هذا الحد، ويطمئنون إلى معاوية؟ لكن حيرتي تلك لم تمنع الأحداث أن تجري على هذا النحو، أمة تتخلى عن إمامها، تنقلب عليه، لأنها ترى فيه صورة لوالده، مساواة تامة تكبت النفوس التي تريد أن ترتفع أقدامها فوق رؤوس الآخرين.
في مدينة اتعبتها الحروب، وجد معاوية فرصته السانحة لبث جواسيسه بين الناس، فخلق اضطرابات عظيمة في النفوس بترويج الشائعات، وشراء الذمم.
وجد الإمام الحسن عليه السلام نفسه في فتنة مظلمة، ورأى أنه يقف على مشارف أمر حاسم ليس لديه الكثير من الخيارات فيه. كان كقائد سفينة توشك على الغرق، بعض البحارين يعمل بكد لإنقاذها وأكثرهم يفكر في انقاذ نفسه فقط أو أنه لا يقوم بفعل شيء على الاطلاق. ماذا بإمكان القائد أن يفعل؟ لاشك أنه سيأمر العاملين بالتوجه إلى قوارب النجاة. لكن الإمام الحسن عليه السلام لم يفعل ذلك فقط. هناك فرق كبير بين غرق سفينة ونهاية أمة، لذلك كان لابد من حيلة تضمن الاستمرار للدين. يبدو الأمر نافعا، لكنك لا تستطيع تخيل الألم الذي يسببه تخلي المحارب الشجاع عن سيفه.
"مقطع ممحو".
"هناك احتمال كبير أن يحتوي هذا المقطع الممحو على حديث الهدنة المشروطة بين الطرفين والتي تكفلت بالكشف عن الوجه الحقيقي لمعاوية أمام اتباعه، فالرجل الذي قاد الجيوش للمطالبة بدم عثمان، طار فرحا بخبر الهدنة، ووقع على ورقة بيضاء يكتب فيها الإمام الحسن عليه السلام شروطه!".
عاد الإمام الحسن عليه السلام إلى مدينة جده ليشتغل فيها بنشر علوم الاسلام، وترك الناس يواجهون خيارهم. مرت عشر سنوات التزم فيها معاوية بشروط الهدنة، فعاش الناس في أمان انتشرت فيه أحاديث النبي صلى الله عليه وآله، واستعاد الدين بعض نضارته، أمر كهذا يعني عزل معاوية عن السلطة حتى لو كان جالسا على كرسي الحكم، لأن الحاكم يا ولدي لا يكون حاكما حقيقيا ما لم يحكم عقول الناس وقلوبهم، ولم يكن الاسلام هو الذي يحقق هذا لمعاوية بالطبع. نقض معاوية عهوده ووضعها تحت قدميه. بدأ بقتل الإمام الحسن عليه السلام الذي اصبح الناس اشد حبا له لما ادركوا أنه هو الذي حقق لهم الأمان، ثم أخذ يجرد الحملات ليقتل كل من كان على دين امير المؤمنين علي عليه السلام، جند بعض الصحابة لوضع الاحاديث الكاذبة على النبي صلى الله عليه وآله، وأعاد كتابة التاريخ، فكان النبي صلى الله عليه وآله هو أول ضحاياه، ولم يمانع أبدا في أن يشهر سيف الشيطان علنا، فبث المغنيات والمخنثين في امصار المسلمين، كذلك فرق بين العرب وغيرهم وبين العرب أنفسهم، فزرع بين الناس فتنة التفاخر حتى اعادهم إلى عادات الجاهلية.
"محو في نهاية الصفحة ، يليه ورقتان مفقودتان".
اجهد الكلام جدي، كأنه يرى المذابح تعيد نفسها أمام عينيه. تشاغلت عنه لأمنحه فرصة للراحة، وأخذت انظر إلى الأفق البعيد . . إلى ما وراء البحر، فيما تمر بذاكرتي قوافل المهجرين من أهل الكوفة صوب خراسان محاطة بالجيش الأموي.
كل الطرق مفتوحة أمام الشيطان، قال جدي، وليس أمام الحق إلا طريق الحق، وعلى الناس أن يختاروا بين هذا أو ذاك. طريق الشيطان محفوفة بالشهوات الزائلة أما طريق الحق فمحفوفة بما تكره النفس من مجاهدة الشهوات.
"مقطع كبير محذوف، ربما اشتمل على بعض القصص التي ترويها كتب التاريخ من قتل معاوية للصالحين، أو قد يكون الشيخ قد روى لحفيده عن علاقة معاوية بغير المسلمين من يهود ونصارى كانوا يشكلون عمد دولته ومستشاريه الرئيسيين، وجهات أخرى لا نعلمها بل الله يعلمها. ولا شك أن الشيخ قد روى لحفيده كيف أخذ معاوية البيعة من المسلمين لولده يزيد بعد أن تفنن في ازاحة معارضية قتلا واغتيالا بالسم، ووصيته له في طريقة التعامل مع الثلاثة المتبقين، وخاصة الإمام الحسين عليه السلام الذي يجب أن يظهر مقتله حادثا لا دخل للخليفة به".
بعد أن اظهر معاوية الشر كله، لجأ الناس إلى الإمام الحسين عليه السلام، فطلب منهم الصبر حتى يموت هذا الرجل.
ارتفع صوت المؤذن، فأغلقت الكتاب بعد أن وضعت علامة تدل على الليلة الخامسة. الكثير من الأسئلة كانت تتناسل في رأسي كديدان تغادر منازلها، والعجيب أنني كنت أفكر أكثر في تلك الأسطر الممحوة والأوراق المفقودة. ما يجعل الندم اشد إيلاما، هو كل تلك السنوات التي عشتها وأنا اعتقد أنني ممسك بالحقيقة فيما هي مطمورة بركام هائل من التزييف.
ما هي الصورة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وآله؟
ما هي الصورة الحقيقية للاسلام؟
عانيت صعوبة في السيطرة على التركيز في صلاتي. الحقيقة أن ذهني تصرف كطفل يرواغ للهرب حيث الكتاب. التفكير في النوم أصبح أمرا مستحيلا، فأنا أكثر صحوا من أي يوم مر في حياتي، لذلك عدت إلى الكتاب قبل أن أفكر بأي أمر آخر. تبتدئ الليلة الخامسة بحديث الحفيد عن اشتداد مرض جده، يصفه بطريقة غريبة ، ويذكر أنه شاخ وكأن عمره أصبح ألف عام. انخفض صوته، وازداد بكاؤه، لكنه مازال يتحدث بحماس. الغريب أنه لم يكمل من حيث انتهى، بل عاد إلى قصة النبي موسى عليه السلام من اجل أن يبين لحفيده أن هناك أحداثا لا يمكننا فهمها أبدا. قرأت قصة النبي موسى عليه السلام والسامري كما لو أنني اقرأها لأول مرة، وجدت أنها عجيبة حقا. كيف فاتني أن التفت إلى هذا السر الخطير؟ لم أجد الوقت الكافي للوم نفسي. أنا مثل باقي الناس، اقتنع بالقصة التي تسرد عليّ منذ الصغر، اعتنقها وكأنها الحقيقة المطلقة.
غضب النبي موسى عليه السلام بعد أن اخبره الله تبارك وتعالى أن قومه قد ضلو، وقال له أن السامري هو الذي اضلهم، لكنه أخذ برأس اخيه النبي الصالح، أمر قومه أن يتوبوا إلى الله فيقتلوا أنفسهم، فقتل منهم آلاف الناس، إلا أنه لم يقتل السامري . . لم يحاول ضربه حتى، بل كلمه بلطف، وطلب منه أن يذهب، فلن يعرف بسره أحد. لم يتركني الجد أعاني الحيرة في البحث عن هذه الخصوصية للسامري، كشف هويته بسرعة كي يفهم حفيده أنه يعيش في عالم أكثر غرابة مما يتوقع. ليس السامري رجلا عاديا، إنه الذي يذكره الله تبارك وتعالى في القرآن . . إنه العالم الضال الذي أتته آيات الله فانسلخ منها، لذلك يمتلك هذا الرجل قدرات خارقة، حتى أنه صنع عجلا.
لا ندري متى ضل هذا الرجل، الجد لم يبين ذلك ، لكنه يخبر حفيده أن السامري قد تحول منذ ذلك اليوم إلى أمة . . أصبح له أنصار وأتباع، إنه رجل يعيش آلاف الاعوام . . إنه قرين الشيطان الذي يدخل في كل دين ليخربه، ويعرف من يجب عليه أن يقتل.
يقول الرجل لحفيده: أعدت عليك تلك القصة، لتعرف سر ما سوف أحدثك به الآن. وأظنك أدركت أن دولة بني أمية هي دولة الشيطان التي يقودها الدجال.
لا احتاج إلى الكثير من الذكاء لأدرك أنني سأقرأ تاريخا مختلفا لواقعة الإمام الحسين عليه السلام غير ذلك الذي اسمعه يتردد في كل عام. يد المحو والتمزيق مرت من هنا أيضا. الكثير من الأسطر الممحوة والأوراق التالفة، لكن ما تبقى منها منحني صورة أخرى للواقعة يمكن أن تفسر تلك الأحداث التي بقيت غير قابلة للتفسير، أو أن تفضح تاريخا طويلا من الكذب.
عاش يزيد بعيدا عن أبيه، لكنه لم يكن يلهو فقط، بل كان يتلقى تربية وتعليما من قبل حلفاء أبيه، ففسقه وشذوذه ليس خروجا على تعاليم دين لم يدخل فيه أصلا، بل هي جزء من دين يعتنقه. المؤرخون اخترعوا قصة زوجة تحن إلى العيش في البادية، فيطلقها الملك، ويسمح لها بأخذ ولده الوحيد معها! أي علف سام اقتاتت عليه الأمة كل هذه القرون؟! حتى مخطط قتل الإمام الحسين عليه السلام وجده يزيد جاهزا، ومكتوبا بخط أبيه.
