لاشك في أن اللعبة الاستطيقية/ الجمالية اليوم في حقل التجارب الشعرية المعاصرة هي الاشتغال على كل ما يحرك الشعرية وينحرف في مستوى تلقيها والزوغان في تقنياتها ورؤاها الفنية من رؤية إلى أخرى، ومن منظور رؤيوي إلى آخر، وأبرز ما لجأت إليه القصيدة المعاصرة في لعبتها الاستطيقية المفتوحة أن لجأت إلى الزوغان في حركة المشاهد، واللعب على إيقاع المتحركات في الصورة، والوزن، والإيقاع، والدلالة، والجدليات الضدية، والمتوازيات، لخلق لغة شعرية متحركة، تموج بالحراك والدفق الشعوري والتنوع الدلالي، ولا عجب أن يحظى هذا الجانب المهم من شعرية (أولئك أصحابي) لحميد سعيد على اهتمام الشاعر، في إبراز لعبة المشاهد المتحركة، لبلورة اصطراع الشخصيات، والأحداث، وتلوين مساراتها البانورامية المحتدمة، لترصد واقع الحياة، وصخبها الوجودي.
فقارئ هذه القصائد لا يخفى عليه الجانب الاستطيقي من زوغان المشاهد، والتلاعب بالشخصيات، بما يحقق متخيلها الإبداعي، ومتنفسها الرؤيوي الجديد، لاسيما عندما تتصارع الشخصيات، وتزداد الرقعة الدرامية تكثيفاً وتنوعاً واتساعاً في زوغان المشاهد الشعرية عن المشاهد الروائية، والشخصيات الشعرية عن الشخصيات الروائية في سلوكها وحراكها الرؤيوي، ومنطوقها الجديد، ولهذا، لا يعيد حميد سعيد الشخصية الروائية كما هي بصيغتها وسلوكها وحياتها الممارسة في الرواية، وإنما يمنحها من الدفق والحراك الوجودي ما يجعلها تعاصر القارئ، وتحيا زمنه الوجودي متجاوزة زمنها الإبداعي، ولهذا، تفاعلت هذه القصائد مع حساسية المتلقي، وشاركته همومه وأفراحه، بمواقفها السلبية والإيجابية المتخيلة، ولا عجب في ذلك، فهو أراد لهذه القصائد أن تؤكد بصمتها الفارقة، وتحقق تميزها كمنتج إبداعي مبتكر، اشتغل عليه الشاعر منذ سنوات، وظهر أخيراً إلى الضوء لنتلقف من كنوزه وفيوضاته الرؤيوية الشيء الكثير.
واللافت أن هذه المجموعة لم تشكل إضافتها بوصفها عملاً فنياً شعرياً-روائياً متداخلاً بالتقنيات والمرجعيات والإضافات التشكيلية الإبداعية الخلاقة، وإنما من كونها تحكي واقعاً روائياً معاصراً يضع الشاعر شخصيته الشعرية بوصفها أستطيقا بانورامية فاعلة في مجريات الأحداث، وحراك المشاهد، وإبراز فواعلها الرؤيوية الناطقة عبر الشخصيات، والأحداث الجديدة المضافة إليها والملحقة بها في السياق الشعري النصي الجديد. ولا نبالغ في قولنا: إن حميد سعيد لم يكن في هذه القصائد يبث متخيله على ما هو عبثي من الأفكار والأخيلة، وإنما كان يرسم الأحداث بوعي فني وقدرة توليفية عالية على نسج الأحداث التي تصب في جوهر الرؤيا الروائية والشعرية المنشودة، ولهذا فبلاغة هذه القصائد ليست بشكلها اللغوي، وإنما بحراكها المشهدي وكثافة مخزونها الإبداعي الرائق الذي تتسم به، وهذا ما نستدل عليه مكن قوله: "إن ما شغلني، لزمن طويل، وأنا أفكر بكيفية تمثل شخصيات روائية، تعايشتُ معها إلى حد أن أتخيَل إنني عرفتها في الواقع، وليس على صفحات رواية وفصول كتاب، هو الجمال الإبداعي، في هذا التمثُل، أكثر مما شغلني، ماذا أقول، أو ماذا تقول هذه الشخصية أو تلك، في النص الشعري الذي أكتبه أو سأكتبه. لكن الشخصية ورمزيتها، لا بد أن تظهر في النص، بما هي فيه، او بما تضيف إليها المخيلة، وحين تعددت الشخصيات بتعدد قصائد المجموعة، كانت الحياة، بتنوعها وتعدديتها في الثقافة والسلوك ومكونات الإنسان الاجتماعية والنفسية، فالقارئ يلتقي وكما أشرت من قبل، بإنموذج إنساني إيجابي مثل الدكتور زيفاغو ويلتقي أيضاً بشخصية سلبية مثل الأب كرامازوف، ولكل منهما، حياته، ولكل منهما أثره الذي يبقى متفاعلاً مع فكر المتلقي، وما يصح على الشخصيتين المذكورتين، يصح على شخصيات أخرى، التقي بها في أولئك أصحابي."(1).
فالشاعر- على ما يبدو- يدرك أن اللعبة الاستطيقية بالشخوص، والأحداث، والمشاهد من المحفزات الجمالية التي جعلت قصائده تسبح في حيز جمالي، مرده قدرة الشاعر على تلوين الرؤى المحيطة بالشخصية، من مشاهد وأحداث، ورؤى جديدة تدخل نطاقها الشعري، ولاغرو أن نجد الشخصية الروائية تلعب أكثر من دور في القصيدة، وتقوم بدورين سلبي وإيجابي في آن معاً؛ كما شخصية (الأب كرامازوف)؛ وهذا يعني أن اللعب استطيقياً على الزوغان في المشاهد، والرؤى والمواقف والأحداث الروائية في النسق الشعري الجديد هو من أبرز فواعل الرؤيا أستطيقياً في هذه القصائد.
