للقدس حضور بارز في قصائد الشعراء العرب عموما والجزائريين خصوصا، حضور روحي شكلته قداسة المكان بوصفه أحد المواقع الثلاثة التي تكوّن أفضيتهم الروحية، إلى جانب مكة المكرمة، والمدينة المنورة. على أن حديث الشاعر الجزائري عن القدس وتصويره له نابع من إيمانه الخاص بأنه فضاء حمل في تاريخ الإسلام رمزية القداسة والحرمة، كيف لا وقد وطأته رِجل حبيب الله سيد المخلوقات أجمع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إن ما تعرض إليه من هجمات -وما زال- ومحاولات طمس من الصهاينة هو ما أفضى به إلى التعبير عن سخطه واستنكاره، والتذكير بالعواقب الوخيمة إزاء الاعتداء على حرمات الله والمسلمين. والمقدس حسب الأنثروبولوجي ومؤرخ الأديان مارسيا الياد هو عنصر في بنية الشعور، وليس مرحلة في تاريخ هذا الشعور، وعلى المستويات الأكثر قدماً من الثقافة، يظهر عيش الكائن البشري هو في حد ذاته عملاً دينياً. على أن الاحتفاء بالقدس في دواوين الشعراء الجزائريين شمل شعراء القصيدة العمودية، كما تجسد في مدونات شعراء قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر المعاصرة، مع تفاوتهم في طريقة التوظيف، وتمايزهم في براعة التصوير، والتعبير عن اللحظة الشعورية نحو المكان وقداسته.
تقديم:
تعدّ القضية الفلسطينية من أكثر القضايا العربية التي احتفى بها الأدب الجزائري عموما، واستأثر بها الشعراء خصوصا، بل إنها كانت (في مقدمة القضايا والمآسي العربية التي انفعلوا، وعبروا عنها في شعرهم يترجمون بذلك إحساس الشعب وتعلقه بها، وإيمانه بحق أبناء فلسطين في استرداد وطنهم السليب).1 لقد واكب الشعراء كلّ الأحداث التي عاشتها فلسطين، وسجّلوا الوقائع، وساهموا في شحذ همم الجماهير لتهب ساخطة على العدو الغاصب، غاضبين مستنكرين ومهددين، وهذا منذ ثورة 1936 التي كادت تفتك بالاحتلال البريطاني وتقضي على الوجود الصهيوني، مخلّدين شهداءها، وأبطال معركة القسطل. فهذا الشاعر محمد العيد آل خليفة يهاجم بريطانيا التي كانت وراء كل المؤامرات والمكائد التي حيكت ضد الفلسطينيين، ودبرت لبيت المقدس، متحسرا في ذات الوقت على ما حلّ به من نكبات ومحن. يقول في قصيدة بعنوان "بني التايمز"2:
"بني التايميز" قد جُرتم كثيرا فهل لكم عن الجور ازدجار؟
أفي أسواقكم نصبــا وغصبـــا تسوم(القبلة) الأولى التجار
إخال (القبلة) انسجرت دماء كما للبحر باللجــج انسجـــار
وهذا الشاعر عبد الرحمن بن العقون يصبّ جام غضبه على بني صهيون، مشاركا إخوانه الفلسطينيين مأساتهم، ومتأسفا على ما أصاب "القدس" قبلة المسلمين وثالث الحرمين، خاشيا على سقوطها في يد الطغاة الغاصبين، يقول في قصيدة مطولة بعنوان: "آه على أمة القدس التي بسطت للجار إحسانها"3:
أرقت حزنا ومنك البال مضطرب والقلب خـاض بحارا لا يجاريها
نعم فكيف وحال القدس مزعجة ؟ لكل حـر فأحـرى من يعانيـها
وفلسطيـن تئـن وهي شــاكيـة من حـرّ فتنة أهـوال تقاسيـها
يا غاديـا ليهـود الشرق قل لهم هل تملكن العبيـد مع مواليها؟!
