في هذا الحوار يوضح الروائي والقاص الأردني المرموق مفهومه للتجريب والمنطقة التي تتداخل فيها عناصر القصة بعوالم الرواية، وتحمسه للكتابة الهجينة ما دامت تمنحه إحساساً بالجمال، وتبرهِن له أنَّ تجنيساً معروفاً ومألوفاً لا يصلح لأن يكون بيتاً لها، كما يوضح مدى تأثير هزيمة 67 في كتاباته، وطقوس الكتابة لديه.

حوار مع إلياس فركوح

محمد محمود البشتاوي

إلياس فركوح، قاص وروائي وناشر ومترجم أردني. تأخر في نشر قصصه الأولى، نظرًا إلى عنايته باللغة والأسلوب. وقد طُبعت قصصه بلغة مكثفة أدنى إلى الشعر، وانتقلت كذلك إلى رواياته المركبة. ولعل هذا ناجم عن دراسته الفلسفة. وهو إلى ذلك، مترجم وناشر، ومؤسس في اتحاد الكتاب الأردنيين

البدايات

  1. كيف تنظرُ إلى بداياتك في ضوءِ ما وصلتَ إليه الآن؟. وما تأثيرُ النكسةِ على كتاباتك؟.

سأكون مجانباً للصدق إذا تجرأتُ وادعيتُ بأنّ بداياتي، أو فلأقلْ تجاربي الأولى في الكتابة الحائرة بين الأجناس، كانت تشير إلى ما وصلتُ إليه اليوم. وأصارحك أكثر؛ لم أكن في حقيقة الأمر أدرك أني سأواصل الكتابة، نصّاً إثر نصّ إثر نصّ، لأصبح بعد سنين "كاتباً". الكلمة كبيرة في معناها، وثقيلة أيضاً في المسؤولية التي تترتب على مَن ينخرط في سياقات ممارستها. وربما من نقطة المسؤولية هذه وأحمالها الأخلاقية الثقيلة، ومنذ تلك البدايات، جاء نشر قصصي الأولى متأخراً، مقارنة بغالبية الكتّاب. على حواف الثلاثين نُشرت أول قصة، وتحديداً في 31/12/ 1976، علماً بأني من مواليد 1948. لم أكن متعجلاً، ولعلّني كنت مسكوناً بخوف النقد والحطّ من معنوياتي وقد أخفيته بذريعة ضرورة النضج. ربما، لكني اكتشفتُ مع مرور الوقت والتحولات التي اعترت نصوصي وعملَت على تشكيلها، أنّ الذريعة صائبة، لا بل دقيقة على وقع ما أجريته من مراجعات. مراجعات لكلية ما أكتب بتفاصيلها الصغيرة، ومراجعات لأفكار واعتقادات انطلقتُ منها وقتذاك.

تسألني عن النكسة وتأثيرها على كتاباتي، فأجيبك بأنها كانت ولادتي الثانية. من رحم 5 حزيران 1967 وتداعياتها الكارثية طفق وعيي، المايزال يتكوّن، يتسم بالمزج المُتعِب بين نقيضين: السياسة كنتيجة حتمية، أو هي فعلٌ معاكس لهزيمة لحقت بإنسان في معركة لم تتوفر له عناصر النصر! والأدهى أنّ فرصة القتال نفسها سُحبت منه! والأدب أو الفنّ، بالنظر إلى أنه الشَّغف الأوّل الذي تحسست بذرته مبكراً. ذلك كلّه إضافة إلى ميلي للفلسفة لاعتمادها التسلسل المنطقي في تركيب أشياء العالم، وبالتالي القدرة على فهمه. فهم ماهية هذا العالم الذي ألحقَ بنا الهزيمة، وفهم عالمنا نحن المهزوم.. ونحن المهزومين بلا ذنب التخاذل!

 

  1. هل يمكن القول إن تأثير هزيمة حزيران 67 انقطع؟، وفي أيِّ مرحلةٍ حدث ذلك؟.

