بأسلوبه الشاعري الذي يعتمد على الإضمار والإيحاء يكتب القاص المصري أنشودة للضياع في المدن الغريبة، وللتواصل الإنساني الحميم الذي ينطوي عليه هذا الضياع ذاته.

زائرة الأحد

عبدالرشيد الصادق محمودي

 

انفتح باب السينما بعد بداية العرض بقليل ثم انغلق بسرعة؛ فلم يستطع إبراهيم أن يتبين فى الظلام ملامح الشخص الذى دخل. ولكن الصوت الهامس كان صوت امرأة. قال إبراهيم:

ـ عفوا.

فجاءه الهمس من جديد:

ـ هلا وجدت لي مكانا إلى جانبك؟

وبوغت للحظة. لماذا تريد المرأة أن تجلس إلى جانبه دون أى مكان آخر؟ ثم تبادر إلى ذهنه أن الفتاة ربما كانت عمياء. فسارع إلى الإمساك بيدها ووضع يده الأخرى على خصرها حتى أجلسها على المقعد المجاور له. فلما استقرت إلى جانبه قال لنفسه: " كم أنت مغفل! عمياء تأتى إلى السينما؟!" لعلها معوقة إذن؟ أو لعلها …

أخبرته كفه أن المرأة هيفاء. وظل لفترة مشحوذ الحواس متحفزا. وتمنى لو أن  ذراعها لمست ذراعه. فلما طال انتظاره ولم يحدث من ذلك شيء، حاول الانصرف إلى الفيلم، ولكنه لم يستطع التركيز. فقد ظل السؤال يلح عليه: لماذا طلبت إليه أن يجلسها إلى جانبه؟ وكان يتحرق شوقا لتبين ملامحها. وتمنى أن ينفتح الباب مرة أخرى لكى يختطف نظرة إليها. وحاول أكثر من مرة أن يدير رأسه نحوها، ولكن عنقه لم تكن تطاوعه.

ورآها بعد انتهاء العرض واقفة عند باب السينما تتلفت. كلا لم تكن معوقة. كان شعرها البنى الداكن مرسلا على ظهرها. وكانت ترتدى فستانا هفهافا من القطن السمنى المنقوش بزخارف نباتية، وكانت تعقد حول خصرها منديلا من الحرير الهندى الأخضر الفاتح. ودفعه الشعور بالوحدة إلى التقدم منها (فأيام الآحاد كئيبة خواء لا يحدث فيها شيء). ودعاها إلى تناول القهوة معه. فتراجعت برأسها إلى الوراء فى دهشة:

ـ هل أعرفك؟ من أنت؟

فلما أخبرها باسمه، ابتسمت كأنها وجدت فى ذلك الكفاية:

ـ ولم لا؟ لا ضرر في تناول فنجان من القهوة.

وتناقشا طويلا عن الفيلم الذى أخرجه إنجمار برجمان، وسألته عن اسمه وبلاده ومهنته. ثم توقفت عن الكلام فجأة ولمست عنقه:

ـ وماذا أصاب عنقك؟

ـ كنت أؤدى بعض التمرينات الرياضية؛ فأصابنى هذا الألم الذى يمنعنى من أن أحرك عنقى  بسهولة.

 وروى كيف ذهب إلى قسم الطوارئ في المستشفى القريب من مسكنه؛ فقيل له إنه لا بد من إجراء كشف بالأشعة، وإن العلاج قد يقتضى عدة جلسات كهربائية وقد يطول شيئا ما... إلى آخر كل ذلك الكلام "المثير للكآبة" ـ كما قال. ولم يجد بعد ذلك ما يقوله. وخيل إليه أن الصمت إذا طال لدقيقة أخرى، فمن المحتمل أن تشكره الفتاة على القهوة وتتناول حقيبة يدها وتنصرف. وأفزعه ذلك الخاطر؛ فاستجمع أطراف شجاعته ليختصر الطريق نحو الهدف:

ـ ما رأيك لو تعشينا معا …فى شقتى؟

لقد قرر إذن أن يفجر القنبلة، وليحدث ما يحدث. وخف توتره شيئا ما عندما قالت:

ـ العشاء فكرة جيدة. ولكن لماذا يكون فى البيت؟

وها هى إذن معضلة أخرى: لماذا لا يكون العشاء فى مطعم؟ وكأن الفتاة قد لاحظت عجزه عن تخطى العقبة، فقررت أن تنجده:

ـ لا تقلق بشأن الفاتورة. سأدفع عن نفسى.

