في الوقت الذي تخلى عني فيه وطني وأعطاني بالظهر، لم يكن بوسعي سوى أن أبيع فحولتي لأنوثة ميسورة، رغم فارق السن البعيد، نكاية بالقهر والتهميش، ما دام ليس لي ما أبيعه وأتاجر فيه. فقد رأيت الناس يبيعون كل شيء؛ من يبيع زوجته ومن يتاجر ببناته، ومن يبيع أعضائه في المصحات، ومن يبيع كرامته. فلِمَ أكون أنا استثناءً؟ فلأحشر رأسي بين الرؤوس وأنادي على قاطعها كما يقول المثل. هذه هي الفكرة التي تبادرت إلى ذهني ليلة كاملة وأنا أعانق سدوم الليل، وأشكو له همي وغمي، بعدما انغمست في المحظور، وتنازلت عن كرامتي لمحفظة تنقد بالورقة الزرقاء. لقد تكالبت علي نصال هذا الزمن المخادع ولا حيلة لأصد ثقله. أبدو كقطعة قش يلوح بها إعصار جبار. هذا ما أحسست به بعد الإهانة.
وجدتني في الصباح كعادتي أنش الذباب على إفريز المقهى. أقرأ الجرائد اللعينة التي لم تعد تكتب سوى عن الخرافات، وعن التاريخ الميت، والأحزاب الراكعة المتشابهة كالبطيخ الأصفر. لقد ورثت عادة تصفح جرائد المقاهي من سنواتي الأولى بعد التخرج من سلك الماجستر، مواسيا نفسي في العثور على وظيفة من تلك الإعلانات التي تنشرها الجرائد، خصوصا وأن شهادتي تدَّخِر ميزة من تلك التخصصات التي تُعنى بظواهر المجتمع. لكنني لم أكن أصادف سوى ألوان المعاناة والصراعات والحوادث؛ جرائم قتل بشعة لأسباب تافهة، اغتصاب بالجملة للأطفال وللمتزوجات، شباب يحرقون أنفسهم نكاية بالوقع المرير الحقير، انتحارات لا تستثني صفحات الأحداث كل يوم، صور شباب تنثال على هامتهم العصي تدمغها. تضاعفت معاناتي وهمومي ولم أحصل على وظيفة.
بقيت ذلك المقهور الكئيب الذي يرقب الحياة بمنظار الشؤم. عاطل يتمرغ في مستنقع البطالة، غضب منه وطنه لأنه يطالب بأبسط حقوقه. سد في وجهه كل الأبواب والنوافذ والمنافذ الصغرى، وتركه يعوم في بحر عميق تعمره القروش وتحاصره التماسيح. نكرة منبوذ ومنفي من سجلات مالية الدولة، فهي تعترف بي كمواطن فقط، تحتاجه أيام الانتخابات حيث ترفعني مقام الإجلال والاحترام، والمذيعة في الشاشات، ومكبر الصوت في المنصات، والأصوات الجهورة في الحملات، يذكرونني بقيمتي ودوري الفعال في إقرار ديمقراطية البلاد. والأيام الأخرى أين يكونون؟
غير أن "ميمونا" تسلط علي كرزق الحلال. ولكم أفرح ويتهلل وجهي عندما أصادف وجها عزيزا. إنه يعفيني من ثمن القهوة وتكون فرصة لأثرثر قليلا وأشكو سوء أحوالي. نحتاج أحيانا إلى أن نخفف من الضغط النفسي. وبما أننا نخشى أن ننعت بالحمق فلا نذهب إلى الطبيب النفسي، كما أن تكلفته المحرجة تقهرنا إن أسعفتنا قناعتنا المتحررة، فإننا نكتفي بالتفريغ على ذوات بعضنا البعض، ما دام الأمر خارجا عن سيطرة مجتمعنا. البعض يعرف وضعي اللعين، والآخر يتجاهل ويتسلل. والبعض يجالسني ويحدثني عن العالم، والآخر يلقي التحية ويعتذر متحججا بالانشغالات، هروبا من الشكوى وثمن القهوة.
