يمتلك حافز الإبداع دوراً واضحاً في تحفيز الملكة الشعريّة عند عمّار الجنيدي، إذ انتقل من إبداع القصة القصيرة، إلى تجربة شعريّة تنقاد إلى قصيدة النثر، تجلّت في ديوان (تلالي تضيق بعوسجها) إذ تتضح خصائص قصيدة النثر من تكثيف والفجوة الدلالية والصورة الشعريّة، فضلاً عن الرؤيا الشعريّة ذات الايقاع الدلالي. إنّ القصيدة العربية المعاصرة ـ في جوانبها التجديدية ـ تجنح إلى الخروج على الوزن والقافية، فضلاً عن تمسكها "بالرؤيا التي تخلق النص، وتبتدئ منه باتجاه تأسيس وعي تجديدي أكثر تعبيراً عن حداثة النص ومستوياته الدلالية وبنيته التشكيلية"(1).
إنّ البحث عن الرؤيا الأساسية لشعريّة النص من بنياته الأساسية المشكله له أمر مهم للتعرف إلى طبيعته الفكرية، ودلالاته العميقة، وهكذا تظهر قيمة الشعر باعتباره نصوصاً تضيء ما غادر داخل التجربة، واكتنه فيها، وتظهر قدرته في اختزان دلالات عديدة ترمز إلى هذا المنحى أو ذاك من مناحي الحياة، بمعنى أن الشعر يقوم على اختزال التجربة الشعريّة في كلمات مصوغة بدقة وتركيز في الوقت الذي يقوم فيه على تحقيق رغبة الشاعر في التعبير عن هذه التجربة"(2).
لقد أبدع عمّار الجنيدي شعريّة واضحة في نصوصه من خلال البنية اللغوية والدلالية والصوتية والتركيبية التي تعكس تجربة ذات بنية عميقة تمتلك سمات الحكائية السردية بوصفها تقنيات جديدة تساعد في تكوين بؤرة نصيّة ذات فاعلية شعريّة منتجة للمعنى، كما في قوله(3):
كرعش الصدى تمضين،
تمدين يديك
لتصافح صمتي المتعب،
وهديل الضباب
يحاور دموع أشواقي،
وسحابة العمر الجهماء،
تركضُ بإعياء المجهدين
في أفق الدهشة،
يطاردها الريح عبر المدى،
تفرُّ من وجه الذهول
فيجلدها الصدى..
فالشاعر يعبّر عن حياة يهددها الموت، وهو موقف فكري جاء محصلة لطبيعة تناقضات يحياها في الواقع تخضع فيها الذات ـ أحياناً ـ لقوانين لا تنسجم مع الحياة المنشودة أو مع طبيعة المشروع الإنساني الهادف إلى التوافق مع الواقع. إذ يقوم النص بكامله على تأكيد ثقافة سلب الحياة بكافة تمثلاتها: الوجود، والحبّ، والاستقرار. تتحرك الوحدات التركيبية لنصوص الشاعر وفق آلية واضحة، تكشف عن تصدّع الذات وانحيازها القسري للمعاناة، حيث يقول(4):
مَنْ غيرنا يدفع الثمن؟!
مَنْ غيرنا تهزأ الغيماتُ بمشاعره؟!
ووهجُ القناديل التي
سباها الانتظار
تستنكرُ اندهاشي؛
تُحَملِقُ في شظاياي طويلاً؛
فتقرأني
كلّ علامات الاستفهام
والتعجب.
تبدو حياة الشاعر داخل إطارها المأسوي مهددة بالزوال لولا تماسكه الداخلي الذي انعكس في صور موحية ودلالات خصبة تمتد لتمارس فاعلية إنسانية تمنح الحياة معناه الحقيقي، إذ يرسم الشاعر رؤيته الحياتية بنعوته الخاصة التي تمحو الماضي المثقل بالحزن وتؤسس لواقع إنساني تنتصر فيه لغة الحبّ مقاومة معاناة السنين، حيث يقول(5):
للحُبِّ في عينيكِ
جنونٌ آخر:
يحدثني عن رضوخِ المستحيل؛
يحتدّ مع الزوابع،
ويزمجر مع الريح الغضوب ..
وصوتِك الحنون
يغازلُ سويعات العمر الضئيلة،
ويهمسُ في عُبِّ اللوحة
طيوف عذابات مرت
خلف عتاب الشوق..
لعلّ هذه الروح القلقة التي تنتاب قصائد الشاعر لم تغيّب رؤيا الولادة في شعره، إذ تمنح هذه الرؤيا شعره فهماً أصيلاً لطبيعة الحياة وحركتها المستمرة، ممّا يجعله يسعى إلى ترسيخ وهج الحياة في النفوس، ومحاولة بعث فاعليتها من جديد في نصه الشعري عبر رؤى الحبّ والطفولة والطبيعة الملهمة التي تنتشي معها الدلالة، كما في قوله(6):
في صباحِ الوعدِ المسيّجِ
برعود الرؤى،
حين تنبسط هدأة الكثبان
في كف الريح.
حين تكتسي الطفولة
بذات اللون المضيء؛
بذات الألق العذري:
تطلّ أغنيةُ المرحلةِ
مثل فراشة داعبها الغرور؛
مثل زعفرانة بريّة لفَّعها الغبار.