ثم اهتدى إلى الحل:

ـ ليس ذلك ما يشغلنى. ولكن العشاء في البيت ألطف. نستطيع أن نستمع إلى بعض الموسيقى. هل تحبين الموسيقى؟

وركبا سيارتها البيتلز الصفراء.

ودارت بعينيها في جميع أنحاء الغرفة الكبيرة قبل أن تتجه إلى الراديو الترانزستور الكروى الشكل:

ـ تصميم رائع لراديو: أشعر وأنا أمسك بهذه السلسلة التى يتدلى منها الراديو أننى أحمل الكرة الأرضية على كفى وأستطيع أن أنتقل بها من مكان إلى مكان.

وأدارت مفتاح الفتح فصدرت عن الجهاز الصغير أنباء الطقس:

ـ أنا في حاجة لمثل هذا الراديو. أستطيع أن أحمله إلى فراشى فيكون العالم فى حضنى. أنا متأكدة أن صوته سيساعدنى على النوم.

وعندما دعاها إبراهيم إلى الجلوس قالت:

ـ بل سأجلس هنا على السجادة.

وخلعت حذاءها واستلقت على السجادة. وكان إبراهيم يريد أن يختفى عن أنظارها قليلا، فدخل الحمام. كان يرتعد رغم دفء الجو. وفرك كفيه فى جذل. لم يكن يصدق أن فتاة على ذلك الجمال يمكن أن تستجيب لدعوته وتملأ عليه مساء الأحد؛ وهو أسوأ أوقات الأسبوع. ونظر إلى صورته فى المرآة. وهز رأسه تعبيرا عن  الرضا. وخرج من الحمام مبتسما ليقول:

ـ إذا كنت جائعة فسأذهب إلى المطبخ لأعد العشاء. ما رأيك؟

ـ أنا عطشانة. ماذا لديك للشرب؟

ـ هناك عصير تفاح مثلج.

وقالت في استنكار:

ـ عصير تفاح! أهذا ما تقدمه لفتاة تريد أن تغويها؟ أليس لديك نبيذ؟

وخرج من المطبخ وهو يعتذر:

ـ أنا لا أشرب الخمر.

ـ رغم أنك دبلوماسى! لا أكاد أصدق. وأحسبك لا تأكل لحم الخنزير.

ـ كلا لا أقربه.

ـ جميل. لا تشرب الخمر ولا تأكل لحم الخنزير، ولكن ليس لديك مانع من أن تصحب امرأة إلى الفراش. أهذا هو مدى إسلامك؟

وأكرمه الله فمكنه من الضحك. إذن هى تعرف ماذا يريد. ويبدو أنها موافقة. واقترح أن يخرج ليشترى نبيذا، فرفضت:

ـ لا تشغل بالك. سأشرب عصير التفاح.

وانسحب إلى المطبخ ليعد العشاء. وهناك وقف حائرا لا يدرى من أين يبدأ. وجاءه صوت الفتاة:

ـ إسمى إلفيرا. من الغريب أنك لم تسألنى عن اسمى. ولم تسألنى عن بلدى. أنا نرويجية بالمناسبة. وإذا كنت تعتقد أنك ستضاجعنى الليلة فأنت مخطئ.

وأصابته العبارة الأخيرة بصدمة سرعان ما أفاق منها. فهذا تكتيك نسائى غير مألوف، ولكنه تكتيك على أية حال، وسوف يجد طريقة للتغلب عليه. وتوقف عن خرط البصل. كان ينبغى أن يخرج ليشترى لها نبيذا، فقد تساعد الخمر على حل هذه العقد. وعاد إليها ليقول:

ـ كلا لست راضيا عن شربك عصير التفاح. سأخرج لأشترى شرابا مناسبا. إن هى إلا دقائق.

فرفضت عرضه بحزم:

ـ من حسن الحظ أننى لا أجد لديك خمرا. أريد أن أكون الليلة فى كامل وعيى.

