المقدمة :
ثمة طروحات ومفاهيم معرفية تشدنا أكثر في سبر عوالم سردية، تجعلنا في حالة اكتشاف انساق مضمرة تستبطن الخطاب السردي، وخاصة إذا ما كان هذا الخطاب يحتوي على مضامين فكرية، تعبر عن المعبر الفلسفي الشمولي للكاتب، وهي الأفكار التي نستوحيها من التكنيك السردي، وهذا متأت من أن الشكل يعدُّ من هذه الناحية الطاقة التعبيرية على تشكيل تلك الرؤى الفلسفية للعمل الأدبي، إذا ما كان هذا العمل يقدم نفسه إلى الآخر على شكل خطاب معرفي، يتشكل شيئاً فشيئا ضمن اللعبة السردية على تشكيل عوالم ممكنة تلك التي تبرز قيمة المكان مثيولوجيا، إذن ثمة علاقات ووشائج تربط هذا المكان المُخلّق بمثيولوجيا المدينة، وعلى قول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، بأن هذه العلاقات هي عبارة عن (أركيولوجيا معرفية)، طبقات متراكبة مع بعضها، ومن خلال التفعيل القرائي لمثل هكذا نص، ما علينا إلا تقشير طبقات التاريخ، وإظهار ما يمكن إظهاره على سطح الواقع، بحيث ان هذا المكان يبدو لنا عبارة عن بؤرة مكانية/ مخلّقة/ أفتراضية.
وفي ورقتنا النقدية هذه سوف نقرأ قصة (تاريخ القلب) للقاص نعمان مجيد قراءتين متتاليتين، وفق مفهومين مختلفين أحدهما مفهوم (فضاء العتبة) الذي اسسه الناقد الروسي الكبير ميخائيل باختين، مؤكداً في دراساته القيمة بان المكان ذي أهمية كبيرة في الأعمال الأدبية. أما المفهوم الآخر فهو مفهوم (الهابيتوس Habitus) الذي اسسه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، نتيجة تأثره بالبنيوية التكوينية، وهو من المفاهيم المهمة في النقد الثقافي، ليصبح واحداً من حقولها المهمة ذات المنزع الاجتماعي، والذي ترجمه الناقد العراقي الدكتور محسن جاسم الموسوي في كتابه (النظرية والنقد الثقافي ص / 21 – 22) إلى مفهوم (الملاذ الثقافي)، ومن سماته المهمة أنه يُعدُّ من المفاهيم التي تهتم بالوسط المعيشي بصفته (الحاضنة الاجتماعية) الذي يهتم بمثيولوجيا المكان. ومن سماته الإجرائية الأخرى أنه يقوم بكسر مركزية نص، ويحوله إلى مجرد وسيلة أو أداة لقراءة الأنساق المضمرة داخل العمل ومن تلك الأنساق التي تهمنا هنا، النسق الاجتماعي الذي يمكن ان نقرأ من خلاله قيمة المكان مثيولوجيا.
منطقة الإشتغال في قصة (تاريخ القلب):
1 – مفهوم «فضاء العتبة»
في قصة (تاريخ القلب) للقاص الراحل نعمان مجيد المنشورة في مجلة الأقلام العدد / 11 / سنة 1988م، أستطاع أن يخلّق لنا هيكلاً معماريا سرديا يحاكي نمط كتابة المخطوطات القديمة. مستلهما فيها الموروث الشعبي كالحكايات الشفاهية المتمثلة في تراث ألف ليلة وليلة، وإذا ما قرأنا القصة من خلال مفهوم (فضاء العتبة) نتأكد بان الفضاء هنا ليس مجرد إشارة إلى المكان، بوصفه هيكلا معماريا قائما بذاته والذي يمثله (قصر الفرجة)، بل أنه قام بتمثيل الواقع الاجتماعي في زمن بناء هذا المعلم الآثاري، سابغا عليه المنحى الرمزي. وهو فضاء يتمثل في المداخل والممرات والأبواب والنوافذ المشرعة، كما انه فضاء يتمثل في الحانات والأكواخ وبالتالي فانه يمثل : المواقف/ الأفكار/ الأشخاص الذين يعيشون بين/ بين.