فواعل الزوغان المشهدي (الشعري- الروائي) أستطيقياً في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد:
إن قارئ قصائد (أولئك أصحابي) بفواعلها الاستطيقية الكاشفة، يدرك أن اللعبة الاستطيقية فيها مؤسسة على الحراك المشهدي، والزوغان في اللقطات، بما يحقق متغيرها الرؤيوي – الجمالي الفني، وهذا يعني أن فواعل الرؤيا الشعرية، منطلقة من بؤرة الحدث، والمشاهد المتتابعة في تجسيد الحدث، وتلوينه بالمظاهر الإثارية التي تنبع من حراك المواقف الدرامية المحيطة بالشخصية، فالشخصية الروائية شخصية سكونية، مهما تتابعت المشاهد، والأحداث الملصقة فيها، لأنها رهينة واقعها الروائي، ولكن الشاعر أدخلها في لعبته الاستطيقية ليكشف من خلالها الكثير من المنعرجات المحيطة بهذه الشخصيات، ويضيف إليها من الأحداث ومتعلقاتها ما يجعلها، على المستوى الإيحائي، ذات حراك رؤيوي خلاق في سياقها ومساقها الشعري الجديد. وهذا ما صرح به حميد سعيد قائلاَ: "إن افتراض، قراءة أي من قصائد المجموعة مقترن بضرورة قراءة الرواية التي تمثلَت القصيدة أحداثها، أو تمثلت أحد شخصياتها، افتراض غير صحيح، فللقصيدة، أية قصيدة من قصائد المجموعة، مقوماتها، ومفاتيحها، التي لم تكن نسخة مكررة من مقومات الرواية، ومفاتيحها، أي، يمكن قراءة القصيدة وإدراك رسالتها، بالوعي، أو بفضاء التأويل، بعيداً عن الرواية، حتى لو كان القارئ قد اطلع على الرواية، وقرأها قراءة واعية عميقة. وبالتالي، يمكن للقارئ أن يقرأ القصيدة، وهو لم يقرأ الرواية، فقصائد – أولئك أصحابي – كلها، تتوفر على رمزيتها الخاصة، وتتوفر على مفاتيحها أيضاً، ثم أليس مما هو إيجابي، أن ينفتح النص الشعري المقروء على قراءة الرواية بدافع ثقافي محض، أو حتى بدافع حب الاستطلاع، بل أليس مما هو إيجابي أن يعود القارئ إلى قراءة رواية قرأها من قبل، بفعل ما يثير النص الشعري المقروء من قضايا، وأسئلة .نعم، أكثر من صديق، حدثني عن قراءة هذه الروايات، أو عدد منها، بعد أن قرأ النص الشعري، ومن هؤلاء الأصدقاء القراء، من أعاد قراءة روايات، كان قد قرأها من قبل، وأنت تعلم إن النص الشعري، ينفتح على أكثر من قراءة نقدية، وينفتح -كذلك- على أكثر من قراءة في التلقي، فهو ليس مسألة رياضية ينبغي حلها بمنهجية واحدة، لتكون النتيجة واحدة، سواء جرى حلها في القطب الشمالي، أو في غابات إفريقيا، أو في جزيرة من جزر المحيط الهندي. وإذا كان للنص الروائي، رؤاه ودلالاته، فليست هي رؤى ودلالات النص الشعري ذاتها، وإن كانت الرؤى والدلالات في النصين، تتكامل من خلال الحوار، وليس من خلال تكرارها، أو نقلها من النص الروائي إلى النص الشعري.أما، ما يطرحه السؤال بشأن، النخبة أو نخبة النخبة، فإن القارئ الجاد، هو من النخبة، أو نخبة النخبة دائماً، والمقصود هنا، النخبة القارئة، وليس النخبة الاجتماعية، أو النخبة الأكاديمية، أو ما إلى ذلك من نخب.إن القارئ هو الذي يفكر ويسأل ويستنبط الأسئلة، وليس القارئ الذي ينتظر معنى يعرفه، مثلاً سائراً، أو حكمة معروفة أو قولاً شائعاً، ولو كان الأمر كذلك، لكان على العالم أن يمحو الكثير من الملاحم والقصائد؛ ولرفض كل ما هو جديد ومضاف وغير مألوف، ولكان على العالم أن لا يعترف بالأعمال السمفونية، وكذلك الأعمال التشكيلية العظيمة، السوريالية، والانطباعية والتجريدية"(2).
إن هذا القول الواعي الدقيق بأهمية الإضافة للحركة الشعرية ما هو جديد، يغذيها، ويحقق لها دائماً التطور والازدهار، فليست القيمة بما يشاع بما هو مألوف ومريح للذات المتلقية، فالذي يطور الحركة الشعرية هو الانزلاقات الفنية الكثيرة التي تكسر حاجز الروتين والمألوف من القول، لتحقق مقولها الإبداعي الخلاق المتطور، ولا يمكن إنكار الدور الذي لعبته هذه القصائد في زمننا من جدل، وانفتاح، وحوار على أكثر من محرك رؤيوي إبداعي، ويخطئ من يظن أن قصائد (أولئك أصحابي) رهينة زمنها الإبداعي، أو زمننا الراهن، إنها منفتحة على كل ما هو جدلي، ومغاير، وموارب في الحركة الشعرية، ولهذا، تحفل هذه القصائد بالقراءات المتداخلة والمتعاكسة والمواربة، شأن شكلها الإبداعي ونمطها الأسلوبي المبتكر، وسبق أن أشرنا: إن لغة الحداثة الشعرية تنفتح على كل ما هو جديد ومبتكر، شريطة أن تقدم ما يغني الحركة الشعرية، والمشهد الشعري، بما هو مبدع وخلاق دائماً.
ويخطئ من يظن أن قصائد (أولئك أصحابي) ذات مشهدية روائية بحتة بمتخيل شعري مقولب أو مجسد تبعاَ لأحداث الرواية ومجرياتها ومواقفها المتخذة في نسقها الشعري، فهي ليست نقلاً فوتوغرافياً للمشاهد والرؤى والمواقف الروائية على الإطلاق، إنها ابتعاث للمشاهد البانورامية الحية التي تستقطب الواقع والحياة، فهي ذات فواعل استطيقية محملة بالرؤى والتجارب والمواقف الجديدة بمتخيل شعري يضفي على الشخصيات من لمساته ما يجعل تجربته وشخصيته من دواخل شخصياته الروائية المستحضرة، وفواعلها الحدثية زماناً ومكاناً، وإن اختلفت التسميات وتعددت الأماكن، فإنه يضمها لواء واحد هو (البعد الجمالي للشخصية في حراكها الجمالي ونبضها الدافق بالمعايشة والمعاصرة والثبات على المواقف)، وإعلان التحدي، وليس ذلك فحسب، بل إعلان الإبداع وخصوبة الأدوار التي تلعبها في النسقين الشعري والروائي، يقول الشاعر حميد سعيد في تأويل هذا التنوع والاختلاف في شخصياته الروائية: "إن الحياة الإنسانية في تغير دائم، في الثقافات والقيم والعادات والالتزامات والمفاهيم، وإن الإنسان، منذ أن تشكلت المجتمعات في ظل حضارات عديدة وثقافات مختلفة، عاش تعددية، لم تقدر أية أحادية مهما كانت تلك الأحادية، أن تلغي مفاهيم غيرها، وقد حاولت أحاديات مختلفة، إمبراطورية و أيديولوجية وأسطورية وغيرها، أن تكون هي الحياة، لكن الحياة في حيويتها ومتغيراتها، كانت أقوى من تلك الأحاديات، فسقطت إمبراطوريات، واندثرت عوالم أسطورية، وتفككت أيديولوجيات، واستمرت الحياة في تعدديتها وحيوية متغيراتها وتجددها. إن تنوع الشخصيات، ليس سوى تأكيد للتنوع الإنساني، وهذا ما لا يمكن تجاوزه، مهما كانت أدوات الفعل الأحادي المضاد"(3).
ويرى حميد سعيد أن مصدر غنى الشخصيات الروائية في قصائده لا يعود إلى حراك الشخصيات بمعزل عن سياقها، وإنما بفضل الأحداث والمشاهد المحيطة بها، والتي أغنت حركتها الجمالية، ورؤاها الوجودية العميقة، إذ يقول: "مهما كانت أهمية الشخص في النص الروائي ومهما كان دوره أساسياً، فإن التعامل معه بعيداً عن فضائه الروائي، سيجعل منه كيانا مصطنعاً وظلاً باهتاً، للشخص الذي كان." وسأضرب مثلاً بأنموذج هو الأبرز في دور الشخص في النص الروائي، وهو الضابط الألماني –ورنر فون – في رواية – صمت البحر – لكن لو فردناه عن أحداث الرواية وبقية أشخاصها، لفقد حضوره وإشعاعه، وليس من شخصية في جميع الروايات التي جاء النص الشعري بتأثير منها، إلا وكان حضورها، من حضور الرواية وليس بمعزل عنها، ولما كنا نتحدث عن أعمال روائية خالدة، كانت وستبقى مصدر غنى للواقع وللتاريخ. وعلى سبيل المثال، فإن أحداث الدكتور زيفاغو الروائية، ستظل تضيء الواقع في المرحلة السوفيتية الأولى، وتكاد تكون أكثر تأثيراً وإشعاعاً وإدراكاً للواقع، من كثير من النصوص التاريخية، الباردة الجامدة، حتى لو كانت قد سلمت من تدخلات القوى الفاعلة بشقيها، السلطة والمعارضة.