يعلق أبي على هذا الأمر، بأن سرجون ــ ماذا يفعل سرجون في بلاط خليفة المسلمين؟ ــ اعطى يزيد كتابا بخط أبيه، يطلب منه أن يعين عبيد الله بن زياد واليا للكوفة في حال خرج الإمام الحسين عليه السلام إليها، ويذكر دليلا اخرا، هو أن معاوية ــ وهو لم يكن يعلم الغيب بالتأكيد ــ يخبر ولده أن أهل الكوفة سيكفونه الإمام الحسين عليه السلام. كيف علم معاوية بهذا إن لم يكن قد أعد الخطة سلفا، أو بتعبير أصح، أعدت له من قبل حلفائه الذين يمثلهم سرجون في البلاط.
حتى الولاة الذين يمكنك أن تتعاطف معهم، لأنهم كانوا يتورعون عن قتل الإمام الحسين عليه السلام، لم يكونوا غير أدوات لدفع الإمام الحسين عليه السلام للخروج إلى العراق. هكذا فقط نستطيع أن نفهم قول الإمام عليه السلام أنه خرج لاجئا إلى مكة عندما سأله واليها عن سبب قدومه إليها.
الأشهر التي لم يبق منها سوى أسطر في كتب المؤرخين، لبقاء الإمام الحسين عليه السلام في مكة، قد اتلفتها يد الزمن هنا أيضا، فلم يبق منها غير أنه كان يبين معالم الدين. هل كان يدعو الناس إلى الخروج على بني أمية، اغلب الظن لا.
الفراغات الكبيرة التي تحتل الصفحات، أصبحت سهاما تقطع حبال أفكاري وتتركها هائمة في الهواء. صفحة كاملة لم يبق منها غير أن عبيد الله بن زياد جاء إلى الكوفة بجيش ، هذا كاف لتفسير تشتت جماعة مسلم بن عقيل عليه السلام عنه، ربما لم يتشتتوا، ربما انكسروا أمام جيش زياد، وذلك أفضل من القبول بتلك القصة الواهية التي تتردد على المنابر وفي الكتب. رجل بمكانة عبيد الله بن زياد بن ابيه، حاكم العراقين، لا يمكن أن يسير وحده من البصرة إلى الكوفة وهو يمتلك من رماة السهام الفي بخاري، لا شك أنه كان يمتلك ضعف هذا العدد أو مثله من الخيالة. أما الجيش الذي ذهب لقتال الإمام الحسين عليه السلام، فلا يحدد له الجد عددا معينا، يقول أنه ملأ ظهر الكوفة، ولا اعرف ماذا يعني هذا بالتحديد.
أبي يمد يده إلي مرة آخرى أيضا، فيبين معنى الكتيبة الحمراء ــ فرقة من الجيش الذي قاتل الإمام الحسين عليه السلام ــ:"كانوا يعملون مع الجيش الفارسي. نزلوا الكوفة بعد صلحهم مع سعد ــ يقصد سعد بن أبي وقاص ــ والحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الافاعيل بالشيعة سنة خمسين وحواليها". شكرا أبي.
بعد محو كبير. يتحدث الجد عن سماعه لاصوات الشياطين توسوس للناس في الكوفة. يذكر أنه رأى الأفق يتغير، وأن الليل صار أكثر ظلمة. امتلأت الشوارع بالجثث والسجون بالرجال. غيّر بن زياد رؤوساء العشائر. عقد اجتماعا عاجلا بالمناكب والشرط، واغلق الطرق المؤدية إلى الكوفة . . كان هناك قانون طوارئ واعلان للاحكام العرفية. الإمام الحسين عليه السلام يعلم، ومع ذلك فهو يسير إلى الفتح الغامض . . الفتح الذي لن يدركه من لم يلحق به ومن لحق به استشهد.
لم يكن عبثا إذن أن تحتفظ ذاكرتي كل تلك السنوات بهذه الخطبة للإمام ، فأرددها وكأنها نشيد:"ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيّر".
ازداد يقيني بأن معركة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن مع جيش يزيد، لو كانت كذلك لما أصر الإمام الحسين على المجيء إلى العراق، وقد كانت كل الدلائل تشير إلى خسارته المعركة . . حتى النساء كن يعرفن أنه سيقتل، لكنه جاء وهو يعرف أنه سيقتل . . جاء كي يقتل، أو تستيقظ الأمة من سباتها وتعود إلى طاعة الرحمن، هكذا يفسر الجد قول الإمام الحسين عليه السلام:"ووالله ليعتدن عليّ كما اعتدت اليهود في السبت".
ثم، أوراق ممزقة، وعودة للحديث.
لا يذكر الجد اسم كربلاء، بل يتحدث عن ( حيث نجى الله تبارك وتعالى نوحا والذين آمنوا معه ) كمقصد للإمام الحسين عليه السلام. يعلق أبي تحت هذه الفقرة، فيحسب الوقت والمسافات ليستنتج أنه من المستحيل أن تكون الكوفة هي مقصد الإمام الحسين عليه السلام، لأنه لو أراد الوصول إليها، لتمكن من ذلك قبل بن زياد بوقت طويل. ثم يعود الجد للحديث ليدخل إلى تلك المنطقة الغامضة، فيزيدها وضوحا. غالبا ما كنت أرى في استنتاجات العلماء من بحثهم في قضية الإمام الحسين عليه السلام فتحا تاريخيا، خاصة أولئك الذين يحاولون أن يقسروا الأحداث لتترتب بشكل منطقي، وكأنهم يريدون أن يعقلنوا الحادثة، لأنها في نظرهم غير معقولة. ولا أدري لماذا يفترض الناس، خاصة العلماء، أن الأحداث يجب أن تسير كما يقنعهم لا كما سارت في الأصل. يمكنني أن أفهم استغراب أي إنسان من نقل الحديث بين الإمام الحسين عليه السلام وهلال بن نافع بينما كانا يسيران وحدهما في الليل، إلا يدل هذا على أن"المؤرخ" كان يكتب قصة وهو راويها العليم!
لماذا لم يفكر العلماء بأن ما يقرؤونه من تاريخ الواقعة هو قصة ليس أكثر؟ ففي القصص وحدها يمكن أن يتلاشى جيش من ثمانية عشر الف فارس بمجرد اشاعة قدوم جيش اكبر، شرط أن يبدأ القاص بالقول:"سأروي عليكم قصة لا تصدق، يمكنكم أن ترووها لأطفالكم". كيف سكت العلماء عن مقتل يروي واقعة الطف، وهم يعلمون جيدا أن كاتبه مجهول، فيما هم يرفضون الحديث عن المعصوم حتى لو كان من سطر واحد أو اقل من ذلك عندما يكون راويه مجهولا؟
يقول الجد:"إن الإمام الحسين عليه السلام، كان قادما لينفذ مشيئة الله تبارك وتعالى، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك". لماذا علينا أن نؤول مشيئة الله تبارك وتعالى؟ لماذا لا تكون مشيئة الله هي الجواب على السؤال؟ ولماذا يجب على الإمام الحسين عليه السلام أن يغفو ليرى رسول الله صلى الله عليه وآله، فيما هو ذاهب لتوديعه؟ أنا اعرف عالما تكلم مع الإمام علي عليه السلام دون الحاجة إلى أن يغفو، بل أنه كان يكلمه وقتما يشاء، وأعرف تلك الطفلة التي كان يرعاها الإمام علي عليه السلام لثلاثة أيام في المقبرة .
أذهلني كلام الجد عن الإمام الحسين عليه السلام . . أذهلني تماما، والسماء لا تمطر دما من أجل رجل قتل في معركة. لا أذكر أيضا أن التاريخ قد تكلم عن رأس يقرأ القرآن وهو محمول على الرمح. عجيب، عجيب جدا هذا الرجل الذي تتغير لمقتله قوانين الطبيعة، ويقف الموت عاجزا عن اسكاته.
بعد محو نصف الصفحة، وقضم لبعض السطر الأول، يربط الجد بين استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، وناقة صالح، لقد عاقب الله تبارك وتعالى قوم صالح لأنهم عقروا الناقة التي أمرهم بعدم التعرض لها، وكذلك يعاقب سبحانه وتعالى الأمة التي قتلت الرجل الذي أمرت بمودته. ما كان يخطر على بالي أبدا أننا أمة معاقبة . . كنت اسمع دوما أننا الامة المرحومة.
حتى لو كان بيني وبين الساعة السادسة عشر ساعات، لن أنام، لقد استيقظت تماما. اتصلت بابراهيم، اعرف أنه يبقى مستيقظا حتى الصباح بعد أن يصلي الفجر. أخبرته أنني لن أذهب إلى الحي . . غيرت رأيي ، سأذهب إلى كربلاء. حاول أن يستفسر ، وربما أراد أن يعترض. قلت له:"لا أريد مناقشة الموضوع الآن، إنني ذاهب إلى كربلاء، لكن ليس اليوم، غدا سأذهب حتما، فلدي ما ابحث عنه هناك". هو يعرف أنني لا اغير رأيي بهذه السهولة، ولا شك في أنه عرف أن أمرا جديدا قد حصل. اكتفى بالموافقة وأغلق الهاتف.