فقد زعمتم وكان الزعم دأبكـم إذ أنكم أمـة تهـوى مخـازيها؟
قد يزعمون بأن القدس منشؤهم وما دروا إنما الإسـلام يحميها
يا أمة القدس لا يحزنك مطمحهم فإن للقدس ربا سوف يحميـها
يكفيكم المسجد الأقصى وقبلتنا ألا ولى افتخـارا و قد أوذيتم فيها
آه! على امة القدس التي بسطــت للجـار إحسانها و سَلْ مجيريها
من عصبة كفرت بنعمـة عظمت منها عليها و لم تنظر لماضيها
كما كان للشعراء الجزائريين مواقف مندّدة من مشروع التقسيم الذي دعت إليه "لجنة بيل" كحل وسط، حيث شعروا بحلول الكارثة، وتألموا من هذا المشروع المبيت، وجزعوا من ضياع القدس بوصفها أعز مكان مقدس في نفوسهم، ونفوس العرب والمسلمين جميعا. يقول محمد العيد آل خليفة بنبرة الأسى والحزن عنها، مبينا أحقية العرب فيها4:
يا قسمة القدس أنتِ ضِيزَي لم يعـدل القاسمـون فيك
مضوا على الحيف لم يبالوا بمـا جـرى من دم سفيـك
القدس للعـرب من زمـان لم يقبلوا فيه من شريــك
قد سـامه الأجنـبي خسفا وهـدّ من ركنــه السميـك
ولم يكن محمد العيد وحده من وقع عليه قرار التقسيم كالصاعقة، فثمة من الشعراء الجزائريين كثير ممن تأثروا بهذه المصيبة، وتألموا لوقع المؤامرة التي حيكت ضد الفلسطينيين. والشاعر أحمد سحنون أحد هؤلاء الذين هزت مشاعرهم القضية، فعبروا عنها5:
أموطئ أقـدام النبيين و الرسـل وموطن نسل الوحي بورك من تسل
فداك العدى لا تقبلي قسمة العدى وللمــوت سيـري لا تبيتي على ذل
ولا تحفلي بالناس إن جار حكمكم عليــك فإن الله يحكــم بالعــدل
وما فتئ مفدي زكريا الشاعر العربي الغيور على بني الإسلام والعروبة، يدغدغ شعور الحكام والجماهير القومي، ويذكرهم بحرمات الأرض الفلسطينية، مسرى الرسول الكريم عليه صلوات الله وأزكى التسليم، وينبّههم بعزم الغرب وابن صهيون للاستيلاء على القدس الشريف، مهبط الأنبياء والصالحين، وتنجيسهم لثراه الطيب. يقول في هذا الشأن6:
فلسطين... يا مهبط الأنبيـا ويـا قبـلة العـرب الثانيـة
و يا قدســــــا بــاعه آدم كمـا بـاع جنّتــه العاليـة
وحطّ ابن(صهيون) أنذالـه بأرضـك، آمـرة ناهيـــة
ويقول في موضع آخر7:
فلسطيـن... لا تيـأسي إننـي سأصلح في الشرق أخطائيـه
لئـن خنـــتُ فيـما مضى إنـه يوبخنـي اليـوم وجدانيــه
وأهملتُ قدسـي نهـب الذئـاب فألبسـي الخـزي إهماليــه
وأعرضت، عن صارخ من نداك وطاوعت في الكيد شيطانيـه
على أن نبرة الاستنكار والتهديد والوعيد للإنجليز والصهونييين، تقاسمها كل الشعراء الجزائريين، وتشارك جميعهم فيها، يقول أحد الشعراء في ذلك:8
قل لابن صهيـون اغتررتَ فلا تجُر إ ان يعــرب نـاهض للثـأر
ستـرى أمانيـك التي شيدتَهـا منهارة مع ركنك المنهــار
القـدس لابن القـدس لا لمشـرد مُتصهيـن ومهــاجر غــدار
ولم يقف الشعراء الجزائريون عند حدّ الاستنكار والتنديد فحسب، بل دعوا بلدانهم للاحتجاج لرفع الضيم، وكل أشكـال المعـاناة عن الإخوان الفلسطينيين، واعتبروا الوقوف معهم أمرا ضروريا، بل واجبا مقدسا. يقول محمد العيد9:
