غالبًا ما تتم مقاربة ظاهرة التطرّف الديني الإسلاميّ والحركات الإسلامية العُنفيّة، خصوصًا في أوساط السلطة، انطلاقًا من محدّدات أولية هي: أنها انحرافٌ عن إسلام حقيقي تمثّله السلطة وتأويلاتها للدين؛ أنها ظاهرة طارئة لاتاريخيّة وفجائية: مرضٌ ظهر من الفراغ وفي غفلة من الجميع، وينتقل بالعدوى؛ وأنها ظاهرة وحشية دموية معتلة نفسيًا تُعنى فقط بالقتل والعنف، ولا تملك أية أهداف أو مشاريع سياسيّة؛ وأنها محض ظاهرة فكريّة عَقَديّة مُنقطعة عن المقدمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولة والنظام، وتاريخهما، وجذور نشأتهما، وفشلهما. هذه المقاربة الساذجة والتبسيطية لأسباب التطرف لها هدف دعائيّ مُحدّدٌ وواضح: أن السلطة ودولتها ليس لها علاقة من قريبٍ أو بعيدٍ بإنتاج هذه الظاهرة أو تطورها؛ وبالتالي، ولأنها ليست السبب، فهي إذن قادرة على تقديم «الحلول» لمعالجتها، أو أنها هي الحلّ بعينه، دون أن تعمد إلى أي تغيير في بُناها الاقتصادية، القائمة على الخدمات، والوكالات، وتراكم الثروة بيد القلة المحتكرة، مقابل ازدياد الفقر وتراجع الطبقة الوسطى، وبناها الاجتماعية القائمة على المُحافظة الدينية والتقاليدية، وبناها السياسية القائمة على احتكار السلطة، ومنع أية شراكة سياسية في الحكم. البُنية الوحيدة التي تعتمدها السلطة كمُنتِجٍ أساسي للحركات الإسلامية المتطرّفة العُنفيّة هي الثقافة، بأبعادها المختلفة: التربويّة، القِيَميّة، العَقَديّة، وغيرها.
التطرف الديني باعتباره كائنا فضائيا:
بهذا التشخيص الثقافي، تستطيع السلطة تثبيت نفسها من جهة («ليس لنا يد في إنتاج هذه الظاهرة»، تقول السلطة)، واكتساب الشرعية من جهة ثانية («نحن القادرون على مكافحة هذه الظاهرة وحمايتكم منها»، تقول السلطة)، والإطباق على آخر مساحات الحريّة والمنافسة السياسية المتاحة للأفراد والجماعات من جهةٍ ثالثة، من خلال استخدام الحلول الأمنيّة («سنقضي على بؤر التطرّف لمنع انتقال عدواها»، تقول السلطة، دون أن تأتي على الأسباب الموضوعية المُنتِجة للتطرّف)، واستخدام أساليب الدّعاية المختلفة لإعادة إنتاج الأفراد في قالب شموليّ يخترق المنزل والمدرسة والجامعة والجامع وصولًا إلى الجمعيّة والحزب والنقابة. مثل هذه المقاربات تمثّلت لي وأنا أقرأ بنود الخطة الوطنية لمواجهة التطرّف، التي أعدّتها الحكومة الأردنية عام 2014، وبقيت في الأدراج غير مُعلنة إلى أن نشرتها صحيفة الغد الشهر الماضي. التطرّف الديني باعتباره كائنًا فضائيًا لا تتعامل الوثيقة مع التطرّف الديني والحركات الإسلامية العُنفيّة بصفتها إفرازات وتعبيرات سياسية، بل هي مجرّد خلل ثقافي/ معرفيّ/ عَقَدي: انحرافٌ عن حقيقة الدين، وتعكير لصفائه، وتشويه لصورته. الحل في مواجهة ذلك؟ أن تحتكر السلطة تفسير الإسلام، فتقوم -من جهة- بتكريس الإسلام كجوهر مُطلقٍ مُغلق على معانٍ مُحدّدة، لاتاريخيّة، هي «الدين الحق»، ولها هي وحدها صلاحيّة تفسيره وتأويله، وبالتالي تكون النسخ الأخرى من الإسلام، والتفسيرات الناتجة عنها، باطلة، منحرفة، خوارجية، كافرة، مرتدّة، يجب تصحيحها بالنصح (الحوار) أو العنف (السجن، القتل).