كما أن الزمن الموجود في العتبة هو زمن (أزمة) لأنه زمن مشحون بالتوتر والقلق والاضطراب وطرح الأسئلة المصيرية. ومن هذا المنطلق نجد قصة (تاريخ القلب) تضعنا وجها لوجه أمام فضاء اجتماعي يتحول فيه المعلم الآثاري إلى شخص من شخوص القصة – فيصبح مرتكزا أساسيا يمكن الانطلاق منه كمكان مثيولوجي مخلّق، والناسخ الذي دوّن مضبطته على شكل طوبوغرافية لهذا المعلم القديم، أقام بتحديد: موقعه، حدوده، شكله، مكوناته وتاريخه، وذلك من خلال زمنين متباعدين: زمن الحكاية – حين كان الهيكل يرفل في أمجاده. وزمن السرد – حين فقد الهيكل هذه الأمجاد. وإذا ما حاولنا الاقتراب من مفهوم (فضاء العتبة) كمفهوم أجرائي، يمكننا قراءة هذا المعلم الآثاري بوصفه كائنا أنطولوجيا له كيانه الخاص، فأصبح هذا الكائن فضاءً إشكالياً، فضاء لا يمكن حسمه، بين أن يكون أو لا يكون، إنَّ هذا اللاحسم، هو مكان الاختلاف، والتجدد والإبتكار، بعدّهِ كائناً أنطولوجياً يتخارج مع نفسه باستمرار، بوصفه فاعلاً اجتماعيا ومصدراً اساسياً لهذا الوجود الافتراضي، فهل هذا الوجود الإفتراضي يعطي حقيقة الذات المفكرة من خلاله؟
وإذا ما تاكدنا إنَّ الحقيقة وبطلانها، لا يمكن أن تنبثقا من فضاء إشكالي، إلاّ من خلال الفهم وحده. من هذا المنطلق نعتقد ان هذا الفضاء قد امتلك بعدا تاريخيا وسوسيولوجيا في آن. فقسم الكاتب القصة إلى مستويين أو نواتين سرديتين. ففي النواة السردية الأولى نجد الناسخ اصبح الوجه الآخر للراوي الضمني الذي قام بروي ما تقع عليه عيناه، فبدت المضبطة عبارة عن سرد موضوعي/ تسجيلي/ مسح شامل لـ(قصر الفرجة)، أي أن السرد هنا تقصى مظاهر السكونية والثبات وإضفاء النبل على كل ما هو عتيق وأصيل وله قيمة آثارية وله طابع اجتماعي. ومن هنا نلاحظ أن الكاتب لم يمجد العتاقة وإضفاء النبل أو القداسة بقدر ما طرح بعدا إشكاليا تواتريا بين بنيتين متناقضتين وهما: انغلاق وتقوقع/ انفتاح وتطور، بين القديم والجديد. وبواسطة الاستدعاء الدلالي لبنية القديم وهو (قصر الفرجة) كما كان يرفل بأمجاده، تكشّفت لنا الحاضنة الاجتماعية والمتمثلة هنا بالمدينة بأماكنها الآثارية التي أصبحت جزءاً من الممارسات المجتمعية البغدادية. وهي دلالة مضمّرة داخل النص، كما لو أنَّ مضبطة الناسخ تحولت إلى خريطة سيميائية كشفت عن ملامح بغداد القديمة والمتمثلة بـ(أزقة محلة الذهب، محلة الدوريين، محلة الجعيفر، محلة الشواكة – بار سميراميس في الصالحية، مئذنة الست زبيدة، زمرد خاتون والشالجية).
أما في النواة السردية الثانية حاول الراوي الضمني أن يكشف عن الاجزاء الستة التي تمثل مواقف ستة أشخاص بآرائهم والذين يشكلون لجنة فحص المبنى المتمثل بـ(قصر الفرجة) الذي قام الناسخ بتسجيلها في مضبطته واودعها في خزانة المخطوطات، وذلك لإعطاء مسوغات قرار الهدم لهذا المعلم الآثاري القديم وهي عبارة عن وجهات نظر متباينة كما جاء في القصة على لسان الراوي الضمني: (أتضح أن المعلومات الواردة في مضبطة الناسخ ما هي إلاّ معلومات انتقاها من هؤلاء الأربعة الجالسين على يمينه ويساره باستثناء الجزء الخامس، ولهذا أعطى لكل واحد منهم حرفا هجائيا يبدأ بالحرف (أ) وينتهي بالحرف (د) وأعطى لنفسه الحرف (هـ) وربما سيضع الحرف (ن) بعد ان يطلع على مضبطتي حال انتهائي من كتابتها).