بين المشـارق والمغارب إخـوة لك عصبـة بقلوبـهم والأذرع
مدُّوا إليك بها حبـال إخـائهم فصلي حبـال إخائهم لا تقطعي
هلاّ أغثـت القُدسَ منك بلفتـة غيرى على شعـب هنـاك مُروَّع
القِبـلة الأُولى تَضِـجُّ وتشتكـي من قِسمَـةِ المُستَأثِر المستنفـع
ضُمِّي احتجاجك لاحتجاج حُماتها واستنكري تقسيمـه واستفظعي
إيهٍ فلسطيـن الشقيـقـة لا تني عن ردّ عـدوان اليهـود الأشنَـع
وهذا الشاعر الربيع بوشامة يوبّخ الأمة العربية سليلة العزة والكرامة، على تقاعسها في نصرة شعب القدس، ويذكرهم بأن الموت في الكرامة والعزة، أفضل من العيش في الهوان والمذلة. ويتساءل حائرا كيف تسنى لها استلذاذ العيش في دعة وأمان وخير، والقدس تحت الجحيم تعاني، وتحت النار تتقد؟ مستنهضا في ذات الوقت الهمم، وداعيا إياهم للاستنفار والفداء، وتلبية نداء الجهاد دون نكوص أو تردد، وفورا، يقول10:
أيها العرب أمة المجد والعلـ ـياء ماذا ترجـون غير التفاني؟
إنه الموت في الكرامة والعـ زة أو العيش في الشقا والهـوان
كيف ترضون عيش أمن وخير وفلسطيـن في الجحيـم تعانـي
فانهضوا للفدا و لبـوا سراعا داعــي الله من سمـا الأكـوان
لا رعـى الله أنفســا تتملـى عيشة الذل في صفـوف الغواني
كما كان للشعراء دورا كبيرا في تقوية عزيمة الوطنيين والثوار من أبناء فلسطين أثناء اشتعال حرب 1948، حيث أهاجوا العواطف، وألهبوا الحماس، منبهين بأن إخوانهم العرب لن يتخلوا عنهم في كل الأحوال، ولن يرتاح لهم بالاً حتى تتحرر القدس، وتنال حريتها، وتتطهر من رجس الصهاينة: يقول الشاعر
محمد أبو القاسم خمار11:
يـا فلسطيـن إذا غبـت فـلا خير إلا أن توارينـا الحفـر
نحن أشبـال وفي أعمـاقنـا ثـورة محمومة لا تستقــر
نحن جنـد الثأر عشاق الوغى ندفع الضيم ونبني ما اندثر
لا نبــالي بالـذي خـان ولا بالذي ما طـل فيـنا وانتظـر
سنعيش اليـوم حـربا مثلمـا خاضها من قبلنـا الجيل الأغر
ويقول محمد العيد آل خليفة في نفس المضمار: 12
فلسطين العزيـزة لا تراعـي فعيـن الله راصـدة تراعـي
وحولك من بني عدنـان جند كثيـر العـدّ يزأر كالسِّباع
إذا استصرختِه للحـرب لبَّـى وخفّ إليكِ من كـلّ البقاع
بليت بهم صهـاينةً جيـاعـا فُسحْقًـا للصّهاينة الجيــاع
فلسطين العزيـزة لا تخـافـي فإنّ العُـرب هبُّـوا للدّفــاع
بجيـش مُظلـم كاللّيـل غطّى حِيالَكِ كلَّ سهـلٍ أو يفَـاعَ
ونحن بني العروبـة قد خلقنا نلبـّي للمعـارك كلّ داعـي
ويلتقي محمد العيد في هذه الأبيات مع الشاعر أحمد سحنون في النظر إلى القضية نظرة دينية قومية، فهي تعكس إيمانه وعقيدته الدينية، بالنسبة للقدس خصوصا وفلسطين عموما، ومن ثم راح يطلب من الشباب العربي أن يهب لإنقاذ (مهاجر إبراهيم) بالنفيس والغالي. يقول في قصيدة "فلسطين"13:
فيـا قادة الإسـلام هبـوا لتنقذوا (مهاجر إبراهيم) بالنفس و الأهل
ويا زعماء الشرق ضموا صفوفكم ليصبح هذا الشرق مجتمع الشمل