الجيش الذي قاتل الإمام الحسين عليه السلام، ليس تشكيلا مرتجلا حسب مقتضى الحاجة، بل هو جيش امبراطوري شكل لهذا الغرض من كتائب تضم العديد من الاصناف، وصرت اعرف الآن من الذي غير"ولم يكن بينهم شيعي واحد" إلى "ولم يكن بينهم شامي واحد". فالكوفة كانت محتلة أصلا من قبل جيوش الملك الشامي، أما الشيعة، فيتبين من حديث الجد أنهم فئة كانت تخشى جيوش الشام، وأهل الكوفة!
الأمر الذي حيرني حقا، ولم يسعفني حتى أبي بتعليق عليه، هو هذا النصف سطر الهائم في وسط الصفحة عن صيرفيي الكوفة . . من هم؟ ما دورهم؟.
نمت أكثر النهار، استيقظت عند الساعة الواحدة ظهرا. صليت، وشيء من حلم مستمر في رأسي، لم استطع تبينه، لأنني نسيت الحلم، الأصوات وحدها عالقة في ذاكرتي.
ــ لماذا لم تسافر إلى الحي ؟ سألت أمي.
ــ غيرت قراري . . سأسافر إلى كربلاء.
ــ هل تركت موضوع الكرامات؟
ــ كيف عرفت أنني كنت سأسافر من اجل الكرامات؟
ــ إبراهيم اخبرني.
ــ كان إبراهيم موجودا إذن.
ــ أيقظتك أكثر من مرة، لكنك كنت تعود لتنام.
ــ لا اذكر أن أحدا ايقظني.
لبيت حاجة معدتي الفارغة بقدح من الشاي وكعكة صغيرة. رحت أحاول إعادة تنظيم الأفكار في رأسي المنتفخ كبالون.
قبل أن اسمع صوت أمي المنادي بضرورة توقفي عن عادة السهر، ارتفعت نغمة الموبايل. شاهدت على الشاشة الرقم المجهول، ففتحت الخط.
ــ الو.
ــ نعم.
ــ قررت الرد أخيرا. لماذا هربت في المرة السابقة؟
نسيت تماما أنني أغلقت الخط بوجهها في المرة السابقة، إلا أن صوتها جاء بذكرى ذلك الحديث معه الآن.
ــ ماذا تريدين ؟ أجبت بصوت يحمل نبرة الانزعاج، نوعا ما.
ــ بل ماذا تريد أنت؟
ــ من ماذا؟
ــ نبشك في كتب الموتى.
ــ فهمت، لا علاقة لك بالأمر.
ــ اسمعني جيدا، افهم ما أنت ناو عليه، اتصلت لأنصحك فقط، لن يجدي ذلك نفعا، ستضر بنفسك ليس إلا، وربما ستخسر حياتك.
للحظة، توهمت أنها صادقة، نبرتها الهادئة تحمل حرص صديق على صديقه العزيز، لكنني في العادة لا أتقبل نصائح حتى لو كانت من صديق عزيز.
ــ لا يهمني.
ــ من أجل لا شيء.
ــ بما أنك تعرفين كل شيء عني، فلا شك في أنك تدركين جيدا أنك تكذبين الآن.
ــ لا أشكك باخلاصك أنت، لكنك تعرف أن الناس يرفضون كل حقيقة تخالف تصوراتهم، وأنت تسلك طريقا صعبا، لن يراجع أحد معك التاريخ، وحتى لو فعلت ذلك وألفت كتابا ضخما، لن يغير هذا من الأمر شيئا. سيبقى الحسين ذلك الرجل الذي قتل في صحراء كربلاء، ويجب أن نبكي لمقتله لا أكثر.
ــ لا أريد أن أناقش هذا الأمر، لكنني ساعمل على: لماذا، من، كيف، وتنتهي المسألة.
ــ يمكن لهم أن يسمحوا لك بالبحث في لماذا، لكنك ستفتح النار على نفسك عندما تبين من وكيف. لذلك أنا لا أريدك أن تخسر شبابك . . أريدك أن تستمتع حتى آخر حد.
ــ شكرا لاهتمامك.
صمتت قليلا، يُخيل الي أنني سمعت همهمة خشنة لا تنتمي إلى مخلوق اعرفه، تغير صوتها تماما، ليصبح كريح تخرج من مغارة.
ــ لن اسمح لك.
وأنهت المكالمة.
لا استطيع وصف الشعور الذي راودني في تلك اللحظة، لكنني أحسست برعشة تجتاح جسدي كله. اخافني صوت أمي وهي تنظر في وجهي مندهشة، وكأنها تراني اسقط من مكان مرتفع.
ــ ماذا؟ تساءلت.
اقتربت مني، تحسست وجهي بكفها، مرت عليه أكثر من مرة، لتتاكد أنه وجه حي.
ــ أنت مصفر، أنت مريض جدا. يجب أن تذهب الآن إلى طبيب.
انهالت عليّ بالاسئلة. بحثت تحت الفراش وفي جوانب الغرفة عن كائن ما يمكن أن يكون قد لدغني. أكدت لها أنني لا أعاني من شيء، واجبرني خوفها على أن احكي لها كل شيء عن الرقم المجهول، لكن ذلك جعل الخوف يتغلغل في نفسها أكثر.
ــ أنت متأكد من أنها ليست شيماء؟
ــ نعم، شيماء لا تفعل ذلك، هي على الأقل، غير مضطره إلى اتباع هذا الأسلوب، ولا يمكنها أن تتصرف بهذه الطريقة.
غطت في حيرة عميقة، لا استطيع مهما فعلت انقاذها من الغرق فيها، فأنا لا اعرف أي مخلوق يمكنه أن يعرف كل شيء عني، وله هذا الصوت المخيف.
بعد أن تأكدت من أنني لم ألدغ، ولا اعرف فتاة بمواصفات ذات الرقم المجهول، ذهبت إلى المطبخ لتسخين الغداء. اصرت على أن أتناول وجبة طعامي، فبعد الذي جرى، ورؤيتها لوجهي الذي قالت أنه يشبه وجوه الموتى، لن تسمح لي أبدا بالتخلي عن هذه الوجبة، حتى لو اقسمت لها أن الجوع هو آخر ما يمكن أن اشعر به الآن.
ــ هل اطلعت على هذا الكتاب سابقا؟ سألتها وأنا ادفع الطعام إلى فمي.
ــ لم اقرأه، لكنني اعرف كل ما فيه.
ــ ماذا تعرفين مثلا؟
ــ اعرف أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يقصد الكوفة بمجيئه إلى العراق . . اعرف أن الجيوش التي قاتلته كانت من جنود الشام والخوارج والكتيبة الحمراء والمخالفين لأهل البيت من أهل الكوفة، واعرف أن جيش الإمام الحسين عليه السلام لم يكن سبعين مقاتلا فقط، وأن الإمام السجاد جرح في الحرب ولم يكن مريضا.
ــ وماذا تعرفين أيضا؟
ــ إن الإمام الحسين عليه السلام لم يقتل لأنه خرج على يزيد فقط، بل كان القرار بقتله قد أتخذ منذ وقت طويل، وإنه اعظم اختبار مرت به الأمة.
ــ لم أسمعك تتحدثين بهذا من قبل.
ــ لا أحد يريد الاستماع إلى قصة جديدة عن واقعة قديمة، هكذا كان ابوك يقول، واعتقد أنه كان محقا رحمه الله . . لهذا السبب تريد التوجه إلى كربلاء؟
ــ نعم.
ــ ماذا تريد أن تعرف؟
ــ اشعر بشوق شديد للذهاب إلى هناك، أما البحث فلا بد لي من جمع المصادر، لعلي أجد ما يساعدني على التوصل إلى الحقيقة، أريد أن اعرف كل شيء.
ــ هل قلت أن الصوت الذي كان يكلمك تحول من صوت فتاة إلى صوت خشن لا تعرفه؟
ــ نعم.
قالت:"لا أدري". بعد أن فكرت قليلا، ثم نهضت لأنني ربما أكون قد استعدت لون وجهي.
لم استطع مقاومة العودة إلى الفراش، بعد أن تناولت غدائي الاجباري، لاستيقظ عند الرابعة عصرا بوخزات من اصابع إبراهيم.
الغريب أنني لم استطع مناقشة إبراهيم في الأمر أمس. كنت بحاجة إلى مناقشة الموضوع مع إنسان، وإبراهيم هو من يمكنني مناقشة الموضوع معه. اعتقد أن ذلك الإحساس الثقيل الذي ملأ نفسي بعد المكالمة منعني من ممارسة حياتي بصورة طبيعية، بحيث أنني لم أرد بشكل مقنع عندما سألني إبراهيم عن سبب تغيير وجهتي، ولم أجب أمي بالشكل المناسب عندما سألت إن كنت سأعود إلى البيت بعد الذهاب إلى كربلاء أم أنني سأغادر من هناك إلى بغداد.
لا امتلك فكرة واضحة عما سوف افعله هناك، ليس لي هدف محدد من تلك الزيارة، ففي النهاية لا يمكنني إعادة الزمن إلى الوراء لأرى كيف وقعت المعركة، وأنا واثق بأن الجبال التي يتحدث عنها الكتاب قد اختفت إلى الأبد، ولا يمكن حتى لهذا الرجل الذي يلقي بمحاضرته الآن من راديو السيارة المسرعة على الطريق الدولي أن يتوقع اماكنها، ربما هو ما يزال يعتقد إلى الآن أن المعركة وقعت في ارض مستوية . . وقعت في الصحراء.