هذه القراءة التي تُسبغ جوهرًا على الإسلام، وتحتكر تفسيره وتأويله، وتُبطل القراءات الأخرى، هي الوجه الآخر للقراءة السلفيّة للإسلام: فهذه أيضًا تعتبر الإسلام جوهرًا لاتاريخيًا، وتُسبغ على تفسيرها وتأويلها للإسلام الأحقيّة المُطلقة، وتعتبر كل قراءة أخرى مغلوطةً/ منحرفةً/ مرتدّة/ كافرة يجب تقويمها بالنصح (الاستتابة والالتحاق) أو العنف (القتل). لا تذكر الوثيقة أي أسبابٍ اقتصاديّة اجتماعيّة للتطرّف الديني، فليس ثمة حديث موسّع عن البطالة، والفقر، وفشل مشاريع التنمية، وانعدام العدالة الاجتماعية، وتراجع الطبقة الوسطى، واحتكار الثروة، والفساد، والفشل المؤسساتي، وانعدام المعيارية والجديّة في تطبيق القانون على الجميع، واستسهال استصدار القوانين وتغييرها لتمرير مصالح محددة (قانون صندوق الاستثمار الأردني مثلًا)، واستسهال تعديل الدستور جيئة وذهابًا بحسب الموسم السياسي (منع، ومن ثم السماح لمزدوجي الجنسية بتولي المناصب العامة مثلًا)، وهو ما أدى إلى عدم الثقة بالقانون والتنمّر عليه، وتحوّل العنف المجتمعي والجامعي إلى أشكال وبائية، واللجوء إلى أشكال التقاضي العشائري كبديل عن مؤسسات القضاء النظامي البطيئة وغير الفعالة والتي لا تحظى بالثقة.
لا تلحظ الوثيقة شيئًا من هذه الظواهر، ولا من الاختلالات البنيويّة التي أنتجتها، ولا من تبعاتها وتأثيراتها، ولا جذورها النابعة من فشل الدولة الوطنية ما بعد الاستعمارية في كل شيء تقريبًا: فشل هذه الدولة في التنمية؛ وتبعيّتها شبه الكاملة للقوى الكبرى الراعية لها، وخضوعها لتأثيرها المباشر وتوازناتها حتى في أصغر الأمور؛ وهزيمتها عدّة مرات أمام العدو الذي تذرّعت بمواجهته لتعطيل التنمية ومصادرة الحريّات قبل أن تعقد «سلامًا» مُذلًا معه؛ وهي ليست حتى ذات وزن يذكر على المستوى الإقليمي. الأمر الوحيد الذي نجحت فيه هذه الدولة كان تأسيس آليات الفساد الداخلي، واحتكار الثروة، واحتكار السلطة، وإجهاض أية إمكانية أو احتمال للشراكة أو المنافسة السياسية من خلال تفكيك التنظيمات المدنيّة (الأحزاب، النقابات، الجمعيات) أو احتوائها، والسكوت عن أشكال التنظيم ما قبل المدنيّة (الجهوية، العشائرية، الإقليمية، الطائفية) أو دعمها، وتركيب شبكة علاقات زبائنية مُعقّدة مع المجموعات الاجتماعية المختلفة التي عملت عمدًا على إبقاءها مفككة وعدم تحويلها إلى مجتمع. السلطة إذ تمهّد الأرض للحركات العُنفيّة كل ما سبق من عناصر مهمة وأساسية في توليد التطرّف والحركات العُنفيّة، وتهيئة الأرض لها على المديين المتوسط والبعيد، يغيب عن الوثيقة، بل إن الممارسة اليومية للسلطة تميل إلى تعزيز أكبر لهذه الاختلالات، وبالتالي توليد التطرّف.
