ولا يزال شريف صالح، يمارس لعبته القصصية المحببة، لعبة التخفي، الذي قد يبدو مُلغِزا، في البداية. غير أن تأمل القصة والبحث عن مفاتيحها التي يسربها، داخل السرد العادي، لتبدو كالعادي، تفتح آفاق الرؤية أمام القارئ، لتدخله في عالم أوسع من حدود القصة القصيرة، فضلا عن متعة القراءة التي يغلف بها رؤيته، ليتكشف العادي، عن البعيد والأوسع. وليمنح القصة القصيرة عناصر بقائها. هذا ما مارسه في "مثلث العشق" من قبل وما مارسه في "بيضة علي الشاطئ". وما أكده بحرفية واقتدار في مجموعته الجديدة "دفتر النائم"، مستخدما تقنية تمنحه الحرية في البحث في سؤال الهوية، وسؤال الوجود. تقنية الحلم، حيث لا يقتصر الحلم علي النائم فقط، وإنما، وكما اثبت العلم، أن ما يراه النائم، ليس ببعيد عما يراه في اليقظة. حيث النوم ليس إلا عملية استغراق، مثل تلك التي قد يعيشها الإنسان عندما تملكه فكرة، أو موقف معين، يغيب فيها عن الوجود من حوله. وغذا ما تصورنا أنه حتي الجسد يكون حاضرا في الحلم، مستدلين في ذلك بأن النائم إذا ما احتلم، يكون عليه علاماته بعد اليقظة.
وحيث تظل تيمة المجموعة، هي العناصر المتحكمة في حركة الإنسان علي الأرض، متأثرة بها ومؤثرة فيها، في يقظته وفي منامه. منطلقة من ذات الإنسان الفرد، الذي يحدد ملامحه وشخصيه كل من الأب و الأم ، والنصف الأخر/ المرأة.
وقد يتضح ذلك بصورة أقرب في قصة "ابتسامة بوذا" والتي تبدأ بسماع الطفل بكاء أمه وأبوه يضربها في الحجرة المغلقة. ليظل المشهد محفورا في ذاكرة الطفل، ويطارده غضبا علي أبيه، الذي ظل يدفع ثمنها، أما غضب الإبن منه بقية حياته.
غير أن قصص المجموعة، لم تكن بذلك الوضوح المبني علي الأسس العلمية. ولكن شريف أخذ يمارس عمليات التمويه التي تتناسب مع غموض الرؤية حول الإنسان ووجوده.
فإذا ما دخلنا إلي أولي قصص المجموعة "رحلة النهار والليل" مثلا، حيث يحمل العنوان دلالات الاستمرارية، والأبدية، وتتأبي علي التحديد، وكأنها رحلة الإنسان بصفة عامة، فهي رحلة الأيام.
يخرج الراوي في مطلع النهار، مع كل من والده ووالدته. وتختفي الأم في الطريق، دون أن نعلم أين اختفت، ولا كيف اختفت. ونري أثر الزمن علي الأب {كنت أري جسده يزداد انحناء، وشعره يبيض ويتساقط ..} ثم يعوم الأب مع الراوي ليغيب الأب في عمق الماء، بعد أن تُظلم الدنيا.. ثم ... {لا أثر لأبي بين الأجساد المتشبثة بجذوع الأشجار ونباتات الشاطئ}. وكأننا علي متن قطار. ينزل كل في محطته.
فإذا ما انتقلنا إلي آخر قصص المجموعة "بحيرة الطين" سنجدها تدور في نفس الفلك، وكأن الكاتب أراد أن يجعل دفتي الكتاب (قصة البداية وقصة النهاية) يحتويان حياة الإنسان عامة، وما بينهما تفاصيلها، والبحث في جذورها ومعانيها، ومحاولة الكشف عن غموضها الذي يؤدي إلي تيه الإنسان فيها. حيث السارد في (بحيرة الطين) يجد نفسه متورطا في مبارة، لا يعرف من طرفيها، ولا يعرف قواعد اللعبة، ولا يعرف حتي نتيجة المباراة، رغم اشتراكه فيها، ثم يحدث عراك ومطاردة وتخطي حواجز، يري آخرين يلحقون به ويسبقونه، وآخرين يختفون، البعض يتسلق الحبال ويصل للأعلي، والبعض يتعثر في الحواجز، ويسقط تحتها. وفي النهاية يسمع من يخبره بانتها السباق، وأنه الفائز. غير أن هذا الصوت ليس صوتا آدميا، وليس صوتا عاديا، ولكنه دوي: { استسلمنا للزوجة ودفء الطين. ومن أعلي دوي صوت هائل... صوت ليس بشريا... ناداني: مرحبا بك أيها الفائز} وكأن شريف يعلن أنه وصل لنهاية رحلته الفلسفية الممتعة الغامضة، بنهاية مباراة الحياة الغامضة .. غير معروفة النتيجة.