اغمضت عيني لأختصر الطريق، فرأيت الكتاب مفتوحا على تلك الصفحة التي لم يبق منها غير سطر يعوم في وسطها "وكان للصيارفة دور مهم في الأحداث التي وقعت في الكوفة". أي دور للصيارفة كان في مقتل الإمام الحسين عليه السلام؟ فتح السؤال الباب على أسئلة أخرى. هل كان الإمام الحسين عليه السلام يتعمد الاجابة بأجوبة مختلفة على سبب ذهابه إلى كربلاء ليبقي باب التساؤل مفتوحا، فلا تنغلق قضيته على نهاية؟ لماذا كان خيار الصحابة يحاولون تثبيطه عن الخروج على يزيد بدل أن يخرجوا معه ليقفوا بوجه رجل يعرفون جيدا أنه يرتكب المعاصي ويسفك الدماء؟ هل يمكن للجوع والإرهاب أن يغير اخلاق أمة حتى أنها ترى دينها يسلب فلا تثور؟
لماذا اهدرت كل السنوات الماضية، وجئت الآن لأحاول البحث من جديد في هذه القضية؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي استطيع الاجابة عليه الآن.
كان يمكن للانتفاضة أن تنجح . . . كان يمكن لأبي أن يستمر في المقاومة أكثر، لو أنهم لم يسرقوا العتاد من ساحة المعركة، ولو أن الخيانة لم تحدث.
ارتفعت نغمة الموبايل، اسم احمد الصحفي، هكذا اكتب اسماء اصدقائي، اسم الصديق وعمله، يلوح على الشاشة. أجبت.
ــ هلو احمد.
ــ اهلا، لقد حصلت كرامة مدهشة، يمكنها أن تغني التحقيق، وتحدث ضجة كبيرة ، إنها . . .
ــ احمد، لقد انتهيت من موضوع الكرامات.
ــ هل انهيت الموضوع فعلا؟
ــ نعم.
ــ يمكنك أن تضيفها إلى التحقيق، بما أنك لم تقدمه بعد.
ــ أعدك أن التحقيق سيرضي طموحك من دونها، لقد ملأته بقصص الكرامات.
ــ هل تعتقد ذلك؟
ــ نعم.
تجاوزت السيارة نقطة التفتيش عند مدخل كربلاء. بعد دقائق من سؤال الشرطي للسائق سؤاله المعتاد، وصلنا نقطة النزول. حملت حقيبتي التي كنت اضعها بين ساقي طوال الطريق، ونزلت. سبب واحد اعرفه لمجيئي إلى هذه المدينة. أنا بحاجة إلى استكشافها من جديد، معرفة تاريخها، وكذلك جغرافيتها. اشعر الآن أنني اسير في أرض مرتفعة. لكنني لا أرى أثرا لجبل. قمت بما لم أقم به منذ سنوات طويلة. قصدت مرقد الإمام الحسين عليه السلام، بعد أن توضأت. ابعدت عن رأسي أية فكرة يمكن أن تقودني بعيدا عن صاحب هذا المكان المقدس، كل ما قرأته من كتب سابقا عنه أو سمعت به من على المنابر. أنا الآن في حضرة الإمام الذي مثل حدثا مهما لاختبار ضمير الأمة . . الإمام الذي اختاره الله تعالى وقتله الناس. مشيت بهدوء إلى الضريح رغم الزحام، شعور عميق بالحزن حل في نفسي، لكنني لا استطيع تصور غير غبار معركة، صليل سيوف، وسماء تقطر دما. وقفت عند الضريح، في زحمة الناس، فكرت في الكثير من الكلام الذي يجب أن أقوله هنا. أردت أن اطلب المساعدة في معرفة القضية كاملة . . أردت أن اطلب رؤيا اعرف فيها كيف جرت الأحداث بالضبط، لأردم تلك الفجوات في ذاكرتي، إلا أن عبارة واحدة فقط تجرأت على مغادرة شفتي:"السلام عليك يا ابا عبد الله".
ملأت انفي رائحة المكان الزكية، وحل السلام في نفسي. قررت الاكتفاء بما حصلت عليه من طمأنينة، فألقيت السلام على الشهداء المدفونين بالقرب منه، وقصدت ضريح الإمام العباس عليه السلام.
الإمام العباس عليه السلام ــ الكثير من الناس يجدون حرجا في تسميته بالامام ــ له مكانته الخاصة في قلبي، ألمه الخاص، هو صفحة مستقلة من صفحات واقعة الطف، وصوت مميز في ضميري مذ كنت صغيرا، أراه الفارس الذي يجوب الميدان وحيدا، يحيطه الأعداء ــ لا يمكنني تخيل اشكالهم أبدا ــ فيقاتل حتى يصل الماء، رجل وحيد محاط بجيش، يمد يده إلى الماء ويفكر، ثم يملأ قربته دون أن يشرب، وييمم شطر معسكر أخيه. أراه راجعا، الجيش يتفرق عنه، يتقدم كسهم منطلق، ثم فجأة تطيح كفه إلى الأرض، تتبعها الأخرى، تتمايل الراية، يقع، فتقع إلى الأرض، انكسر جيش الإمام الحسين عليه السلام، وبكت زينب. اتصور الحزن يحط كطائر لا مرئي على معسكر الإمام الحسين عليه السلام، حيث لم يبق إلا هو والنسوة والأطفال وعلي الجريح ــ لا يحق لي بعد الآن أن أقول المريض ــ، واتخيل جيش الاعداء يتصايحون فرحا، لكنني لا استطيع أن أرى إلا سحابة سوداء تضلله . . سحابة حزينة وغاضبة، تريد أن تنفجر إلى شظايا من الرعد وتتشتت في السماء.
اعرف أن القبر يقع تحت، مغمور بالماء، وكأن الفرات جاء ليعتذر.
من الصعب عندما أكون في حضرة الإمام العباس عليه السلام أن لا ابكي، أو أن أفكر بشيء آخر. هنا قصة تختلف، قصة أمل وانتظار وماء، وبطل لا يستطيع جيش كامل أن يقاتل أمامه برجولة.
مرة أخرى اعجز عن الكلام، اكتفي بالسلام فقط، اكبت ألما لن ينتزعه من صدري غير الصراخ، وأغادر.
لا يمكنني رؤية الأرض التي دارت المعركة عليها، شوارع وعمارات احتلت ساحة المعركة، بنية صغيرة هي كل ما تبقى من تلة كانت هنا، صار اسمها التلة الزينبية، هنا وقفت زينب عليها السلام تراقب المعركة، على هذه التلة، خلف هذا السوق تماما.
على بعد مسافة قصيرة، لافتة كبيرة تعلن أن المخيم الحسيني كان هنا. لكنني لا أجد اثرا للخندق أو الجبلين اللذين تحدث قربهما الإمام الحسين عليه السلام مع هلال بن نافع. احس أن المكان مرتفع، وإنني اقرب إلى السماء.
برق تساؤل في رأسي، المسافة بين الإمام الحسين عليه السلام والإمام العباس عليه السلام قصيرة جدا، لا تسمح أن يكون بينهما بساتين وجيوش. كيف وقعت الحرب إذن، كم كان العدو قريبا منهما؟
تركت الأسئلة تحوم في زاوية صامتة من رأسي، تبعت الحافز الذي يراودني منذ البداية، فذهبت إلى المكتبات، لعلي أجد جوابا في الكتب. أردت الحصول على خارطة لكربلاء القديمة.
حقيبتي المحملة بالمزيد من الكتب، تستقر بين ساقيَّ مرة أخرى في المقعد الخلفي من السيارة. توجهت إلى بغداد بدل العودة إلى الناصرية، في غرفتي من الفندق استطيع أن أفكر بشكل اوضح، لا ذكريات من الماضي تشوش تفكيري وتخطفني إلى جزرها، حيث عليَّ أن اعيش تجارب الخسران من جديد.
الطريق بين بغداد وكربلاء جميلة هذه الأيام، انتهت تقريبا سيطرة المسلحين هنا ، أولئك الذين كانوا يترصدون الطريق لقتل كل مار إلى كربلاء أو عائد منها. بدل تلك المشاهد الدامية اكتسى الطريق وجها آخر. المواكب الحسينية ــ اشبه بدور ضيافة اهلية لإستقبال الزوار ــ تنتشر على الطريق، يعلو كل واحد منها صورة كبيرة تمثل أحد الائمة ــ في الغالب تكون الصورة للإمام علي أو الإمام الحسين عليهما السلام ــ واسم يميزه عن المواكب الأخرى. الأمر يثير العجب، من أين كان يأتي القتلة إذنً؟ كيف استطاعوا أن يخرقوا الأمن في كل هذه القرى المنتشرة هنا؟ ربما ينبغي عليَّ نسيان ذلك الآن، لا أريد أن اضيّع روعة الطريق بالتفكير في أحداث لا تجلب سوى الأسى، لقد تعبت من الشعور به .
عندما اجتازت السيارة العلامة التي تشير إلى طريق بابل الاثرية، كنت أفكر في الملخص الذي يجب أن أنهي به التحقيق عن الكرامات، وما إذا كنت استطيع تنفيذ قراري بكتابة قصة القرية التي شهدت الاحتراق الذاتي، الأهم من القصة التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام هو الطريقة التي انتهت بها الظاهرة. سيعتبر الناس، وحتى الرئيس نفسه، الأمر مبالغة، وربما سيفضل التضحية بصحفي مجنون على أن ينشر في مجلته تلك الخرافات . . من سيصدق ما حدث؟ لا ينفع في هذه الحال شهادة أهل القرية البسطاء ــ البسطاء دائما لا يحظون بالمصداقية لأنهم بسطاء ــ سيفهم الأمر على أنه هلوسة بصرية، كلمة سحرية مثل العقل الجمعي ستلقي بالرواية الحقيقية إلى سلة المهملات، وينسى أمرها.
سأعمل بحكمتي التي أؤمن بها، ينبغي قول الحقيقة في الوقت المناسب، وعندما تكون نافعة للناس.