سردت لميمون أوضاعي البائسة كالعادة، وإن كنت أعلم أنه مل من أسطوانتي. كان يبدو متعاطفا معي ويبدي تأسفه. هو أيضا عانى ويعاني الكثير وحاله أقبح من حالي، لكن لا أعرف سر أناقته ومظهره المحترم، ولا من أين يحصل على المال. يغيب لأيام فيعود غانما يتكرم على أمثالي من رواد المقهى بثمن القهوة، ويدعونا لغذاء أو عشاء في مطعم فاخر، إذا كان مزاجه رائقا. وأحيانا يركن سيارة فارهة أمام المقهى ويشهر مفتاحها على منضدته ويتظاهر بالرفاهية والاستقرار، رغم أن الحزن يبدو من عينيه ، وأنه من الذين يعانون في صمت. لربما توحدنا نفس الهموم، ولهذا أجده أذنا صاغية وناصحا طيبا. كان يتحدث عن أوضاع البلاد المزرية وعن السياسة الفاشلة المريضة، وبعد لحظة شرود نطق بالفكرة اليقين التي أنعشت صدري.
ـ في الغد اهتم بنفسك واعتنِ بأناقتك، البس أجمل ما عندك من الثياب، واحلق وجهك، واذهب إلى الحمام. وجدت لك عملا.
قلت له حائرا والدهشة تجتاحني:
ـ لا أملك ثيابا أنيقة.
ـ لا يهم. مر علي في الغد باكرا وسأعطيك بذلة.
لم أنم من فرط الغبطة والانشراح، ومن التفكير في العمل الذي يستوجب علي أن أظهر بمظهر لافت للنظر ومقنع، كما لو كنت سأقوم بعرض أزياء، أو أعتلي منصة مبتهجة الألوان في ملهى مخنث، أو ساحة كبيرة لأغني. لكنني احتكمت إلى التفكير في الأمور الجيدة والسعيدة. فلا يجدر بي أن أكون متشائما، فمنذ زمن بعيد وأنا أعيش الملل والضياع نفسه، ألا يحق لي أن أفرح قليلا وأنتشي بفتات من الوهم ولو لأوقات قليلة؟
ما يزيد عن سبع سنوات من التهميش والبطالة، وأخيرا سأحصل على عمل محترم، وسأحقق بعضا من الأحلام ؛ سأتزوج وسأخيب ظن الشامتين الذين يحرضون حبيبتي ، أبوها وأمها وإخوتها والأصدقاء والذئاب المترصدة. أخيرا سأقابل والدها بوجه أحمر وسألجم لسان أمها السليط ، وسأبني أسرة كبيرة مثالية، وسنضم تلك الأسماء الجميلة التي حلمنا بها على ضفة النهر، ونربيها ونعلمها جيدا، ونفرح بنجاحها. ونسافر خارج أرض الوطن كما حلمنا. نستلذ قبلة طويلة بلا حرج عند برج إيفل، نلتقط صورة في قصر الحمراء بغرناطة ، وأخرى أمام برج بيزا المائل بإيطاليا. ونصلي بمسجد صوفيا بتركيا، ونزور كثيرا من العواصم العالمية.
في الصباح واظبت على ما قاله لي ميمون. أخذت أتزين كعريس في ليلة فرحه. والنشوة تغمرني. ثم التحقت به في منزله وهناك أكملت زينتي وهذبت أناقتي أمام المرآة التي عكست لي وجها غريبا حزينا، وكأن يد بيكاسو لعبت بريشتها على المرآة. ثم انطلقنا لنقابل رب الشغل كما كان يقول لي ميمون. لقد ألح على أن أظهر أمامه بأناقة فائقة، وأن أتكلم بلباقة حذقة وأحسن التصرف، مؤكدا على ضرورة التواصل بشكل لائق، لأن مشكلتنا في هذا البلد مشكلة تواصل. لا نعرف كيف نتواصل مع بعضنا بعضا، فكثير من الأمور التي يستوجب حلها بالحوار نفكها نحن بالعنف والقتال، والناس في بلدان أخرى وصلوا درجات من الوعي في التواصل، ولم يعدوا يركزون على مسألة الحوار التقليدي، وإنما على ضرورة الإقناع والتأثير.
