لاحظ القراء بالطبع أن كاتب هذه السطور دأب في كثير من الأحداث والأزمات والمناسبات على تأكيد فكرة يؤمن بها إيمانًا علميًا راسخًا، وهى أن إعادة إنتاج أو ترميم النظام السياسي الذي أقامه ضباط يوليو 1952 هي محاولة محكوم عليها بالفشل مقدمًا، وأنها تضيّع الكثير من وقت مصر ومواردها وحقوق وحريات وأرواح مواطنيها دون طائل، فهي أشبه ما تكون بما يُعرف في الذاكرة الشعبية المصرية الساخرة بمحاولة إعادة الشيخ إلى صباه. اليوم نخصص هذا المقال لشرح وتأصيل حيثيات ذلك الإيمان العلمي الراسخ بألا جدوى من محاولة إعادة نظام 23 يوليو إلى صباه، ورغم أن فترة الصبا في عمر ذلك النظام هي السابقة على هزيمة 1967، فإن القول باستحالة استمراره تشمل أيضًا ما تلا تلك الفترة من عهود هذا النظام.
نبدأ بالإجابة على السؤال التالي: ما هى المقومات الأساسية لنظام يوليو؟
هذه المقومات هي على التوالي:
1- الجيش الوطني، وهو مصدر القوة السياسية، في غيبة أية مصادر أخرى منظمة لهذه القوة، كالطبقات بتعبيراتها الحزبية والنقابية.
2- الشرعية السياسية، وتأتى من تمثل أو ادعاء تمثل القائد القادم من صفوف الجيش ونظامه لمصالح أغلبية الشعب، وتحقيق المطالب الأساسية للوطنية المصرية، أو ما يسمى "شرعية الإنجاز”.
3- رفض ومحاربة القوى السياسية "الوسيطة" بين القيادة والمواطنين، أي الأحزاب والنقابات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني ومراكز البحث والتفكير، وإحلال مفاهيم الزحف المقدس والاصطفاف الوطني والكل في واحد، محل هذه المنظمات، اكتفاء بما سماه الأستاذ هيكل رحمه الله بـ"ديمقراطية التفويض عوضًا عن ديمقراطية المشاركة”.
4- التحالف مع الجهاز الإداري، أي ما يسمى بـ"بيروقراطية الدولة"، بوصفه شريكًا تابعًا في الممارسة اليومية للسلطة وبعض امتيازاتها، وليس شريكًا أساسيًا في السلطة نفسها.
5- خلاصة ذلك كله تكريس مفهوم الرئيس القائد كمصدر للسلطات، وليس الشعب أو حتى الجيش هو مصدرها، فالشعب هو مصدر غطاء الشرعية فقط، والجيش هو قاعدة القوة السياسية، علمًا بأن القوة السياسية شيء، والشرعية شيء آخر، ويستلزم ذلك تعبئة المجتمع كله، وليس مؤسسات الحكم فقط، حول الرئيس، وتحصينه مع الوقت من أي معارضة أو نقد.
6- تؤدى الخصائص السابقة دون قصد غالبًا إلى تقسيم المجتمع تقسيمًا رأسيًا إلى فئات تتدرج تنازليًا في سلم النفوذ والامتيازات، بحسب درجة قربها من أو ابتعادها عن مركز السلطة.
ننتقل إلى الإجابة عن السؤال الرئيسي: لماذا لا تمكن إعادة إنتاج هذا النظام، ولماذا إذا أعيد إنتاجه شكلًا لا تتوافر أمامه فرص النجاح؟
الإجابة شديدة العمومية هي أن نظام يوليو في مجمله لم ينجح في إقامة الدولة الحديثة في مصر، لا من ناحية التنمية، ولا الاستقرار السياسي الحقيقي دون سياسات أمنية باطشة، ولا حتى من حيث الأمن القومى والاستقلال الوطني، فقد احتُلت سيناء في ذروة عنفوان النظام، وها هو ذا الرئيس عبد الفتاح السيسي يصف تركة هذا النظام في مصر بأنها "أشلاء دولة"، ومن ثم فلا ضمان بأن ما فشل في الماضي قد ينجح في الحاضر والمستقبل.