فشل الدولة وتوليد التطرف:
وأورد تاليًا بعض الأمثلة. أولًا، التعديلات الدستورية الأخيرة التي ثبتّت -دستوريًّا- رأس الدولة كحاكمٍ مطلق، تجعل من الشراكة السياسية الواسعة في السلطة أمرًا مُستحيلًا، وتُفرغ كل ما بقي من المؤسستين التشريعية/ الرقابية والقضائية من معناهما، وتُلحقهما بالطبقة الحاكمة وجهازها التنفيذيّ/ الأمنيّ/ العسكريّ. ثانيًا، قانون الانتخابات الجديد لا يدفع باتجاه معالجة المصائب السياسية والاجتماعية التي أدى إليها قانون الصوت الواحد المجزوء، بل ينقل الصوت الواحد إلى داخل القوائم (أعضاء القائمة الواحدة يتنافسون فيما بينهم للحصول على أعلى الأصوات؛ وتظل القائمة موجودة وتحظى بحصتها من المقاعد حتى لو انسحب جميع أعضائها باستثناء واحد)؛ وهو مُصمَّم خصيصًا لمنع صعود أغلبية برلمانية (من خلال الباقي الأعلى، وعدم تحديد عتبة للنجاح)؛ ولا يشجّع على تشكيل القوائم العابرة للمحافظات والمناطق والأديان والإثنيات (يمكن أن يحصل هذا في حال تم اعتبار الأردن دائرة انتخابية واحدة، لكن القانون الجديد يعتبر كل محافظة دائرة واحدة، ويستمر في فصل دوائر البدو لوحدها، أما كوتا الأقليات فيتم اختيار الحاصل على أعلى الأصوات من المتنافسين دون النظر إلى قائمته).
كل هذا سيؤدي إلى إحجام نسب كبيرة من الناس عن التصويت (كما توقّع استطلاعان حتى الآن)، وإلى إعادة إنتاج برلمان هزيل يكون ألعوبة بيد السلطة التنفيذية، مما سيزيد من ضعف ثقة الناس بمؤسسات الدولة، مما قد يرفد التطرّف الدينيّ بمزيد من الكوادر. ثالثًا، التساهل والمزاجيّة في تطبيق القانون (قانون السير مثلًا)، أو عدم تطبيقه على الإطلاق (قانون منع التدخين في الأماكن العامة مثلًا)؛ وعدم احترام النواب المُشرّعين، والوزراء المنفّذين، للقانون (لوحات سيارات بعض النواب، والاعتداء على أراضي الدولة، كأمثلة)؛ وتكريس القوانين العشائرية كبديل عن المدنية، ومشاركة أجهزة الدولة ووزرائها في العطوات الأمنية والاتفاق على الجلوات؛ والاعتقال الإداري من خلال قانون منع الجرائم؛ وفصل قوانين الأحوال الشخصية عن القانون المدني وإلحاقها بالقوانين الدينية الخاصة بكل طائفة؛ كل هذا يدمّر «دولة القانون» و«المواطنة»، ويؤسس لانفكاك الناس عن بقايا الدولة، والتحاق كثير منهم بالعائلة والعشيرة، والتحاق بعضهم بمشروع يعرفونه جيدًا ودرسوه في المدارس وتلقوا أبجديّاته في البيوت منذ نعومة أظفارهم: المشروع الدينيّ الإسلاميّ. ورابعًا، تكريس العنف والاحتفاء به، وسأفرد لهذه النقطة فقرة مستقلة.
العنف النيّء: من الأغاني الوطنية إلى الجهاد المقدّس:
تقبل السلطة العنف وتتسامح معه، فجرائم «الشرف» مثلًا لا تزال تستدرّ تعاطفًا مُعلنًا أو مُضمرًا مع المُجرم، وإلى اليوم يتم معاقبة الفتاة المُهدَّدة عبر توقيفها إداريًا ويُترك أولئك الذين يُهدِّدونها بالقتل أحرارًا طُلقاء. أما الأغاني الوطنيّة التي تحظى بتشجيع ورعاية وتمويل رسمي، فهي تمجيدٌ مُطلقٌ للعنف، تدعو دون خجل إلى القتل و«طقطقة العظام»، وتُحوِّل –بصريًّا ونفسيًّا- السلاح واستخدامه، والتشكيلات العسكرية، إلى شيء يشبه النشوة والرغبة، إلى حالة فيتيشيّة مُستبطنة: قيمة مُعلّقة تنتظر المحفّز المناسب لتصير واقعًا. وحين ينفكّ العنف عن المفهوم الوطنيّ المُهلهل الملتصق به، حين ينفكّ عن الدعاية المبتذلة المرافقة له، يصبح عُنفًا مُجرّدًا قابلًا لإعادة الإلصاق والتشكيل في سياق أيديولوجيّ مغاير (أو مناقض)، وإذا صدف أن كان السياق دينيًّا، يصير العنف هنا مقدّسًا.