التأثير المباشر المرتبط باللحظة الحزيرانية زال إلى حدّ كبير، إذ جرت في النهر مياهٌ كثيرة. غير أنّ "مرارة" تلك المرحلة ظلّت كما هي في ثقلها مع تراكم الإحباطات التي أصابت مجموعة "النهضات" التي مررنا بها، بداية من التخلخل الضارب لـ"مشروع" المقاومة المسلحة والمؤدي إلى "فلسطين مفرغة من معناها"، مروراً بحصار بيروت وترحيل مقاوميها، إلى الضربات المتتالية للعراق واحتلاله ثم تفتيته طائفياً ونهبه بأكثر من معنى، ثم ها نحن نشهد ونعيش حرق وتدمير بنى مجتمعاتنا العربية في غير بلد. أصبح حزيران الـ 67 في الوراء، لكنه فَرَّخ حزيرانات أشدّ وأدهى وأمَرّ.

 

اللغة في الكتابة

  1. لغتكَ في القصةِ، والروايةِ أيضاً، تتضمنُ محمولات شعرية، وحالاتٍ من التكثيف، ويبدو أحياناً أن فركوح انزاحَ بلغتهِ نحو الشعر، فكيف تعلق؟.

لم أملك يوماً معرفة قاطعة تحسم العوامل التي عملت على تشكيل هذه اللغة التي باتت واحدة من علامات كتابتي. ولعلني أقع على بذرة تلك اللغة في الكتابات الأولى، إذا جهدتُ في فهم العلاقة بين المفردة/ الكلمة الأصحّ أو الأنسب، والصورة المكثفة. وإنها معادلة في سردٍ يتطلع، ربما، لأن يكون مَجازاً واستعارة! مَجازاً واستعارة تلتقطهما ذائقة خاصة، ويدركهما وعيٌ مضفورٌ بخصب الخيال. واجتهادي يفيدني باحتمال أنّ كتابتي عموماً، وتأسيساً على القصة القصيرة أولاً، كانت تنفر من "الحكي المستطرد"، بمعنى السرد المتضمن حكاية تنمو وتتفرع وتعلو لتنتهي إلى مآلاتها المرئية مسبقاً من كاتبها. كانت كتابتي تنزع إلى القبض على "الحالات" المولدة للقصص والتمعّن المتأمل لها عبر الشخصيات المتحركة في "أزمان" و"أماكن"، غير آبهة بالإخبار. وإني، إذا ما حسمتُ في هذه المسألة موافقاً؛ فلسوف أملك تفسيراً لخلو سرودي القصصية والروائية لخاصية "الحوار" بين الشخصيات، إلّا في أقلّ القليل. الحوار، في رأيي، أسهل الطرق للإبلاغ والإخبار و"تقشير" الشخصيات لكنها، كما أزعم، ليست أعمقها ولا تحتاج لمجهودات الحفر في الطبقات الطالعة منها تلك الحوارات. إنّ الفضول المعرفي، بمعنى السعي نحو امتلاك ما لا نملك، ربما يجيب عن  جزء من سؤالك. وفي الوقت نفسه، ربما يفسِّر لي لماذا تبقى "الحكاية/ الحالة"، في الجسم الأكبر من سردي القصصي والروائي، بلا نهايات "تشفي غليل" الذين يبتغون وضوح الإجابات!

أنا لا أصل – ولعلني لا أريد الوصول! أرسم بتكثيف وإيجاز، وكلّما أمطتُ حِجاباً عن أمرٍ ما داخل "بقعة أو مساحة"، وجدتني أكتفي بذلك مدركاً أنّ ثمة ما هو أكثر، لكني أحجم فأتوقف.

إذن؛ ها تجدني أكتبُ إجابتي وقد وقعتُ متلبساً بقصدية الإتيان بالنقصان! لا بأس. أرضى بهذا. غير أنّ النقصان هنا، داخل النصّ المطبوع في كتاب، سيكتمل نسبياً كلّما تعرضَ لقراءة جديدة. سيكتمل تقريباً كلّما أضيفت إليه نظرات أخرى، وهكذا، إلى أن يحتل "أمكنته" فوق سهول التأويلات قيد الاحتمال.