ويا أغنياء المسلميـن تسابقـوا إلى البذل والإيثار ذي ساعة البذل
ويا شعراء الضاد حثّوا شعوبكـم بشعــر يداويها من الجبن والبخـل
ويا أيّها الجيش الذي رجّ ذكـره قلوب العدى باكر فلسطين كالوبل
سترجع منشـور اللـواء مظفرا ويرجـع(أعـداء النبيّين) بالثكــــل
وفي قصيدة "شباب محمد" نلفي سحنون يبارك ثورة 1948، ويحمّل الشباب العربي رسالة الأرض إلى السماء، وعهد الأبطال للشهداء14:
شبـاب محمد نعم الشبـاب إذا نودُّوا لذكـراه استجـابوا
إذا لـم تقتفـوا آثـار طـه فليس لكـم إلى طه انتسـاب
لقد شبت بأرض الشرق نـار لها في القبلة الأولـى التهـاب
وأنتم خير من خاضوا لظاها فكيف يروعكم هذا الذبــاب
رسول الله ها هي قد أفاقـت شعوب العرب يحدوها الشباب
فالشاعر في هذه القصيدة يتحدث إلى الشباب العربي (ويركز على الإيمان ويربط بينه وبين استرداد فلسطين، وأن الإيمان بالقيم الإسلامية هو السبيل إلى المحافظة على فلسطين. وهذه الفكرة يتفق فيها مع جميع الشعراء الجزائريين تقريبا الذين ينظرون-كما سبق- من زاويتين، الزاوية الدينية والزاوية القومية).15
وإذن، فلقد تناول الشعراء الجزائريون القضية الفلسطينية من كل الزوايا، فمنهم(كان يستنهض الهمم ويدعو الشباب العربي في الجزائر وفي غيرها، إلى الجهاد والكفاح دفاعا عن الأرض المقدسة).16 يقول الشاعر الربيع بوشامة من قصيدة له بعنوان"صوت الجهاد":
فتى العـرب هيا قلب النداب ولاق المنـايا بســاح الفـدا
فلسطين في النار نهب العدا تنادي الجهاد الجهـاد الجهادا
ومثله فعل الشاعر موسى الأحمدي في قصيدته "فلسطين تناديكم للجهاد"17:
فلسطيـن ناديكم للجهـاد فلبّوا النـداء يا حمـاة البـلاد
وهبـوا جميعا سراعا إلـى حمى يعـرب وانفـروا للطّراد
ومدّوا النفـوس إليها فـدى فتلكم- بني يعرب-أرض المعاد
ومن المفيد التّأكيد أن "القدس" حظيت بأهمية خاصة في الشعر الجزائري بعد النكبة، من حيث إنها فعلا تجسّد النكبة، وتجسّد أيضا إيمان العرب بقداستها ومكانتها لديهم وحبهم لها، ممّا يدفعهم إلى العمل على استردادها.18 يقول مفدي زكريا في قصيدته "رسالة الشعر في الدنيا مقدسة"19:
قُدْسُ العروبة – والآيـات شـاهدة- ما انفك تغمره حبّــا طوايــانا
وحرمة الضـاد في الأجيال ما فتئت يرتاش من نبل معناهـا جناحانا
والجرح ما انفك في أكبادنا غدقا يسيل من دمه المسفـوك عطفنا
عزّ العروبة في أعطـاف ثورتنـــا إن تسندوا حَرْبنا ترفع لكم شانا
فباركـوا وطنـا يغـزو(ثمانيـة) نشوان... كالمـارد العمــلاق جذلانا
هذا، ولقد ارتبط الحديث عن القدس بظاهرة "العودة"، العودة للكفاح والجهاد قصد استردادها، وتحرير كل شبر منها، حتى لا تطأه أقدام البغاة والغاصبين من بني صهيون، يقول أحمد حمدي في قصيدته "القدس"20:
أنت في يد الأعداء
مغلولة
فوا أسفاه
أأنت في يد التتار
مأسورة؟
فوا أسفا
ولكن
إنني لهب
حذار .. حذار
وفي بقية من جذوة العرب
حذار.. حذار ..
فاصرخ يا دمي العربي
تفجر
أحرق التاريخ
إن القدس
فاتنة
ومبيتة ..