تعرف السلطة هذا الكلام جيّدًا، ولهذا تقوم بفصل سجناء التنظيمات الإسلامية العنفيّة عن بقية السجناء الموقوفين أو المحكومين على ذمة قضايا جرمية؛ ويعرف سجناء التنظيمات الإسلامية العنفيّة هذا الكلام جيّدًا، فالمجرم (والأزعر) يمثّل عُنفًا نيِّئًا، شريرًا، يكفي أن يُنفَض عنه احتقاره لذاته ويُلصق به غاية سامية، ليصير العنف مُبرّرًا ومُقدّسًا. أبو مصعب الزرقاوي قائد تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، والأب الروحي لتنظيم داعش، أتى من هذا المسار بالتحديد. بينما تُؤسطر السلطة العنف، وتُحوّله إلى قيمة، وتُكرّس أدواتها الدعائية لنشره وترسيخه، يكمن التنظيم الإسلاميّ العنفيّ منتظرًا لحظة «الكشف»، لحظة سقوط الغلاف الدعائيّ المُهلهل وبروز اللبّ النيّء، عندها يُقدّم التنظيم طريقه البديل: مُجرّد إعادة توجيه لعنفٍ مُؤسطر يُلحق بمشروع معروف للجميع جيدًا إذ درسوه في المدارس وتلقوا أبجدياته في البيوت منذ نعومة أظفارهم: المشروع الدينيّ الإسلاميّ. اللعب في ملعب الخصم وبقوانينه: تأويل الإسلام وتفسيره لصالح التشدّد والإقصاء يرتكز الفهم المُتشدّد الإقصائي للإسلام على ركيزتين أساسيتين: أولًا، اعتبار أن للإسلام جوهرًا حقيقيًا ثابتًا لاتاريخيًّا، وبالتالي بطلان وضلالة وكفر كل قراءة تخالف هذا الجوهر؛ وثانيًا، احتكار تفسير وتأويل وانتقاء النصوص الإسلامية وأحداث التاريخ الإسلامي بما يخدم ذلك الجوهر، واعتبار أي تفسير أو تأويل أو انتقاء آخر باطلاً.
فكيف تردّ السلطة بوثيقتها الاستراتيجية على مثل هذا الفهم؟ أبتشجيع القراءة النقديّة والتاريخيّة للإسلام والتاريخ الإسلامي؟ أم بالدعوة إلى حركة إصلاحية كبرى على غرار تلك التي قدّمها محمد عبده أوائل القرن العشرين، أو عبد الله العلايلي أواخره؟ بالطبع لا. تردّ عبر تبنّي نفس الفهم المتشدّد الإقصائي بركيزتيه المذكورتين. يردُ في مقدّمة الوثيقة ما يلي: «لعلّ هذه المنظومة الفكرية المتوازنة هي التي تعبر عن حقيقة هذا الدين، وهي التي ينبغي أن تشكل ملامح صورته دون تبديل أو تغيير.» يحتكر الخطاب، مباشرةً، ومن البداية، الحديث باسم «الحقيقة». وحقيقة «هذا الدين» جوهرية، مضمرة فيه، واحدة لا ثاني لها، جاءت هذه الوثيقة لتعبّر عنها، لتفسّرها وتؤوّلها، بشكل حصري، فنقرأ في النقطة 26 من القسم الخاص بوزارة الأوقاف في الوثيقة ما يفيد بضرورة: «إحكام سيطرة الوزارة على المساجد، وبسط سلطتها، وتعزيز برنامجها، ونشر فلسفتها، بما يضمن التزام الواعظين في كل المساجد بالمنهج الديني الذي تتبناه الدولة الأردنية، وتترجمه وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في فلسفتها وتوجهاتها وسياساتها.» فيما يرد في النقطة 7 من القسم الخاص بدائرة الإفتاء: «تعزيز دور دائرة الافتاء العام وتكريسها مرجعية دينية وشرعية».