أوَليست القصيدة هكذا؟ الشِّعرُ أعني؟

 

  1. ثمةَ من يرى أن الاعتناء باللغة في أعمالك القصصية والروائية، والتركيز عليها، جعلَ القارئ يقفُ أمام تعميةٍ لبعض مناطق النص؛ فهل يمكن أن تتحول اللغة إلى عائق بدل أن تكون جسراً للتواصل؟

أدرك تماماً أنّ أحد أسباب صعوبة "التواصل" مع نصوصي انضفارها في نسيج لغة تنفرُ من المباح اليومي، السهل، لأنه مألوف ويمنح المعنى مباشرة بلا عُسْر. وبالتالي أستطيع فهم وسْم البعض لها بأنها كتابة نخبوية. كتابة صعبة، بمعنى ما. لا أعترض على هذا، ولا أجد فيه وجهة نظر سلبية، في الوقت الذي أواجه واقع أني جُبِلْتُ، ككاتب، بطحين هذه اللغة وعطرها! هكذا استوت لغتي عبر سنوات وسنوات من القراءات المتأنية، المنتخِبة، اللاقطة بدافع من ذائقة تخصّني. ذائقة نمت منذ طفولة التأتأة المتهجية للكلمات وطبيعة العلاقة في ما بينها من أجل تكوين "جملة مفيدة." الأمر ليس في متناول التدبُّر – كأن أعود للوراء لأولد من جديد!

مع ذلك، راجياً عدم أخذ ما سأقول على محمل الدفاع أو الدحض، فإني أرى، ورأيت، وما زلت أرى أنّ عدداً آخذاً بالازدياد طفق يتناغم ويتآلف مع هذه الكتابة التي تبدو صعبة أو غامضة في ظاهرها لدى قُرّاء المناسبات والكتب الشعبية "الأكثر مبيعاً". إنّ رهاني، إذا جاز لي التعبير، إنما يعتمد على أنّ المستغلَق اليوم بسبب التركيب اللغوي سوف ينفتح كلّما امتلك القارئ حساسية اللغة الأدبية، ورهافة التقاط الأبعاد الأخرى الكامنة فيها. لستُ كاتباً لسرودٍ تستعين بهياكل القصة والرواية وعناصرهما الأولية. إني ساردٌ لجنسين أدبيين لا يتخلقان إلّا بلغة تناسبهما، تليق بهما، لا تهينهما، وتشير إلى خصوصية كاتبها أيضاً.

في التجربة القصصية

  1. في مجموعاتكَ القصصية الأولى تبدو المرأة هامشية، لكن الأمر تغير لاحقاً؛ فكيفَ تفسِّرُ ذلك؟

في قصصي الأولى كنت مهموماً بتكريس نفسي كاتباً "ملتزماً" بالقضايا العامة، السياسية والاجتماعية، وأستعين بشخصية الرجل والمرأة معاً، لتجلية موقفي من تلك القضايا. كأنهما كانا "المتكأ" لشيء آخر، ولا يشكلان، بوصفهما كائنين مستقلين بخواصهما الفردية، عالمين يجدر بي منحهما حقهما كاملاً! وإفادتي هذه، كما أعاين معناها العميق الآن، تدلل على نقصٍ مفضوح في وعيي وقتذاك. وعي أنّ الحياة الحقيقية، المعيش النابض، الارتباكات والانتظام والفوضى وتقاطع المصائر لا يمكن اختزالها جميعاً في "قضية" عامة؛ إذ أن الأفراد لا "المجموعات والكُتَل المتراصة" هي عناصر الأدب والفنون عموماً، بما فيهما القصة والرواية بالطبع. من دون الفردي، المميّز بشقائه وجنونه وعبثه وتعقله وخيره وشروره ولهوه وهواه – من دون جميع هذه الصفات، التي تتجلّى في الفرد الواحد، لا معنى لأي قضية عامة.

