من فيلم «ضربة شمس» بدأت رحلة محمد خان في عالم السينما. كان الاكتشاف للفنان نور الشريف الذي أسند إليه مهمة الإخراج، وراهن عليه وهو لا يزال مخرجا مغمورا حديث العهد بصناعة السينما وإبداعها. لكن موهبته شجعت نور على إنتاج الفيلم، والمجازفة باسمه ومستقبله، وبالفعل كان حدس النجم والبطل في محله، فقد نجح فيلمه نجاحاً سمح باستمرار مسيرته مع المخرج الواعد وامتدادها إلى سنوات طويلة من التألق والإنجاز.
لم يتميز محمد خان فنياً وسينمائياً لأنه عكف على الدراسة الأكاديمية في لندن لعدة سنوات وحصل على المزيد من العلم والفكر في الإطار الذي يصقل موهبته الفطرية فحسب، وإنما جاء تميزه لتحرره من القوالب التقليدية للغة السينمائية المعتمدة على فكرة الوعظ والإرشاد، وتلقين الدروس وتقديم القدوة الحسنة، والحرص على النهايات السعيدة الدائمة، مهما كانت زوايا التناول، وإشكاليات الطرح وأنماط البشر والشخصيات المقدمة في البناء الدرامي.
لقد تمرد محمد خان على أشكال التسامح المطلق والنموذجية المستفزة في عرض القضايا الاجتماعية والسياسية، وعمد إلى النفاذ داخل عمق الإنسان، واكتشاف جوهره قبل الحكم عليه ظاهرياً، فكانت فلسفته التي ترجمت الكثير من أفكاره دون إدعاء وبمنتهى البساطة، وشكلت مكونات لوحاته الفنية المتباينة والمتعددة التي اقتربت اقتراباً فعلياً من هويات الأشخاص وثقافتهم، ودرجات وعيهم، مع وضع الاعتبار الأهم لكونهم آدميين من لحم ودم، نتوقع منهم الخطأ والشر كما نتوقع الخير والصواب. ومن يتأمل أغلب أبطال محمد خان وشخصياته في معظم أفلامه، يرى انه يركز على الجوانب الإنسانية والنوازع الأصيلة للشخصيات.
في فيلم «ضربة شمس» باكورة أعماله، لم يكن مشغولاً بالجانب البوليسي المثير، بقدر انشغاله بما تنطوي عليه شخصية المجرم من صفات وخصال نفسية، تقوده إلى هاوية الجريمة، وفي هذا الفيلم تحديداً قدم النموذج الأوضح للشخصية السايكوباتية، التي جسدتها بشكل منقطع النظير الفنانة ليلى فوزي في أهم أدوارها وأكثرها اختلافاً. فضلاً عن اعتنائه ببقية الشخصيات الأخرى، ووضعها في الأطر الملائمة لها، بما يفيد الفكرة العامة ويفضي إلى النتيجة المرجوة من الفيلم ككل، وهو ما تحقق بالفعل، حيث شاهدنا نمطاً مغايراً من عصابات تهريب الآثار ومحترفي القتل.
ومثلما جاءت البداية ناضجة ومبهرة، ظلت المسيرة على المستوى نفسه من الإتقان والجودة والحس المرهف بالمشكلات والقضايا الكبرى، ففي فيلم «خرج ولم يعد» ليحيى الفخراني وليلى علوي كان المحور الأساسي هو قضية الانفجار السكاني، وما ترتب عليها من تبعات الاختناق داخل العاصمة القاهرة، وفشل العلاقة العاطفية بين البطل والبطلة، نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية. لقد حول المخرج الراحل الكبير القضية الفردية إلى قضية عامة باعتبارها نموذجاً لحالات متعددة واختار خان الخروج إلى الريف حلاً مثالياً للأزمة، ليس أزمة الزواج فحسب، وإنما أزمات كثيرة أوردها بشكل ضمني، وأشار إلى بعضها كالزحام والضوضاء والفوضى، وفي ذلك استخدم الأغنية الشهيرة لأحمد عدوية «زحمة يا دنيا زحمة» كمعادل فني لوصف الحالة العشوائية المجتمعية، التي فرضت على البطل العزلة والخروج بعيداً عن محيطة الأصلي.