«متناقضة الاعتدال»: كيف تقود الوسطيّة إلى التشدّد:
تختلف المقاربتان (المعتدلة والمتشددة) في المرجعية، وليس النهج. أما المرجعية فذاتية، انتقائية، تنتقي من ذات النصوص (القرآن والسنة والأثر) ما يُلائم أغراضها، وليس هناك من يحكُم فيها أيّها أصحّ إذ ينطق كلا الفريقين باسم المقصد الإلهي، لكن الميل لصالح التشدّد والتطرّف هو النتيجة النهائية، كما سيبيّن المثال التالي. حدّ السرقة في النسخة الدارجة للإسلام هو (كما يعلم الجميع، وكما يُدرّس في المدارس الأردنية) قطع اليد. سيقول قائلٌ مُتنوّر أن هذا كان في زمن قديم، لم تُعرف فيه السجون ومراكز الإصلاح والتأهيل والتدريب، ولا الدوافع النفسية والاجتماعية للجريمة، لذا فإن عقوبة مثل هذه تناسب تلك المرحلة التاريخية، أما الآن فالمجتمعات وإمكانيّاتها تطوّرت، ولا ضير من تطوير نظام العقوبات بما يتلائم وهذه التطوّرات. سأُجيب: تمام، هذه قراءة تاريخية للدين وتعاليمه، تفهمها في زمانها ومكانها ولا تأخذها على إطلاقها، لكن هذه القراءة ليست هي الإسلام الدارج اليوم عند السلطة، وعند المجتمع، وعند التنظيم الإسلامي العنفيّ؛ فهؤلاء الثلاثة يتّفقون على لاتاريخية الإسلام وثباته، وبالتالي يعتبرون قطع يد السارق حدًّا من حدود الله غير الخاضعة للنقاش أو التغيير. مما يوصلنا إلى ما سأسميه مُتناقضة (Paradox) الاعتدال.
تقوم متناقضة الاعتدال على أن السلطة نفسها، من خلال ترويجها للعنف، واستنادها إلى النسخة الدارجة من الإسلام كواحد من أساسات شرعنة وجودها، تضع كل شخص مباشرة أمام هذه الأسئلة: إن كان دين الدولة الإسلام (الدستور الأردني – المادة 2)، فلماذا لا تُطبّق الدولة تعاليم الإسلام؟ إن كان رأس الدولة ينتسب إلى «بيت النبوّة»، فلماذا لا تسير الدولة على النهج الذي أسّسته وجاءت به النبوّة؟ إن كانت المناهج التعليمية الرسمية (المدارس والجامعات) وغير الرسمية (المساجد ودور تحفيظ القرآن والعمل الدعويّ والدروس الدينيّة والعائلة) تقول (استنادًا إلى «صحيح الدين») أن عقوبة الزاني غير المُحصن الجلد، وأن عقوبة الزاني المُحصن الرّجم، وأن المشروبات الكحولية حرام، وأن المُرتدّ يُقتل، وأن قاطع الطريق يُقطع من خلاف، وأن الأديان الإبراهيمية الأخرى (المسيحية واليهودية) مُحرّفة، وأن كل شيء عدا الأديان الإبراهيمية الثلاثة كُفر، وأن الجهاد (القتال لنشر الدعوة الإسلامية) ذروة سنام الإسلام، وتُقدّم الغزوات والمعارك و«الفتوحات» الإسلامية خارج أي سياق تاريخي/ سياسي/ اقتصادي، باعتبارها معارك لنشر الدين ونقل الناس من الظلمات إلى النور، فلماذا لا تقوم الدولة بتطبيق هذه العقوبات والعمل بمقتضى هذه المفاهيم؟