كانت قصص المجموعة الأولى مجافية لهذا على نحو كبير. غير أني، ومنذ المجموعة الثانية، بدأتُ أعير تفاصيل الحياة وحيوات أحيائها من الشخصيات عناية أكبر. أكبر بكثير. وبالتأكيد شكلت المرأة بؤرةً في ذاتها. ولقد انبثقت من داخلي تطالبني بالخروج من كونها أحد أسراري الشخصية، والمثول المعايَن المحسوس والمتخيّل كما أراها في حالاتها المتعددة. عند كتابة ما بعد المجموعة الثانية فالثالثة، شرعَت المرأة تتجلّى وتُجلّيني، وأفسحَت المجال لرؤيتي لها (الرؤية الحائرة القلقة) أن ترتكز على الكلمات.. فاللغة.. من أجل بلوغ الفرح الذي تبعثه. وكذلك القبض على الأسى الذي تسببه.

 

  1. قصصكَ منحوتةٌ بعنايةٍ فائقة؛ هل ثمةَ صناعة وتخطيط لهذه العملية حتى تصل إلى لحظة الإنجاز؟

أبداً. على الإطلاق. إنّ ما يبدو تخطيطاً ليس سوى الناتج الطبيعي للتأني في التقاط اللحظات التي تناسب سياق ما سبقها من لحظات كُتبت. لا مجال لفراغات تُترَك بين انتقالاتي من فقرة إلى أخرى، أو ربطي للّحظة باللحظة التي تليها، أو تحركي من شخص إلى آخر. التماسك شبه الصارم لـ"كتلة" النصّ، بظاهره المكتوب/ المقروء، يعكس تماسك الرؤية التي تشتغل، هي نفسها، على لملمة نثارها وشتات أسئلتها.

ما أريد إيضاحه، وبحرص كبير، أني أجافي التخطيط المسبق. أجافيه تماماً، وألوذ بـ"منطق" مستدعيات النصّ بينما يستكمل نفسه ليصل إلى منتهاه. أو ما أسميته أنت "لحظة الإنجاز."

 

  1. الراصد لتجربتك في كتابة القصة يجدُ أنك لا تتقيدُ باشتراطات الأسلوب، وإنما تذهبُ في التجريب إلى البحثِ عن الأسلوب المناسب لما تكتبهُ من القصص؛ فإلى أيِّ مدى يعدُّ هذا دقيقاً؟

أوافقك إلى حد بعيد، وأستند في تفسيري للأمر إلى أنّ ولوجي لكل نصّ جديد أنخرط بكتابته هو ولوجٌ لشبكة من "الحوارات" بلا اشتراطات مسبقة مع إغراءاته واستفزازاته. حوارات عِمادها فضول اكتشاف عناصر النصّ المتمثلة في كلية القصة قيد الكتابة، واللغة الرافعة لها من حالة الكمون في المخيلة إلى الحركة المتسقة في كلمات على الورق: من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. أي أنّ نصوصي السابقة ليست "قوالب أو أُطُر" تتوالد داخلها نصوصي الجديدة.

من هنا أبدو تجريبياً، بمعنىً ما. والتجريب وفق فهمي له، عبر تحولات وعيي الكتابي والحياتي معاً، يعني حرية "الخروج" باتجاه اكتشاف ما ليس معروفاً لديّ وحيازة طاقته المانحة. اكتشاف وحيازة تجربة جديدة تُضاف إلى سابقاتها أنفتحُ من خلالها على فضاءات أكثر رحابة. وإني أفعل هذا متحملاً مخاطر "الشطط" الذاهب بي نحو المُروق! نحو "خيانة" حتّى الجنس الكتابي الصِرْف بـتوسعته وخرقه و"تلقيحه" بكل ما يعينني على النهوض به طازجاً حُراً متحرراً كما أرغب – بالغاً به تخوم النصّ السردي المفتوح. ولهذا، وبعد نصوص الكتاب القصصي الأخير "حقول الظلال"، توقفتُ عن كتابة القصة القصيرة. لقد بلغتُ بها حدوداً أصبحَت بعدها تهجيناً كتابياً يستفزها ويشاكسها ويعابثها، لكنها كَفَّت عن كونها قصة "طاهرة" بلا دَنَس!