رنت نغمة الرسائل على الموبايل، رسالة من الرقم المجهول:"أنت تسهل الأمر لاتهامك بالجنون". لا أريد أن اكذب، اثارت الرسالة الرعب في نفسي. عدت لأسمع الصوت البشع من جديد . . صوت الفتاة الرقيق، يتحول فجأة إلى صوت مخيف لكائن بلا اسم.
لفترة طويلة، شل عقلي، وعجزت عن التفكير، احتجت أن يتلاشى الشعور بالخوف، لأتمكن من مواصلة التفكير. لا يمكنني بعد اليوم تجاهل الكائن صاحب الرقم المجهول، لقد تغير الوضع تماما، فلم يعد فتاة ساقطة تبحث عن قصة حب أو جنس، لا شك في أنه يمتلك الكثير ليفعله ضدي كي يهدد بأنه سيتهمني بالجنون، والمشكلة الأكبر معه هي أنني لا اعرفه.
في الساعة الرابعة عصرا كنت اشق طريقي إلى الفندق مرة أخرى في زحام السيارات. اشعر بأمان كبير، كأنني اذهب إلى بيتي، وليس إلى غرفة في فندق غريب. سرعان ما انسجمت مع العالم، وعدت أمارس نمط حياتي المألوف. مررت بمطعم للأكلات السريعة، اشتريت لفتين سفري، تناولت استكاني شاي في المقهى، تبادلت الحديث مع صاحب المقهى، ورددت على اسئلته المألوفة، اعرف انه غير مهتم بصورة جادة باحوال عائلتي التي لا يعرف شيئا عنها، لكني اجيب بكل هدوء وابتسامة امتنان تمط شفتيّ: بخير الحمد لله. أخذت مفتاح غرفتي من استعلامات الفندق بعد طقوس اللقاء المكررة، والتي يبدو أن لا شيء سيتغير منها أبدا، وصعدت إلى غرفتي. غيرت ملابسي ودخلت الحمام.
مازل الكثير من الوقت أمامي للعمل على موضوع الكرامات، لكنني أريد انجازه الآن للتفرغ للموضوع الأهم في حياتي. اعرف أنه ليس تحقيقا يمكنني أن انهيه في شهر، إلا أن حديث الجد يمثل حافزا كافيا للبحث في قضية الإمام الحسين عليه السلام، فما لم أخبر به أحدا أنني جئت بالكتاب معي لأعيد قراءته مرة أخرى.
جهزت القصص التي جمعتها والآراء، وبدأت اكتب التحقيق.
الكرامات . . تلك الاشارات الواردة من الغيب، قناعات وآراء.
لا يخلو تراث شعب من الشعوب، أو طائفة من الطوائف من الحديث عن الكرامات التي وقعت في السابق أو تلك التي مازالت تقع إلى اليوم. ولا يمكن حصر تلك الكرامات في شكل واحد لأنها تقع في مجالات متعددة من الحياة، فمنها ما يتعلق بالشفاء من المرض، وأخرى تتعلق بأشياء مختلفة من قبيل تحقيق غرض ما أو حل معضلة لفرد أو جماعة من الناس. ليس هناك من ينكر هذه الظاهرة الغامضة، لكن وجهات النظر تتعدد في تفسيرها، فهناك من يرى أنها اشارات سماوية، ويرى آخرون أنها أمور تتعلق بقدرات كامنة في الناس، تظهر عند تحفيزها باتجاه معين، لكن بعض هذه الكرامات لا يمكن تصنيفها ضمن القدرات الكامنة، ولا يمكن تفسيرها أيضا ضمن أي منطق علمي مما يجعل العمل عليها مستمرا لغرض الحصول على جواب ينسجم مع المنطق العملي الذي لا يؤمن بالأسباب الماورائية وتدخلها في شؤون الكون ــ هذه أكثر الجمل نفاقا التي كتبتها في حياتي، فماذا يعني "لا يؤمن بالأسباب الماورائية، غير لا يؤمن بالله" لكن كتابتها بهذه الطريقة سيكسبني صفة الحياد التي لا اعرف من الذي وضع معاييرها ــ ولكل من الفريقين ما يبرر موقفه من الظاهرة، إلا أنه موقف يقع في دائرة البحث، ولا يهم كثيرا في تغيير قناعات من كان على تماس مباشر بالكرامة، مثل أن يكون قد وقعت له، أو أنه شهد وقوعها.
ثم ادرجت لقاءاتي مع الأشخاص الذين وقعت لهم الكرامات، وبعدها قمت بترتيب الآراء، لم أرد أن استعبد رأي "ش . ر" لكني لم أف له / لها بأنه سيكون آخر الآراء، وكتبت أيضا ما جمعته من آراء العلماء التي حصلت عليها من الكتب، ثم حان دوري لأختم التحقيق.
وبدلا من كتابة خلاصة اطرح فيها رأيي في الموضوع بشكل صريح ــ ليس لي رأي يختلف عن ذلك الذي يطرح في الكتب غير أنني آمنت بأن بعض الكرامات هي اشارات سماوية لتنبيه الناس وتذكيرهم بالله تعالى ــ كتبت قصة القرية التي عانت من الاحتراق الذاتي، وتساءلت عن سبب عدم تغطية وسائل الإعلام للطريقة التي انتهت بها الحرائق، فحتى لو أنهم ذكروا الحقيقة، يمكن لهم أن يتكلموا بطريقة تضعّف ما يقوله الناس، فيظهر المراسل الوفي لتوجهات قناته على الشاشة ليقول: وبالرغم من أن العلماء يجدون أن سبب انتهاء ظاهرة الحرائق يعود بلا شك لأسباب علمية، إلا أن هؤلاء الناس "البسطاء" يرون أن السماء هي التي اطفأت تلك الحرائق. لن يشرح الأسباب العملية، لكن "البسطاء" إشارة كافية لسحب المصداقية من رواية الناس.
شعرت بالجوع والتعب. لن اكتب أكثر، لن افتح كتابا، أنا بحاجة للنوم.
الرئيس بانتظاري، لا شك أنه أكمل قراءة التحقيق، ويريد أن يطرح رأيه أو يبدي ملاحظة، من حقه أن تكون له ملاحظاته، وربما اعتراضاته، فقصة القرية لا تصدق، رغم أنها حدثت في قرية كاملة، ورغم أن الشهود هم سكان هذه القرية، اعرف أن التصديق بأمر ما يرتبط بما نعتبره نحن معقولا، أو ما درجنا على سماعه منذ الصغر، لكن رئيس تحرير مجلة، عليه أن يكون اوسع افقا من هذا.
ــ أكملت التحقيق بوقت قياسي. قال.
ــ اذكر أنك طلبت انجازه باقرب وقت.
ــ مازال لديك بعض الوقت.
ــ فرغت منه، ولا داعٍ لإطالة عمر عمل انجزته.
ــ قد تخطر في رأسك فكرة تود اضافتها.
ــ لدي ما يشغل تفكيري للفترة المقبلة.
ــ لهذا تعجلت في انجازه؟
ــ لم اتعجل، مادة التحقيق متوفرة في كل مكان، والآراء بشأنه جاهزة ولن تتغير.
ــ قصة القرية هذه لا تصدق.
قصة القرية كانت حاضرة منذ البداية، لكن الرئيس، ورغم أنه هو الذي طلب التحقيق في الموضوع، يبدو بحاجة إلى المزيد من التفسير لهذا الحدث الذي وقع في القرن الواحد والعشرين، فهو كغيره من الناس يفترض أن كوننا في القرن الواحد والعشرين لا ينسجم أبدا وحدوث كرامة بهذا الحجم! رغم أنه متدين ويرأس مجلة تهتم بمواضيع الدين.
قطعت حديثي معه بالاتصال بأحمد، لأنه تأخر قليلا، ثم رحت أبين له أهمية وجود هذه القصة في التحقيق. أجبته بشكل مختصر، لقد كتبت القصة، وعلى من لا يصدق أن يذهب إلى القرية ليتأكد بنفسه، لا يجب علينا أن نصغي لاعتراضات أولئك الناس الذين يرفضون أو يقبلون قضية ما ومقاعدهم مستقرة على الكراسي، على الناس أن يغيروا طريقة تفكيرهم . . عليهم أن يبذلوا جهدا اكبر من لوك الكلام، وتحويل كل قضية، مهما كانت مهمة، إلى لعبة لفظية. لا يبدو أنه اقتنع لكنه تحصل مني على اكبر قدر من الآراء للدفاع عن القصة، ولأن وجودها سيثير الانتباه بالشكل الذي تحلم به أية مجلة أخرى.
اجابني احمد بأنه سيصل قريبا، هذا يعني ساعة أو أكثر حسب ما يسمح به الزحام. فضلت أن انتظره في غرفة التنضيد، حيث يمكنني سماع نقر اصابع شيماء على الكي بورد، وأنا اسير في الممر.
ــ صباح الخير.
ــ صباح النور. الحمد لله على السلامة.
ــ الله يسلمك.
ابتسامة عذبة تعلو شفتي شيماء، وشيء من فرح يداعب قلبها، أدركت هذا عند النظر إلى وجهها.
ــ كيف هي احوال الوالدة؟
ــ الحمد لله.
عادت إلى النقر على الكي بورد، لكن ذلك لم يستمر غير لحظات. رفعت وجهها تنظر في عينيَّ مباشرة، والابتسامة مازالت مرسومة بنفس القوة على شفتيها.
ــ هل أكملت تحقيق الكرامات؟
ــ نعم.
ــ مبروك.
مبروك كلمة كبيرة، لا تقال إلا في المناسبات.
ــ حسين . . . . .
ــ نعم.
لم أرها تتردد في فتح حديث معي أبدا، كنا نتحدث في كل الأمور الممكنة دون أن نحتاج إلى مقدمات.
