هل الحفرة الساخنة في هذه القصة هي تلك الحفرة المتربة في الموقع القذر القائظ أم أنها حفرة الحرمان من الخروج والحياة السليمة؟ أم تراها حفرة الحروب التي مني فيها العربي بهزيمة بعد أخرى؟

حفرة ساخنة

إبراهيم سبتي

 

تأخذني العبرة وأكاد أجهش ببكاء مر وأنا أتذكر كيف صاح بي آمر وحدتي في ظهيرة قائظة من يوم نسيه التاريخ وصار نسيا منسيا. اليوم الأخير من شهر تموز من احد الأعوام التي نسيت هي أيضا وصارت ذكرى خائبة ورقم في مفكرة السنين العجاف. اليوم هو آخر يوم لنزولنا من حفرة الصفيح إلى هواء نقي نتنفسه بعد فساد المكان أربعين يوما. سوف نسير مئة متر برؤوس مطأطأة وظهور محنية. عشرة سيتركون قيظ الصفيح دفعة واحدة. الرؤوس النازلة ليس خيارنا، انه خيار وإرادة الموت.الموت هنا، الحقيقة الأولى في تاريخ حفرتنا والحفر المجاورة. لا غيره يزورنا او نزوره مطمئنين راضين. ألفناه محلقا فوقنا او متسترا برداء الليل المخيف. فلا الليل لغفوتنا التي نتمنى، ولا النهار بأهون منه. كلاهما يتسيدنا ونحن له طائعون لا حول لنا منه.

لا من يرجى سؤاله عما يحدث! لا جواب عما يحدث!

السؤال الأول ولا غيره:

 متى النزول من الحفرة الساخنة الى الأسفل الطليق ؟

لا غير السؤال هذا نتداول كل لحظة..

 وعندما نيأس من دوران الكلمات فوق رؤوسنا ولا مجيب، نرتضي بالهوان يسري في دواخلنا ولا من صاد له ولا مخلص..

 الأجوبة هنا قصيرة جدا، تذكرنا دوما بما يريده مدرس اللغة الانكليزية منا حين يقول الإجابة كلمة واحدة لا غيرها! لا ادري ما الذي يذكرني بذاك الطيب الهزيل وهو يذرع الصف بقامته الفارعة وصوته كأنه ينساب من الأعالي يصعب سماعه. ولا ادري أين هو من هذا الموت الآن ولو انه بعيد عنا!

بعيد؟

ولكننا كالمسافرين بعربة واحدة يصيبنا ما يصيبه حتما..

صفنت مرة وأنا اسمع دوي الرعب، لماذا كل ذلك ؟

ليس من مجيب على سؤالي، لأنه كان خفيا في دواخلي أخشى إظهاره! عشرة برؤوس زاولت لعبة الخوف بضمائر مبردة، هنا كل شيء يتحول الى خسارات متلاحقة.. الصمت، الجنون، الخوف.. ما عليك إلا أن تصدق ما يحدث وغير ذلك ستندم.. مكابدات وانين الحسرات لاتنقطع في ليل بهيم او نهار كالح.. فكلاهما سيان.. الصفيح من فوقنا وتراب الحفرة من تحتنا.. عشرة سوف يقطعون الليل باجسام منهكة تحمل رؤوسا متدلية، مئة متر او يزيد قليلا حتى بلوغ منطقة يكون الرأس فيها قد استعاد وضعه.. والظهر يستقيم دون انحاء..

مائة متر، يالهولها! كيف سنقطعها تحت انظار الموت الشاخص دوما ؟ في ظهيرة القيظ وتحت مساخن الصفيح اللاهب.. يصيح بي آمري من متر خلفي، خارج الصفيح. لم اشأ الرد عليه او بالخروج من حفرة أبعادها مترين في متر واحد.. لا ادري من أين جاءت فكرتي بعدم الرد! مع أني كنت احزم ما تيسر لي من احمال ترافقني في مغادرتي..

صاح مرة أخرى وأخرى، ضج المكان بصراخه وهيجانه.. لم استقبل تخرصاته بشيء من الاكتراث.. لم يثرني غضبه، لكنه هددني بالعقوبة.. العقوبة هنا اكثر مأساوية وفجيعة من الموت نفسه.. قطع الاجازات والحرمان من النزول الى مدننا البعيدة هي عقوبتهم المثلى! قطع الاعناق ولا قطع الاجازات، قلت.

انها عقوبة مميتة لشخص مثلي يريد ان يتنفس هواء منعشا نقيا وينسى ازيز الموت الجاري كالنبع لا ينقطع.. لم اهتم بأي كلام صدر منه.. كنت منشغلا بعدتي وبعض متاعي الذي ساحمله معي لحظة وضع ورقة الاجازة في جيبي.. الاخرون الذين سيسمح لهم بالنزول تسعة، وهذا عدد ضخم لوجبة واحدة، الوجبات الاخرى كانت لا تتجاوز الخمسة.. صاح وعربد وأنهال علي بالسباب والشتائم..