 

بينَ القصةِ والرواية

  1. يلاحظ أنك تلجأُ إلى الهامشِ في أعمالكِ الروائية؛ فهل العملية ترتبط بإيجاد مساحة للإيضاح، أم جعل الهامش جزءاً من بناء الرواية؟

الهامش جزء من المتن من غير انفصال أو انفصام، وليس إضافة للتوضيح. فعلت هذا في روايتي الأولى "قامات الزَّبَد"، ولم أعد لهذه التقنية كما جاءت أوّل مرّة. كلّ نصّ جديد يُملي عليّ قِوامَه وتشكيله، بسبب خصوصية تولده داخلي وعوالمه وشخصياته المتكاثرة، أو المتناقصة. وأظن أني فعلتُ ما يضاهيه ويخالفه، في الوقت نفسه، عندما أدخلتُ الفوتوغراف إلى متواليات العمل الروائي الأخير "غريق المرايا". جعلتُ من الفوتوغراف محاوراً مشهدياً ينضفر مع المتخيّل ويثريه بأبعاد قد لا تخطر على القارئ – بل أجازف قائلاً بأن الفوتوغراف قام بتثوير النصّ من داخله.

ما أريد بلوغ معناه أنْ لا هامش توضيحياً في رواية "قامات الزَّبد"؛ بل هو جزء من المتن. وأنْ الفوتوغراف في "غريق المرايا" يشكل مادةً مرئيةً أصيلة ذات صِلة لاحمة للنصّ وملتحمة به؛ فبوجوده يُضاء كل شيء في الرواية ويُكتب على نحو خصوصي.

 

  1. فن القصة مختلفٌ عن الروايةِ، ولكل منهما أدواته؛ فهل ثمةَ منطقة متداخلةٌ بينهما؟

نعم، ثمة منطقة تتداخل فيها عناصر القصة بعوالم الرواية، أو العكس. فإذا كان قِوام القصة التكثيف والإيجاز واختصار الشريط السردي، بينما تنفتح الرواية على الرحابة في كافة مكوناتها الداخلية؛ فإنّ خلق مساحة التلاقي بين هذه وتلك لأمرٌ ممكن. ممكن إذا توفرَت للنصّ الناتج عنهما الشروط الكتابية الخاصّة، والوعي الفني القادر على حمل مهمة كهذه، والخبرة الكفيلة بأن يتحمل كاتبها "مسؤوليته" حيالها، على صعيد التجنيس الأدبي.

حدث هذا مراراً عند إدوار الخرّاط، ويجوز لنا اعتباره النموذج الأكثر صقلاً لهذا الشكل المازج للقصة بالرواية، والمُسمّى "المتوالية القصصية". أو، كما أراها أكثر توافقاً والكتابات المعروفة: "المتوالدة القصصية" بحيث يتأتى عن هذه السلسلة من "القصص" المستخرجة من بعضها بعضاً فضاءٌ روائيٌّ بامتياز (إذا ما قرأنا الصلات الواصلة لها)، وهي متوفرة دائماً لمن يبتغي الوصول إليها.

كانت "غريق المرايا" تجربتي في هذا المجال، ومغامرتي المركبة من نصّ لغوي ونصّ فوتوغرافي، ولقد جازفتُ بإطلاق جنس "روايــة" بالخط السميك، على غلافها، قاطعاً بأنها كذلك. وفعلاً إنها رواية، كما أنها في الاشتغال المنمنم سلسلة متصلة من لوحات قصصية تتضمن شخصيات بعينها تتكرر مواصلة بناء الأحداث، وأخرى تجيء لتذهب وتختفي تاركة وراءها خيوطاً لـ"حبكات" محتملة!

 

  1. للكتابةِ طقسها الخاص، وهو يختلف من شخص لآخر؛ فما هي طقوسكَ في الكتابةِ بين الروايةِ والقصة؟

أعتبر نفسي كاتباً "سلحفائياً" من حيث البطء بالكتابة، و"أيوباً" في الصبر الطويل على إنضاج الانتقالات والخطى الكاتبة للنصّ. لستُ متعجلاً أو "ملهوفاً"؛ فالعالم لا ينتظرني بناءً على موعد، وأنا لا أملك ما أمنحه ويستحق الانتظار. نحن ننتظر من الكاتب ما هو جديد حقاً وما يحترم ذائقتنا وذكاءنا فعلاً، وهذا لا يمكن توفره بالتسرُّع -  إنْ بالكتابة أو بالنشر. ليس كلّ ما يُضاف جديرٌ بأن يوصف بـ"الجِدَّة"، فما بالك بـ"الجديَّة"؟