إنّ عمّار الجنيدي يتعامل مع النص الشعري بوصفه نشاط لغوي يسعى إلى خلق إبداع جديد معبّر عن الذات والحياة الإنسانية، إذ امتلكت قصيدة النثر إيقاعاً متحققاً من خلال الحركة والصوت الذي تبدعه الذات الساردة حيث تقوم هذه الذات بتنظيم حركة اللغة في مجازات ذهنية تُعجّل بولادة النص، كما في قوله(7):
القمح ظمآن لأغنية الغيم
حتى ذاكرة الندى
غسلتها الفوضى..
وحده الرمل
يلف نشيج الكلمات
بعباءة الوجع المتصحّر..
ماذا لو سقط الوِدُّ
على بساط الزيفِ
جريحاً .. مدمى؟!
لعلّ رؤيا الحياة المتولدة في نصوص الشاعر لا تلبث أن تزول أمام رؤيا الموت المتجذرة في تجربة الشاعر ، إذ تتوارى خلف الكلمات دلالة الموت والزوال لتهيمن على معجم الشاعر وتحيله إلى جثة يعتريها الذبول والضياع، كما في قوله(8):
في بطاح الظلام
ضربتُ خيمتي الصغيرة.
وغير مواويل غربتي
وآمالي،
لم أمتشق سوى حلمي الذي
ما اكتمل.
لذلك كان حزن الشاعر حزناً هادراً متولّداً برؤى متّقدة تجنح إلى الرومانسية، وتصدح بصوت العاشقين المتمسكين بأحلامهم، ممّا جعل من الحزن مكوّناً مهماً يُفصح عن نفسه في قصائد الشاعر، يحاور بعقلانية بعدما تحصن بذات الشاعر القلقة، كطما في قوله(9):
كلّ حزنِ هذا العالم
أراه في عينيكِ،
سحاباً
يسائلني عن المطر،
عن حكايات الشوق التي
خبّتها السنونو،
مذ كانت المواويل
تصدحُ في المساءاتِ الحزينة؛
مذ كانت الطرقات
تضجُّ بالتائهين؛
فالحزن هو معادل لذات نازفة مثلما هو تجسيد لحركة السنين التي تحاصر الشاعر وتتركه تائهاً يرفض الواقع ويسعى للانسحاب منه بوسائل شتى، كان اللجوء للمجاز من أبرزها؛ لما يمنحه من عوالم تخيليية قادرة على استلهام روح الحياة، كما في قوله(10):
صبّي دمي
في سراج الوقت،
وأشعلي فتيل الكلام
ليتوهّج الشعر
كسمفونية الوداع،
ويمتدّ في أفق المساءات الحائرة:
أميالاً من الحنين..
إنّ ممارسة فعل التلقي لنصوص الشاعر تكشف عن رؤى حزينة منبعثة تقود إليها صور الشاعر ولغته الممعنة في الألم، إذ " يصبح النص مولوداً يتمخض عن قراءتنا حيث نصنع النص، وننتجه بواسطة استهلاكنا إياه، ومن هنا يتحول المقروء من كونه سبباً فيكون نتيجة، وحينما يصف القارئ مغامرته القرآئية هذه، فإنّه ينتج النص ويمنحه ولادة حيّة تختلف عن كافة ولادات النص السابقة"(11). لذلك بقيت رؤى الحياة والولادة تبحث عن وجودها من خلال حلم المطر الذي يعكس البحث عن الخصوبة والتجدد والانبعاث في عوالم جديدة مبعثها الفرح والتجدد وتحقيق التواصل بين المجموع الإنساني ، ممّا يجعل من المطر وحدة لغوية متفاعلة ومتناغمة مع رؤى الشاعر ومنقذاً له من آلامه، كما في قوله(12):
في الوجدان صديقٌ،
نبض روحه شعرٌ
أصيلٌ،
وهو دوماً يحلمُ بالمطر.
مطرٌ:
يدقُّ نافذةَ الضباب
ويوقظُ صمتَ كانون..
مطرٌ :
يأخذ شكلَ القصيدةِ
يأخذ شكلَ الحنين إلى
كروم العنب الظمآى
تُظهر نصوص الشاعر تناغماً فكريّاً يمنح قصائده كثافة تعبيريّة تبعث على الدهشة وتُضاعف من فاعليتها الجمالية وذلك بانزياحات لغوية تحمل المعنى من دلالة إلى آخرى تسمح بتعددية دلالية تنسجم مع رؤى الشاعر النازفة، والبنى التركيبية المشكّلة لها.
الهوامش:
1 ـ محمود جابر عباس، القراءة والتأويل، ط1، دار الكرمل، عمّان، 2002م، ص15.
2 ـ يوسف حامد جابر، قضايا الإبداع في قصيدة النثر ، ط1، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، 1991م، ص79.
3 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، إصدارات عجلون مدينة الثقافة الأردنية 2013م، ص 21.
4 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص ص22ـ 23.
5 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص ص 27 ـ 28.
6 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص33.
7 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص 35.
8 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص39.
9 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص 41.
10 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص 71.
11 ـ عبدالله الغذّامي، تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999م، ص158.
12 ـ عمّار الجنيدي، تلالي تضيق بعوسجها، ص87.