لكن هذه اﻹجابة العامة تحتاج إلى بعض التفصيل، ويمكن تلخيص الأسباب الرئيسية أو الحيثيات التي يستند إليها الحكم باستحالة إعادة إنتاج نظام يوليو، واستحالة نجاحه إلى أربع مجموعات رئيسية، الأولى تتعلق بتناقضات النظام الداخلية، وتحولاته عبر مراحله الأربع، والثانية مصدرها تحولات المجتمع المصري، والثالثة تفرضها تحولات البيئة الدولية والإقليمية، أما الرابعة فترجع إلى الفروق الفردية بين القيادات في المراحل المتعاقبة لهذا النظام.
أولًا، تناقضات النظام وتحولاته:
تبلورت التناقضات قبيل هزيمة 1967 في الصراع الخفي بين جمال عبد الناصر (القيادة السياسية) ونائبه عبد الحكيم عامر (القيادة العسكرية)، وكان من نتائجه قبل الهزيمة تسلط أجهزة الأمن لدرجة جعلت عبد الناصر يعترف لأنور السادات بأن البلد تحكمها عصابة، إضافة إلى الهزيمة ذاتها بنتائجها المأساوية، والتي لا نزال نعايشها. وبعد 1967 حاول عامر القيام بانقلاب ليعود إلى مواقعه السابقة، وأدت محاكمات أنصاره إلى كشف كثير من مثالب النظام، فتقوّض قدر كبير من الثقة في هذا النوع من نظم الحكم.
بعد وفاة عبد الناصر انفجر الصراع بين خليفته أنور السادات، ومن سماهم بـ"مراكز القوى"، وأظهرت محاكماتهم والحملات الإعلامية ضدهم قدرًا كبيرًا آخر من مثالب النظام، وبالتالي ضاع قدر آخر من الثقة في مثل هذه النظم. بعد حرب أكتوبر التي أعطت السادات مجده، أطلق الرجل حملة تشويه شعواء على عبد الناصر، وعلى كل من وما له صلة بعبد الناصر، بل إنه في مرحلة ما حاول التخلص من شرعية يوليو مستبدلًا بها شرعية أكتوبر.
تبنى السادات سياسات مناقضة جذريًا لسياسات عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية، فأنهى دور الدولة في التنمية، وشوّه القطاع العام، وعمل على إفشاله، وأطلق سياسة الانفتاح الاقتصادي "الاستهلاكي"، وألغى التنظيم السياسي الواحد، وأعلن السماح بقيام الأحزاب دون إعمال شروط التعددية السياسية الحقيقية. وفى مجال السياسة الخارجية تحول من التحالف مع السوفييت إلى التحالف مع الولايات المتحدة، وارتبط إقليميًا كذلك بالقوى المحافظة وصولًا إلى الانفتاح على إسرائيل ثمنًا لتحرير سيناء. وإمعانًا في تصفية تركة عبد الناصر، أو تخلصًا من المعارضة القومية واليسارية، أطلق السادات العنان لقوى الإسلام السياسي المعتدل والمتطرف على السواء، بل أنه أقام، خاصة بين شباب الجامعات، قناة رسمية لمساعدة المتطرفين، لاجتثاث القوميين واليساريين، وكان من النتائج الكارثية لهذه السياسة، ضمن كوارث أخرى، ظهور المسألة الطائفية كإحدى القضايا الشائكة في الحياة السياسية المصرية لأول مرة بعد 23 يوليو 1952.