اشترى مجلات جديدة وجرائد يومية وعلبتي تدخين شقراء. وكان يسوي فراشة ربطة العنق ويجرب المشي بأناقة، ثم قصدنا المقهى الفاخر الذي سنقابل فيه الشخصية المهمة التي ستشغلني، حيث اعتادت الجلوس وتناول مشروبها المفضل.
صعدنا إلى شرفة المقهى الفاخر الفيحاء. كان عامرا بالشخصيات الكبيرة الأنيقة، بالمترفين الذين يُغطون المنضدات بالمشروبات الباهظة، وبعلب السجائر الأمريكية والكوبية، ومفاتيح السيارات الفاخرة، والهواتف الذكية آخر الصيحات. وبين الحين والآخر تسمع ضحكة مخنث مجلجلة تمسح سكون وهمسات ولمسات الرواد. مناخ جديد لم أكن أعرفه، مليء بالصخب والحركة والوجوه المشهورة التي تخفي أسماءها خشية الفضائح والابتزاز، والأضواء المتراقصة التي تحوم حول حلبة الرقص التي تفيض وتشتعل قبيل منتصف الليل بالأجساد الملتحمة. كنت مندهشا لأنني لم أرَ سالفا هذا المقهى الفاخر الذي يتحول إلى ملهى بالليل، وتملكتني ريبة من الشخصية التي سأقابل. إن هذا التوجس ينتابني دوما كلما كنت على موعد لمقابلة أي شخص لا أعرفه. الاحتراس مهم في مثل هذه الأوقات.
طلب مني ميمون أن أنشغل بتصفح الجرائد، وأن أشعل سيجارتي، وألا أنشغل بالتفرس والانبهار بالمكان حتى لا أثير فضول الرواد وأظهر بمظهر المقهور الذي دخل قصرا. حاولت أن أتأقلم مع أجواء الفضاء وأتحاشى نظرات الانشداه. استقر انتباهي على ملف أدبي بمجلة عربية. لكن أذني شغلها حديث ناعم مصدره صوت رخيم يوقظ الحواس المكبلة، بين سيدتين تتكاشفان فيما بينهما، يبدو أنهما ميسورتي الحال. أناقتهما وطريقتهما في الكلام تشي بأسرار في الأبهة والفخر. تفضي إحداهما بصوتها الناعم المسموع :" لم أعد أطيق هذه المهنة، لا أتجرأ على التلاميذ، يبدون في سني، ذكور بشوارب نيتشية[i] شائكة وفتيات بنهود نافرة، كل واحدة تسقي عطش مدينة بأكملها. بدأت أستحي عندما أَنْهَى أحدا أو آمره بالهدوء. لا أحد يريد أن يتعلم أو أن يستقيم، وأنا أعتبر هذه المهنة خضرة فوق الطعام. أفكر في هجرها"، رددت أنا في نفسي: "واحدة ملت من عملها وفي غنى عنه، ربما لديها منافذ تهوية أخرى تنعش أنفاسها، وأنا، أبحث بالريق الناشف عن فرصة تعفيني نميمة الجيران والأقارب، ولا بصيص أمل وكأن آلهة الشغل غاضبة مني". ترد عليها صديقتها التي تمج سيجارة شقراء بعمق: " اتركي ذلك الجمل راقدا، فلو اضطلعت عن حالي، ولو حدثك عن ويلاتي لانقبض قلبك. الكسل والملل في العمل، والرجال يطاردونني. الموظفون من صغيرهم إلى كبيرهم يتهافتون كما لو كنت كومة طماطم رخيصة، يتوددون مستلطفين لقبول دعوة عشاء على هدير البحر. وزوار المصلحة يأكلونني بعيونهم الجائعة، وسائبي الشوارع يضايقونني بتعليقاتهم". تجاريها زميلتها في الحديث بسؤالها: "وأنت ماذا تفعلين حينها"، وكأن الجواب كان على طرف لسانها، تقول لها: " لا