 لم يثرني شيء طالما لم أره ولم يراني وكل ما يحدث كان من خارج حفرة الصفيح..كم من الوقت يستغرق جمع عدة السفر ؟ دقائق معدودات.. قد لا تتجاوز غيرها. قلت ما ضر لو أجبته ؟ ما نفع العناد وأنا مقبل على اجتياح عالم الهواء النقي بعد لحظات! كنت لا أتأخر دقيقة واحدة حين يأمرني بشيء، لأنه آمري وله كل الحق في معاقبتي وربما حرماني من النزول الى مدينتي التي تبعد مسافة يومين مجازا مسرورا.. لم افكر طيلة خدمتي ان اعصي أمرا ما مهما كان صعبا أو خفيفا رغم هول اللحظات وتطاير شظايا الموت في أرجائنا.. حين أدنو منه أحيانا اشعر بضآلتي أمامه.. لا اعرف لماذا تأتيني تلك الدونية مع أني لم ارتكب إثما ما أعاقب عليه.. ولكنه لا يتذكر مرة أني فعلت له شيئا لم يفعله غيري عندما خلصته من مأزق! لا بل لحظة يمكن ان يتلاشى كل شيء في جسده ويصير ذرات تختلط بالتراب وينتهي كل شيء!

لحظة تطيح بكل عنفوانه وتكلفه المصطنع..

مؤكد انه لم ينس تلك اللحظة ما حيا.. انه لا يريد كسر مهابته المهلهة أمامي. تغافله يجعلني صغيرا لا حجم لي وأكاد اركل نفسي او اقتلها من شدة تخاذلي المرير.. لا يتذكر ولو لمرة اني سحبته من ياقته وأرديته ملفعا بتراب الأرض الميتة المقفرة وألقيت بنفسي بجانبه صارخا كالملسوع، حينما شككت بشيء مدفون ناتيء قليلا امامنا نقترب منه، ونحن نتجه خلفا الى موقع الطبابة، سائرين لعيادته من حمى انتابته..

 لم يرتض لنفسه وقتها ان يطاح به أرضا حتى لو كان فم الموت على وشك ابتلاعه..

صرخ بي ولعن اليوم الذي جئت فيه الى وحدته منقولا من وحدة اخرى! لكني سمعت في هياجه بضع كلمات يتوعدني فيها.. كان يرتدي بزة كاكية مرصعة بنجوم مذهبة.. شتم وعربد وصرخ كأنه وحش فلت من قفصه المقضبن بالفولاذ.. هدأت فورته، وطلب تفسيرا لما ارتكبته بحقه.. كلمتان فقط اطلقتهما ببردة اعصاب لا نظير لها:

لغم سيدي!

وجهه غاص في ذهول وخوف وغزت صفرة مفاجئة وجهه الحنطي!

لحظات وحاول إعادة هيبته الى وضعها أمامي، رغم أني اعرف تكلفه في ذلك وانه يرتجف وأكاد اسمع اصطكاك أسنانه بوضوح.. لم يتكلم وأخذته صفنة عظمى لم أره قبل ذلك إنها انتابته قط..

رد بتلعثم:

لا يخيفني!!

أحسست انه يداري خوفه وعجزه وحيرته أمام رهبة الموقف.. لم اكترث لرده الذي أراد به تجريدي من لحظة إنقاذ ستحسب لي حتما..

 لكني لأول مرة قررت الرد عليه وإنهاء زمجرته:

سأخرج بعد دقيقتين!

لم يعجبه ردي.. لكن هدوء ساد للحظات.. دهشت، انقطع خيط الهدوء بلعلعة الرصاص المتدفق نحو صفيح الحفرة! صار السقف كغربال.. دخلت خيوط الشمس من ثقوب الصفيح تنحيت جانبا، فزعا من موت قريب مني.. صرخت أنا ولا احد سواي.. أكاد أموت من خوف مفاجيء، أجبته:

نعم!

لم يرد!

أخرجت رأسي المعتمر بخوذة كالمتلصص، أحاول معرفة ما يحدث.. كان مصوبا بندقية نحوي!

أول مرة أرى فوهة مصوبة نحوي، انسابت أمامي كلمات العريف أول دخولي الخدمة.. كان يقول دائما:

لا تصوب فوهة البندقية أمام زميلك حتى ولو أثناء الصيانة وهي فارغة، فقد تخرج طلقة محشورة ليست في حسبان احد!

شعرت برجفة خوف تسري بي.. قلت له متوسلا:

أبعدها أرجوك!

لم يكترث، لكنه قال بشيء من التحدي:

تكسر كلامي ؟ لا طاعة لي بعد الآن أمام الآخرين بسببك!

ارتجفت كنبتة هزيلة في ريح هائجة، أجبته بلهجة الطائع الخجول:

أمرك، ما تطلب مني؟

رد بعنفوان وتعال:

فات الأوان، لا أريد الا التخلص منك!

كانت الفوهة مصوبة نحو رأسي الظاهر من الحفرة، ولكني فجرت مكامنا في مخيلتي المنهارة وقلت بخشوع:

لقد انقذت حياتك ذات مرة! ربما لو لم افعلها لكنت الان ذكرى تمر كسحابة عابرة!

شعرت بأن الوجه المكفهر عاد متراخيا ورأيت يده تهبط نحو الاسفل، حينها امرني بالتوجه زحفا على بطني بين الأحجار والحصى الى حلاق الوحدة ليحلق شعر رأسي نمرة صفر واحبس ثلاثة أيام واحرم من إجازتي الدورية..