وعاد إلى عمله متذمرا: من نفسه ومنها. ولكنه كان على يقين من أنها ستلين فى نهاية المطاف. وإلا فلماذا جاءت إلى مسكنه دون مقاومة تذكر؟ ولا بد أنها تشكو مثله من فراغ أيام الآحاد والملل الذى تبعثه فى النفس. وجاءه صوتها:

ـ شقتك مرتبة. ولكنى لا أرى أثرا للمرأة هنا. من الواضح أنك أعزب. ولكن أليس لك صديقة؟

وحاول التهرب من السؤال فقال:

ـ لقد تزوجت مرة. حدث ذلك فى سن مبكرة كعادة أهل الريف فى مصر. كنت ما زلت طالبا بالجامعة. ثم قضيت عددا من السنين فى أيرلندا. وأنت تعلمين أنهم كاثوليك يحافظون على عفة فتياتهم.

وشعر بالرضى عن نفسه لهذه الإجابة. يحسن به أن يتظاهر كما تتظاهر.

ـ ولكنك تعيش الآن فى هذه المدينة الراقصة كما يقال.

ثم قرر أن يبادر بالهجوم. باستطاعته وهو فى حمى المطبخ أن يكون صفيقا:

ـ لا أخفى عليك أننى شعرت بقشعريرة تسرى فى جسدى عندما لمست خصرك فى ظلام السينما. وذكرنى ذلك بما قاله ذات يوم محاضر فى علم النفس عن ممارسة الجنس بين شخصين لا يرى أحدهما الآخر.

ـ وكيف يكون ذلك؟

ـ ضرب المحاضر مثلا بما قد يحدث فى غرفة المعاطف. رجل وامرأة لا يعرف أحدهما الآخر بل ولا يرى أحدهما الآخر فبينهما صف طويل من المعاطف المعلقة. ويحاول كل منهما أن يستخلص معطفه؛ فتصطدم اليدان بالمصادفة بين تلافيف الملابس فتتشابكان ولا تنفكان حتى تحقق الطبيعة غايتها. ذلك هو الجنس الصرف ينزل كالصاعقة.

وقهقهت:

ـ أو الزلزال. ها ها ها. جميل. كلا لم أجرب ذلك بعد.

ولما خرج من المطبخ وجدها نائمة وإلى جوارها الراديو الذى كانت تنبث منه موسيقى خافتة. وهم بإيقاظها، ولكنه توقف ليتأملها وهي مستلقية على السجادة وقد توسدت ذراعها. هاهى المرأة المستلقية التى تفننت أجيال الرسامين فى تصويرها عارية أو نصف عارية أو كاسية. أما هذه فهى امرأة مكتملة الأنوثة. كانت فتحة الرقبة من الفستان واسعة تكشف عن امتلاء ثدييها. وعند ملتقى الثديين بدأت سلسلة من الأزرار التى تمتد حتى الخصر. وكان ذيل الفستان منحسرا عن الركبة ويكشف عن جزء من ساقها. وكأنما أحست بوجوده ففتحت عينيها:

ـ أنا آسفة. لقد غلبني النوم. أنا متعبة.

ـ العشاء جاهز.

وعندما جاء وقت القهوة قالت:

ـ كان العشاء رائعا.

ثم تغيرت لهجتها عندما لمس يدها:

ـ أشكرك على كرم ضيافتك. ولكن ينبغى أن أكون واضحة معك: إننى لا أضاجع إلا نوعين من الرجال.

وأطرق ابراهيم:

ـ وهل طلبت إليك ذلك؟

ـ كلا لم تفعل …حتى الآن. ولكنك عاجلا أم آجلا…ستفعل. فأنت لا تختلف عن أى رجل آخر. لا فارق بين رجل أو آخر: البعض ينقض والبعض الآخر من أهل  التدرج. أم أننى أتجنى عليك؟ لعلنى مخطئة. أنا آسفة إذن.

وقد اختلط الأمر على إبراهيم، ولم يدر لبرهة كيف يجيب إلى أن قرر أن ليس هناك ما يدعو إلى اللف والدوران مع فتاة من هذا النوع. قال بصوت خافت لا يكاد يسمع:

ـ كلا لست مخطئة.