وكذلك، كان حضور الصياد العجوز – سانتياغو – في رواية – الشيخ والبحر – تلك الشخصية الآسرة التي احتلت المجال الأوسع من فضاء الرواية، ما كان يمكن أن يكون لها كل هذا الحضور لو كانت – افتراضا – في عمل روائي ضعيف ومهلهل، ولم يكن كاتبه على معرفة بحياة البحر ويوميات الصيادين وخبراتهم .إن جميع الشخصيات التي تمثلتها قصائد – أولئك أصحابي – بكل مكوناتها، أخذت أدوارها ومن ثم أهميتها من أهمية الأعمال الروائية التي تحركت في أمدائها وشاركت في صنع أحداثها على المستوى الرمزي. أما حضور النصوص الروائية، وسنفترض خلودها أيضاً، فما كان ليكون إلا بفعل ما تمثل من أحداث على المستويين الواقعي والرمزي، ومستوى تقديم هذه الأحداث جمالاً وموضوعاً"(4).
ووفق هذا التصور، فإن فاعلية المشاهد المتحركة تتأتى من فاعلية الشخصية والأحداث والمواقف الجديدة الملصقة بها، فكما أن الشاعر يدرك فاعلية البنى المتحركة في الرؤى والأحداث فإنه يدرك أهمية الحراك المشهدي في تكثيف المنظورات المتناقضة، والمكتسبات الجديدة، وهذا ما يجعل الرؤيا الشعرية التي تضخّها القصائد في شرايينها الوجودية، مفتوحة ونابضة بالحياة وتنفتح على أكثر من أفق وفضاء معرفي، وهذا ما صرح به قائلاً: "إن وجود هذا الكم الوافر من الشخصيات جميعاً في مجموعة شعرية واحدة، ربما انفتح على حوارين متداخلين، حوار متخيل بين جميع الشخصيات، بكل مصادرها الثقافية وخصوصياتها الاجتماعية والبيئية، وحوار آخر، بين المتلقي، وهذه الشخصيات، ومثل هذه الحوارات لا تمثل غنى ثقافياً فحسب، بل تمثل انفتاحاً يتجاوز الأحاديات والتعصب وضيق الأفق"(5).
وللبحث في خصوصية هذه التقنية- على المستوى الاستطيقي- في تفعيل المشاهد وإبراز متحولها الوجودي، في قصائد (أولئك أصحابي) سنحدد أبرز المفاتيح والرؤى التي تضخها في مستواها الرؤيوي العميق ومنظرها الجمالي الفاعل على مستوى المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي وفق مايلي:
1 - استطيقا المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي على مستوى الأحداث والمواقف الدرامية:
تتحرك المشاهد الشعرية في قصائد (أولئك أصحابي) على أكثر من متغير مشهدي، وذلك بالزوغان في حركة المشاهد والأحداث الدرامية التي تبثها هذه القصائد، ففي قصيدة (الشيخ يعود إلى البحر) تضج الأحداث والمشاهد الدرامية، والصراع الداخلي على مستوى الذات، وحراك الشخصية الروائية، شخصية الصياد العجوز (سانتياغو) والواقع الشعري الذي يدخله فيه، وهنا، يبدو لنا أن معظم اللقطات المشهدية تتكاثف، وتتلون تبعاً لحراك الشخصية، والأحداث، والمواقف المحتدمة في قرارة الذات الشاعرة؛ وهذا ما نستدل عليه من قوله:
"كُلُّ سنيني..
تقفُ الآن على الساحلِ .. تسألُ عنّي
ودلافينٌ طيٍّبةٌ .. كانت تتبعني حيثُ أكونُ..
تُشاركُني أسئلتي..
تبحثُ عنّي ..
الصيادون رفاقي .. سألوا صاحبة الحانةِ عنّي
أَتفادى ما كنتُ أرى..
تُقبِلُ سيِّدةُ الإقيانوس .. الطيِّبةُ الهادئة..
الفضِّيةُ..
تدخُلُ في حُلُمي .. فأفارقُها في الصحوِ
لتتركَ لي عندَ ضفافِ النومِ .. هداياها
ها هي..
أجمَلُ من كلِّ أميراتِ البحرِ
لها.. ما ليسَ لكلِّ أميرات البحرِ من السحرِ
تناديني..
والأقراشُ تُحييّني..
وأَراني أصطحبُ البحرَ إلى الحانةِ..
في ليلٍ يفتحُ فيه القمرُ الطفلُ .. جميعَ الأبوابْ
لندخُلَ مملكةَ الصيدِ .. وفردوسَ الصيّادينْ
أنا والبحرُ ومانولينْ
تُغافلُني الريحُ .. وتذهبُ بي حيثُ تشاءْ
تُخرِجُني من إيلاف الماءْ
وتُنزلني في مدنٍ لا تعرفني..
وتُغافِلني ثانيةً..
تُسمِعُني في شدو طيورٍ خائفةٍ..
أُغنيةً سوداءْ"(6).
هنا، تتحرك المشاهد المحيطة بالشخصية الروائية، من خلال كثافة اللقطات والشخوص، وتعدد الرؤى، وانبثاقها بالحراك الرؤيوي المفتوح، لينزاح الشاعر بالشخصية من الحدث الوصفي (تُقبِلُ سيِّدةُ الإقيانوس.. الطيِّبةُ الهادئة .. الفضِّيةُ .. تدخُلُ في حُلُمي .. فأفارقُها في الصحوِ لتتركَ لي عندَ ضفافِ النومِ .. هداياها)؛ إلى الحدث والمشهد البصري المتحرك بالرؤى، واللقطات المكثفة المتتابعة: (والأقراشُ تُحييّني .. وأَراني أصطحبُ البحرَ إلى الحانةِ.. في ليلٍ يفتحُ فيه القمرُ الطفلُ .. جميعَ الأبوابْ لندخُلَ مملكةَ الصيدِ .. وفردوسَ الصيّادينْ أنا والبحرُ ومانولينْ)، واللافت ليس فقط حراك الشخصية، لتبث مكنونها الشعوري، وإنما تقوم بدور استطيقي مشهدي متحرك، لتلعب دور المحرك المشهدي لكل الأشياء المحيطة بالشخصية، وهكذا؛ تتحرك المشاهد المحيطة بالشخصية -بفواعل الشخصيات الأخرى المساعدة- في تشكيل المشهد البانورامي المتحرك العام عبر الشخصيات المساعدة: (البحر=مانولين- سيدة الإقيانوس)؛ وهذا التفعيل المشهدي ارتقى بفواعل الرؤيا الشعرية، لتكون الشخصية فاعلة بمؤثرين متضافرين: مؤثر بصري مشهدي مكثف، ومؤثر بانورامي محتدم يرتد من الذات الشعرية إلى الشخصية الروائية؛ لتحكي واقعها الصلب وثباتها، وقوة دفقها الشعوري؛ وموقفها الصلب الجسور؛ وهكذا، تتلون الرؤى الفاعلة التي تبثها الشخصية الروائية عبر حراك المشاهد استطيقياً، وتلوينها بالرؤى والدلالات الجديدة.
وكما هو حال المشاهد المتحركة في قصيدة (الشيخ يعود للبحر) نجد مثل هذا الحراك المتتابع في قصيدة (ملهاة الدكتور زيفاغو) التي تتحرك بالمشاهد البانورامية المتحركة، فشخصية الدكتور (زيفاغو) هي الشخصية الفاعلة المتتابعة اللقطات، والمشاهد المتحركة، وكأن الحدث الروائي هو حدث مكثف للمشاهد المتضادة والمحتدمة بالدراما والصراع النفسي بين الزمن الروائي والشعري، والواقع الروائي والشعري، والرؤيا الروائية والشعرية، والحدث الواقعي والشعري، لتحكي القصيدة فاعلها الرؤيوي الخاص، وتحقق منتوجها الإيحائي الفاعل، كما في قوله:
"ويُقيمُ بيوتاً كما يتمنى .. ويهجرها
يتغيَّرُ وجهُ البلادِ .. وهو كما كانَ..