وفي النصف الثاني من حكم أنور السادات تفاقمت ظاهرة التفاوت والظلم الطبقيين مع انحياز السلطة للأغنياء، وشيوع الفساد المالي السياسي، لتبلغ ذروتها في عهد حسنى مبارك المتطاول. إلى جانب الفساد المقنن والمدافَع عنه أحيانًا من رئيس الجمهورية نفسه، بدعوى وجوده في كل الدول، أضاف عهد حسنى مبارك تطورين في غاية السوء إلى نظام يوليو، الأول هو مخطط توريث الحكم لابنه جمال، في خيانة سافرة وفجة للنظام الجمهوري، والثاني هو الاندماج غير الخجول بين السلطة ورجال الأعمال، والمتمحور حول جمال مبارك. جرت كل تلك التناقضات والتحولات، بينما ظل النظام في العهود الثلاثة لعبد الناصر والسادات ومبارك يدعى تمثيله للمصالح الوطنية العليا ولإرادة الشعب، مستمدًا منها غطاء الشرعية، ولكن بالاستناد إلى الجيش كمصدر للقوة السياسية. ولا ينبغي أن يُفهم هنا أن المطلوب كان جمود النظام، بحيث لا يستجيب للمتغيرات الداخلية والخارجية، لأن الاستجابة الرشيدة للمتغيرات شرط النجاح، فضلًا عن حتميتها، لكن الاستجابة الرشيدة للمتغيرات شيء، واعتساف التحولات لتتناقض سياسات النظام مع احتياجات وتفضيلات المجتمع شيء آخر.
فالانفتاح الاقتصادي مثلًا بمعنى فك عزلة مصر عن الاستثمار الأجنبي والتكنولوجيا كان واجبًا، لكن ما حدث كان انفتاحًا استهلاكيًا تجاريًا متحالفًا مع فساد سياسي، وجهدًا ممنهجًا لإفلاس القطاع العام وإفساده، ونهب ثروة البلاد، ولم يكن من الضروري أن يكون المقابل ﻹطلاق الحرية للإسلام السياسي هو اضطهاد اليسار والقوميين، وتأجيج الفتن الطائفية. كذلك لم يكن في المخطط الكارثي لتوريث جمال مبارك حكم مصر أيٌ ما قد يُسمى "استجابة رشيدة للمتغيرات"، حتى لو أُطلق على هذا المخطط وصف "الفكر الجديد" كما حدث، ولم يكن في تحالف رجال الأعمال مع السلطة لتنفيذ هذا المخطط ما يمكن وصفه بـ"التطور الطبيعي"، بل يكون العكس صحيحًا إذا تذكرنا أن أحد المبادئ الستة الشهيرة لنظام 23 يوليو كان القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم.
كانت المحصلة النهائية لهذه التناقضات والتحولات الذاتية في نظام 23 يوليو، وبعضها تخبطات وانحرافات، هي فشله المتوالي في إحداث التراكم التنموي والمعرفي والمؤسسي الضروري لتحديث مصر، وتحصينها من عوامل التدهور. وأكثر من ذلك، فهناك من يقول إن ثورة يناير 2011، كانت في حقيقة الأمر انفجارًا للصراع بين مؤسسات الدولة الرافضة للتوريث، وبين أصحاب هذا المخطط، بقدر ما كانت هذه الثورة انفجارًا شعبيًا تلقائيًا ضد التوريث والفشل والظلم الاجتماعي والتسلط البوليسي.
ثانيًا، تحولات المجتمع المصري:
كان عدد سكان مصر أقل من عشرين مليونًا من الأنفس حين تولي الضباط الحكم، ويبلغ عدد السكان اليوم 90 مليونًا، ولم تزد الموارد بما يكفي لاحتياجات هذه الزيادة الضخمة في عدد السكان، فضلًا عما سيلي من زيادات. كانت المطالب الملحة التي بلورتها الحركة السياسية في المجتمع، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى استيلاء الضباط على السلطة، هي إجلاء الاحتلال البريطاني، وإعادة توزيع الثروة، خاصة الملكية الزراعية، والقضاء على الفساد السياسي، وتحقيق حالة من استقرار الحكم تكفي ﻹحداث نقلة تنموية معقولة للقضاء على الفقر والجهل والمرض، وهذا ما تمثله مشروع الضباط في عقد الخمسينيات على الأقل، ونجح في تحقيق قدر كبير جدًا منه، ولكن على حساب الديمقراطية والمشاركة السياسية.
وكان العامل الأساسي في ضمان استقرار النظام إلى جانب تلك النجاحات، وإلى جانب استمرار تأييد الجيش كمصدر للقوة السياسية، هو ملكية الدولة/ السلطة أو هيمنتها بالكامل على الاقتصاد القومي، بحيث لم تعد هناك قوة اقتصادية/ اجتماعية مستقلة عن السلطة في عملها وفي الحصول على عائد هذا العمل، اللهم بعض المهنيين الذين لا يشكلون قوة يعتد بها، كالأطباء في عياداتهم، والمحامين في مكاتبهم، والمزارعين والتجار الصغار طبعًا، وما عداهم كانوا موظفين حكوميين، أو عاملين في القطاع العام، وفوق كل ذلك كانت الهيمنة الأمنية تجهض مقدمًا أية نزعات استقلالية عن السلطة.