فالقدس لم تعد ملكا للفلسطينيين فحسب، وجزءا منها، ولكن هي ملك كل العرب، وجزء من الوطن العربي، من حيث إنها تمثل قداسة الأرض العربية، يقول سليمان جوادي في قصيدة "القدس لنا ورقصات أخرى" مكرسا هو الآخر ظاهرة العودة21:
"القدس لنا"
القدس لهم
القول لنا والفعل لهم
حاربنا إسرائيل أيا أبتي
مزقناها.. شردناها
وأعدنا القدس
القدس - نسيت – لنا
والغضب الساطع
ونلفي موضوع "العودة" يطرقه كذلك الشاعر أبو القاسم خمار في قصيدته "الانفجار" منتشيا بلذة النصر الذي سيتحقق بعد اشتداد عزم الثوار لتحرير القدس، متخطين كلّ العوائق ومجتازين كلّ التحديات، يقول خمار22:
هنا القدس .. يا أمتي ردّدي:
هنا تل أبيب .. هنا الناصرة
زحفنا ..زحفنا .. فلا مدفع يرد خطانا .. ولا طائرة
زحفنا لدحرك يا إسرائيل
بقوتنا .. بانتقاماتنا
بعزم إرادتنا القاهرة
هو النصر قد جاءنا خافقا
ودارت على خصمنا الدائرة
فهيا فلسطين .. هيا بنا
نبارك عودتنا الظافرة
على أن صورة القدس اقترنت أيضا في الشعرية الجزائرية بصورة مأساة المواطن الفلسطيني، وقد جسدتها القصائد التي صوّرت معاناة اللاجئين والمشردين والأيتام من الأطفال، والنساء الثكلى، والدمار الذي لحق كل شيء، ولم يبق ولم يذر. والحقّ أن تناول قضية اللاّجئين الفلسطينيين، وتصوير مأساتهم، ظاهرة ميزت الشعر العربي كلّه، وما من شك أن شاعرا عربيا لم تهزه تلك الكارثة، ولم ينفعل بها بوصفها قضية قومية وإنسانية. بإلإضافة إلى أن قضية اللاجئين تمثل- في الواقع- الأثر الصارخ لضياع فلسطين.23 يقول محمد الأخضر عبد القادر السائحي في قصيدته "مذكرة طفل فلسطيني"24:
اكتب يا ظاهرة القرن العشرين
اكتب بمداد الشعب
اكتب يا طفل فلسطين
في (حيفا) في (يافا) في (بيت المقدس) في (حطين)
في كل ملاجئ هذا العصر الملعون
اكتب من عمق الجرح: مذكرة الطفل الآتي بجبين الشمس،
أيها الزمن المصلوب على هرم العار
بريء الطفل المطعون - من الرجس-
من حكام الزمن النحس
وعلى نفس الوتيرة، يسير محمد بلقاسم خمار، حيث يتعرض إلى قضية اللاجئين، ويصور حالتهم النفسية المنحطة، ومصيرهم المجهول، متيقنا بأن الوقت سيحين، وسينال الفلسطينيون حريتهم، يقول في قصيدته"من أناشيد العاصفة"25:
يافــا، وحيـفا، والخليــل لنا
والقدس .. لا للأرجل الخـائفة
قسمــــا .. سترفع رأس أمتنا
ونعيد مجـد عهـــودنا السالفة
وندك إسرائيـــل .. يالمصيرها
من ثورتي .. من نقمتي الجارفة
واللاجئـون.. خيـــامهم واقفة
ودموعهم .. ودمــاؤهم راعفة
هل كفكفـوا بالعــار مأتمهم؟
آلامهم عن صبرهم كــاشفة
ولم تغب صورة القدس عن مخيال الشعراء الجزائريين بعد النكسة العربية عام 1967، بل إنهم عضوا عليها بالنواجذ، وكثيرة هي القصائد التي عبر فيها الشعراء عن إيمانهم بالقضية الفلسطينية، وعن بقاء القدس، وتفاءلوا بعودتها، ورجوع أبنائها إلى الديار. ومأساة اللاجئين لطالما أحدث رجات غائرة في نفوسهم، ومع ذلك لم يستغرقوا في المآسي والأحزان والنواح، وإنما شرعوا في بث روح الجهاد للشباب العربي، حتى يظفر بالنصر، وليس ذلك إلاّ بلغة البارود والرشاش، لأنها الطريق الوحيد للعودة. يقول الشاعر مصطفى محمد الغماري26:
أجل يا قدس. يا صحوي ومحوي
ويا ألمـا ألـوذ به ذمـــــاء !
وطـــاءَ محمدٍ ومهــاد عيسى
سموت ففقت يا قدسي السماء !
ملاذ العــاشقين إليك فـاؤوا
وكم بثـوا مواجدهم سخاء !
فَجَرْتَ منـابع الإبــداع فيهم
فهاموا في مداك رؤى وِضَاء !