أو يتغيَّرُ حكامُها .. وهو كما كانَ..
تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ .. ويألفها وتغيبُ..
وهو كما كانَ..
يرسمُ لارا على صفحةٍ من كتابٍ قديمٍ .. ويوقظها
فإن غيّبتها المنافي .. تَخَيَّلها .. حيثُ كانَ
تُشاركهُ عربات القطارات..
تسبقهُ..
إذ يُحاولُ أن يتآلفَ من غير مَكْرٍ .. مع الخوفِ
في كلِّ بيتٍ سيدخلهُ ويفارقهُ بعدَ حينْ
وفي كلِّ ثانيةٍ تتخفى .. وتهربُ..
حتى تكونَ .. خارج بيت السنينْ"(7).
هنا، تحتفي الشخصية الروائية بتراكم المشاهد المتحركة، وتراكم موحيات الجمل، ومؤثراتها، وفواعلها الخصبة، وهذا الحراك المتتابع تنامى تدريجياً مع الموقف الشعري، فشخصية (زيفاغو) لم تتغير في مواقفها الشعورية، ولهفتها اللامتناهية للمحبوبة (لارا)، وهذا اللحاق والجري اللاهث وراءها كان له دوافعه، وملحقاته الشعورية، بالانتقال من مشهد وصفي، يجسد الواقع الروائي المتحرك: (يرسمُ لارا على صفحةٍ من كتابٍ قديمٍ .. ويوقظها فإن غيّبتها المنافي .. تَخَيَّلها .. حيثُ كان تشاركهُ عربات القطارات .. تسبقهُ) إلى مشهد بانورامي محتدم متحرك على أكثر من مشهد متحرك، وفاعل رؤيوي متطور: (وفي كلِّ ثانيةٍ تتخفى .. وتهربُ .. خارج بيت السنينْ"؛ وهذا التتابع والزوغان المشهدي اتبعه بزوغان رؤيوي، استمر بتتابع الرؤى، واللقطات بين اللقطات المشهدية الوصفية، واللقطات المتخيلة؛ كما في قوله:
والذينْ..
وجدوا في حدائقهِ ثمراً غيرَ ما عرفوا من ثمارْ
وفي ما يقولُ .. غير َ الذي ألفوا منْ كلامْ
همْ آسروه..
فكانَ الأسيرُ الذي يقاتلُ في جيش آسرهِ
أيُّ معجزةٍ
سَتُفَكِّك هذا التداخل بين الخراب وبين الخرابْ
بينَ شدو اليمامِ وبين عواء الذئابْ؟"(8).
إن القارئ –هنا- سرعان ما يدرك كثافة اللقطات، والمشاهد المتداخلة المحتدمة في القصيدة، وكأن ثمة حراكاً مكثفاً بالمشاعر، واللقطات المفتوحة المتضادة: (شدو اليمام/ عواء الذئاب)، وهذا يدل على أن القوى الموحية الموجهة للأحداث التي تبثها القصيدة، ذات حراك مشهدي ينم على قوة الشخصية الروائية، ودفقها الشاعري، في حراك المشاهد، والرؤى المتخيلة، لتصل إلى الذروة في الإثارة، والتكثيف، والحراك الرؤيوي، كما في قوله:
ثمَّ عاد إلى بيتهِ..
يتساءلُ .. هل عاد يوماً إلى بيته؟!
كان يبحثُ عن كلِّ ما ضاع منه .. قصائده والبلادْ
أُسرته وحبيبته
كلُّ أصحابه اعتكفوا .. هاجروا .. قتلوا .. انتحروا
وما كان يبحثُ عنهُ .. طوتهُ الأعاصيرُ
فاختارَ لحظته الأخيرةَ .. ثمَّ مضى ..
لينامْ"(9).
وهكذا؛ تتداخل المشاهد الواقعية بالمتخيلة؛ ليرصد الشاعر حراك الشخصية من الداخل؛ تبعاً لحراك الرؤى المكثفة التي تشي بها القصيدة؛ لتسهم قي بث متخيلها الروائي، بجامع شعوري يتوحد إحساس الشاعر فيه بإحساس الشخصية؛ فكما يحلم الدكتور زيفاغو بالعودة إلى أحضان (لارا) يحلم الشاعر بالعودة إلى العراق، إلى المشاهد الماضية، إلى مكتبته، وبيته، وأصحابه، وأصدقائه، ليعيش لحظته الأخيرة، وينام بسكينة، وأمان، وهكذا، بدت المشاهد البانورامية متحركة، بأحاسيس الشاعر، وبواطن الشخصية الروائية، مما يجعل الشخصية الروائية متحركة على أكثر من محور، ومحرق دلالي، ومشهد نصي فاعل في الإثارة، والتكثيف، والعمق والشمولية.
وكما هو الحال في شخصية الدكتور (زيفاغو)، نلحظ كثافة الزوغانات المشهدية في شخصية (مدام بوفاري)، وما يحيط بها من مؤثرات، ومشاهد، وأحداث مرافقة للشخصية في حراكها الشعوري المكثف، على شاكلة قوله:
"في كُلِّ عامٍ يصلُ الشتاءْ
إلى فراشها في أولِّ الليلِ ..
وإذْ يراها في بهائها الضاري
يُقيمُ مهرجان الدفء .. ثمَّ يغلقُ الأبوابْ
وإذْ يعودُ الصيفْ
تطلعُ من معطفها الزيتي .. غصناً يافعاً
فيملأُ الأمداءْ
بنزقٍ مُكابر ٍ.. وفتنةٍ بيضاءْ
أنّى تكون في طريقها إلى مواسم الشذى
يَتَّسعُ الفضاءْ"(10)
هنا، يثيرنا الشاعر بالانتقال الاستطيقي الفاعل بين اللقطات، من لقطة مشهدية إلى أخرى، مكرساً من صفات مدام بوفاري ما يهبها التمايز، والاختلاف، واللافت على مستوى الجمال الاستطيقي الفني تناغم اللقطات التصويرية، بزوغان مشهدي ينتقل من لقطة جمالية شعرية إلى أخرى، محققاً قوة بلاغية شعرية ترتقي بالرؤيا، والحدث الشعري معاً، وتفعيل المشهد الرومانسي التصويري الدافق بالنضارة، والحساسية الشعرية، كما في قوله: (تطلعُ من معطفها الزيتي .. غصناً يافعاً فيملأُ الأمداءْ بنزقٍ مُكابرٍ .. وفتنةٍ بيضاءْ)؛ وهذا الزوغان في حركة المشاهد واللقطات من لقطة إلى أخرى، ومن صفة جمالية إلى أخرى يهب الصورة القوة والفاعلية، ويؤكد فاعلية المشهد البانورامي الوصفي المتحرك، ويثير الحساسية الجمالية، وهذا يرتد صداه وفاعليته إلى محرق الدلالات، ومثيرها الفني المباغت، وهنا لو دقق القارئ في الزوغانات التصويرية على مستوى المشاهد المتحركة لأدرك أن اللعبة الاستطيقية، مفتوحة على جميع الاحتمالات، وكلها تصب في أتون الحرقة على زمنها الماضي، بجامع شعوري يجمع الذات الشعرية بالشخصية الروائية، فكما مدام بوفاري تسعى لاستعادة نضارتها وخصوبتها وألقها العظيم بحراك شعوري مشهدي متموج، يموج بالخصوبة والنضارة والحياة والديالكتيك والصراع الوجودي، فكذلك يسعى الشاعر حميد سعيد أن يستعيد ملكه، ويحقق وجوده الزمني المشرق، ويستعيد زمنه وحلمه وملكه الضائع، وهنا؛ تداخلت المشاهد المتحركة بفواعلها الاستطيقية الكاشفة عن عمق مخزونها، ومتنفسها الشاعري الرؤيوي العميق، ليبث لنا الشاعر عالمه الروائي الذي ينبع بالخصوبة، والحيوية، والجمال والحراك الفاعل، كما في قوله:
تَخْرُجُ من صورتها التي انتهت إليها
فتضيعُ في متاهةِ الأقوالْ
أَليسَ من حقيقةٍ سوى الذي يُقالْ؟!