شيء، أتملص"، تقول لها وهي تحاول أن تعرج عن موضوع صديقتها وكأن الغيرة استمسكت بها: " وماذا عن حبيبك، وما هي أخباره ؟". أحسست في هذه اللحظة أنني في حاجة إلى تعليقها كما لو كنت أشاهد فيلما شيقا وانقطع التيار الكهربائي وأخشى ضياع نهايته. تأهبت أذناي لالتقاط الرد، وشحذت كل حواسي ثغرها، فيما بقت المجلة أمامي مجرد صورة في وضعية الوقفة pause. قالت لها :" إنه لا يأبه لمثل هذه المضايقات ولا تحركه، يدعي الانفتاح والتحرر وأنا يؤرقني كيف أنه لا يغير علي، فالغيرة أحد أهم ركائز الحب. أحينا لا يبدو لي ذلك التحرر، أشْتَمّ في دواخله رائحة الرجل التقليدي، أخشى أن يقلب سترته علي يوما ويخيب ظني. فهو رغم دراسته خارج الوطن، إلا أنه ولد أمه، ولا يناقش كلمتها وقرارها. أفاتحه في الزواج فيشعل سيجارة ويتملص من الموضوع، لا ريب أنه سيختار بِنْتْ دَارْهُمْ أو تختارها له أمه وينساني. وإن كانت هذه الدخيلة بنت دارهم تجرب كل الوضعيات والمغامرات وتعلن توبتها عندما ترْتَجّ الصنارة". شدني حديثهما الذي لا أعرف كيف أصنفه، تافها أم موضوعيا؟ لكن ميمونا بثر بقية حوارهما بوصاياه، وحديثه عن ضربة الحظ التي ستطير به إلى بلاد الأحلام خلف البحر.
مر الوقت وتأخرت الشخصية المهمة المنقذة من البؤس والإقصاء. تصفحت المجلات والجرائد، ودخنت بعض السجائر، وذهبت إلى الحمام أعدت تسوية أناقتي، وسألت ميمونا عن الشخصية، وقرأت دعاء الاستخارة وبعض الأحاديث النبوية الشريفة من كتيب صغير حملته في جيبي حتى تمر المقابلة بسلام، وتلقى استحسانا وقبولا، ولو تأتى لي لحصلت على رقية قبول من مشعوذ، تماما كما يفعل كثير من الوزراء والمسؤولين المهمين، وهم يكتبون طلاسم على خواتمهم وسلاسل أيديهم ويخللونها في مواد وتقرأ عليها أشياء عجيبة لتجلب لهم الحظ وتيسر أمورهم وتبعد عنهم النحس والحقد.
ولم تأت الشخصية.
بعد هنيهة تقدم ميمون من منضدة سيدتين في عقدهما الخامس. تحجج بطلب قداحة ونسج معهما حوارا، ثم جلس بقربهما وبدا من تآلفهم أنهم يعرفون بعضهم بعضا. انشغلت بتصفح الجرائد وأنا أترقب كل شخصية مهمة تصعد الأدراج. وفي كل مرة أتحسس ربطة العنق التي تخنقني وأسوي سترتي. كانت واحدة من السيدتين تحدجني بإسراف. تتمعن في دلال وتبتسم. حسبتها لوهلة الشخصية المنشودة. زادت دهشتي لما أخذ ينظر إليّ ميمون ويحدثها، وهي تبتسم وتقوم بعملية الفحص من رأسي إلى قدميّ، وأنا أتحاشاهم بنظري، أو بالأحرى، أتظاهر بالخجل وعدم الاكتراث، حتى لم يعد لدي أدنى شك في أنها الشخصية التي جئنا من أجلها، وأن الأحلام ستحقق، وأنا أرمق ابتسامتها الجذابة التي تعصف بوجداني، وأنني أخيرا سأحصل على عمل محترم أحقق به أحلامي الضائعة، وسيتأكد هذا الإحساس عندما توجهت نحوي وجلست قبالتي.
ـ هل هذه أول مرة تشرب قهوة هنا؟
ـ أجل .
