يقدم الباحث والمترجم المغربي هنا عرضا لرواية الكاتب المصري، يكشف فيه عن بعض أجواء هذا المعتقل اللعين الذي سمعنا الكثير عنه، والذي سعت الرواية إلى تقديم تجربة أحد سجنائه للقراء. وباستثناء بعض عبارات الإطراء، لا يكشف العرض عن أن الكاتب المصري استطاع التحليق بموضوعه فوق ما هو آني أو وثائقي.

جٌوَّنتنامو

سعيد بوخليط

كيف يمكن للنص الروائي، بحمولته الإبداعية، الفنية، التخيلية، تجنب سقوطه في التوثيقي التسجيلي، الذي سينحدر به تأكيدا، إلى الخطاب التقريري المباشر، فيصيب كنه الإبداع، في مقتل. هو ذات الإشكال، الذي استحضره حتما الروائي يوسف زيدان، طيلة مراحل تدبيجه لفصول روايته جٌوَّنتنامو وليس غوانتنامو، مثلما اكتشفنا بغتة إعلاميا منذ بداية الألفية الثالثة، تسمية السجن الأمريكي الرهيب المتواجد فوق الأراضي الكوبية، الذي ألقت فيه السلطات الأمريكية، كل من أشارت إليه الأصبع، بل مجرد حدوس البعيد البعيد، أنه ساهم قالبا أو قلبا، في الهجوم الذي تعرض له برجي التجارة العالمي بمدينة نيويورك صبيحة يوم 11شتنبر2001 «جٌوَّنتنامو هو واحد من معتقلات عسكرية، تسمى المواقع أو الحفر السوداء، وهي لا تقع داخل حدود أمريكا، ومعظمها مجهول لايعرف عنه الناس شيئا. لكن هذا المعتقل الذي نتعذب الآن فيه، سمع به أناس كثيرون داخل أمريكا لأنه قريب منها، و لا يفصله عنها غير بحر. هو مكان مستأجر من كوبا منذ عشرات السنين، والكوبيون لا يحبون وجود الأمريكيين فيه، ويكرهون جنودهم كراهية الأتقياء للموبقات، لكنهم لا يستطيعون طردهم فيصبرون عليهم على مضض، حتى ينتهي عقد الإيجار الذي مدته مائة عام»(ص، 32).

إذن، الإطار المرجعي الأساسي، الذي شكل سندا موجها للروائي، يتمثل في الارتقاء بنص أراده صاحبه أولا، أفقا روائيا بضوابطه الجمالية والفنية، من خلال الانزياح عن لغة المألوف والمباشر والواقعي. جدلية، ليس من السهولة حسمها، لحساب الفني ضدا على التأريخي، نظرا ليسر الأخير في مثل هذه الموضوعات، وسهولة الاستكانة إلى المتن الإخباري المتوفر. في ذات الوقت، تتجلى براعة المبدع في قدرته، على تخليص الموضوع، من مجرد سياق لتواتر المقاربات السياسية العابرة، إلى مجال فسيح للتأملات الوجودية والمعرفية العميقة.

ثلاث قضايا، في رأيي شكلت الخطاب المستتر، لهذه الرواية الصادرة عن دار الشروق سنة 2014:

أولا، العنوان بحيث وجدنا جٌوَّنتنامو وليس غونتنامو، أي "جٌوَّ''بدل '''غْوَ'''مع تشكيل واضح للحرفين بالحركات المناسبة لما يريده زيدان من معنى جديد، كأنه يشدد على أن نقرأها بهذه الصياغة، ارتباطا بنزوعاته الجوانية الداخلية، لأنه يريد من القارئ الارتقاء بهذا العمل إلى مستوى يتجاوز بكثير مجرد التقرير الصحفي .لنتذكر بأن "جٌوَّ' 'تستعملها اللهجة المصرية، للإحالة على حميمية المكان، بالانتقال من الظاهر إلى الباطن.