إنَّ "إيما" امرأةٌ..
يُدركها الرضا إذا عشقها الرجالْ
وهي امرأةٌ..
تولَدُ إذْ تٌحِب .. وتموتُ حينَ لا تُحَبُ..
وهي نجمةٌ .. تُضيء في مدارج العشقِ..
ويخبو ضوؤها في جفوة العُشّاقْ
سَأَلتهُ
إنْ كانَ جَدّهُ الذي أقام في الريف الفرنسي
لهُ روايةٌ عن زوجها .. غير التي رواها السيّد "فلوبير"؟
قالَ .. لا
يَختلف الناسُ عليه
بين من يقولُ كانَ غِرّاً ساذَجاً
ومَن يقول .. إنّهُ خرتيتْ"(11).
هنا، يضعنا الشاعر في لجة الرؤى، والمواقف المشهدية المتحركة، ليدخلنا عمق الرواية، وعمق منتوجها المشهدي الروائي، ليحكي عن مدام بوفاري في إحساسها الداخلي، ورغبتها في أن تبقى دائماً مهوى الرجال في عالمها الوجودي، وكأن الشاعر يدرك -تماماً- أن فواعل الرؤيا الاستطيقية المشهدية تبدأ من الرواية والمشاعر المتوترة التي تمور في بواطن الشخصية الروائية، ثم ينتقل منها ليجسد الاصطراع الداخلي على مستوى شخصيته الروائية، ورصد مكنونها العميق، ليحكي اصطراعه وإحساسه الاغترابي المرير، وكأن موجاته الشعورية وإحساسه بالاغتراب ينتقل على مستوى زوغان الرؤى، والمشاهد المتحركة، لينتقل -بشكل مفاجئ- في مجرى الأحداث، منزاحاً من أسلوبه الوصفي، لينتقل إلى حديث المروي أو الرواي ليكون المشهد متخيلاً لا مشهداً واقعياً معاصراً أو معاشاً إلا على سبيل التشويق وكشف غربة الذات، واحتراقها الشعوري، وهكذا، تأتي قصائد (أولئك أصحابي) شعلة في حركتها، وتتابع مشاهدها، وزوغانها من المشهد الروائي، إلى المشهد الشعري، ومن المشهد الشعري إلى المشهد الروائي، بديالكتيك رؤيوي استطيقي مفتوح تتداخل فيه الأحداث لتنفتح على عوالم رؤيوية مبتكرة، محلقة في سماء المواربة، والفن، والإبداع.
وصفوة القول:
إن استطيقا المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي- على مستوى الأحداث والمواقف الدرامية- في قصائد (أولئك أصحابي) تتأسس على بانوراما المشاهد المتحركة، والزوغان المشهدي على مستوى اللقطات والصور المتتابعة، بالانتقال من المشهد الروائي، إلى المشهد الشعري، ولهذا، تتداخل المشاهد لتحكي الواقعين معاً الواقع الروائي، والواقع الشعري، وهذا ما يكسبها العمق، والتفاعل، والانفتاح المشهدي، وتبدو المشاهد واقعية حيناً، ومتخيلة أو مروية حيناً آخر، وهذا ما يجعل اللعبة الاستطيقية مفتوحة برؤاها، ومدها الدلالي، وطيفها الإيحائي المفتوح.
2 - استطيقا المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي على مستوى المشاهد الوصفية، والأحداث المحتدمة:
لاشك في أن اللعبة الاستطيقية التي بنت عليها قصائد (أولئك أصحابي) مرجعيتها الجمالية، ومقومها الرؤيوي الخلاق هي العزف على قيثارة المشاهد الوصفية، والأحداث المحتدمة، ويخطئ من يظن أن هذه القصائد ذات منزع تشكيلي متواتر أو متشاكل، أو ذات منزع رؤيوي متواتر يتكرر كما هو النسق الحكائي الوصفي المتتابع في الكثير من القصائد القصصية، إنها- بحق- تخلق متغيرها الإبداعي الخلاق، بالانتقال بين الأحداث، من أحداث وصفية، إلى أحداث متخيلة، إلى أحداث واقعية تفصيلية للبيئة المحيطة بالشخصية الروائية المستحضرة؛ وهذا يعني أن فواعل الرؤيا الاستطيقية تتبدى في حراك المشاهد الوصفية، وتفاعلها في حيز تفاعلي رؤيوي مفتوح، فالشاعر الخلاق إبداعياً - بمنظورنا- لا يقتصر على المشاهد الدرامية، أو الوصفية، أو المتخيلة، إنه يبني عالمه الرؤيوي المفتوح، الذي يضج بالأشكال المشهدية المواربة، ولهذا، فإن المشاهد الوصفية تحقق متغيرها الجمالي عندما تحيط بالشخصية، وتكشف عن دقائقها الخفية، ومن أجل ذلك تنزع الكثير من قصائد (أولئك أصحابي) لأن تحقق متغيرها المشهدي بالزوغان من المشاهد الوصفية الروائية إلى المشاهد الوصفية الحسية، ومن هذا المنطلق، تسعى قصائد هذه المجموعة إلى تكثيف المشاهد الوصفية المتحركة التي ترصد بواطن الشخصية من العمق، ودليلنا على ذلك قصيدة (تجليات الماء) لحميد سعيد، إذ يكثف الشاعر المشاهد الوصفية المرتبطة بشخصيته الروائية (شخصية إيهاب)، مما يجعل المشاهد حية متفاعلة في نسقها الشعري، وهذا ما يضمن قوة الحدث، وعمق المشهد الذي تمثله الشخصية الروائية، في نسقها الشعري الجديد، كما في قوله:
إيهاب *
حتى إذا ما التقينا .. على غيرِ ما موعدِ
في الطريق إلى مطعم الأميرة الغجريّةِ..
عند منعطف الشارعِ السابعٍ..
لا تنتظرني
مُذْ لحتَ لي في شتاءٍ بعيد .. تُغادِرُ فندقك العتيقَ
لتلحقَ بي .. تحاشيتُكَ..
كنتُ تحاشيتُكَ من قبلُ
كيفَ التقينا؟
ألا تتذكّرُ ما كان منكَ .. وما كانَ منّي؟
ما زلتُ أسمعُ وقعَ خُطاكَ الثقيلَ..
على حجر الشارعِ
أنتَ تَحاشيتَ كلَّ الذين تمرُّ بهمْ
ووقفتَ لتسألُني .. عنكَ!"(12).
هنا، يصف الشاعر مشهدياً لقاءً متخيلاً، بينه وبين شخصيته الروائية شخصية (إيهاب)، وهذا المشهد يبدو مشهداً وصفياً متحركاً بفواعله، وبناه، ومحركاته الرؤيوية، رغم أن أحداثه تبدو مألوفة تصل إلى درجة الألفة والعادة أن تلتقي شخصية ما في الشارع تحادثها، وتصفها، وترصد بدقة مشهدية حركتها، وملامحها، ودقائقها الصغيرة، كما في قوله: (كيفَ التقينا؟ ألا تتذكّرُ ما كان منكَ .. وما كانَ منّي؟ ما زلتُ أسمعُ وقعَ خُطاكَ الثقيلَ ..على حجر الشارعِ .. أنتَ تَحاشيتَ كلَّ الذين تمرُّ بهمْ ووقفتَ لتسألُني .. عنكَ!"؛ وهكذا تتأسس المشاهد الوصفية المشهدية على تفعيل البنى السردية الوصفية؛ وتحميلها من الرؤى والدلالات والأوصاف ما تغتني به المشاهد الوصفية وترتقي بالشخصية، كما في قوله:
"لقد شاختْ الأساطيرُ وانطفأت قناديلها..