ويبدو أنها لم تسمع ما قال:

ـ لا أضاجع إلا نوعين من الرجال. النوع الأول هو الرجل الذى أحبه وأستقر معه. أما النوع الثانى فهو رجل أتصيده لنزوة عابرة لأقضى معه ليلة أو عطلة نهاية الأسبوع. وفي هذه الحالة أنا الطرف الممسك بزمام المبادرة، فألتقط رجلى في بار أو فى مقهى أو على رصيف القطار…

قال إبراهيم:

ـ أو في السينما.

وترددت قبل أن تقول:

ـ لم أجرب ذلك من قبل. ولكن لا مانع من حيث المبدأ.

قال إبراهيم بلهجة تنم عن الحزن:

ـ ولقد وجدتنى اليوم في السينما، ولكن من الواضح أننى لست بالصيد الذى تطلبين.

ـ وهل تريد أن تكون من ذلك النوع؟

وتردد فى الإجابة. لقد واجهته الفتاة بمعضلة: فى البداية كان قضاء ليلة عابرة مع فتاة هو كل ما يتمناه. ولكنه الآن وقد التقى بإلفيرا، يجد من العسير على نفسه أن يرضى منها بليلة واحدة. كان يشعر أمام حسنها أن قضاء ليلة واحدة لا يمكن أن يشفيه من رغبته فيها. ولكنه كان من ناحية أخرى يخشى إذا رفض العرض أن يحرم منها تماما. وفضل أن يلوذ بالصمت كسبا للوقت. فقالت:

ـ يخيل إلى أنك أفضل من ذلك.

ثم أسعفته بديهته بحيلة تجنبه مواجهة المعضلة:

ـ لكن أخبرينى. هل أفهم مما تقولين أنك تستطيعين الجمع بين رجل تحبينه وسلسلة من الرجال العابرين.

ـ هذا هو الوضع الأمثل بالنسبة لى... حتى الآن على أقل تقدير. ولكن ليس من المستبعد أن يأتى يوم من الأيام فأجد رجلا أعطيه كل شئ وأكتفى بما يعطينى. أنا رومانتيكية في أعماقى.

قال إبراهيم:

ـ واضح إذن أنك أخرجتنى من اللعب تماما.

ـ على الإطلاق. فأنا فى حاجة إليك. لقد خرجت اليوم أبحث عن صديق. عن إنسان أتحدث إليه ولا يطالبنى بشيء. أريد صديقا. أنا في حالة يائسة.

وبكت:

ـ هناك رجل من أصل يونانى التقيت به منذ أربعة أعوام. كان من النوع الثانى من الرجال، أو هكذا كنت أريده على أى حال. ولكن الأشياء اختلطت فى رأسى أو فى قلبى وطالت النزوة لسنوات. فى البداية رأيت فيه المثل الأعلى للذكورة: شديد الوسامة ولكنه قوي البنية جرئ متحفز دائما سريع الغضب. ولكن جورج ـ فهذا هو اسمه ـ استطاع أن يسيطر عليّ تماما. وأردت أن أستخدمه كالمهدئ فأصبح مخدرا مسببا للإدمان. وحاولت التخلص منه بشتى الوسائل، ولكنه كان ينجح دائما فى اقتحام حياتى من جديد. تارة عن طريق الابتزاز وتارة عن طريق الاستجداء والبكاء كالأطفال: "أنا في حاجة إليك. لا أستطيع أن أحيا بدونك." إلى غير ذلك الكلام الفارغ. ولا ينبغى أن أعفى نفسى من اللوم. فقد كنت متواطئة معه في بعض الأحيان. بل لقد حدث أكثر من مرة أن سعيت إليه زاحفة وطلبت الصفح والمغفرة. ولكن الأمر فى النهاية لم يعد يطاق. فقد دخل جورج عالم الجريمة. بدأ بالسرقة ثم انتهى إلى الجرائم المقترنة بالعنف. ودخل السجن. وصار ينتقل من سيء إلى أسوأ. في العام الماضي دخل السجن للمرة الثانية. وهو الآن بلا عمل أو دخل ثابت: يقيم مع أهله أو أصدقائه معظم الوقت وينزل علي ضيفا في بعض الأحيان. وهو عندئذ يريدنى أن إقرضه أو أعطيه المال. ولكن ليس ذلك هو الأمر الأسوأ. لقد كنت أعطف عليه إلى وقت قريب، وكنت أعتقد أن لى فى نفسه مكانة خاصة رغم كل شيء حتى أثبت لى مؤخرا أنه بلغ الحضيض.