عاداتي بالكتابة متحركة حتى اليوم. لا ألتزم بأيام محددة، أو عدد ساعات محددة، أو أجندة بأيّ معنى. ولهذا فإني لستُ كاتباً محترفاً ولا أريد. عندما تنضج "الحالات" داخلي تراني أنتقل من معايشتي الصبورة لها فأتفرّغ لها وأمنحها الوقتَ كاملاً. والصبرَ كلّه. والتنبّه المشحوذ حدّ الإنهاك. وهذا يعني أنها هي التي ترسم أجندتها، وتُدخلني طقوسَ محاورتها.

وما يصدق على الرواية يصدق، أيضاً، على القصة القصيرة – عندما كنت أكتبها.

 

  1. هل أثّرت ترجماتكَ على كتاباتكَ القصصية والروائية؛ أو لنقل: هل استفدت من الترجمة؟.

لم أجد دروساً حقيقية في كيفية اجتراح كتابة واعية ومسؤولة، إضافة إلى القراءة المتأنية الحافرة، كالترجمة. الترجمة تجبر ممارسها على التدقيق في كلية النصّ تدقيقاً، إذا استهان أو تكاسلَ برصد كلّ كلمة فيه، فإنّ خللاً ما سيحدث. الترجمة تُعلّم ممارسها احترام الفاصلة في موضعها الصحيح، والنقطة الواجبة وإلّا كون المعنى سيهتز، ومتى ينبغي الانتقال إلى فقرة جديدة في سطر جديد، والتقدير العارف أنّ الفاصلة المنقوطة ليست مجرد علامة شكلية، وأنّ ثمة فرق بين علامة السؤال وعلامة التعجّب وأنهما لا تتجاوران في مكان واحد، إلخ.

غير أنّ أحد الدروس الناتجة عن الترجمة، بحسب تجربتي، وربما هي جبلتي منذ البداية؛ أنّ المراجعات المتكررة للفقرات المنجزة أمرٌ لا مهرب منه وضرورة لازمة. من دون هذه المراجعات أثناء الكتابة يتعرض النصّ للتضعضع، أو الوقوع في التناسخ الخبيث غير المُدْرَك، أو التزيُّد والاسترسال بلا إحداث إضافات تغني النصّ وتوسع فضاءاته.

نعم؛ كان للترجمة آثارها الإيجابية على كتابتي. لقد أعانتني على صَقْل نصوصي أكثر.

 

  1. هل ما زال فركوح مقيماً في "أرض اليمبوس"؟ ومتى يمكنه الخروج منها نحو فضاء جديد؟

إذا كانت "أرض اليمبوس" (أرض الما بين) حيث أرفض الانسياق للانخراط في حرب ليست حربي، كونها اشتعلت بسبب قضية بائسة لا أؤمن بها؛ فنعم ما زلت في هذه الأرض. وإنها، كذلك، تحمل معنى "الأرض الحَرام" الواقعة بين طرفين متحاربين أسقطا سلاحهما في هدنة ممطوطة الأَجَل دون أن يصلا إلى صيغة تصالح واتفاق على أنّ الحياة جديرة بجمال ينقض الموت: أرض لا تطأها أقدام الناس، ينمو فيها كلّ ما هو حوشي ووحشي وشائك وملوّث وسط أنقاض أينعَت في تصدعاتها أعشاب لا يعلم بها سوى الله وتسري بين قضبانها الحديد الصدِئ أفاعٍ وسحالي، إلخ. هذه الأرض ليست أرضي بالتأكيد.

أما إذا كنتَ تقصد الرواية الحاملة لهذا الاسم، وهل خرجتُ منها كاتباً لرواية تتحرك في فضاءات مغايرة جديدة؛ فنعم. لديك "غريق المرايا" التي كنتُ أشرتُ إليها في إجابة سابقة، المنشورة عام 2012.