أَيُّ أسطورةٍ ستُعيدُ إليكَ سطوتك الآفلهْ؟
لا غرابةَ .. في ما انتهيت إليهْ
وأغربُ مما انتهيت إليه .. سيأتي
فمن ستكون .. بلا بحر ؟
لا سُفُنٌ .. لا رفاقٌ ..
ولا عائلهْ
لو حلمتَ .. بأنّكَ بالقرب من باب بيتكَ..
كُنتَ تشكُّ .. بأنّكَ بالقُربِ من باب بيتكَ..
لا أَحَدٌ في الجوارِ ..
مُذ أَسَرتكَ المياهُ البعيدةُ .. غابَ الحوارْ"(13).
هنا، يعقد الشاعر بفاعلية رؤيوية خلاقة المشاهد الوصفية المحيطة بشخصيته الإيهابية والأحداث المرتبطة بها، وذلك بالجمع بين الأحداث الواقعية، والأسطورية، والشعرية المتخيلة بمفاعلة حوارية كاشفة عمق الحدث، وعمق الرؤيا، ولهذا، تتفاعل الأحداث في تأسيس حراك الرؤى المتعلقة بالشخصية، هل يعود إلى البحر، وهل يذكر أصدقائه البحارة بعد انقطاع طويل، بزوغان مشهدي يعكس من خلاله حلمه بالعودة إلى الفضاءات العراقية بعد انقطاع دام سنوات، وهكذا، تتفاعل الرؤى والأحداث والمشاهد في شخصيته الروائية، وتحقق منتوجها المؤثر، في أكثر من شخصية من شخصيات قصائده، كما في قصيدة (ثم وجد الكولونيل من يكاتبه) على سبيل المثال، إذ يكثف الأحداث الوصفية، ويدخل الشاعر في لعبة الحدث والمشاهد الشعرية المتحركة بفواعل رؤيوية تنبثق من عمق الرؤيا، وشعرية الحدث، وزوغان المشاهد الوصفية، كما في قوله:
ها أنذا التقي الكولونيل .. بعد غيابٍ طويلْ
أرى فيه .. ما لمْ أَكُنْ قد رأيتُ من قبلُ..
هذا العزوفُ عن البحرِ..
لا الذكرياتُ التي ظلَّ يفتحُ فيها نوافذَ..
يدخلُ منها الذي كانَ .. يوقظهُ حين يغفو
ولا أحدٌ من سعاة البريد يعرفُهُ ..
إذْ تلاشى النظامُ البريدي
مُذْ صار لا يتذكّرُ أنَّ له مَنْ يُكاتبُهُ
كُنتُ بعدَ الغيابِ الطويلِ
أَسكُنُ ذاكرتي .. وأراها بلاداً
وأبحثُ فيها عن الأصدقاء الذين توزَّعَهمْ .. كوكبٌ خشنٌ..
عناوينهم .. ومصائرهمْ
وكتبتُ إليه .. مثنىً .. وكرّرتُ..
ما جاءني منهُ ردٌ
تخيَّلتُهُ بانتظاري..
وكُنتُ سأسألُهُ عن بلادٍ جَفَتهُ
فبادرني بالسؤالِ
أأنت الذي لم يجد في البلاد .. بلاداً..
ففارقها؟
قُلتُ .. لا
لمْ أُفارقْ .. فقد سكَنَتْني بلادي"(14).
هنا، يدخل الشاعر في حوار مشهدي مع شخصية الكولونيل، وهذا الحوار استمد قوته من فواعل الرؤيا؛ وفواعل الحدث، وشعرية السرد الوصفي للمشاهد والأحداث، كما في قوله: (ها أنذا التقي الكولونيل .. بعد غيابٍ طويلْ أرى فيه .. ما لمْ أَكُنْ قد رأيتُ من قبلُ .. هذا العزوفُ عن البحرِ.. لا الذكرياتُ التي ظلَّ يفتحُ فيها نوافذَ.) ثم يعمق حراك المشاهد الوصفية بالحوار الرؤيوي الكاشف عن موقف الشاعر وشخصيته الروائية في آن معاً، كما في قوله: (وكُنتُ سأسألُهُ عن بلادٍ جَفَتهُ فبادرني بالسؤالِ أأنت الذي لم يجد في البلاد .. بلاداً .. ففارقها؟ قُلتُ .. لا لمْ أُفارقْ .. فقد سكَنَتْني بلادي)؛ إن هذا الشجن والحنين إلى العراق يكشف دواخل الذات الشعرية، وإحساسها الشعوري المحتدم بالوجد، والحنين إلى كل ما يذكره بوطنه، وأهله، وأحبائه الراحلين، لدرجة أن سكنت بلاده في نبض قلبه، وخافقه لدرجة لا انفصام لها، ولو دقق القارئ في حيثيات المشاهد الوصفية المتحركة في توصيف شخصيته الروائية، لأدرك فواعل الرؤية، وحراك المشاهد، واللقطات، والصور، والإحالات الملصقة بها، والمتعلقات الجديدة، وكأن القصيدة بانوراما متحركة للمشاهد الديالكتيكية المصطرعة بمؤثرات الرؤيتين والحدثين الشعري والروائي معاً، كما في قوله:
مَرَرتُ به ..
أَغلَقَ البابَ دون أحبتِهِ .. واكتفى بمعاشرة السرطانْ
وما عادَ يكتبُ إلاّ رسائل بيضاءَ..
لامرأة من شذى وضياءْ
لو كنتَ شاهدتَ خولةَ .. في وردها الحلبيّ ..
لما تبِعتْكَ الذئابْ
وهل كنتَ .. غيرَ خيالٍ يدبُّ على الأرض ..
لولا مُخَيَّلَةٌ عاصفهْ
وكما اللعبةُ الخشبيةُ صارت فتىً .. في الأساطيرِ..
صِرْتَ. .
أيُّها الكولونيلُ الخُرافيّ ُ.. يا كومةً من عظامٍ وجلدٍ عتيقْ
إنَّ جموح البلاغةِ أعطاك هذا الحضورْ
أَحرجني .. بينَ جوعٍ مُذِلٍّ وسَمْتٍ وَقورْ"(15).
هنا، يزاوج الشاعر المشاهد والرؤى بين الواقع الروائي، والواقع الشعري، وتتنوع المشاهد والإحالات الجديدة، لتكشف عن شخصيته الروائية (شخصية الكولونيل) المهترئة بالفقر، والجوع، والحرمان، وتعلقها بالأمل الهش (الراتب التقاعدي) الذي لم يصل، ولن يصل أبداً، لأن البريد معطل، وهنا، يبعث الشاعر في شخصية الكولونيل الأمل؛ إذ يكاتبه، ولكن مكاتبته كانت لابتعاث الأمل في نفس الشخصية، ويكشف من خلالها عن واقعه الاغترابي، فكما يحلم الكولونيل براتبه، ويأمل أن يصله على جناح السرعة يحلم الشاعر كذلك أن يعود إلى أجوائه العراقية، ومجده الضائع القديم، وهكذا، أتت الصور، والمشاهد، واللقطات الوصفية لتجسد الاحتدام بين الشعورين أو الحدثين في الواقع الروائي والواقع الشعري معاً، وهكذا، تغتني قصائد (أولئك أصحابي) بحراك المشاهد، وتنوعها بين الحدث الروائي والحدث الشعري، والمشهد الروائي، والمشهد الشعري، وهذا يؤكد شعرية الرؤيا التي تبثها هذه القصائد على مستوى لقطاتها الروائية، ولقطاتها ومشاهدها المتخيلة الشعرية، مما يجعلها في غنى وخصوبة، وفاعلية إيحائية ورؤيوية متحركةعلى الدوام.