إلا أن هذا الوضع أخذ في الاختلاف شيئًا فشيئًا منذ تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، فقد تحررت التجارة كليةً من قبضة الدولة، ثم أخذ دور القطاع العام في الاقتصاد القومي في الاضمحلال، ومع الوقت ظهرت طبقة رجال المال والأعمال، وأخذ المشروع الخاص في الصناعة والزراعة والتنمية العمرانية يحل محل المشروع العام، وتأسست البنوك الخاصة والأجنبية، بل وازدهرت المستشفيات والمدارس والجامعات الخاصة، وترافق ذلك مع انسحاب الدولة المعلن وغير المعلن من سوق الاستثمار والخدمات وتوظيف القوى العاملة، بل وتحولت كثير من المرافق والهيئات العامة إلى شركات تستهدف الربح. أما الوجه الآخر لهذه التطورات، فكان زيادة أعداد المتعطلين، وتفاقم ظاهرة الأمية، وسكنى العشوائيات، وارتفاع معدلات الفقر، واعتماد الطبقات الغنية والقادرة نسبيًا على الحلول الذاتية في ميادين التعليم والعلاج الطبي والنقل والإسكان وغيرها.
كل ذلك يعني أن نظام الحكم الذي أقامه ضباط يوليو بخصائصه السابقة، لم يعد مناسبًا لمجتمع تحرر إلى حد كبير من قبضة السلطة في العمل والكسب والحصول على الخدمات، وأن هذه القوى الجديدة المعتمدة على نفسها، بمنطق الأمور، تحتاج إلى المشاركة في السياسات، وإلى قنوات تتيح مراجعة هذه السياسات، ومساءلتها وتقويمها، وفق القاعدة الكلاسيكية التي تقول إن "من يملك يحكم"، أو وفق تشبيه علماء السياسة والاجتماع للمجتمع بالجسد، وتشبيههم للنظام السياسي بالثوب الذي يرتديه هذا الجسد، فإذا نما الجسد – ولابد بالطبع أن ينمو – لا يعود الثوب مناسبًا، أو يتمزق إذا أصر من يعنيه الأمر على حشر الجسد فيه، والحل هو شراء ثوب جديد. وفي حالتنا هذه يكون الحل إقامة نظام جديد يتسع لكل تلك المتغيرات التي تحدثنا عنها توًا في المجتمع المصري، وفي علاقته بالدولة/ السلطة، أي يتسع للمشاركة والمساءلة والتصحيح ولتمثيل القوى الجديدة.
ثالثًا، تحولات البيئة الدولية والإقليمية:
عندما استولى ضباط يوليو على السلطة في مصر عام 1952، كان العالم خارجًا لتوه من محنة الحرب العالمية الثانية، واتسمت تلك الحقبة في العلاقات الدولية بسمتين كبريين: الأولى انقسام حلفاء الحرب ضد النازية إلى معسكرين، شيوعي ورأسمالي، ونشوب الحرب الباردة بينهما، والثانية هي توالي انتصار حركات التحرر الوطني في أسيا وإفريقيا من الاستعمار الأوروبي، وكانت مصر في طليعة الدول التي تناضل من أجل التحرر من التبعية الاستعمارية، وهو ما تحقق فعلًا باتفاقية الجلاء عام 1954، وكان هذا من أهم إنجازات الضباط، وفي الوقت نفسه من أهم علامات تطابق حركتهم مع روح العصر.
من هذه العلامات كذلك اختيار الضباط لنظام الحكم الشمولي، المسمى بـ"ديمقراطية التفويض”، فقد كان العالم كله تقريبًا، عدا الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان والهند، محكومًا بأنظمة شمولية، مثل الاتحاد السوفييتى، وكل أوروبا الشرقية، والبلقان، وكل أمريكا اللاتينية، وكذلك الدول الحديثة في أسيا وإفريقيا، بل كانت أسبانيا والبرتغال في أوروبا الغربية محكومتين بنظامين شموليين، أو ديكتاتوريين صريحين.