 

  1. كيف تنظر إلى كتابة النص غير المجنس ضمن صنف إبداعي بعينهِ؟، وماذا عن تجربتك في هذا المجال؟

يبدو واضحاً لمتابعي الإصدارات السردية الجديدة أنها طفقت تتحرك على تخوم الأجناس القارّة. بعضها يراوح هناك حائراً، وبعضها يتجرأ متجولاً في أراضيها على نحو متناوب، وبعضها استقلّ واستقرّ بوصفه "اللامنتمي" إلّا لنفسه. كلّ هذه الكتابات، على اختلاف انسياباتها ومنسوبها هنا أو هناك، اتخذت لمتونها السردَ المتأمل هويةً أولى. كما أنها في معظمها اتصفت بالميل نحو الشِّعر: إنْ في الصور المرسومة، أو البناء وفق الكِناية والمَجاز والاستعارة وانفتاحاتها على التأويل، أو التخصيب بتثبيت كتابة تشبه قصيدة النثر – كما قصيدة النثر المألوفة لدينا اليوم.

إني من المتحمسين للكتابة الهجينة ما دامت تمنحني إحساساً بالجمال، وتبرهِن لي أنَّ تجنيساً معروفاً ومألوفاً ومعتاداً لا يصلح لأن يكون بيتاً لها. تمثّلُ الهُجنةُ والخلاسيات أمثلة جميلة وجذّابة على قيمة الاختلاف والتعدد، في النصوص كما في الحياة، عندما ينتهي انصهارها الطوعي الواعي إلى إغناء حياتنا. إنّنا، في عملنا هذا، إنما نشهد على أنّ القانون الوحيد الجدير بالاحترام هو حرية الاختيار بين الطروحات. وأننا، في الوقت نفسه وأيضاً، لنا حرية إدارة الظهر لجميع الطروحات واجتراح طرحنا الخاصّ.

كتبتُ نصوصاً أقرب إلى الشَّعر منها إلى أيّ جنس سواه. كنت متحرراً من فروض سرودي عليّ وأثقالها وتاريخها، والجاً أرضاً، مشغوفاً بالاكتشاف: اكتشاف هذه الأرض واحتمالات ثمارها، واكتشاف بُعدٍ آخر فيَّ ومعاينة الحيوية التي يتضمنها. تجربة لاقت استحسان كثير من القُرّاء واستهجاناً من البعض. رأى البعض فيها شعراً، وآخرون ما يشبه الشٍّعر. لستُ نادماً على تلك التجربة. أحبّها مثل حُبّي لفاتنةٍ مرّت بي ذات يوم، وهبتني قبلتها الوحيدة، وغابت. كانت حميمة، ودافئة، وصادقة.. أعني القبلة والفاتنة معاً.

تسألني عن تلك النصوص؟ لقد جمعتها في كتاب باسم "ميراث الأخير"، ونشرته عام 2002.

 

أسئلة عامة

  1. الحالة السياسية العربية تمرُّ في حالةِ تردٍّ وتشظٍّ؛ فماذا تقول عن الحالة الثقافية الراهنة؟

باختصار، آملاً ألّا أنتقص من معنى ما أراه في الحالة الثقافية الراهنة: ثمّة "جهود ومجهودات" كبيرة ومتسارعة وأكاد أقول "لاهثة" تجتاح المشهد الثقافي العربي اليوم. تبدو زاخرة بالوعود، وتتخايل أشبه بالمفازات والسراب!

ما أراه لاهثاً مراوحاً في الاجتراح الجَمالي، ففي الرواية تحديداً، رغم توفرنا على بضعة نصوص لافتة كلّ سنة قد تصل إلى عشرة أحياناً، وسط "هجوم طوفاني" سرعان ما ينكفئ. إحجامٌ واضح عن كتابة القصة القصيرة ما يعني انخفاض نسبة التجديد الفني فيها إلى حد كبير. انسحاب الشِّعر من حياتنا بمعنيين: الإقبال على قراءته، والتسرّع في نشر التجارب الجديدة. طفرة نسبية واضحة في صناعة سينما غير تجارية جديرة بالمتابعة، تعتمد الجهود الشخصية والرؤى الوليدة خارج الصناديق. إبداعات مدهشة لا يمكن تجاهلها في التشكيل العربي، إنْ داخل الأوطان أو في المنافي والمَهَاجِر.