وصفوة القول:
إن استطيقا المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي على مستوى المشاهد الوصفية والأحداث المحتدمة في قصائد(أولئك أصحابي) تتأسس على حراك المشاهد في الحدثين الروائي والشعري، وبمقدار ما يضفي الشاعر على شخصيته الروائية من لمسات جديدة تزدهي المشاهد، والأحداث، وتتنوع بإحالاتها الجديدة، وتحقق تلكم القصائد - بفواعل المشاهد استطيقياً- قوة دافعة في تفعيل الشخصية، وإلباسها لبوساً فنياً جمالياً آسراً، لتحقق فعلها الإيحائي الجمالي ومتغيرها الرؤيوي الخلاق على الدوام.
3 - استطيقا المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي على مستوى فضاء الأخيلة والرؤى الشعرية المتخيلة:
إن قارئ قصائد (أولئك أصحابي) في حراكها المشهدي، وفضائها الرؤيوي المتخيل يلحظ أن اللعبة الاستطيقية فيها تقوم على فواعل الأحداث والرؤى الجديدة المتخيلة المضافة إلى الشخصيات، لتتحرك الشخصيات على أكثر من موقف، ومشهد، ورؤيا، وحدث، ومؤثر زمني فاعل في استجرار الأحداث، وتحميلها من الرؤى مالا تحتمل، وبمنظورنا: إن فواعل المشاهد المتحركة -في جل هذه القصائد- تقوم على الحراك المشهدي والزوغان اللامتوقع للأحداث، والمشاهد الروائية عما هو معتاد فيها، لتحكي الشخصية الروائية واقعاً جديداً، غير متوقع بروزه بهذا الشكل الجمالي في فضاء هذه القصائد، ففي قصيدة (ربما كان زوربا) لحميد سعيد تكتسب شخصية زوربا طابعاً متحولاً لتدل هذه الشخصية على أكثر من رؤيا، وحدث، وموقف، وتتحول من شخصية (زوربا) المماحكة في واقعها، والمتحايلة على هذا الواقع، بمساومة بائعات الخبز، ثم يتحول إلى شخصية بائع الخبز، ثم يتحول إلى منجم أو رائي، أو دجال، وهذا الفضاء المتحول في المشاهد، والرؤى المتخيلة في مجرى سيرورة الشخصية الروائية يكسبها قيمة جمالية، وحراكاً مشهدياً فنياً كاشفاً عن الكثير من الرؤى والمتعلقات الجديدة، كما في المشاهد والأوصاف المتحركة في هذه القصائد بفواعلها الكاشفة ومتعلقاتها الإيحائية المكتسبة من السياق الشعري الجديد المتموضعة به، كما في قوله:
"ورأيتُهُ يوماً..
يُساوِمُ بائعات الخبز في السوق القديم
وبعد عامين التقيت به يبيع الخُبزَ
كنتُ أظنّهُ رجلاً مُقيماً .. ثمَّ غابَ عن المدينةِ
وانتهى ما كانَ منه ..
ضَجيجُهُ الليليُّ .. فِطنتُهُ .. الحواراتُ التي لا تنتهي
وشراسةُ الذئب المحاصر .. في الشجارْ
وقال لي..
مَن كان يُغضبٌهُ بما يُبديه من فتَنِ التعالي
كنتُ في " يَلَوا" ..
وقد غادرتُ اسطنبول أَبحثُ عن مُهاجرةٍ أُحِبُّ..
تُقيمُ فيها
ثُمَّ فاجأَني برفقتها هناك .. يَضُمُّها كغزالةٍ بيضاء ناعمةٍ
وأَسرعتُ الخُطى حتى إذا قاربتُ ظِلَّهما
وكدتُ أقولُ ما في النفس .. غابا"(16).
إننا نلحظ أن درجة شعرية المشاهد المتخيلة تتأتى من قوة حراك اللقطات، وتناغمها مع الموقف الشعري، واللافت أن زوغان المشاهد المتخيلة تتأتى من تفاعل المشاهد، والرؤى، ومؤثرات الحدث الشعري بتفاعل إيحائي، يثيرنا بتراكم المشاهد المكونة للحدث الشعري، من خلال المشاهد واللقطات المتتابعة حول تحول شخصيته الروائية، لتنفتح على كل عصر، ورؤية، وزمان، ومكان، وهكذا، تتلون الرؤية، واللقطات المتخيلة، لتشي بواقع الشخصية في زمنها المتحرك، فهو تارة الشخص الذي يبيع الخبز، ويساوم النساء، وتارة هو الذي يبيع الخبز، وتارة هو الشخصية الشرسة التي تحاور وتناور وتراوغ، باختصار يمثل زوربا الشخصية المنفتحة في حراكها، ولقطاتها ومشاهدها المتراكمة على الحياة بانفتاحها وحراكها الوجودي ولهذا أغرى باسيل الرجل الغني أن يستثمر أمواله في منجم للفحم، وهذه الأوصاف، تضع الرؤيا على محك التلوين، والإحساس، والفاعلية الوجودية: (ضَجيجُهُ الليليُّ .. فِطنتُه .. الحواراتُ التي لا تنتهي، وشراسةُ الذئب المحاصر .. في الشجارْ)؛ وهكذا، تتلون الشخصية الزرباوية بتغير الزمان، ومتغيرات الحدث، والرؤيا، وهذا ما تشي به المشاهد والرؤى المتخيلة التي تقترب من الشخصية الزرباوية، وتبتعد عنها، كما في قوله: (ثُمَّ فاجأَني برفقتها هناك .. يَضُمُّها كغزالةٍ بيضاء ناعمةٍ وأَسرعتُ الخُطى حتى إذا قاربتُ ظِلَّهما)؛ وهكذا، يبلور الشاعر رؤيته الشعرية على تكثيف المشاهد واللقطات الزوغانية، التي تتعلق بشخصيته الزرباوية، محققاً أقصى درجات الفاعلية في المشاهد المتعلقة بالشخصية الروائية، بك حراكها الرؤيوي ومتعلقاتها المشهدية المتخيلة في الذهنية الشاعرة، كما في قوله:
"على ضفاف الأبيض المتوسط
اقتربتْ سفينتُهُ من الميناءِ.
في هذا المدى البحريِّ .. تندفعُ الطيور البيضُ نحو القادمين
كأنّها انتظرتهُ..
حتى يستعيد قراءة الأحجار والأشجارِ
ما أبقى على الأبواب من أسراره..
ما كان من وجعٍ
أيرقصُ مرّةً أخرى .. وقد طردته مملكةُ الغناءْ؟!
واختارَ منفى لاتمرُّ به النساءْ
على ضفاف الأبيض المتوسط..
اقترنت خطاهُ بمأزقِ خَطِرٍ
على الأرض التي احتضنت سريراً..
ضَمَّ "باسيفي" بكل شرورها .. والطُهرَ في "مينوس"
هل كانت طرائده تقودُ خُطاه في المدن التي عرفته..
للتفاحة الأولى..
شميمٌ لاذعٌ وعواصفُ سودٌ
رأى في كلِّ من فتحت له أبوابها .. تفّاحةً أولى
فيقضمها..
وهاهو .. بعد أن جفَّتْ ثمارَ حقوله..
قَضَمَتهُ"(17).
إن القارئ يلحظ كثافة الرؤى والمشاهد والمتغيرات المتعلقة بشخصيته الروائية التي تكشف بواطن الذات الشعرية، وإحساسه العميق بهذه الشخصية، ليشتغل استطيقياً على تتابع المشاهد المتعلقة بتحولات الشخصية الزرباوية للاقتراب من الواقع الروائي حيناً، والابتعاد عنه حيناً آخر، محققاً فاعلية في المنظور، وفاعلية في الزوغان، والانتقال المشهدي المتتابع من المشاهد الوصفية، إلى المشاهد المتحركة ذات الحيازة الرؤيوية والحراك الشعوري، وهكذا، وفق الشاعر في خلق التلاحم الفني بين اللقطات والمشاهد الشعرية والروائية المتحركة، وهذا ما يحسب إبداعياً لهذه القصائد في حراكها المشهدي المكثف.