هذه الأسئلة الجوهرية المشتقّة من نسخة السلطة من «الإسلام المعتدل»، تضع كل شخص أمام اختبار صعب نتيجته أن السلطة (ودولتها) لا تُمثّل حتى نسختها من الإسلام، وأن الفرد المائل إلى التشدّد بحكم التعليم والتنشئة، سيعاني من ازدواجية مستمرّة تميل إلى التسليم بالثوابت الدينية «الإلهية» غير الخاضعة للسؤال والبحث والنقد، تتفاقم بفعل الظروف السياسية و/أو الاجتماعية و/أو الاقتصادية، وتجهّزه لمرحلة انفجار لاحقة، محوّلاً المجتمع -بشكلٍ عام- إلى مجتمع متشدّد ينتظر أو يتقبّل الانتقال من التشدّد النظريّ إلى تطبيقات التشدّد العمليّة على أرض الواقع. فكيف سينبثق عن مثل هذه المقاربات ما من شأنه -كما يرد في الوثيقة- أن يسمح «بالتعدديّة وقبول الآخر سواء أكان رأيًا أم فردًا أم مجتمعًا أم دينًا أم ثقافة»؟
«مواجهة التطرّف» بالشعارات، والدعاية، والتطرّف السلطوي:
تمتلئ الوثيقة بالعبارات الشعاراتية التي لا تضيف شيئًا: جمل عامة مفتوحة، لا تنقد، ولا تشخّص اختلالات، ولا تخلص من مقدّمات إلى نتائج، ولا تبحث، ولا تدرس، وتقدّم الانطباعات الذاتية بصفتها حقائق نهائية، وتؤكد وتجزم دون دليل. لنقرأ معًا هذه العبارات (فقط من الفقرة الأولى للوثيقة): «الإسلام دين الوسطية والاعتدال والتسامح الذي جاء رحمة للعالمين» [ضع اسم أي دين أول الجملة وسيتشكل لديك نفس الكليشيه الصالح لكل المناسبات]؛ «هذه المنظومة الفكرية المتوازنة هي .. سر الدور الكبير الذي لعبه المسلمون في بناء الحضارة الإنسانية على مر التاريخ» [ليس ثمة شروط تاريخية واقتصادية واجتماعية وسياسية متعددة أدت إلى صعود وهبوط هذا الدور، ثمة سرّ وحيد اكتشفته الوثيقة بجملةٍ واحدة]؛ «أنها صمام أمان لبناء المجتمع السليم» [صمامات الأمان لا تبني المجتمع بل يفترض أنها تحافظ عليه بتنفيس احتقاناته، ثمّ: ماذا تعني عبارة «المجتمع السليم»؟]؛ «من المؤكد أن تفعيل هذه المنظومة المتكاملة هو الأساس في معالجة مظاهر الغلو والتطرف، التي بدأت تغزو المنطقة مستهدفة الشباب بشكل رئيس نتيجة ظروف عالمية وإقليمية ومحلية» [كيف تم التأكد من أن تفعيل هذه المنظومة سيعالج مظاهر الغلو والتطرف (وليس أسبابه؛ على الأقل الوثيقة صادقة بهذا الشأن)؟ وما هي هذه الظروف العالمية والإقليمية والمحلية؟ وكيف أثّرت؟ أليس تشخيصها مهمًا من أجل المعالجة؟]؛ وهكذا تستمر الوثيقة على ذات النسق من الكسل المعرفي والبحثي، والاطمئنان إلى الجمل المرسلة، وانعدام التحليل.