وفي «أحلام هند وكاميليا» قدم محمد خان شريحة اجتماعية مهمشة متمثلة في الخادمة وابنتها وصديقتها والزوج، وكلهم ممن دهسهم قطار الحياة، فصاروا ضحايا وباتت أمانيهم الكبرى مختزلة في الحصول على المال والخلاص من الفقر المدقع الذي صار عنوانهم وهويتهم. ويعد هذا الفيلم من العلامات في مشوار نجلاء فتحي وأحمد زكي وعايدة رياض. ولا يمكن الحديث عن مشوار المبدع محمد خان دون ذكر فيلمه الأميز «موعد على العشاء» بطولة سعاد حسني وحسين فهمي وأحمد زكي أيضاً، وهو من النوعية الإنسانية ذاتها التي ميزت أعماله وجعلتها فارقة في المعنى والمذاق. يتناول الفيلم العلاقة القسرية المركبة بين زوجين مختلفين في كل شيء إلى الحد الذي يقلب حياتهما جحيماً، ويصعّب على الزوجة قدرتها على التكيف معه، واختيارها الموت بديلاً اضطرارياً، بعد فشلها في الفرار من الزوج المستبد حتى بعد حصولها على الطلاق. هنا يلفت المخرج النظر إلى أهمية الحرية كقيمة إنسانية لا يعوضها شيء آخر، ويرمز في الحالة الفنية إلى الحياة في عمومها، فليست العلاقة المستحيلة بين الزوج والزوجة هي المعضلة الوحيدة، بل هي فقط مجرد مثال لفقدان الحرية كمقوم أساسي من مقومات البقاء وأسبابه الرئيسية.
وقد تُشبه حالة الأسر التي وقعت فيها سعاد حسني في فيلم «موعد على العشاء» حالة الأسيرة ميرفت أمين في فيلم «زوجة رجل مهم» مع ضابط أمن الدولة أحمد زكي، الرجل المتسلط المتجبر الذي يمارس وظيفته خارج إطار القانون، ويغتال أحلام الزوجة الرومانسية، معتبراً ذلك منتهى الانضباط وأن هيبته الشخصية من هيبة القانون. فكانت النتيجة الفصل من الخدمة وفقدان المنصب والانتحار، كخاتمة تليق به وبغروره. وبهذا يؤكد محمد خان مرة أخرى على القيمة الأسمى وهي الحرية، وفي ثنايا الفيلم يأتي صوت عبد الحليم حافظ كقيمة مضافة، وسلوى لكل معذب ومشجون عاش معاناة البطلة، أو كان له مثل تجربتها.
قدم الراحل أيضاً السيرة الذاتية للرئيس «السادات» في فيلم يحمل اسمه وكعادته في التجارب السينمائية الكبرى استعان بأحمد زكي، صديقه وبطله المفضل، فكان من فرط نجاح الفيلم أن أصبح قياس التجربة السياسية والإنسانية للسادات مرتبطا لدى العامة بالحالة الدرامية التي قدمها الفيلم، والتي جاءت على نحو إيجابي للغاية فساهمت في رفع أسهم السادات، وزيادة شعبيته، وهو سر من أسرار السينما وتأثيرها السحري.
أعمال كثيرة قدمها المخرج الراحل محمد خان تحق مناقشتها وتجدر بالاهتمام كأفلامه «شقة مصر الجديدة» و«الغرقانة» و«الحريف» و«طائر على الطريق» و«سوبر ماركت» و«فارس المدينة» و«فتاة المصنع» وآخر أفلامه «قبل زحمة الصيف». لكن جانباً آخر من إبداعه يستوجب التنويه وهو الكتابة، فقد كتب خان قصة 12 فيلماً وصدر له كتابان، الأول عن السينما المصرية، والثاني عن السينما التشيكية، وظل معتداً بموهبته ككاتب إلى أن رحل عن 74 عاماً مخلفا تراثا سينمائيا وإبداعيا وفكريا مهماً.