وأخيرًا، فمن علامات الاتفاق مع روح ذلك العصر أن النظرية التي ترسخت لدى علماء التنمية الاقتصادية حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي كانت تسمى بـ"نظرية الدفعة القوية" التي تتولى فيها الدولة تعبئة رأس المال للقيام باستثمار صناعي كبير، من خلال قطاع قائد يجرُّ الاقتصاد كله وراءه إلى النمو، وبالطبع كان الملهم لهذه النظرية/ العقيدة هو النجاح الضخم لنموذج ستالين في الاتحاد السوفييتي الذي ركز على التصنيع الثقيل، كقطاع قائد للنمو الاقتصادي، في ثلاثينيات القرن الماضي، قبل أن يبدأ النمو في التباطؤ اعتبارًا من الستينيات وصولًا إلى الجمود فالانهيار من السبعينيات إلى الثمانينيات.
مرة أخرى كل ذلك تغير الآن، فالتحرر الوطني اكتمل تقريبًا في العالم كله، وأصبحت المهمة المقدسة الآن هي تحسين مستويات المعيشة، وإقرار الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، ومن ثم فقد سقطت الأنظمة الشمولية في معظم دول العالم، عدا الصين وكوريا الشمالية وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي (السابق) الأسيوية، وكذلك بعض البقايا في أفريقيا والدول العربية، ومن ثم فإن استمرار نظام يوليو بخصائصه السابقة أصبح مناقضًا لروح العصر، وعلى كل حال فالصين طوّرت نظامًا فعالًا لتداول السلطة ولمكافحة الفساد يحد كثيرًا من أضرار الشمولية، ويبقى التحول الديمقراطي فيها مطلبًا سيفرض نفسه عاجلًا أم آجلًا. كذلك انهارت نظرية/ عقيدة التنمية بالدفعة القوية التي تحدثها الدولة، ولا أدل على ذلك من اعتماد جميع دول العالم على رأس المال الخاص، والاستثمار الأجنبي في التنمية، بما في ذلك الصين الشيوعية نفسها.
وإذا تذكرنا أن عصر الحرب الباردة انقضى منذ أكثر من ربع قرن، فهذا يعني أيضًا انتهاء عصر المساندة الدولية المجانية للنظم الشمولية في الدول الصغيرة والمتوسطة لمجرد تجميع الأنصار في مواجهة الخصم الأيديولوجي، ومن ثم فإن ما اعتمد عليه نظام يوليو في فترة صباه من دعم سخي ومجاني من الاتحاد السوفيتي لم يعد متاحًا الآن، وما اعتمد عليه النظام في فترة السادات ومبارك من دعم أمريكي مقابل الانتقال من التحالف مع السوفييت إلى التحالف مع واشنطن، ومقابل الانخراط في علاقات سلمية مع إسرائيل، لم يعد متاحًا، أو لن يبقى متاحًا إلى أمد طويل، وقد كان تخفيض المعونة الأمريكية لمصر بندًا دائمًا في الاتصالات الأمريكية المصرية في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، وها هو ذا الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما يتحدث عن تخفيض الالتزامات الأمريكية في الشرق الأوسط، اقتصاديًا وعسكريًا، ليس تعبيرًا عن رؤية شخصية بقدر ما هو تعبير عن اتجاه قوي في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية. ولذا ينطلق النظامان المصري والسعودي حاليًا بحثًا عن ترتيبات إقليمية جديدة تشارك فيها إسرائيل علنًا، وهذا في حد ذاته تناقض صارخ مع المنطلقات القومية الأولى لنظام يوليو.