مع هذا وذاك علينا الإقرار، بشجاعة ومَرارة، افتقار الحالة الثقافية لرموز ذات وزن ورسوخ في المجال الفكري عموماً. وإنها لحقيقة ليست جديدة، آخذاً بالاعتبار الهوة الهائلة بين "الطروحات" التفكرية القليلة من جهة، والفئات المفترض أن تتفاعل معها. ليس ثمة اجتهادات بارزة اخترقت السكون وتبشِّر. قد أكون متجنياً هنا لأني لم أمنح للمسألة وقتاً للنضوج، غير أني بعيد عن التفاؤل.

 

  1. لا يُنتج المبدع "خيالاً محضاً"، وإنما يستندُ فيما يكتبُ إلى واقعهِ؛ إلياس فركوح.. كيف يتفاعلُ مع الواقع العربي اليوم؟.

تفاعلي على الصعيد الشخصي تفاعلٌ يوميّ، وغالباً ما يكون بيني وبيني؛ إذ تم تدوير وإعادة تدوير جذور أزمة الوجود العربية عبر نقاشات ثنائية وجماعية خلال سنوات الجحيم الماضية - التي ما زالت مشتعلة وتحرقنا.

لم أكتب أو أباشر بكتابة عمل أدبيّ يتصل بمجريات واقعنا العربي الراهن. نحن ما زلنا في عين الجحيم وإعصاره، ولستُ من زاعمي القدرة على كتابةٍ تبلغ "مستوى" هذا الواقع و"تليق" بجسامته الاستثنائية.

  

  1. وفي ضوء ذلك؛ كيف تصهرُ الخاص في أتون العام وتجانسه، كما في رواية "أرض اليمبوس" مثلا؟

لن أطيل عليك بالحديث عن آلية عمل ما زال قيد التفكّر والتقليب والتأمل والأمل في كتابته ذات يوم. لا أملك أيّ تصوّر للكيفية التي سيكون عليها تفاعلي (على صعيد البناء الفني)، فالتطرق إلى كلّ مجرد خالص، أو "مادة خام"، أو "هيولى" لا يخرج عن دائرة الاحتمالات، والاحتمالات قابلة للانتفاء والمحو في لحظة البدء بالكتابة الواعية: في لحظة التجرؤ على إكمال الفقرة الأولى لنصٍّ جديد. و"أرض اليمبوس" حين كُتبت خضعَت وأخضعتني لسياقات تخصّها، وأعتقد أنها لن تتكرر. فالواحد منا، ما دمنا أحياء، كالنهر مياهه اليوم ليست هي مياه الأمس.

 

  1. هل يعيد الكاتب إنتاج نفسه؛ بمعنى آخر إعادة تدوير ما كتبه؟

نعم، البعض يقع في هذا المأزق، وإنه بعضٌ ليس قليلاً. ولعلّ طول المسافة الفاصلة بين عَملٍ كتبته وآخر سوف أكتبه، تشهد على خشيتي من إعادة تدوير نصوصي. والمسافة هنا أقيسها بالزمن ثانياً، وبالإنضاج المتمهل أولاً، والذي يحيلك على الوقت. وأعيدك إلى تشبيهي لنفسي كاتباً في إجابة سابقة: سلحفائيٌّ في العمل، وأيوبٌ في الصبر والمثابرة.

 

  1. ثمةَ شكل ثابت من الإنجاز أصبحَ دارجاً في عالم النشر، أن المبدع / المؤلف ينتجُ "كتابهُ السنوي"، فيما كسرتَ أنت هذه القاعدة، عبر خط "إنتاج" زمني غير متتابع في السنوات؛ فكيف تعلق؟

أرى في إفادتي قبل قليل ما يُجيب عن سؤالك، ولا طائل من التعليق على "الكتاب السنوي" وكُتّابه، ومبررات "الاندفاعات والطموحات الجامحة"! وكما نقول قولاً سائراً بين الناس: ولله في خَلْقه شؤون! وأزيد: اللهم لا حَسَد!