ثانيا، انصب كل مضمون الرواية على امتداد صفحاتها المقاربة لمائتي وثمانين صفحة، على الحيثيات التي راكمها البطل الرئيس ''أبا بلال'' أو "برس'' (الصحافة) كما صار لقبه في جٌوَّنتنامو أو المعتقل "رقم 676" ، أو النزيل "رقم14" لما تحسنت ظروف اعتقاله نسبيا. هو ليس بعد كل تأويل، سوى الصحفي السوداني المعروف سامي الحاج، مصور قناة الجزيرة، الذي قضى ست سنوات مغيبا داخل معتقل جٌوَّنتنامو (2002-2008) ، ثم أطلق الأمريكيون في نهاية المطاف سراحه، ولم يتمكنوا من إثبات ضلوعه في أي عمل إجرامي .إن، لم يكن التماثل صحيحا على نحو مطلق، مادام يوسف زيدان لم يشر إلى هذا الأمر، بأي شكل من الأشكال، لكن مختلف تلميحات وإشارات الرواية تؤكد استلهامه قضية سامي الحاج: السودان، مصر، الدوحة، المحطة التليفزيونية، الصحافة، أفغانستان، الاعتقال من طرف الجيش الباكستاني، وتسليم الضحية إلى الأمريكيين.

ثالثا، بدت الرواية في أغلب فصولها، حجاجا قرآنيا وبالقرآن، من طرف الروائي على لسان أبطاله لاسيما برس، أجوبة بآيات قرآنية، كأنها تفسير لكل شيء بالقرآن، بل والتحايل مثلا على مسار النص، من أجل مثلا التدبر قليلا في سورة النساء (ص 105-106 ). هيمنة الرؤية الدينية، عبر سندها الأصل أي القرآن، مرده حسب اعتقادي إلى عاملين: أحدهما سياقي، محكوم بطبيعة الحمولة التي ينم عليها فضاء جٌوَّنتنامو: الدين، الإسلام، الإسلاميون، الخطاب الإسلامي .وقد استفاد يوسف زيدان، هنا كثيرا، من إلمامه الواسع بهذا المجال .ثم هناك معطى إيديولوجيا، يحيل ضمنيا على سجال ينتقد عقائدية الإسلاميين الجامدة، التي اختزلت تعسفا، ثراء وغنى النص القرآني.

طبعا، لو اكتفت الرواية فقط وركزت على الجانب الاستقصائي الصحفي، مادامت طبيعة الموضوع تصب أساسا صوب هذا المنحى، لكانت نصا عاديا، يضاف إلى سلسلة المصنفات الإخبارية، التي توثق لفضاءات الاعتقال سواء في غونتنامو أو غيره، أي تلك النصوص التي أرادت أن تكون أدبا للسجون، فيسقط أغلبها للأسف في مطب سجن الأدب، وقتل روح الإبداع. لكن التميز، سيأتي من التكثيف اللغوي والذهني وأفق الحوارات ونوعية الصراعات وقصديتها والهواجس السيكولوجية التي تداعت باستمرار عند برس، ثم تلك التفاصيل الصغيرة، التي راكمتها شخصيات الرواية: الفاعلون والعابرون والمفترضون.

في الحقيقة، وإن كان برس الشخصية المحورية التي تشابكت حولها خيوط الرواية، وعايشنا صراعاته الذاتية والموضوعية، الجسدية والنفسية، منذ اعتقاله بطريقة الخطأ عند الحدود مع باكستان، أثناء تغطيته لأحداث الحرب، بعد اندلاع الهجوم الأميركي على الأراضي الأفغانية، انتقاما ممن دبروا أحداث 11شتنبر؟ أقول، صحيح أن برس، شغل في صيغة صورة مجسمة كبيرة، مختلف تقاطعات ومشاهد الرواية، لكن هذا لا يعني بتاتا، أن باقي الشخصيات، لاسيما المجندة سالي، الطبيبة النفسانية سارا كلاوس، محب الحور ''المعتقل التونسي'' ثم رجلا المخابرات الأمريكية والانجليزية مارتن ومارك، لم يلغموا كفاية مسالك النص، بمفرقعات تشعل حرائق هنا وهناك، أخفق برس في إخماد بعضها.

اشتغلت متواليات جُوَّنتنامو، على نقد للعجرفة الأمريكية، أو بالأحرى فضح جريمة تفنن عقلها السادي، بكل الوسائل المادية والنفسية، الضاربة في العصور القديمة والعصرية، من أجل تقويض آدمية المعتقلين، وجعلهم مجرد دواب متحركة، مع أن جلهم اعتقل بدون تهمة واضحة وصريحة، اللهم تصادف تواجدهم في أفغانستان أو محيطها الإقليمي. أيضا، يتوخى نص، جُوّنتنامو بطريقة أو أخرى، دحض الأسس المعرفية للعقل الأصولي، وطبيعة القراءة، التي يسقطها على القرآن.