ـ هل أنت صديق ميمون ؟
ـ أجل ، إنه مثل أخي.
ـ لقد تحدث لي عنك باحترام، يبدو أنك شاب ظريف .
قلت في نفسي الحمد لله ، يبدو أنها اقتنعت بي وستعفيني من سيل الأسئلة، وأنها ستشغلني، وأن هذا الحوار ما هو سوى استهلال ستلج به للحديث عن العمل وعن أسسه، وأنا اصطنع الأدب والخجل. لابد وأن أقنعها بي حتى تشغلني وإلا مصيري نش الذباب في المقاهي، ومصاحبة أعمدة الكهرباء عند رأس الدرب. كنت أفكر في إقناعها بكل الوسائل. فهي مكسب وخلاص من البطالة والتهميش، لا يجب أن أضيعها في زمن كل شيء بات بالزبونية والرشوة.
تحدثنا في عموميات الحياة. عرفتني بنفسها وسردت علي قائمة طويلة بخصوص سيرتها ونسلها الباذخ المترف، وأسرفت في حديثها عن أسفارها حول العالم. في حين لم أجد ما أسرد لها، سوى مسار دراسي شائك، وبعض الأكاذيب لأكسب ودها وأقنعها. لم أشأ أن أحدثها عن جحيم سيرتي المليئة بالانكسارات، وعن معاناتي بحثا عن تلك الشهادة الجامعية التي لا تساوى حتى قلوة، وضياعي بعد حصولي عليها، وعن كثير من المعطلين أمثالي الذين يتعرضون للركل والرفس والشتم بأقبح النعوت، وعن وسطي البائس ومسكني الحقير الذي يغرقه المطر وتلهبه الشمس، كما تأتى لي القول لها بأن هذه الأناقة المزيفة مجرد أحمر شفاء على المخاط. أما الواقع فإني أعيش حقيقة مؤلمة؛ حقيقة المقهور الذي يتسلق جبلا ثلجيا، يحيا كابوس السجن الأسوأ في التاريخ، الذي فاق سجن الأجيال التي كتبت التاريخ بمداد النضال والتمرد بين أقبية السجون، فجيلي أربكه سجن البطالة والضياع، وإلا ما الذي يحثني على البحث عن بديل يشغلني عن كراسي المقهى في وطني الحبييييييييييب، الذي ينصب لنا الفخاخ ليتخلص من رهطنا المزعج في حفر غارقة أحياءً، ويتم دفننا بجرّافات عملاقة تماما كما أشاهد في أفلام حرب الفيتنام.
لقد كان علي أن أراوغ وأتحدث عن الأشياء الجميلة الملفقة، لا أن أسكب ما يضجر ويحزن. فلو حدثها عن المآسي التي أصابتني في المقهى، وفي حينا الهامشي بحاشية المدينة، وعن نفور الأهل والجيران مني وكأنني قطعت رزقهم، وكثرة استفساراتهم عن بطالتي ودواعي تهميشي، لهربت مني، ولما بسطت أساريرها في وجهي. لكنني بقيت أراوغ وأمارس التصنع والدبلوماسية في الحديث بلا كلل. وبعدما جف حلقانا. استشارتني في مغادرة المقهى، فلم أرفض. حركت جيبي تمويها كأني سأدفع ثمن قهوتي وعصيرها، أو ذلك المشروب العجيب الذي لا أعرف اسمه، ولا سبق وأن تذوقته، لكنها سبقتني وأدت الثمن مع إكرامية للنادل. وكأنها تعرف مسبقا حالي، أو أن ميمونا فسر لها كل شيء.
شيعنا المقهى وكلي فرح بانشراحها ورضاها عليّ. فكرت للحظة أنني ضمنت العمل وكسبت الأحلام. فتحت سيارتها الفارهة بجهاز التحكم عن بعد ودعتني لاصطحابها. ركبت بجانبها وأشعلت سيجارة لي ولها. كنا طوال الطريق صامتين. نتكلم في خواطرنا. لم أجد ما أقوله لها. كنت شاردا أفكر في المنصب الذي ستخوله لي، خصوصا وأنها استحسنت شخصي. وأحسست بنوع من الرضا والقبول الذي كانت تترجمه ابتسامتها، وإرباتها على كتفي، والشد على أزري من ساعدي.