ــ حدثني عن مدينتك. قالت، لكنني غير مقتنع بأنها تريد أن تعرف ذلك فعلا.
ــ حدثتك عنها كثيرا بحيث لن تضطري إلى السؤال عن شارع فيها إذا ذهبت إليها الآن.
ــ لا، حدثني عن طبيعة العلاقات فيها . . عن العلاقات بين "الأولاد والبنات".
ــ ها، أنت تريدين أن تعرفي شيئا عن الحب هناك.
ــ بالضبط. قالت وضحكت.
ــ شيماء، لا أدري لماذا تتصورين أن الأمور يجب أن تجري بطريقة مختلفة في منطقة أخرى، لمجرد أنها بعيدة عنك؟ الحب هناك كما هو الحب هنا وكما هو في كل مكان.
ــ سأعيد طرح السؤال بطريقة أخرى. هل سبق لك أن احببت؟
هذه هي المرة الأولى منذ وجودي هنا، توجه لي فيها سؤالا على هذا القدر من الخصوصية. كل احاديثنا السابقة التي اسرفنا فيها في الكلام، كانت تدور حول الآخرين، وحول الأوضاع العامة.
ــ نعم، احببت، عندما كنت صغيرا.
ــ و . . .
ــ و، ماذا؟
ــ أكمل حديثك.
ــ لا شيء لدي أقوله، فشلت طبعا بامتياز، لأنني كنت صغيرا، ولأن البنت، كما تقول أمي، تكبر بسرعة مثل حبة الحنطة.
ــ هل تعرف بأنك جميل؟ همست، لكن صوتها لم يبلغ ذلك القدر من الغواية الذي سمعته في صوت صاحبـ / ة الرقم المجهول.
ــ لا، لم انتبه لذلك.
ــ لك عينان رائعتان تعكسان قصة حب عميقة. أنني أرى ذلك في عينيك طوال الوقت.
ــ هل أنت متاكدة؟
ــ أنت لا تعرف ما امتلكه من قدرات . . إنني انظر إلى عينيك، فاعرف كل شيء عنك.
قفزت الكلمات من فمي دون تفكير:
ــ وهل لديك القدرة على تزييف صوتك؟
كان السؤال مفاجئا إلى حد أنه قضى على ابتسامتها تماما.
ــ لا، ليس لي القدرة على تزييف صوتي . . لماذا تسأل؟
الوقت يسير ببطء قاتل، لكنه يسمح بسرد حكاية الرقم المجهول عليها.
ــ لا أدري ما إذا كان هذا يمكن أن يحدث فعلا، اقصد أن يمتلك بعض الناس القدرة على معرفة ماذا تفعل الآن وهم بعيدون عنك، لولا هذا الأمر، لقلت أن هناك من يحب العبث.
كانت صادقة في اجابتها، لكن ابتسامتها اختفت تماما الآن، وحل وجوم غريب على وجهها. عادت تنقر ببطء على الكي بورد، ثم كفت بعد لحظات، واكتفت بالصمت والتفكير.
وقع خطوات احمد في الممر قطعت الصمت علينا. الفرح الذي استقبلته به كان غريبا عليَّ، ولم اتوقعه يوما. غير أن حضوره بدد الجو المتوتر في الغرفة، حتى شيماء سعدت بوصوله، واحسسنا أن شيئا قد تغير. لم يعد من سبب لوجومنا بعد. توقفت عن لوم نفسي عندما عادت شيماء إلى وضعها الطبيعي، ليست سعيدة ولا حزينة، عادية جدا، كما في كل يوم.
احمد شخص مدهش، يخجلني أن أُعلن عن اكتشافي هذا في وقت متأخر. عملت معه لعامين كاملين، اعتبرته فيهما شخصا غريب الأطوار.
قرأ الليلة الخامسة بصمت مدهش، لا حظت أنه انزعج للاسطر الممحوة والأوراق التالفة، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة إلى أن اغلق الكتاب.
ــ من أين حصلت على هذا؟ قال.
ــ ربما عشت عمري كله قريبا منه، لكني لم اكتشف وجوده إلا قبل يومين.
ــ للأسف، جزء كبير منه تالف.
ــ لكن ما تبقى يكفي للبدء بالبحث عن الحقيقة. اسمع، أنا غير مقتنع بتلاشي ثمانية عشر ألف مقاتل لأنهم سمعوا تهديدا.
تبسم.
ــ وماذا أيضا؟
ــ الكثير من الأحداث التي تذكرها كتب المقاتل غير مقنعة. وهذا الكتاب يجيب على الكثير من اسئلتي.
ــ نعم، إنه يحتوي على الكثير من الحقائق بخصوص الواقعة. ولو أنه لم يكن تالفا، لعرفنا حقيقة الواقعة من خلاله . . يبدو قديما جدا، وقيّما.
انشغل بالكتاب، يقلبه، يتامله، ومثلما عرفت أنني وقعت على كنز، اعتقد أنه يشعر الآن بوجود هذا الكنز بين يديه.
ــ حسين، أنت تعرف خطورة الموضوع. الناس تردد ما ألِفته لقرون.
ــ اعرف.
ــ هناك خطوط حمر تودي بمن يحاول مراجعة الواقعة.
ــ لا يهمني. هناك تزييف كبير في التاريخ، ليس الواقعة فحسب، كل شيء، التاريخ كله، لكنني سأعمل على الواقعة.
ــ بأية طريقة تريد أن تعمل على الواقعة؟ هل تعتقد أنها تصلح كتحقيق صحفي؟
ــ لا أفكر بهذا . . أريد أن ابحث وأصل إلى حقيقة تلك المعركة، لا شك أنها كانت معركة عظيمة لتلاقي هذا القدر من التزوير.
دار بنظره في الغرفة كأنه يريد التأكد من عدم وجود ثالث يستمع الينا. اقترب مني، ليهمس:
ــ بل كانت اعظم معركة في تاريخ الانسانية، لن تجد في الكتب المعترف بها غير الاسماء فقط، أما الأحداث فلن تجد منها شيئا، حتى الجغرافيا مزورة . . اتباع الشيطان يريدون القضاء على تاريخ هذه الواقعة، ومحوها من ذاكرة الناس. لكن ذلك لن يحدث أبدا، أبدا.
ــ إذن، افترض أنك تعرف الحقيقة.
ــ ليس الحقيقة كلها، ففي الأمر الكثير من الأسرار التي لا يمكننا معرفتها، مثل خصوصية المكان، لكنني اعرف كيف سارت الأحداث فعلا.
ــ طيب، وأنا أريد أن اعرف كيف سارت الأحداث.
ــ ما هو التحقيق القادم؟
ــ لا يوجد عمل قادم قبل أن اعرف كيف سارت الأحداث فعلا.
ــ يبدو لي أنك تريد أن تعلن الحقيقة حين تكتشفها.
ــ نعم.
ــ هل أنت مقدر لخطورة الأمر؟
ــ أكثر مما تتصور.
ــ تعال معي إذن.
كل ما عرفته منه أنه يأخذني إلى بيته. كان يتحدث عن مخاوفه، يعتقد أن الناس لا يمكن أن يتخلوا عما كانوا مؤمنون به طوال حياتهم، تلك التهمة للناس، توجه دائما عندما لا يريد شخص الكشف عن الحقيقة أما لأنه يدعي معرفتها فقط أو لأنه يريد أن يبقى على ذلك الخط الفاصل بينه وبين الآخرين، فلا يفقد تميزه عنهم. لا أدعي أن كل الناس يمكن أن يصغوا إلى صوت الحقيقة، ولا حتى اغلبهم، لكن هناك حتما من هو على استعداد لبذل نفسه من اجل معرفتها.
وصلنا بيت احمد في المدينة التي دفعت ثمنا باهضا لقاء موقفها من صدام، ودفعت الثمن أيضا من اعمار شبابها في مواجهة الاحتلال الامريكي . . المدينة التي ينعت أهلها دوما بأنهم "بسطاء" لكن عبء الحروب والمواجهات يقع على عاتقهم. استقبلني أهله بترحيب حار يحمل نكهة الجنوب. دخلنا من غير تكلف إلى غرفته في البيت، ولم نجلس في غرفة الاستقبال. اغلق الباب وراح يجمع كتبا واقراصا يضعها في كيس.
وضع الكيس في يدي، وقال:
ــ هذه الكتب والاقراص ستكشف لك عن كل شيء. عليك أن تقرأها وحدك ولا تطلع عليها أحدا غيرك.
ــ لماذا أنت خائف إلى هذا الحد؟
ــ لست خائفا، لكنني أظن أنه علينا أن لا نكشف عن كل ما لدينا أمام الآخرين.
ــ لكنك تتصرف وكأنك تنتمي إلى منظمة سرية.
ــ في الغالب، أحب أن ابتعد بحياتي عن الآخرين، لا أريد أن يطلع الناس على كل ما لدي، لا اميل إلى أن أناقش مع كل إنسان ما أؤمن به وما لا أؤمن به. صدقني، قد يشغلك أحدهم بالحديث لساعات عن موضوع لا يعرف عنه شيئا، لكنه يصبح عالما فيه بمجرد فتح الموضوع . . لا أحد يريد أن يقول لا اعرف.
من يلوم احمد إذا كان يهرب بافكاره عن الآخرين؟ كنت هاربا على الدوام من كل شيء، واخترت لنفسي أن اعتزل العالم لأعيش في غرفة من فندق. اختلقت اتفه الأعذار لأغادر مدينتي. وآتي إلى مدينة بعيدة، امشي في شوارعها وحيدا . .اعرف أن لا أحد يهتم لأمري . . ليس لي من يعرفني أو اعرفه.