وهنا ننتقل إلى تغير البيئة الإقليمية حول مصر بين يوليو 1952، وعام 2016 وما سيليه، فقد كانت مصر قائدة النظام اﻹقليمي العربي بلا منازع، وكانت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي الأفضل، وكانت إسرائيل دويلة صغيرة لم يصل عدد سكانها إلى مليون نسمة، ولم يكن متوسط الدخل فيها بأفضل من جيرانها كثيرًا، وكانت معزولة عن معظم دول العالم غير الغربي. وفي موازين القوى كان اتجاه مصر للتسلح من الكتلة الشرقية يكفل قدرًا معقولًا من التوازن، ولم تكن الولايات المتحدة كذلك قد أصبحت المصدر الرئيسي لتسليح إسرائيل وضمان تفوقها على كافة جيرانها العرب مجتمعين، و كانت دول الخليج تبدأ في تلقي التدفقات النقدية لعائدات النفط، بل لم يكن مستقلًا منها سوى السعودية، في حين كانت بقية تلك الدول خاضعة لنظام الحماية البريطاني، وكانت مصر هي التي تقدم الدعم السياسي لمطلب الاستقلال فيها، كما كانت هي التي تساعد بخبراتها الدبلوماسية والقانونية و التعليمية في بناء هذه الدول تمهيدًا لاستقلالها أو بعد استقلالها.
أخذ الميزان يتحول منذ سبعينيات القرن الماضي، ولم تعد لمصر نفس المكانة الإقليمية، وأصبحت للثروات الخليجية نتائج سياسية واجتماعية وثقافية ودينية أزاحت مصر بكل أسف من مكان الريادة، وبالمثل أصبحت إسرائيل قوة إقليمية يُحسب حسابها، فهي دولة صناعية متقدمة يضاهي متوسط الدخل الفردي فيها أغنى دول العالم، ويسكنها ثمانية ملايين نسمة الآن، وتغمر صادراتها التكنولوجية المتقدمة الأسواق العالمية بما في ذلك أسواق الخليج.
وفي إفريقيا ليس الوضع أفضل حالًا بالنسبة لمصر، بل تتعرض مصر لمشاكل ضخمة في حوض النيل، ولا أحد يستطيع اﻵن تحديد ما سيسببه سد النهضة الإثيوبي لمصر من أضرار على وجه الدقة، لكن المؤكد أنه سيسبب أضرارًا لا حصر لها. كل ذلك على خلفية من ثورة الاتصالات بنتائجها الثقافية والسياسية والاجتماعية في كل شبر من الكرة الأرضية. ما الذي تعنيه كل تلك التغيرات في البيئة الدولية واﻹقليمية حول مصر، فيما يتعلق بنوعية نظام الحكم المناسب لمواجهة كل هذه المتغيرات والتحديات؟ باختصار، ليس نظام 23 يوليو الذي يستبعد المشاركة والمساءلة ويكون الرئيس فيه هو مصدر السلطات، وفي الوقت نفسه يبقى محصنًا ضد المراجعة والنقد، هو المناسب لهذه الحقبة من التاريخ، إذ أن ما ورثناه من "أشلاء دولة" غير قادرة على مواجهة مشكلاتها الداخلية، فضلًا عن مواجهة المتغيرات والتحديات اﻹقليمية والدولية، هو من صنع هذا النظام، وليس من صنع آخر، تآمر على مصر من داخلها أو خارجها!
لقد استشهدت مرة بعبارة لرئيس ألماني سابق هو يوهانس راو، قال فيها إن "ثروة ألمانيا ليست في أرضها، ولكن في عقول أبنائها"، وهذا ينطبق على مصر. ولكي تنتج مصر أفضل ما في عقول أبنائها من ثروة تكنولوجية واقتصادية وثقافية وإدارية، فلابد أن يتسع نظام الحكم لمشاركة الجميع، وألا يقصي أحدًا، وألا يغلّب الولاء للحاكم على الولاء للوطن، أو يحبذ تنفيذ الأوامر على الإبداع، أو يقسم المجتمع إلى فئات متدرجة الامتيازات حسب رضا السلطة، وليس حسب مساهمتها في عملية اﻹنتاج واﻹبداع.