ورقّ حنينهم فيـك انسيــابا
فرقرقتِ القلوب لك الوفاء !
وراقت فيك نجوى الله ذكراٌ
سَبُُوحيٌّا .. تضوّع أنبيــاء !
فماذا يا جلال القدس. ماذا ؟
وقد عاد الزمان بنا وراء ! !
تحطّمت اليراعة فيك شكوى
ووجه الصمت يطوينا يـاء !
يلملم جرحَنـا في كل نــاد
ويقبسُ من لياليه السَّنـــاءَ !
وإذن، فلابدّ أن يدرك العرب أنه لا سِلمَ ولا سلام مع الصهاينة، ولابدّ من الاعتراف بأننا من ساهم في تشتيت فلسطين أرضا وشعبا، وبالأخص الحكام العرب الذين أداروا ظهورهم للقدس العربية وجعلوا عفتها تهوى، وكرسوا التطبيع مع الاحتلال الغاشم حفاظا على عروشهم. يقول مصطفى محمد الغماري:
أيُّ سلم؟ وعفـة القدس تهوى كما الجليـد
في ظلامين من رؤى مرّة .. ومدى بليــد
نحن جئناك بالوعود .. وكم نرهب الوعيـد
نملأ الدرب بالحـدود، ونغفـو بلا حـدود27
والذي تجدر الإشارة إليه، أن الشاعر الجزائري لم يبق حائرا تائها نتيجة لما حدث بعد النكسة العربية، ولم يستسلم للواقع الأليم، وإنما سعى بكل ما يملك من طاقات تعبيرية أن يعمل على التغيير، وأصبح يتكلم بلغة النار، يدعو إلى المعارك، والثورة على الصهيوني الغاشم، يقول خمار في قصيدة "القسم"28:
لن نرتضي عـارا جديـدا في فلسطيـن الحبيبة
لا .. لن يداس المسجد الأقصى وأرضنا الحبيبة
أيسجل التاريخ للصهيون عمـرا في حيانتـا
إنّا إذن قــــوم أحق بأن ندان وإن نهـــانا
قسما بنقمة شعبنا .. بالجيش يكتسح الخلودا
باللاّجئات عيونهن: الثأر يسألنا الصمـــودا
بالأرض، بالشهداء بالأحرار.. لن ندع اليهودا
حتى ولو جاءتهمو الأقدار تملأهم جنـــودا
قسما بعزتنا.. سندحرهم، سنمحقهم حشودا
ويقول في قصيدة أخرى بعنوان "الزحف الأصم"29:
اللاجئون تلـوح من أقدامهم وصمات عــــار
الضائعون على كهوف الذل بين دم ونـــــار
من "سوق أهراس" ومن "يافا" أيا لعن القفار
أنا لا أصفق للســراب ولا أنوح على المآتم
ومرابعي للغاصبين ومغربي في الجمر عائم
والقدس والأسكندرون على جبين أبي شتائم
النصـر في رأيي إذا لم يكتمل ضو الهزائـم
وبنفس اللّهجة، يدعو الشاعر أحمد بن ذياب، في إعلان وصراحة تامة، إلى تصعيد الوضع باستخدام القوة وكافة الوسائل الحربية التي تحفظ للقدس هيبتها ووجودها، يقول30:
أيـها العــــرب والعروبـــة دار وإخــاء مقـدس الأصـــار
زعزعوا الأرض واملاؤا الجو رعبا وارجموهـم بالشهـب بالأقمار
بالصواريـخ، بالقذائــف تهـوى من عليهـم كالوابــل المدرار
وهكذا، فمهما حصل للقدس من تشتيت وتدمير وإبادة، فلا بأس أن يدعوها مصطفى الغماري إلى الخيلاء والفخر، لأنها أشرف البقاع العربية وأطهرها. يقول في قصيدته "خطاك المنار"31:
ويا قدس .. والناكثون لهاث
تخايل كبرا .. وغنى فخارا
وللقـادسيـة دقـوا الطبــولا
ويرفض"سعد"الوجوه الصغارا
سليلة "بـدر" هـي القادسيـة
ستبقى جراحك يا "قدس" دربا
يصيح .. ويبقى الخئيفون ثارا ..