قال ابراهيم:

ـ كيف؟

ـ يريد أن يكون قوادى. له صديق مغربى يتباهى به، فهو لا يقيم علاقة مع فتاة إلا ويحولها إلى مومس تعمل لحسابه. وجورج يحاول الآن أن يحاكى صديقه. فهو يعرفنى بأصدقائه العرب في كازينوهات القمار. ويدفعنى دفعا إلى مخالطة بعضهم ويخبرنى مثلا أن فلانا أو علانا معجب بى وأنه قد استأذنه فى أن يدعونى إلى العشاء وأنه لا يدرى ماذا يقول نظرا لأنه صديق عزيز إلى غير ذلك من الترهات.

قال ابراهيم:

ـ وأنت تريدين إذن التخلص منه؟

ـ تماما.

ـ إلى غير رجعة؟

ـ بالضبط.

ـ إفعلى ذلك إذن.

ـ لا أدرى كيف. لقد أصبح الأمر بيننا أقرب إلى الاغتصاب.

ثم قالت:

ـ إنني لا أعرفك. ولكن نفسى تحدثنى أننى أستطيع أن أطمئن إليك. فهلا كنت صديقى؟

ـ ماذا تريدين منى على وجه التحديد؟ هبينى وافقت على أن أكون صديقك. ماذا عساى أفعل عندئذ؟

ـ لا تفعل أى شئ. لا تتصرف كما يتصرف الرجال عادة. أريد أن أقضى الليلة هنا. هل يمكننى أن أقضى الليلة هنا؟

ولم يجب إبراهيم. فقالت:

ـ تنام في فراشك المعتاد، وأنام أنا هنا على هذه الكنبة أو على السجادة. ولا تطلب منى شيئا ولا تقترب منى. أعني ألا تترك فراشك فى الليل لتضطجع إلى جانبى. هل يمكننى أن أقضى الليلة هنا بهذه الشروط؟

ولم تكن الإجابة سهلة على نفسه. كان يريد أن يوافق. ولكن حز فى نفسه أنها تستبعده تماما من دائرة الحب. وغض بصره بعد أن حط لبرهة على جسدها وقال:

ـ أنا آسف: لا أستطيع أن أقبل شروطك.

قال ذلك بصعوبة وشعر بعدها بأن عبئا ثقيلا قد أزيح عن صدره: فلقد استطاع أن ينتقم لكبريائه.

قالت وهى مطأطأة الرأس:

ـ شكرا لصراحتك على أى حال.

ـ أما أنا فإنى لا أستطيع أن أشكرك على صراحتك.

وهنا ارتفع صوته:

ـ بل أنا أمقت ذلك الوضوح في تفكيرك: هناك فئتان من الرجال. وعندما تلتقين برجل أنت التى تمسكين بزمام المبادرة، وأنت التى تحددين فى أى فئة يقع، وأنت التى تجمعين بين الرجال إذا راق لك ذلك أو تنالينهم تباعا. وأنت التى تقررين وقتما تشائين أن يؤدى الرجل دور الصديق. أكره كل ذلك الحساب وكل ذلك البرود. هل لك قلب؟ أم أن قلبك آلة حاسبة؟ كلا لا أستطيع أن أقبل ذلك الدور. ولا أستطيع أن أوافق على أن تقضى الليلة هنا.

 قالت إلفيرا:

ـ أفهم ما تريد أن تقول. ولكنك مخطئ. على أى حال لكل رأيه.