حملت الكيس معي، رحت أدور في الشوارع، أؤخر موعد عودتي إلى الفندق حتى يحين الغروب.
صحيح أنها ليست الغرفة التي شهدت تفتح أول بذور وعيي، حيث كنت احتجز نفسي مع الكتب. لكنني عدت لأمارس ما كنت اعشق فعله في أول عهود مراهقتي. اعتزل العالم في غرفتي، اختلي مع كتبي، اقرأ، أُثار، أتساءل، واكتشف. من يشهد انفعالي يظنني قد جننت. كل حقيقة ــ مهما كانت تبدو غريبة للآخرين ــ أضمها في خزانة عقلي كأثمن كنز. وأي إنسان يستطيع أن يكتشف حقيقة دون أن يفرح، ويندم لأنه لم يكن يعرفها من قبل؟
كربلاء ــ ما لواه اللسان العربي ليصبح كربلاء ــ مدينة غارقة في القدم. ترك إنسان الكهوف آثاره على جدرانها، ثم غادرها ــ الكهوف ــ ليبني أول المستوطنات ، ويتنقل في عصور الحضارات المختلفة، ويعتنق الأديان التي شهدها الوجود. مازالت شواهدها الأثرية تبرز برؤوسها من تحت التراب، مهملة، لكنها تقاوم الاندثار.
اكتشفت كيف يمكن أن يصادر التاريخ عندما تصادر الكلمة بحياتها التي تشكلت عبر مخاض طويل. ولا يمكن الوصول إليه إلا بعد الرجوع إلى هناك . . . إلى الماضي القديم ، حيث فترة طفولة الأشياء، ثم الصعود معها في كل فترات حياتها. عندئذ يمكننا الشعور بحرارة السيف وهو يمر على رقاب المدن. كربوئيل ــ حرم الله ــ أو قربوئيل ــ قرب الإله ــ كانت جزءاً من بابئيل ــ باب الله ــ تقع على الجانب الغربي من نهر جوديا ــ الفرات ــ حيث رست سفينة النبي نوح عليه السلام، لتشهد الإنسانية انطلاقتها الجديدة من على ربوات الفرات ــ ارارات ــ الطف أو الطفوف لاحقا. عجبت لذاكرة الناس التي يمكن أن تحفظ التاريخ من خلال ما يترسب إليها من كلمات تبقى شاهدة على أصولها. مازلنا نستخدم كلمة طف أو طوف لنصف ذلك الجزء المرتفع في البناء، هو نفسه ــ تابا ــ التي كان يستخدمها سكان المنطقة لوصف الربوات المرتفعة من حولهم عند شاطئ الفرات.
العجيب أن المسلمين أنفسهم يبحثون حتى اليوم عن جبل الجودي، فيما أن القرآن يقول: ورست على الجودي. ولم يقل أن السفينة رست على "جبل" الجودي.
تفتح البحوث نافذة إلى التاريخ المطمور برمال التحريف. وتزودني باحتمالات مختلفة لخروج الإمام الحسين لاختيار هذه البقعة من الأرض دون غيرها. لكنني امتلكت يقينا بأن الواقعة لم تكن لتستمر حتى اليوم لو أنها حدثت في أي مكان آخر من العالم.
أخذت اقرأ كثيرا، وأستريح قليلا، لا ينبهني إلى مرور الوقت إلا شعوري بالجوع، أو ارتفاع الأذان من المسجد القريب. قرأت البحوث في ثلاث أيام فقط. ثم رحت اكتشف مع العالم المغضوب عليه حقيقة أحداث الواقعة من خلال الندوب الظاهرة على وجه التاريخ المدون بأقلام تتحكم باتجاهها حركة الأمعاء. هالني أن اعرف أن أخبار الواقعة التي تردد على أسماعنا كل عام، كتبت بأيد تعمل لمصلحة حكومات يهمها كثيرا طمس تاريخ الإمام الحسين عليه السلام. وأدهشتني قدرة هذا العالم على التحليل، وجرأته على معالجة الندوب لاكتشاف الوجه الحقيقي للواقعة. ثلاثون محاضرة، كانت كافية كي تعيد ترميم الأحداث في ذهني من جديد.
يمكن للشيطان أن يقبل بعبادة إنسان لإله واحد حتى لو كان اسمه الله، شرط أن يكون هذا الإله من خلق الإنسان، وملائم لتصورات الشيطان تماما . . إله يقبل بظلم السلطان للرعية، بل يوصي الرعية أن لا تحتج على ظلم السلطان، ويسمح للسلطان بارتكاب جميع الموبقات، ويعفيه من الحساب، فعبادة إله كهذا ستقود الإنسان حتما إلى التخلي عن جميع الالتزامات الدينية، ولن يشكل الاسم عندها أي فرق، هذا ما كان يجب أن يحدث، ومن اجله عزمت السلطة على قتل الإمام الحسين عليه السلام بوقت طويل يسبق الواقعة.
مات معاوية ولم تفلح شراكه في اقتناص حياة آخر عمود في خيمة الإسلام. لكنه لن ينجو من الشرك الأخير، لا يمكن تصور عدم خروجه على يزيد. هنا سيتم القضاء عليه بخطة بسيطة تجعل من هدفه فخا. من الكوفة سترسل إليه الكتب، وفيها سيقتل. سيضيق عليه الخناق في أي مكان آخر من العالم يذهب إليه، فالولاة هناك ولاة يزيد.
الأمر الذي لم تضعه السلطة في حسابها، أن الإمام الحسين عليه السلام يمتلك خطته أيضا. يباغتها ببقائه في مكة لأشهر عديدة. يبعث بمسلم بن عقيل إلى الكوفة. ماذا يفعل مسلم هناك؟ كتب الكوفيين قد وصلت، فلماذا مسلم وليس الحسين؟ يلتزم والي الكوفة الصمت. يبث جواسيسه في كل مكان يراقبون مسلم لعلهم يفلحون في اكتشاف مهمته السرية. لا شيء يحدث . .لا شيء أبدا، سوى أن الإمام الحسين عليه السلام يتوجه بركبه من مكة إلى الكوفة، يسير على مهمل، منتظرا شيئا ما. لا يمكن أن تسير الأمور بهذه الطريقة. السلطة التي لا تعرف حتى الآن ما الذي سيحدث، تتخذ قرارا بالانتقال إلى خطوتها الثانية. ترسل أمرها إلى عبيد الله بن زياد بالذهاب إلى الكوفة، فالحرب تنتظره هناك. يقف على المنبر، يهدد البصريين بقتل كل من يثير "القلاقل" في المدينة الهادئة، وينطلق بجيشه الخاص ليصبح والي العراقين. لا يتعرضه أحد، ليس من شيء غير السكون المخيف.
وفيما الوالي يفكر ويستعد، يطوق القصر بجيش كبير، يظهر من رحم السكون في ليلة لم تنذر نجومها بانفجار بركان. الجيش يطوق القصر فقط، يدور حوله، لكنه لا يقتحم، بل يذهب إلى مكان آخر، ينشق نازلا نحو الجنوب، وصاعدا نحو الشمال، ومسلم هنا، في الكوفة، لا يتبع جيشه ولا يثور.
حان وقت التحرك، لعل أمرا ما يقع، فتنقشع سحابة الغموض، ويهدأ بال السلطة. يأمر الوالي جيش السلطة الذي كان مأمورا بالسكون، فيجتمع له موالوه، والكتيبة الحمراء، ثم يبدأ اعلان البحث عن مسلم . . عنده فقط يمكن أن تعثر السلطة على ضالتها، ويبدو أن البحث لن يطول، فابن المرأة التي يتخذ مسلم بيتها مقرا سريا، لم يفلح الجواسيس في اكتشافه، يخبرهم أن مسلما موجود هناك، ينتظرهم. يتوجه جيش السلطة إلى بيت طوعة. في الطريق إلى هناك، تدور رحى أول معركة في واقعة الطف، فلمسلم جيشه أيضا وخطته . .يقاتل حتى الموت، ولا يفشي سره.
يجن جنون الوالي، يطوق الكوفة من كل الجهات، يقطع الطرق إليها . يشن حملة قمع ضد من كان على دين علي، يقتل، يعذب، يسجن، لكنه لن يجد دليلا يقوده إلى ما في ضمير الإمام الحسين عليه السلام. لقد وصلت الاخبار بانطلاقه منذ زمن طويل، فلماذا لا يصل إلى الفخ بسرعة؟
الجيش الذي ترك الكوفة خلف ظهره . . السر الذي كتمه مسلم في صدره، يلتقي بالامام الحسين عليه السلام، ويرافقه إلى حيث سبقهم النصف الثاني . . إلى البقعة المباركة، حيث جهزت أرض المعركة، شق الخندق، وأعدت الخيام.
تجمع السلطة جيشها في ظهر الكوفة . . جيش لم تقع العين على مثله يمضي إلى كربلاء، وهناك يلتقي الجيشان. تفتتح الحرب بمفاوضات ليس لها إلا أن تفشل، فالأرض لا تسع هبل والحسين، أحدهما يجب أن يقتل، مع فارق بسيط . . من يقتل في سبيل الله لا يموت.
كي يخلو معسكره ممن جاء وعقله مقيد بمعادلة النصر المألوفة، وليبق أولئك الذين فقهوا سر الواقعة، رفع الإمام الحسين عليه السلام صوته: "ألا وإني أظن يومي من هؤلاء الاعداء غدا، وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعا خيرا. وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يطلبونني ولو اصابوني لذهلوا عن طلب غيري."
ينسحب من ساحة المعركة كثيرون، ويبقى آخرون.