وما ينبغي التأكيد عليه: أن استطيقا المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي على مستوى فضاء الأخيلة والرؤى الشعرية المتخيلة في قصائد (أولئك أصحابي) تتأسس على فاعلية المشاهد، والرؤى المتحركة، والزوغان الرؤيوي اللامتوقع في حركتها، بالانتقال من الحراك المشهدي المتتابع إلى كثافة الرؤى، والمنظورات المواربة في الشخصية، ففي قصيدة (يسأل عوليس .. إلى أين سأمضي) لحميد سعيد، يكثف المشاهد والرؤى المتخيلة إزاء هذه الشخصية، وتتفاعل اللقطات الشعرية المتخيلة مع الأحداث الروائية الملصقة بها، كما في قوله:
يسألُ عوليسُ .. إلى اين سأمضي؟
لا مكانَ لي..
وليسَ لي من سفنٍ تُعيدني إلى فردوسي البعيدِ ..
إيثاكا .. التي تعثّرت بأبجدية الأحلام
مَنْ سيعرفُ القادمَ من متاهةٍ خرساءْ؟
عامَ ركبتُ البحرَ .. باتجاه ضفةٍ أخرى..
وجدتُ الضفةَ الأخرى..
تعدُّ ما يُعَدُّ للرحيل ..
فإلى أين سأمضي؟
لامكانَ لي..
بنيلوب ماتت .. واستُبيحَ نولُها
المياهُ فارقتْ لغتها الأولى..
تصحَّرت ضفافُ آخر القصائد البيضِ..
غزاها الرملُ والرمادُ..
وادّعاها السادةُ السماسرهْ"(18).
هنا، يدخلنا الشاعر حميد سعيد أجواء شخصيته الروائية بكل المشاهد المتحركة بفواعلها كلها من خسارة ملكه، وانتهاك حرمة زوجته (بنيلوب)، وضياع أسرته، وما عاد يملك من ملكه شيئاً، وهنا، يأتي التساؤل مفتوحاً على كل الاحتمالات والمشاعر المغتربة المريرة، وكأن الشاعر يعقد مقارنة بينه وبين (عوليس) فكما خسر (عوليس) ملكه وضاع سلطانه ومجده التليد، خسر الشاعر بيته ومملكته ومجده التليد بجامع مشترك بين الواقع الروائي والواقع الشعري، والمشهد الروائي والمشهد الشعري، والحدث الروائي والحدث الشعري، وهذا التداخل دل عليه من خلال رصد ما حدث لزوجة (عوليس) وخيانتها لزوجها (عوليس) بعدما جاء إليها فأنكرته، لأنه هرم، وضاع صباه وعنفوان شبابه، فالشاعر ما أراد أن يجسد هذه الشخصية الروائية إلا ليؤكد تكالب الخونة على العراق، وضياع ملكه، وضياع تراثه، ومكتبته، وتاريخه النابض بالحيوية والصفاء والإشراق، وهذا ما يدل عليه في قوله:
"يسأل عوليس .. إلى أين سأمضي؟
كلَّما اقتربتُ من أسئلتي .. تبعدُ إيثاكا
تعبتُ..
كلّما اقتربتُ منها .. ابتعدَتْ
ما عدتُ أختارُ العشيّات لألقى من أُحبُّ..
في رحابها..
أو أُبعدُ العناكبَ الفظّةَ عن أبوابها
تغدو الكوابيسُ إذا ما اقتَرَبَتْ منها .. دليلاً حذراً
في ليلها أرى الدمَ المُراقَ في عليائه..
على القبابْ
وفي النهار .. تملأُ الشوارعَ الخائفةَ الذئابْ
أيتها المدينة التي ما دجّنتها الخطبُ العصماءْ
ولا العمائمُ التي يضجُّ في طيّاتها الرياءْ
ولا الأكاذيب التي تئنُّ منها .. الكتُبُ الصفراءْ
لربّما يدقُّ بابَ الريحِ عوليسُ .. افتحي
أيتها المدينة التي .. تسهرُ بانتظاره..
الأبوابْ"(19).
هنا، يجسد الشاعر المشاهد المحيطة بالشخصية بجامع رصد الواقع الروائي المتخيل، والواقع الشعري المجسد، فكلا الواقعين يؤذن بالانهيار، والتلاشي، والضياع، وزوال الملك، لكن رغم ذلك لم تغب النظرة التفاؤلية بالعودة واسترجاع زمنه الضائع، وملكه الذي كان، وهكذا، اغتنت الرؤيا الشعرية بفواعل الحدث، وقوة المشهد، واللقطات المتتابعة، في تكريس الرؤى التفاؤلية، بأنه لابد من عودة ملكه الضائع، وزمنه القديم، وهكذا، تتحرك المشاهد المتحركة بفواعل الحدث وتعميق الرؤيا، وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول:
إن استطيقا المشاهد المتحركة والزوغان المشهدي على مستوى فضاء الأخيلة، والرؤى الشعرية المتخيلة في قصائد (أولئك أصحابي) تتحقق من خلال فاعلية الحدث الروائي، وقوة المتخيل الشعري في تحريك الشخصية الروائية، وإبراز متحققها الوجودي الاغترابي، سواء أكان ذلك بالاغتراب عن زمنها، أو زمننا، لتحيا زمنها الإبداعي الوجودي الخاص بها، وهكذا، تتلون المشاهد واللقطات -في هذه القصائد- لتغني الموقف الروائي والحدث الشعري الجديد، ولهذا، تبدو فضاءاتها مفتوحة على احتمالات، ودلالات لا متناهية، وهذا مصدر غناها الرؤيوي والفني في آن معاً.
نتائج أخيرة:
1 - إن المشاهد المتحركة في قصائد (أولئك أصحابي) تسهم في تحريك الشخصية الروائية، وتنويع أدوراها ومؤثراتها في تعميق فاعلية الحدث الشعري، وتحريك المشهد الشعري – الروائي المتخيل.
2 - إن فاعلية الرؤيا تزداد في قصائد (أولئك أصحابي) بتفاعل المشاهد الروائية بالمشاهد الشعرية، وهذا يرتد أستطيقياً على فواعل الحدث والرؤيا، ونواتج الدلالة، وشعرية الموقف.
3 - إن مصدر غنى الأحداث ودرامية المواقف الشعرية في قصائد (أولئك أصحابي) يرتد إلى ديالكتيك المشاهد المتحركة، وفواعل الرؤيا، وحراك اللقطات المتتابعة بين الواقعية والمتخيلة والوصفية والدرامية.
الحواشي:
(1) شرتح، عصام، 2016- حوار مع حميد سعيد حول مجموعته (أولئك أصحابي)، مجلة ديوان العرب، موجود على الرابط الإلكتروني التالي:
: www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article...
(2) المصدر نفسه، الرابط نفسه.
(3) المصدر نفسه، الرابط نفسه.
(4) المصدر نفسه، الرابط نفسه.
(5) المصدر نفسه، الرابط نفسه.
(6) سعيد، حميد، 2015- أولئك أصحابي، ص14.
(7) المصدر نفسه، ص24.
(8) المصدر نفسه، ص24.
(9) المصدر نفسه، ص25.
(10) المصدر نفسه، ص28.
(11) المصدر نفسه، ص29.
(12) المصدر نفسه، ص4.
(13) المصدر نفسه، ص6.
(14)المصدر نفسه، ص35.
(15)المصدر نفسه، ص37.
(16) المصدر نفسه، ص38.
(17) المصدر نفسه، ص39.
(18) المصدر نفسه، ص 39.
(19) المصدر نفسه، ص40.