وبدأ يهيئ نفسه لرحيلها. ماذا يمكن أن يحدث الآن؟ سوف تنهض عن السجادة وتستعد لمغادرة المكان. وسوف تعود الأحوال إلى ما كانت عليه قبل ظهورها، وكأن شيئا لم يحدث. سوف يذهب إلى المطبخ ويغسل آنية الطعام ويعود إلى غرفة الجلوس ليجد الراديو ملقى على السجادة بعد أن اختفت. وسيعود إليه شعوره بالوحدة. ليكن: فلتذهب. سيمضى بقية الليل يتقلب فى فراشه. عليه أن يتحمل ذلك حتى يأتى الصباح ويبدأ الأسبوع الجديد ويغرق نفسه فى العمل وينسى شعوره بالحرمان. لتذهب. فلقد أخذ يضيق بوجودها. ونظر إليها مليا. جمال وجهها وغزارة شعرها وامتلاء ثدييها ـ كل ذلك يؤكد بعدها عنه وحرمانه منها. ومع ذلك، فقد حاول محاولة أخيرة ليصل بنفسه إلى درجة اليأس منها. فقد مال نحوها ليطبع على خدها قبلة كان يعلم مقدما أنها سترفضها؛ فآلمته عنقه، وتقلصت عضلات وجهه. قالت إلفيرا وهى تضحك:

ـ لو كنت مكانك للزمت الأدب. ولكنك كسائر الرجال لا تستطيع أن تنسى للحظة أنك ذكر.

ثم قالت برفق:

ـ أعتقد أن بإمكاننا الآن أن نفعل شيئا من أجل عنقك. هيا قم بنا.

وأمسكت بيده. قال:

 ـ وماذا يمكنك أن تفعلى من أجل عنقى؟

قالت:

 ـ سأدلكها لك.

قال:

 ـ أشكرك شكرا جزيلا؛ فأنا أفضل أن أنتظر حتى تظهر نتائج الأشعة وعندئذ يتخذ المختصون في المستشفى الإجراءات اللازمة.

قالت:

 ـ دعك مما قالوا. صدقنى إنهم يضخمون الموضوع. تعال معى.

 ـ ولكن التدليك يحتاج إلى تخصص.

 ـ سوف ترى أننى متخصصة.

وكان مترددا حتى تذكر أن التدليك قد يقربه منها.

واستلقى على بطنه بعد أن عرّى نصفه الأعلى كما أمرته. قالت:

 ـ وما رأيك فى الاستماع إلى شيء من الموسيقى؟ سوف تساعدك على الاسترخاء. تستطيع أن تختار الاسطوانة التى تفضلها. أو دعنى أختر نيابة عنك.

ومسحت كفيها بالكريم وأمسكت بعنقه في حزم:

ـ والآن أريدك أن تغمض عينيك وتستسلم لى تماما.

قال لنفسه: "أسلمها عنقك كما تريد. لعل تيار الرغبة الذى يسرى فى دمائك ينتقل إليها."

وقالت كأنما كانت تقرأ أفكاره:

ـ ولا تفكر فى الجنس. إن ما نقوم به ليس عملا شهوانيا. إنس الآن أنك رجل وأننى امرأة. استرخ. اترك عنقك لى. جميل. هذا أفضل. أريد المزيد من ذلك.

وطوقت عنقه بكلتا يديها وأخذت تمسح عليها برفق وتتحسس بأناملها كل جزء على حدة. وكانت تتوقف لتسأله ما إذا كان ذلك موضع الألم. وبعد أن طافت بكل أجزاء عنقه بما فى ذلك الفقرات العليا من العمود الفقرى وملتقى عنقه بكتفيه قالت:

 ـ أنت من النوع الذي يصعب عليه الاسترخاء. تبدو هادئا ولكنك متوتر فى قرارة نفسك. أستطيع أن أحس بذلك فى عضلاتك. عندما تقرر الزواج أو اتخاذ عشيقة دائمة عليك أن تشترط أن تكون ماهرة فى التدليك لأنك فى حاجة إلى ذلك. وأستطيع أن أخبرك على الفور ودون أشعة أن السبب الأساسى لآلامك هو أن الجزء الأعلى من عمودك الفقرى ـ الجزء الذي يمر فى عنقك ـ مشوه شيئا ما لأنه شديد التقوس. ويبدو أنك ولدت هكذا. وهو نقطة ضعف فيك. الرطوبة تضرك ولفحات البرد والانفعالات الشديدة كالغضب والإرهاق وحالات الاكتئاب والشعور بالحرمان. إذا أصبت بالاكتئاب فلا تندهش إذا ظهر أسفل عنقك. هنا على وجه التحديد. وأنا متأكدة من أن الحمامات الساخنة تفيدك. والأفضل من ذلك السباحة بصفة منتظمة إذا كنت تجيدها. فإذا لم تكن تجيدها عليك أن تتعلمها. ولما كنت شبه متأكدة من أنك لن تجد من قوة الإرادة ما يكفى لممارسة السباحة بانتظام فليس أمامك إلا الحمامات الدافئة والتدليك وممارسة الجنس مع من تحب.