في الجانب الآخر، تنقلب الموازين أيضا. الأرواح التي حجبت الحقيقة عنها، فانضوت تحت راية الشيطان، اسرعت لتبذل نفسها في سبيل الحق. آخرون فضلوا لغة الحياد. تصبح الساحة مهيأة للحرب ، فكل من الطرفين قد اتخذ الآن موقعه.
دونت ما تشكل من تصورات في رأسي، نسخت الأقراص إلى حاسبتي، لكنني لم استطع الوقوف على قرار نهائي في ما سأفعله بالصورة الجديدة للواقعة. هناك الكثير من الاختلاف بين الحقيقة وما يتداوله الناس. لقد تعرضت الواقعة لـ ( التدمير )، تشظت الافا من القطع لتناسب مرامي السلطة العباسية. ليست الأحداث وحدها مزورة والاقوال، هوية الجيش النظامي للسلطة الأموية مخفية تحت رداء اسماء القادة، وفي النهاية لا يهتم الناس كثيرا بمعرفة الجنود، تكفيهم اسماء القادة فقط، ليعرفوا أن حربا قد وقعت، وعليهم الوقوف إلى جانب الحق حتى لو لم يعرض امامهم بصورته الحقيقية.
لم يتوقف بقاء دين ما على تضحية رجل واحد بالذات، دماء الإمام الحسين عليه السلام وحدها من تكفلت ببقاء الإسلام.
بعد أسبوع من الغياب التام عن العالم عدت إليه من جديد. لا انظر إلى الأشياء بعين جديدة، لكنني أكثر حزنا من السابق. ما هي الحقيقة التي يعرفها هؤلاء الناس عن الأحداث التي جرت في الماضي، وضموا رواياتها إلى أنفسهم لتكون جزء لا يمكن التفريط به من تاريخهم الشخصي.
حيث أسير سالت الكثير من الدماء على خلفيات مذهبية، هكذا يعتقد الناس، لكن الحقيقة التي حملت الكثير من الصحف على لعني، كانت أعمق من ذلك. لطالما صرخت بأعلى صوتي:"إن الاحتلال وراء انهار الدم الجاري في العراق. المجرمون أدوات للتنفيذ فقط. قولوا أنهم سفلة، مجرمون، أبشع الصفات تخجل من الالتصاق بهم، لكن لا تضيعوا على الناس حقيقة الأحداث. هؤلاء المجرمون ينتمون إلى مجرمين اكبر منهم". لكنني لم أتوقع يوما أن الدائرة تعود إلى إبليس مرة أخرى. صحيح أنني فكرت في أن الإنسان لا يمكن أن يرتكب جرائم كهذه دون أن يكون مدفوعا بعقيدة، لكنني لم أتوقع يوما أن الدائرة تعود لخدمة الهدف الشيطاني، وأن الشيطان يتخذ دولا على الأرض حكوماتها الإنسانية مجرد واجهات تغطي وجهه الخبيث.
في الماضي كانت بيزنطة تحرك رجلها في الشام ليعرقل مسير دولة الإيمان، وهي التي وضعت الخطط لقتل النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت عليهم السلام. تزوير التاريخ لقتل الحقيقة خطة بيزنطية أيضا، وقتل الإمام الحسين عليه السلام أمر يهم الشيطان كثيرا أوكل به عبده يزيد. لا أشك الآن في أن يزيد كان يتعلم أصول عبادة الشيطان ويمارسها، من اجل ذلك أرسله معاوية بعيدا عن القصر. حكومة يزيد تمثل مرحلة متقدمة من نفوذ الشيطان في الإسلام، وضع الإمام الحسين عليه السلام على وجهها علامة فاضحة.
وجدت احمد منهمكا في طباعة شيء ما. لم يكن ينقر على الكي بورد فقط، بل كان يقرأ، ويبدو أنه يستمتع بما يقرأ . فضلت أن لا اقاطعه حتى ينتهي من عمله، أو أن يتكئ على مسند الكرسي ويرفع يديه إلى الأعلى، ليأخذ استراحة قصيرة، تصبح طويلة جدا عندما لا يقتنع بما يكتب.
شيماء منهمكة في عملها أيضا، لكن ملامحها جادة جدا، من ينظر إليها يظنها تكتب تقريرا عن نهاية العالم، لكنني اعرف أنها تنقر بأصابعها من دون روح، في وقت آخر ستعود لتصحيح أخطاءها.
ــ كيف أحوالك اليوم؟ سألتها.
ــ إنني اعمل. ردت.
ــ اعرف أنك تعملين، واعرف أنك لا تملين من الحديث وأنت تعملين.
تنفست بعمق، يظهر مدى انزعاجها مني. ليست المرة الأولى التي أزعجها فيها، لكنها لم تتصرف بهذه الطريقة من قبل. كانت ترد بلؤم، ثم تعود إلى نسيان ما حدث سريعا. عرفت أنه يجب عليّ أن اعتذر.
ــ آسف، قلت، لقد تصرفت معك بلؤم.
ــ لا داعٍ للاعتذار. قالت.
ــ اترك البنت تعمل. قال احمد.
لكنني لم استطع تحمل غضبها، لا استطيع تصور خصومة حقيقية تحدث بيننا، كان كل شيء يجري على نحو سطحي وسخيف لا يحملني على التفكير فيه. كنت لا أتذكر شيماء إلا عندما تكون أمامي. لست بحاجة إلى استعادة صورتها الأليفة، أريد أن اعتذر لها فعلا. وقبل أن استطيع قول كلمة أخرى. أغلقت جهازها، وتركت الغرفة.
ــ سأنتهي بعد قليل. قال احمد كي لا أقاطعه، ويبدو أن مجيئي قد سبب إرباكا لجو الهدوء الذي كان سائدا.
ــ هل عليّ أن أغادر؟
ــ لا، لحظات فقط وأنهي الموضوع.
مرت اللحظات ثقيلة. تراجعت أكثر من مرة عن اللحاق بشيماء لتقديم اعتذاري لها، قبل أن يقوم احمد بحركاته المعتادة ليعلن الانتهاء من كتابة التحقيق.
ــ لماذا شيماء غاضبة إلى هذا الحد؟
ــ شيماء . . لا أظن أنك تستطيع الاعتذار منها الآن. لقد أغضبتها جدا، وتأخرت في تقديم اعتذارك، يجب عليك أن تتحمل الكثير من الجفاء لكي تعود إلى نقطة البداية، وتعرف أنها كانت متشوقة جدا لتخبرك بخطوبتها.
ــ الحمد لله. كنت أتصور أنني سأعيش حياتي وأنا أراها هنا، تطبع المقالات التي يكتبها غيرها، وتلقي بكذبة في كل أول من نيسان.
ــ تصور خاطئ يا صديقي، البنات يعملن في أكثر من اتجاه.
ــ هي تتحمل المسؤولية أيضا، ما الداعي لتبدأ حديثها بسؤال سخيف إذا كانت تريد أن تقول لي أنها قد خطبت؟!
ــ ومن يعرف كيف تفكر فتاة؟
تخففت من الشعور بالذنب قليلا، بإمكاني الآن أن ابدأ ما جئت من اجله فعلا. أعدت البحوث والأقراص إلى احمد.
ــ هل انتهيت منها؟
ــ نعم. كرست كل وقتي لها.
ــ أرجو أنها نفعتك.
ــ أكثر مما تصور.
ــ ماذا ستفعل الآن؟
ــ لا أدري، الكثير من الأفكار تدور في رأسي، لكنها لم تنتظم حتى الآن في نسق واحد. لقد تلقيت خلال أيام قليلة الكثير من الصدمات، واعتقد أنني احتاج إلى بعض الوقت لإعادة اتزاني كي استطيع التصرف.
ــ نعم، يجب أن لا تتسرع في اتخاذ قرار.
صمتنا قليلا، ربما لنستريح من وقع الصور التي مرت في رأسينا ونحن نتكلم في أكثر من موضوع، ثم استدرك.
ــ بالنسبة لموضوع القرية، هل أنت متأكد من أن النهاية كانت بهذا الشكل؟
ــ نعم، لماذا تسأل؟
ــ لأنني شاهدت التقارير التلفزيونية التي تحدثت عن نشوب الحرائق، لكنني لم اعرف النهاية. تبدو غريبة نوعا ما.
ــ نعم هي غريبة فعلا، لكنها حدثت . . هل تظن أن شيماء ستعود إلى الغرفة؟
ــ لا أدري.
ــ حسنا، أنا ذاهب إذن.
بحثت عنها في كل غرفة من المبنى، لكنني لم أجدها، وعندما سألت عنها اخبروني أنها خرجت. لا أريد لأي أمر أن يشتت تفكيري، حتى لو كان أمرا تافها، كغضب صديقة مني، فأنا ابحث عن صفاء تام استطيع أن انطلق منه لمهمة جديدة، لم أحددها بعد. لقد تغيرت . . تغير عالمي كليا، وأخذت نغمة الموبايل ترتفع في سمعي من جديد، وصورة الرقم المجهول ترقص في مخيلتي.
الناصرية
شكر
أتقدم بالشكر للأصدقاء الذين اغنوا الرواية بطرح آراءهم بالكرامات ، وهم الصديق الأديب عباس منعثر . الصديق حسن شرشاب . الصديق الاستاذ حميد الشيخ فرج .
وأخيرا اتقدم بالشكر الجزيل للصديق الأديب علي كاظم داود الذي قام بالمراجعة اللغوية للرواية.
المؤلف
عضو اتحاد الادباء العراقيين
عضو انحاد المسرحيين العراقين
من مواليد الناصرية / عام 1973
صدر له:
صباح يوم معتم / عن دار الكاتب العربي / بيروت
مواسم العطش / عن دار ازمنة / عمان
مهرجان الأقنعة / عن دار ينابيع / دمشق