2 – مفهوم (الملاذ الثقافي)
ومن جراء الاسلوب التكنيكي السردي لهذه القصة التي اتخذناها نموذجاً في كشف ملامح البيئة البغدادية، فأنَّ (فضاء العتبة) يحيلنا إلى مفهوم (الملاذ الثقافي) بصفته الحاضنة الاجتماعية التي تتمثل بمدينة بغداد القديمة، وهو ما يجعلنا نقرأ النسق الاجتماعي المضمّر في هذه القصة. إذا ماذا ولد لنا مفهوم (الملاذ الثقافي) الذي تجاوز التعارض بين الوعي واللاوعي في هذه القصة، لقد ولد واقعين: أحدهما واقع اجتماعي يوجد في الأشياء، وهي تلك الأمكنة التي قام الناسخ بتسجيلها تسجيلاً موضوعياً في مضبطته التي أودعها في خزانة المخطوطات، وواقع اجتماعي ذهني، الذي يمثله هنا الفاعل الاجتماعي الراوي الضمني أو الناسخ لهذه المضبطة. ومن جراء هذا المسح الطبوغرافي (لقصر الفرجة)، بدا لنا هذا القصر وكأنه واقع تجريبي (امبريقي) قام القاص بتخليقه لنا. إذا ثمة واقع اجتماعي كان سائدا في زمن ما حينما كان هذا القصر يرفل بمجده وقداسته، وثمة واقع اجتماعي آخر يتمثل بالمواقف والآراء التي نسخت من لجنة فحص هذا الهيكل المتداعي الآيل للسقوط.
إن النقطة المهمة التي تتكشف لنا شيئاً فشيئاً من خلال التفاعل القرائي بين القارئ والنص، وتماشياً مع مفهوم (الملاذ الثقافي) بصفته الحاضنة الاجتماعية ان القاص أعاد الاعتبار للفاعل الاجتماعي في النواة السردية الثانية وهي هنا يمثلها الهامش بكونه زمن السرد الحاضر المتجه نحو المستقبل، الذي شكّل لدينا الرؤيا التواترية القائمة بين القديم والجديد. وهي هنا مجموعة الميول والتصورات التي أدلى بها أعضاء لجنة الفحص في هدم هذا المعلم الآثاري من عدمه. وبدا (قصر الفرجة) بدلالته وبصيغته النهائية يمثل المجتمع كجسم مستقل له صيرورته كبيئة اجتماعية خاصة به.
وإذا ما بدا مفهوم (الحاضنة الاجتماعية) يعبر عن النسق الثقافي السائد في الحقبة التي بُني فيها (قصر الفرجة) يمكننا استنطاق النسق الاجتماعي للأمكنة في داخل هذا المبنى. فـ(غرفة الحمام) تمثل شكلاً من اشكال الفضاء الداخلي المغلق أفرد لها القاص مكانة خاصة وجعلها في قلب المبنى – وهي تشكل واقعاً قائماً بذاته مستقلاً عن المبني/ المعلم الآثاري/ (قصر الفرجة) الذي يوحي لنا بـ(مدينة بغداد القديمة)، وبدت (غرفة الحمام) تشكل لنا الخلفية الحريمية أو المكان السري الحريمي. وهي محملة بدلالات ورموز اجتماعية تعجُّ بالأسرار والمعاني المسكوت عنها والتي تؤكد على استمرار الحياة على الرغم من التغيرات التي احدثها الزمن من ظهور التصدعات على جدران الحمام، ومن هنا نعتقد أن (الحمام) بدا يمثل قلب المبنى، قلب مدينة بغداد، قلب التاريخ، قلب الكون، انه سر من اسرار الطبيعة الغامضة. وبدا الهامش في النواة السردية الثانية هو عبارة عن نمط سردي ذاتي للفواعل الأجتماعية وهي العلاقات السوسيولوجية للمقيمين والمحيطين بهذا القصر، وللمالكين الشرعيين وغير الشرعيين عندما كان يرفل بمجده القديم، وعليه فأن النواة السردية الثانية أعطت الحركة الزمنية للسرد وبأنواعه المتعددة:
1 / الزمن التاريخي: وهو الزمن الذي وقعت فيه الأحداث.
2 / الزمن الكوني والطبيعي : وهو اختلاف الليل والنهار وما ينشأ من أيام وأسابيع وشهور وأعوام وعقود ودهور.
3 / الزمن السايكولوجي : وهو الزمن الذي تمثله الخبرة الإنسانية الذاتية المكتسبة من الواقع الأجتماعي.
وبدت هذه الأنواع من الأزمنة تتداخل مع بعضها في صيرورة الفضاء الذي يؤطر القصة وهي التي تكشف لنا عن العلاقات الاجتماعية التي كانت في زمن بناء هذا المعلم الآثاري القديم. وفي ضوء ذلك نقول أن الفواعل الأجتماعية التي كانت تعيش في داخل القصر أو حوله هي التي كونت البنى الذهنية المضمّرة في عقول الناس المعمرين التي ما تزال قائمة على شكل حكايات متفرقة يتداولها الناس من جيل إلى آخر. هذه البنى شكلت لنا النسق الثقافي المهيمن لمدينة بغداد آنذاك.