ـ تقولين ذلك وأنت تمارسين الجنس مع من لا تحبين؟

فضحكت:

ـ لا تقارن نفسك بى، فعنقى ليست مشوهة.

وهكذا مضت تثرثر. وكان صوتها يخفت أو أنه كان يبتعد بالتدريج. ولعل آخر ما سمع من حديثها همسها: "أصغ إلى بتهوفن. دع الموسيقى تسرى فيك."

 كانت "الباستورال" تصدح بينما كان حديث إلفيرا يتحول إلى همس. ثم انقطع الهمس ولم يبق إلا اللحن الذى استولى عليه وسحبه شيئا فشيئا إلى مراع ممتدة من الخضرة اليانعة والنوّار والنور …وفى الأفق رأى ما يشبه قوس قزح. ورأى نفسه يعدو نحو الألوان الزاهية. ثم غاب كل شئ.

وكان أول ما فعله عندما أفاق أن نهض جالسا:

ـ إلفيرا يبدو أننى نمت. كم من الوقت نمت؟

قالت:

ـ نصف ساعة. فكيف تشعر الآن؟

فتلفت إلى اليمين ثم تلفت إلى الشمال وطاوعته رقبته فى الحالتين وصاح:

ـ إلفيرا، لقد شفيت. لقد شفيت.

واندفع نحوها يحاول أن يقبلها فأدارت خدها، وهناك وقعت قبلته:

 ـ لقد شفيت! لا أكاد أصدق. أين تعلمت هذا الفن؟

 ـ فى بلادى. لقد احترفت التدليك قبل أن آتى إلى هنا لأدرس اللغات الشرقية.

ـ تدرسين اللغات الشرقية؟ فلماذا لم تخبرينى؟

ـ لأنك لم تسألنى.

ـ إذن أنت تعرفين العربية.

ـ قليلا منها؛ فأنا متخصصة فى الفارسية.

وركع عند قدميها:

ـ لدي رجاء.

ـ تستطيع أن تطلب أى شئ إلا ما نهيتك عنه.

ـ أوافق على شروطك. إبقي هنا. أقيمى معى كما تشائين. ليس لدى شروط.

ـ بل سأذهب.

ـ أنا أعنى ما أقول. لنكن أصدقاء كما تريدين. على أى حال إذا حدث وبدرت منى بادرة لا تروقك، فبإمكانك عندئذ أن تذهبى.

ـ كلا، الأفضل هو أن أجتاز هذه المحنة وحدى.

ـ ولكننى لن أتدخل فى شؤونك. كل ما أريده هو أن تبقى هنا.

ـ أشكرك، ولكن ينبغى أن أذهب. فى بعض الأحيان تنتابنى لحظات ضعف، ولكن ينبغى الآن أن أكون قوية. ينبغى أن أثبت لنفسى أننى قوية.

وكانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل عندما وقفا بالباب الخارجى. قال إبراهيم وهو يمسك بيدها:

ـ سوف تتصلين بى أو نلتقى بين حين وآخر كما اتفقنا. ولكن تمهلى.

ومضى إلى الشقة ليعود بعد قليل حاملا الراديو:

ـ هو لك مادام يروق لك. خذيه سيساعدك على النوم.

ـ لا أريده الآن. لا داعى لذلك؛ فأنا عائدة.

ولم يفهم إبراهيم. فقالت:

ـ أنا عائدة.

ـ بطبيعة الحال. تعالى وقتما تشائين ولكن خذى الراديو فهو لك.

ـ قلت إننى عائدة. سآتى لأقيم معك.

قال إبراهيم في استنكار:

ـ وجورج؟ أم أنك تريدين أن تجمعى بيننا؟ لن أوافق. والأفضل أن تبقى معه.

فعانقته:

ـ بل سآتى وحدى بعد أن أتخلص منه. لا بد أن أواجهه للمرة الأخيرة وأتخلص منه.