تشكلت جبهة المواجهة، لدى برس داخل جُوّنتنامو، وفق ثلاثة أصعدة:

أولا، تبرئة نفسه من تهم المحققين الأمريكيين: «أنت رفضت التعاون معنا من دون إبداء سبب، ثم تعاونت مع الجماعات الإسلامية الإرهابية، وكنت تقوم بتوصيل الأموال لتمويل العمليات الانتحارية في وسط آسيا، وبالتحديد في جمهورية أوزبكستان، وكان اسمك الحركي آنذاك ''أبو بلال المصري''، وتزوجت امرأة من المجاهدات وأخذتها معك من بخارى إلى دول الخليج، وكنت تقوم بتحويل بعض الأموال من الخليج إلى السودان، ثم عدت إلى وسط آسيا بحجة العمل الإعلامي، ودخلت أفغانستان ساعيا لمقابلة أسامة بن لادن والاتصال بجماعة طالبان، وكنت..''هذا الكلام غير صحيح''. صرخت بذلك مقاطعا تخريف المحقق»(ص-41)

ثانيا، انتصاره على "النفس الشهوانية'' والتحكم في النزوع الايروسي لذاته، مما ينسجم مع قناعاته الدينية، لما اكتشف خلال لحظة دقيقة جدا، بيولوجيا وغرائزيا، خداع الحارسة سالي التي أخذ يتعلق بها، بعد دردشات قصيرة، ودية، من وراء قضبان زنزانته: «ومن آيات رحمته تعالى، أنه أخمد في نفسي الطلب الفطري وأذهب عني اشتهاء النساء، فماعدت أميل إليهن أو أزيغ. ولا اشتهاء إلا بميل وزيغ ''ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب''. على هذا اليقين بقيت زمنا، سالما ومستريحا لأوهامي، حتى ابتلاني الله بتلك الحارسة التي اسمها ''سالي''، وهزني ضعفي وأعانه خائنة عيني وما أخفاه صدري. ففي ظهيرة شتوية مشمسة أسندت ظهري إلى القضبان الفاصلة بين الزنزانتين، وملت برأسي إلى قضبان بابي متمنيا لوكنت جالسا تحت هذه الشمس المفروش نورها أمام زنزانتي. كان الضجر يطوقني حين رأيت ''سالي'' آتية نحوي بطعام الغذاء ومعه تفاحة فواحة بتعبيرها، براقة بلونها القاني. وقفت بجوار الدرج ولم تصعده، ومدت لي ما معها فأخذته منها بيد الرضا ولأنها نسيت الزر الأعلى من قميصها مفتوحا وكاشفا عن انضمامة نهديها المتمردين، فقد استنامت عيناي لوهلة على الشق الأسمر الناعم اللامع الشهي. لحظتها غلبتني نفسي الأمارة بالسوء، فوددت لو ألمس في خيالي هذا المنحدر القوي الطري، أو أخمشه بأطراف أناملي، أو ألصق به باطن راحتي فأرتاح حينا بهذا المس المستحيل. هي لم تلحظ ما عصف بي، ولم تفهم قولي ''أستغفر الله''»(ص-94-95).