رابعًا، الفروق الفردية:
كانت مجموعة ضباط يوليو مسيّسة بالكامل، وكانوا قد تعلموا في مناخ مفتوح سياسيًا وجاد ثقافيًا، وكان عبد الناصر الذي أصبح "الزعيم الملهم" محاطًا بزملاء لهم دور كبير على الأقل في البداية، ومصممين على تنفيذ مشروعهم، لذلك استطاعوا، في الظروف المحلية واﻹقليمية والدولية التي شرحناها فيما سبق، التغلب على كثير من العقبات التي لا تزال حتى بمنظور اليوم عقبات ضخمة، فقد قضوا على طبقة إقطاعية راسخة الجذور منذ قرن من الزمان على الأقل، وصفّوا الاحتكارات المالية والصناعية الأجنبية والمحلية، وكسروا احتكار السلاح، وأخرجوا الاحتلال البريطاني، وبنوا السد العالي، وبدأوا حركة تصنيع كثيفة، فضلًا عن التوسع التعليمي والصحي والتوسع في سائر خدمات المرافق، لتصل المياه النظيفة والكهرباء إلى أعماق الريف. ومع ذلك فإن المحصلة النهائية هي ما وصفه الرئيس السيسي نفسه، كما سبقت الإشارة، بـ"أشلاء الدولة"، ولم يكن ذلك إلا لعيبٍ بنيويٍ في النظام ظل ملازمًا له منذ أيامه الأولى، وهو ادعاء تمثيل آمال ومصالح الشعب في غيبة من المشاركة، وفي ظل حرب شعواء على القوى السياسية الأخرى اكتفاءً بغطاء شعبي غير منظم، واستنادًا إلى الجيش الوطني.
وبمقارنة الفروق الفردية بين ضباط يوليو المسيّسين كما كان الحال تحت قيادة عبد الناصر والسادات، وبين ضابط كبير لم يكن مسيّسًا من الأصل مثل حسني مبارك، يظهر لنا سبب عدم استيعاب اﻷخير للحاجة الماسّة إلى تطوير النظام ليحقق ما سبق أن أطلقنا عليه هنا "الاستجابة الرشيدة للمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية"، ليتفادى ذلك العيب البنيوي الذي أضر النظام، وأضر مصر نفسها معه، ويفتح النظام للمشاركة والمساءلة والتداول. هنا يفرض السؤال التالي نفسه: لماذا إذن ظل نظام يوليو يعيد إنتاج نفسه، رغم الفشل، طيلة العقود الماضية؟ ولماذا تلقى المحاولة الحالية لإعادة إنتاج نفس النظام تأييد الأغلبية كما يظهر لنا ولغيرنا؟
الأسباب عديدة، منها اعتياد غالبية المواطنين على هذا الوضع، فالمرء عبد ما ألف، وعدو ما جهل، كما أن فترة حكم الإخوان المسلمين (كأغلبية برلمانية، وفي رئاسة الدولة) أرعبت عموم المصريين على طريقة حياتهم، وبالتالي كان التخلص منهم في حد ذاته كافيًا لترحيب غالبية المصريين بعودة نظام يوليو. كذلك ليس معتادًا أن تكون الغالبية في الشعوب قادرة على ربط النتائج بمقدماتها، بحيث تستنتج بسهولة مسؤولية نظام يوليو عن كل ما آلت إليه أوضاع مصر من سوء، ويضاف إلى ذلك التفكير بالتمني، وسبق لمن يفكرون على هذا النحو أن منّوا أنفسهم بأن السادات سيكون أفضل من عبد الناصر, وأن مبارك سيكون أفضل من السادات، وهكذا.
كلمة ختامية عن الوضع الحالي: لن يعود نظام يوليو إلى صباه، وفي الحقيقة فإن هذا النظام قد مات إكلينكيًا، ولا يعيش اﻵن إلا على الوسائل المصطنعة المذكورة في الفقرة السابقة، ولكن يبقى أن إكرام الميت دفنه، ولذا فإن المهمة التاريخية الكبرى أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي هي إقامة نظام جديد بديل بالمواصفات الطبيعية لنظام سياسي ديمقراطي، أو يمشي على طريق الديمقراطية، أما غير ذلك من إنجازات فهي تفاصيل تحققَ مثلها من قبل، وسيتحقق مثلها فيما بعد، ولن تَحلَّ مشكلة مصر الرئيسية التي هي – ولا مانع من التكرار – البحث عن نظام يخلق الثروة بمعناها الشامل من عقول أبنائها.