ـ سأنتظرك، ولكنى لا أكاد أصدق.

ـ هل تريد دليلا على ما أقول؟

ـ وهل يمكن أن يكون هناك دليل؟ سوف تذهبين وتخلو شقتى منك. وماذا يمكن أن يضمن لى فى غيابك أنك ستعودين.

ـ أستطيع أن أثبت لك أننى أعتزم العودة. تعال معى.

واقتادته إلى سيارتها:

ـ لديّ بعض المتاع في السيارة. تستطيع أن تساعدنى في نقله إلى شقتك.

قال ابراهيم عندما رأى ما هنالك من "متاع":

ـ أهذا هو متاعك؟ مجموعة من اللوحات والرسومات؟

ـ هذه اللوحات والرسومات هى أعز ما لدى. إنها أعمالى فى السنوات الثلاث الماضية؛ وهى أفضل ما أنتجت حتى الآن.

ثم وضعت على المائدة صندوقا صغيرا كانت تحمله:

ـ وهذه مجوهراتى. لقد جمعت اليوم أثمن الأشياء لدى حتى أبعدها عن يدى جورج، لأنه قد يدمر بعضها ويستولى على البعض الآخر فى سورة غضبه. إننى أتركها الآن أمانة لديك حتى أعود. ألا يكفيك هذا دليلا على صدق عزمى؟

وعند باب البيت شعر أنه لا يقوى على فراقها. فجلس على العتبة وجلست إلى جانبه. قال:

ـ حاولى أن تفهمى. أنا قلق بشأنك. أخشى ألا تنجحى فى الاختبار.

وقالت تعاتبه:

ـ ينبغى أن تشجعنى، أن تستمر فى توجيهى نحو حسن السلوك.

ـ وهل فعلت ذلك حقا؟

فلفت ذراعها حول كتفه، ومالت نحوه:

ـ لقد أفسدت خطط شياطينى أكثر من مرة. عندما استيقظت بالأمس وجدتنى أشعر بالضياع، فخرجت للصيد. وقد مر وجودى بجانبك فى السينما على خير لأنك لم تحاول التحرش بى. وبعد ذلك رفضت أن تكون وسيلة للمتعة العابرة. فلو انك سمحت لى بقضاء الليلة معك، لانتقلت أنا إلى فراشك. أنت إنسان يستحق ما هو  أفضل.

وشدته إليها، وقبلته على وجنته.

وسألها عند باب السيارة:

ـ كم من الوقت سيقتضى اجتياز المحنة؟

ـ شهرا أو شهرين على أكثر تقدير. الخطوة الأولى هى أن أواجه جورج وآمره أن يغرب عن وجهى إلى الأبد. والخطوة الثانية هي أن أعيش وحدى دونه ودون رجال. أى ألا أذهب إليه جاثية على قدمى وألا أخرج للصيد.

ـ ولكنى لا أعتقد أن "إدمانك" سيزول بهذه السهولة.

ـ ولكنك ستساعدنى بعد تلك الفترة.

ـ أنا مستعد لمساعدتك أثناء تلك الفترة. ودون شروط. سأكون مجرد صديق.

ـ سوف نرى.

وهمت بركوب السيارة فشدها إلى صدره:

ـ عودى إلى فأنا فى حاجة إلى صداقتك.

ووقف يرقبها وهي تبتعد بسيارتها. ورآها تنحرف عند المنعطف ثم تختفى تماما. وقف هنالك يدير عنقه تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار. فما زالت عنقه تطاوعه. ولكن إلفيرا اختفت. وأطال الوقوف بالباب لا يقوى على العودة إلى شقته.  وكان يدور بعينيه فى الميدان المواجه للبيت ويتوقف عند كل شيء: أعمدة النور، كابينة التليفون المطلية بالأحمر، شجر الحديقة التى تتوسط الميدان، البيوت البيضاء عالية السقوف التى تحد الميدان من ناحية اليمين، وهى الناحية التى انحرفت بسيارتها منها. وفى أنوار الميدان الخافتة بدا كل ما حدث وكأنه حلم: "أيها الزائر الجميل.". وهنالك ومنذ تلك اللحظة بدأ انتظاره للزيارة التالية.