ثم: «بعد خسوف دام يومين، جاءت ''سالي'' مشرقة في الصباح الباكر لتأخذني في الموعد المعتاد إلى كوخ الاستحمام، وقام الحارسان اللذان معها بتقييدي بالمعتاد من السلاسل، ثم سارا خلفنا صامتين وسرت بجوارها كالتائه .قرب الكوخ، خلصاني من بعض السلاسل، وأعطاني أحدهما الصابون السائل وفرشاة الإنسان ومعجونها المنعنع، ثم وقفا عند مدخل الكوخ الذي لا باب له، يتبادلان نظرات لست أفهمها، وتركا ''سالي'' تفك أزراري تحت ماسورة الماء المستعد للانهمار. جردتني، فتسترت، فتبسمت وهي تأخذ مني ردائي وتلقيه على الأرض في الزاوية؛ قبل أن تفتح علي صنبور الماء، دارت حولي محدقة في أنحائي بنظرة افتراس لم أرها في عينيها من قبل. ملامح وجهها اختلفت. بدت مثل الكلبات الطالبة، فاحتميت من تحديقها بالوقوف في الزاوية، وبضم ذراعي إلي وتشبيك الكفين لحجب العورة. ولكن لا فائدة. وقفت قبالتي وقالت بجرأة مفاجئة: هل تود نكاحي؟ هي ما باحت بذلك حرفيا، وإنما قالت بالتحديد ماترجمته: هل تفضل أن تفعل الحب معي؟»(ص-111 -112). سيدرك فيما بعد، أن سالي تعمدت توظيف نفس الأسلوب الداعر المخادع مع خير الدين الملقب بمحبّ الحور، فشكل له ذلك سقطة مدوية وفضيحة أخلاقية بكل المقاييس، بين صفوف زملائه باقي المعتقلين، لما افتضح أمره، وتداول خبر، أن سالي أنجبت منه طفلة.

ثالثا: التشكيك في عقيدة برس، جراء حديثه مع أحد المعتقلين ويدعى المكي، بخصوص وجود مارد من الجن داخل إحدى الزنزانات، فأنكر عليه ذلك بقوله: «ياشيخ عبد الله بطل تخريف، جن إيه بس، مفيش جن ولا حاجة»(ص-169) فكانت النتيجة، أن صار موضوعا للفتوى وإقصائه من زمرة الجماعة: «إن عبد الله المكي اشتكى مني لأبي صعب، وادعى أنني أنكر وجود الجن! قد أفتى أبو صعب بأن هذا كفر صريح ولابد لمرتكبه من الاستتابة أو القتل، ولا يصح بعد الآن أن يؤم الصلاة ويرفع الأذان شخص مثلي مشكوك في عقيدته. حز ذلك في نفسي وأحزنني، فقلت للحضرمي: هذا والله افتراء! فرد علي بأنني يمكنني الدفاع عن عقيدتي ودفع التهمة بعيدا عني، ولكن ماعاد مسموحا لي أن أرفع الأذان أو أتقدم لإمامة صلاة الجمعة»(ص-180 -181).

إذن، سالي النموذج الشيطاني، ثم مهيرة زوجته التي تركها في الدوحة، غير مدركة لأي شيء عن اعتقاله، وبقي لفترة طويلة يهدر داخل زنزانته بطيفها، حالما بدفء أحضانها، إلى أن تلقى الخبر الصاعقة من طرف المحقق مارتن، مخبرا إياه، أنها قد اختفت عن الأنظار بعد مرور ستة أشهر على غيابه، وأمده بمختلف المعلومات الاستخبارية، التي تؤكد هروبها مع عشيقها إلى الجزائر: «بعد قرابة شهر من انقطاعي عنها، ذهبت إلى مقر عملي بالدوحة لتسأل عني وتستطلع الأخبار، فمنعها حراس البوابة من الدخول إلى حين حصولها على إذن بذلك. وقد تعاطف معها أحد أفراد الأمن، وحصل لها بعد أيام على هذا الإذن، ثم صار يراعيها في وحدتها ويصحبها لقضاء حوائجها. وهو الذي نصحها بالإسراع بتوصيل خط التلفون في شقتها، وساعدها على عمل ذلك، وظل يوالي الاتصال بها يوميا. وهو الذي قدم الأوراق المطلوبة وحصل لها على موافقة جهة عملي بصرف نصف راتبي، وكان يرافقها لصرف المبلغ ولتقديم الاستفسارات إلى السفارات الباكستانية والسودانية لمعرفة مصيري المجهول. وأثناء ذلك، أخذ يتردد عليها في شقتها مرة بعد أخرى، ثم صار يصحبها معه إلى شقته وهي متخفية خلف نقاب، ويقول لجيرانه إنها أخته المسافر زوجها في مهمة وظيفية»(ص-221- 222).