تلكم هي صورة القدس في وجدان الشعراء الجزائريين، وفي مخيلتهم ووعيهم، فقد عايشوا أحداثها الأليمة، فتألموا بآلامها، وانتشوا بآمالها، ولا زالت حتى اليوم في قلوبهم. وبإمكان المتلقي أن يستشف نماذج شعرية جزائرية كثيرة، صوّرت القدس في عظمة وتيه وجلال.
جامعة مستغانم- الجزائر
هوامش وإحالات:
1- عبد الله الركيبي، قضايا عربية في الشعر الجزائري المعاصر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، والدار العربية للكتاب، تونس، 1983، ص54.
2- نفسه، ص57.
3- عبد الرحمن ابن العقون، ديوان أطوار، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980، ص19- 20.
4- ديوان محمد العيد آل خليفة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1967، 314.
5- جريدة (البصائر) عدد 18 جانفي 1948.
6- مفدي زكريا، اللهب المقدس( ديوان شعري)، ط3، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 2000، ص336- 337.
7- م. ن، ص345- 346.
8- أبو القاسم سعد الله، دراسات في الأدب الجزائري الحديث، ط1، منشورات دار الآداب، بيروت، 1966، ص108.
9- ديوان محمد العيد آل خليفة، ص147.
10- جريدة البصائر، العدد 35، ماي 1948.
11- محمد أبو القاسم خمار، إرهاصات سرابية من زمن الاحتراق(ديوان)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،1986، ص45.
12- ديوان محمد العيد آل خليفة، ص334.
13- جريدة البصائر العدد 18 جانفي 1948.
14- جريدة البصائر، العدد 23 فيفري 1948.
15- عبد الله الركيبي، قضايا عربية في الشعر العربي المعاصر، ص64.
16- نفسه، ص65.
17- نفسه ، ص99.
18- م.س ص72.
19- ديوان مفدي زكريا، ص296.
20- أحمد حمدي، ديوان انفجارات، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، 55 وما بعدها.
21- سليمان جوادي، ديوان (قصائد للحزن وأخرى للحزن أيضا)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، ص57وما بعدها.
22- محمد أبو القاسم خمار، ديوان أوراق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ص55- 56
23- عبد الله الركيبي، قضايا عربية في الشعر الجزائري، ص7
24- محمد الأخضر عبد القادر السائحي، روحي لكم، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ص224.
25- محمد أبو القاسم، خمار، ديوان أوراق،ص60.
26- مصطفى محمد الغماري، بوح في موسم الأسرار(ديوان شعري)، مطبعة لافوميك، الجزائر، 1985، ص70- 71.
27- مصطفى محمد الغماري، عرس في (مأتم الحجاج) ديوان شعري، المكتبة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، ص23.
28-محمد أبو القاسم خمار، أوراق(ديوان)، ص65.
29- المصدر السابق، ص15- 16.
30- ينظر: عبد الله الركيبي، قضايا عربية في الشعر العربي المعاصر، ص86.
31- عرس في (مأتم الحجاج) ديوان شعري، ص42- 43.
المصادر والمراجع:
1- إرهاصات سرابية من زمن الاحتراق(ديوان)، محمد أبو القاسم خمار، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986.
2- بوح في موسم الأسرار(ديوان شعري)، مصطفى محمد الغماري، مطبعة لافوميك، الجزائر، 1985.
3- جريدة (البصائر) عدد 18 جانفي 1948.
4- جريدة البصائر، العدد 35، ماي 1948.
5- جريدة البصائر، العدد 23 فيفري 1948.
6- دراسات في الأدب الجزائري الحديث، أبو القاسم سعد الله، ط1، دار الآداب، بيروت، 1966.
7- ديوان محمد العيد آل خليفة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1967.
8- ديوان ابن العقون(أطوار)، عبد الرحمن ابن العقون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980.
9- ديوان انفجارات، أحمد حمدي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982.
10- ديوان سليمان جوادي(قصائد للحزن وأخرى للحزن أيضا)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985.
11- ديوان أوراق، محمد أبو القاسم خمار، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982.
12- روحي لكم، محمد الأخضر عبد القادر السائحي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986.
13- عرس في (مأتم الحجاج) ديوان شعري، المكتبة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982.
14- قضايا عربية في الشعر الجزائري المعاصر، عبد الله الركيبي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، والدار العربية للكتاب، تونس، 1983.
15- اللهب المقدس( ديوان شعري)، مفدي زكريا، ط3، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 2000.