تحضر الدعاية بصفتها ركنًا أساسيًا من هذه الوثيقة، كبديل عن إحداث أي تغييرات بنيوية، فانطلاقًا من التشخيص «الثقافي» للمشكلة، تأخذ الحلول حصريًا شكل الدعاية المضادة المنطلقة من الجذر نفسه (النسخة الرائجة للإسلام). والحلول الثلاثة التي تطرحها الوثيقة هي أولًا، تكريس «ثقافة دينية إسلامية صحيحة أصيلة… [و] أن جانبًا مهمًا من أسباب التطرف الديني يكمن في التفسير الخاطئ للدين.» هذا الحل الدعائي يؤكد الفهم المتشدّد ويشرعنه لإسباغه جوهرًا صحيحًا وأصيلًا على الإسلام واحتكار تفسيره. ثانيًا، «إشاعة ثقافة مجتمعية سياسية ومدنية ديمقراطية»، وليس إحداث تغييرات سياسية واجتماعية تدفع المجتمع إلى المدنيّة والديمقراطيّة. وثالثًا، «تأصيل قيم التسامح والتعددية وثقافة احترام حقوق الإنسان وقبول الآخر وترسيخها». التأصيل يعني اشتقاق هذه القيم والمفاهيم المعاصرة من الإسلام، بما يُسبغ على هذا الأخير -مرّة أخرى- وجودًا لاتاريخيًا، ويجعله المصدر الأول والأخير لكل شيء، فيُعاد إنتاج التشدّد والحصريّة. أما الترسيخ فلا يُفهم هنا إلا على أساس الإشاعة الدعائية المحضة، لأن بعض آليات العمل المذكورة تفصيليًا في الوثيقة (انظر/ي أدناه) تتناقض مع هذه النقطة والتي قبلها، والموجودتان كغيرهما لأغراض العلاقات العامة والتعمية لا غير.
يؤكد الدور الذي تقترحه الوثيقة لوزارة الأوقاف ودائرة الإفتاء أن المقاربة الأساسية للخطة الوطنية لمواجهة التطرف هي الاستحواذ على شرعية الحديث باسم الإسلام وتفسيره وتأويله، فتقدم الوثيقة خطوات إجرائية كثيرة للتحكم بمنظومة الوعظ والإرشاد والخطابة والمساجد لضمان الالتزام بالخطاب الديني للسلطة وفلسفتها. وغنيّ عن القول أن هذه الشرعية التي يُراد احتكارها غير معترفٍ بها أصلًا لدى تيارات الإسلام السياسي، العنفيّ منها وغير العنفيّ، بل هي سبب أساسيّ لتعزيز حجج الخصم من خلال متناقضة الاعتدال السابقة الذكر. أما الدور المنوط بالوزارات والدوائر الأخرى في الوثيقة فمشابه، ويرتكز على تشديد المراقبة والضبط والتحكّم، أي إعطاء الأولوية للمقاربة الأمنية على أية مقاربات أخرى. كما نجد اقتراحات عجيبة لتقييد العمل السياسي والمجتمعي ضمن خطة مواجهة التطرّف، منها:
• «إعادة النظر في قانون الجمعيات النافذ لتحقيق ما يلي: زيادة عدد المؤسسين للجمعية، إضافة شروط جديدة إلى جانب الشروط الحالية الواجب توافرها في العضو المؤسس مثل شهادة حسن سير وسلوك»، أي أن واضعي الخطة يريدون وضع المزيد من العقبات أمام العمل العام المجتمعي، وإعطاء السلطة لجهاز المخابرات لقبول أو رفض دخول أي شخص للعمل العام، مما يؤدي إلى توسيع سطوة الدولة الأمنية، وبالتالي زيادة التطرّف.
• «عرض قانون نقابة المعلمين الأردنيين ونظامها الداخلي على المرجعيات القانونية المختصة لبيان الخيارات القانونية المتاحة لتعديله بما يضمن إنفاذ السياسة التعليمية التي تتبناها الدولة الأردنية». من الواضح أن وجود نقابة للمعلمين، إحدى الانجازات القليلة جدًا الناتجة عن الاحتجاجات المحلية المرافقة للانتفاضات العربية، يشكل صداعًا مستمرًا للسلطة، وواضح أن هذه الأخيرة تريد تحويلها إلى شكل مُفرغ يشبه النقابات العمالية الرسمية بأية ذريعة: تريد السلطة أن تُفرغ نقابة عمالية كبرى من مضمونها وتُلحقها بها: اليأس من آليات المشاركة العامة سيولّد للمزيد من التطرّف.