أقول مقابلهما، ستمثل الدكتورة سارا كلاوس، المتخصصة في الإرشاد النفسي وعلاج اضطرابات الحروب، بالنسبة لبرس، نمطا نسائيا مختلفا، على قدر من الايجابية، ساعده كي يضع أولى خطواته نحو معانقة الحرية من جديد، ومغادرة الأسر. ذه الطبيبة النفسانية، التي التحقت للعمل بجُوَّنتنامو، بعد إقدام ثلاثة معتقلين على الانتحار، لما علموا أن الأمريكيين سيسلمونهم إلى الأجهزة الأمنية لبلدانهم، بعد الإفراج عنهم، وأحدثت انطباعات متناقضة ضمن صفوف المعتقلين، تراوحت بين الاكتفاء بالصمت أو قذفها بالأوصاف البذيئة والساقطة، مثل: الشيطانة، العاهرة، الفاسقة، الزانية. ظل برس، منذ أول جلسة علاجية معها، يضمر لها مشاعر التقدير والاحترام، المختلطة أحيانا بدواعي الانجذاب الحسي: «ماذا تريد مني هذه الشقراء الممتلئة، بردائها الأبيض والحذاء الأسود ذي الكعب الرقيق؟ هذا رداء الأطباء والممرضات، لكنهم يرتدون تحته الزي العسكري المبقع، وأحذية رياضية تشبه البيادات التي ينتعلها الحراس والجنود. أخصائية نفسية! عجيب، ما شأني أنا بالنفسنة المتخصصة فيها، هل شكوت لهم اضطرابا يحتاج علاجا أو مقابلة طبيبة؟ لا والله، وهل من شأن امرأة مليحة كهذه، أن تعالج سجينا يعاني من اضطراب نفسي؟ لا والله، هي من شأنها أن تثير الاضطراب بوجهها المضيء كالشمس وشعرها القصير البراق كخيوط ذهب مذاب، وعينيها ..  مالها تحدثني كأنها تعرفني، فتربكني. وما معنى ابتسامتها الهادئة.هذه، الفاتنة بامتلاء شفتيها ونصوع الأسنان المصفوفة. اللهم إني صائم»(ص-203).

بعد سبع سنوات، من الاعتقال، استلزم برس، الامتثال لشرطين أساسيين، كي يتم الإفراج عنه: توقيع الدكتورة سارا على سلامته النفسية، ومن تم قابليته للانخراط ثانية في الحياة المجتمعية، وهو ما استخلصته فعلا بعد جلسات حوارية، صارت مع تواليها أكثر استئناسا:

«أنا يا سيدتي تم اعتقالي بطريق الخطأ. واعتذر عن قولي: "سيدتي". هل الصواب أن أدعوك ''الضابطة''، أم ''الدكتورة'' ماذا تفضلين؟

-سارا، فقط ، هذا هو اسمي.

-عفوا، لكنهم قالوا إن لك رتبة عسكرية، مع أنك ترتدين الملابس المدنية.

-نعم، هذا نظرا إلى طبيعة عملي. فالملابس الرسمية تضع حاجزا نفسيا بيني وبين الحالات التي أتعامل معها، وتقلل درجة الثقة المطلوبة للعلاج.

-هل أنا مريض نفسي؟

-لا أظن ذلك، لكنك تحتاج بعض الرعاية لاستعادة ثقتك بنفسك.

-أنا أثق بالله.

-لابأس، هذا جيد لك» (ص-220- 229).

من جهة ثانية، ضرورة توقيعه على التعهدات القانونية، بعدم ملاحقة السلطات الأمريكية، للمطالبة بالتعويض عن سنوات الزنزانة.

لن يعود برس إلى السودان، بل ستكون مصر وجهة استقراره النهائية، خوفا من أن تعتقله مجددا مخابرات بلده: «فلو اخترت العودة إلى السودان فسيأخذونني من المطار إلى سجن ''كوبر'' الفظيع، فأصير نسيا منسيا. وسواح الدنقلي قال لي إن لديهم اليوم سجونا سودانية ومعتقلات أفظع بكثير من ''كوبر'' ولا يدري أحد مكانها»(ص-250).

خطوة، تسبقها عملية مصاحبة، من أجل إدماجه تدريجيا في المنظومة المجتمعية.العملية، التي سيشرف عليها رجل المخابرات البريطاني مارتن، عبر متابعة لصيقة أولا في لندن، ثم من بعيد، في القاهرة إلى أن يحصل برس على الجنسية المصرية، ويستعيد أجواء حياته الطبيعية.

 

http://saidboukhlet.com

 

يوسف زيدان: جُوَّنتنامو دار الشروق، الطبعة الثالثة 2014 .