سارت السيارة تنهب الطريق بنا نحو الشرق الغربي من المدينة، تلوح خلفها منابت الزهور والأشجار والحقول. إنه اتجاه المنطقة الصناعية. ازداد شعوري بالنشوة والانشراح. يا لها من امرأة طيبة وإنسانة كريمة، أن تقبل توظيفي بلا رشوة ولا زبونية. إنها نادرة في زماني الخبيث، وضربة حظ غير متوقعة.
تجاوزت السيارة بساتين الضيعة المزهرة حتى ربضت أمام فيلا فيحاء ينم منظرها عن الفخر وطيب العيش والرفاهية. فُتِح الباب آليا ودخلت السيارة. كان المنظر من الداخل أشبه بقصر مخفي في هذه الرقعة النائية عن المدينة. مكان بدا لي كالحلم الخاطف. إنها العيش الحقيقي . البعد عن نتانة البشر وعن دخان المحركات وعن زعيقها. الهواء يهب نقيا صافيا تحلله الأشجار المتراصة الكثيفة، وتنعشه زهور الأقحوان والفل والياسمين، وتلقحه زهور بذور الليمون والرمان واللوز.
فكرت للحظة: هل سأعمل هنا؟ هل مرت من هنا لتقضي غرضا صغيرا وسنكمل في اتجاه المنطقة الصناعية؟ هل سأعمل حارسا في الفيلا أو طباخا أو ما شابه ذلك؟ تملكني فرح عارم بهذه الحظوة التي خصتني بها. في كل الأحوال سأقبل بأي عمل توكله لي. فوضعي لا يسمح لي بالاشتراط والاختيار.
كانت الخادمة أو لست أدري تعبث مع حارس الفيلا أو لست أدري. لم تعبأ بهما لكنهما لما رأياها همّ كل واحد يقضي شغله . دخلنا الفيلا وهي ترحب بي. لحد الآن لا أدري نوعية شغلي. أو ما يخبئه لي القدر. أنتظر ما يجود به ثغر هذه الخمسينية الجميلة التي ما تزال فتية وكأنها في ريعان شبابها. الفلوس تحيي العظام وهي رميم وتنطق الحجر وتأتي بالشمس من الغرب.
جلست في البهو أتفرس في أرجائه المزخرفة فيما هي توجهت نحو المطبخ. حملت زجاجة ومازحتني قائلة "تعال ما بك خجولا". آنئذ فهمت ولم أفهم شيئا. تبعتها من الخلف نحو الطابق الثاني بخطى حثيثة وخيوط دماغي ترتج. هل هذا هو عملي؟ أن أنفد كل ما تطلبه بدون أن أبدي نقاشا أو أرفض؟ إن أبشع الأعمال لها كرامتها، إن الحمقى والمعاتيه لهم كرامة ومواقف لا يتنازلون عنها رغم هامشيتهم وحقارتهم. وأنا العاقل الواعي المتبحر في فصول الجامعة، هل تنفعني كرامتي وكراسي الجامعة الآن؟ وهل سأتشبث بهما؟
جرتني من يدي وعيونها تقول تعالى نكسر الحواجز، نتسكع في غيابات المعقول واللامعقول، لا نحتكم لأي قانون، وأنا أتلكأ في خطاي كالمقيد، ثم اقتحمنا ديوان نومها. كان أشبه بصالونات عصر الأنوار. وكان قلبي يرتجف وجسدي يضطرب. نزعت ثيابها الرسمية وارتدت روبا ورديا شفافا فوق ملابسها الداخلية، وتقدمت مني وعطرها يسبقها. آنئذ فهمت نوعية عملي. لقد سُقتُ كعاهرة وسأتقاضى ثمن طقطقة السرير وأزيزه في الأخير.
اللعنة على زماني، لقد تبخرت الأحلام.
القنيطرة
30/04/2015
[i] ـ نسبة إلى شارب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.