• «الحد من عقد الأنشطة السياسية في مجمع النقابات المهنية وفروعه في المحافظات». لطالما شكلت النقابات المهنية حاضنة للعمل السياسي والعام في الأردن. ورغم التراجع الكبير لدور النقابات المهنية في المجال العام، إلا أن الرغبة واضحة في شطب القليل المتبقي من هذا الدور: تريد السلطة منع أكبر الأجسام المدنيّة من ممارسة أي دور سياسي/ اجتماعي مهما صغر، وصولاً إلى اليأس من المشاركة العامة المولّدة للتطرّف.
• «مراعاة ردود الفعل الشعبية قبل منح الموافقات على إقامة أي أنشطة أو فعاليات فنية أو ترفيهية»، أي أن تتبنى السلطة المواقف المحافظة والمتشددة لمنع الفنون والرقابة عليها، كآلية لمواجهة التطرّف!
• «التأكيد على منع دخول غير المعنيين الحرم الجامعي إلا بتصريح مسبق». لطالما سعت السلطة إلى فصل الجامعات (منارات التعليم والتنوير المفترضة) عن محيطها بالأسوار والبوابات، ولطالما تعاملت مع الطلاب كخطر أمني، أو كمادة خام ساذجة ينبغي الحفاظ على عذريتها وتوجيهها بحسب الرغبات السلطوية. واضح أن هذا النهج فشل فشلًا ذريعًا، وكانت نتيجته المباشرة تكريس الجهوية والإقليمية والعشائرية والمناطقية، وظاهرة العنف الجامعي، وإفراغ الطلاب من أية إمكانيات نقدية، ومنع المجتمع المحلي من التفاعل مع الأكاديميا والعكس.
• «عدم السماح للمنظمات الحقوقية غير الحكومية بزيارة مراكز الإصلاح والتأهيل إلا بعد التنسيق مع المركز الوطني لحقوق الانسان». إضعاف الرقابة الحقوقية على مراكز التوقيف والسجون من خلال تقييدها بالاشتراطات، سيؤدي إلى زيادة الانتهاكات الحاصلة فيها، مما سيزيد -طبعًا- من التطرّف.
• «التوسع المدروس في قوائم القبول الجامعي لأبناء العشائر». طبعًا هذا سيزيد من التمييز والانشقاقات وانهدام العدالة بين المواطنين، وفي حين قد يقلل هذا البند من التطرّف لدى بعض شرائح من المواطنين، فسيقوم بزيادتها عند الشرائح الأخرى المتضررة منه.
• «مراجعة المناهج المدرسية وخاصة مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية والتاريخ والتربية الوطنية والثقافة العامة لتوضيح الصورة الحقيقية للدين الإسلامي.» أي التمسك بالطريقة التقليدية للتعليم الدينيّ التسليميّ، دون أي ذكر لأهمية للتفكير النقدي، والعلميّ، وتدريس الفلسفة، وتاريخ الأديان، والأديان المقارنة.
خاتمة: السلطة فقيرة معرفيًا وعاجزة سياسيًا، والتشدّد يتمدّد:
هذه الآليات لن تقوى على مواجهة التشدّد. كل ما يستطيعه هذا النهج القائم على الدعاية السطحية، والصراع الظاهراتي على من يمثّل الإسلام، ومن الذي يمتلك النسخة «الحقيقية» منه، هو تقديم حلول تسووية (غير مقنعة عند تدقيقها معرفيًا) للاستهلاك العمومي على المستوى النفسي البراغماتي، فيما يتم الإبقاء على الوضع القائم المُولّد للتشدّد كما هو، بل وتتحوّل السلطة إلى وسيط لتجنيد المريدين للطرف الآخر، عبر تمجيدها للعنف، وترويجها التسليميّ للنسخة الدارجة من الإسلام، وتبنيّها وترويجها للمحافظة الاجتماعية، وتبعيّتها السياسية للقوى الدولية والإقليمية، واحتكارها للسلطة وتكسير كل إمكانيات الشراكة أو التأثير فيها، برلمانيًا وحزبيًا ونقابيًا وجمعياتيًا، واستمرارها في ذات النهج الاقتصادي السياسي القائم على الفساد والمولّد للفقر والراعي لتكديس الثروة لدى القلّة والمُعادي للعدالة الاجتماعية.