وعلي نفس النهج والمنوال، تدور الحياة، وتدور قصص المجموعة.
في قصة"تووووووت" والتي تبدأ أيضا من طفولة الراوي، وكأنها طفولة الحياة، يمثل صاحبنا أنه قطار يسير بسرعة كبير، ويتوقف بين الحين والحين للالتقاط أنفاسه. وكلما هم بالخروج من استراحة/ محطة.. يزعق تووووت. وفي رحلة القطار{وفي لحظة من تلك اللحظات قفزت قطتي البيضاء من النافذة ولم تعد. وبسبب السرعة الفائقة واندفاع الهواء عبر النوافذ طار أيضا الدقتر الذي كنت أسجل فيه أحلامي. فقدته إلي الأبد!
وقبل دخول إحدي المحطات طار خاتم جدي المنقوش عليه رسمة أبي زيد الهلالي .. كنت ورثته بعد وفاة الجد، ويومها شعرت أنني انتصرت علي كل أعمامي. رغم أنني كنت أقف في مكاني في فترات معينة، لم يكن باستطاعتي أن أتوقف لألتقط كل تلك الأشياء التي سقطت مني في الطريق.}ص10.فبين الحين والآخر.. تسقط قطعة منا، وينفض البعض من حولنا.. إلي أن نصل محطة النهاية وحيدين. ف { لم تعد "تووووت" التي أصدرها مثل "توووووووووووووت" التي كنت أطلقها من قبل.
ثم يلتقي آدم بحوائه في "كوخ ست الحسن" حيث كان {الكوخ مصنوعا من أعواد الغاب ولحاء الأشجار، ومطليا بطبقة جافة من الطين والتبن} أي من خامات الطبيعة الأولية. تنشأ بينهما الألفة دون سابق معرفة. يطلب منها أن تسقيه، ويعود ويطلب السقيا مرات ومرات، وكأنه يطلب منها اللقاء الأبدي الزارع للحياة، فتطلب منه أن يسقي نبتة "ست الحسن" و{قطعت مسافة ليست طويلة ولا قصيرة إلي أن ظهرت لي درجات سلالم خرسانية.. كأنها مدخل بيت مهجور من زمن بعيد.. ومن ثقب بين تلك الدرجات تمددت نبتة صغيرة لا تزيد عن ثلاثة أشبار..} وكأنه يصف المكان المقدس فيها، هي نفسها، المتعطش هو الآخر للسقيا. وتمر الأيام في نعيم السقيا المتعطش لها الطرفان، غلي أن تسأله :{ هل أزهرت النبتة؟
- ما زلت أرويها.
- سعَلَتْ ثم اعتدلت في فراشها، وهي تحدق فيً:
- شعرك شاب كثيرا منذ رأيتك أول مرة.
- تطلعت من كوة الكوخ.. إلي الخارج.. فرأيت نفسي شابا قادما من بعيد}ص13.
فهكذا رحلة الحياة.
وهي تلك الرؤيا التي تمنحها لنا قصة "هروب جسدي"، التي ينفصل فيها الجسد برمزيته المادية، عن الروح برمزيتها المتسامية عن المادة، بل والرافضة لها. فنري الجسد ينفصل عن صاحبه، ويهرب، وبينما هو يبحث عنه{ فتحت فناة شرفتها فجأة في الطابق الأرضي في بيت مطلي بلون أزرق/ وأمامه بستان ورد، فسألتها: رايت جسدي؟
هزت رأسها ونفت بسبابتها أن تكون رأته، ثم أغلقت الشرفة في وجهي وهي غاضبة.
ابتسامتها المرتبكة قبل أن تغلق الشرفة أوحت لي أنها متواطئة معه، وأن جسدي قد يكون مختبأ مني الآن وراء شجرة الياسمين هذه.. ما الذي يمنعه أن يتسلق شرفة الفتاة ويختبئ أسفل سريرها؟} ولم تكن هذه هي المرة الأولي . ف{مرة ظل محبوسا في حمام شقة جارتنا عندما وصل زوجها فجأة..}
فالتواطؤ، أو الرغبة، هنا أيضا موجودة بين الطرفين. أو بين الجسدين، حيث قد لا يتفق العقل، أو الروح مع ذلك، حيث تتساءل:
{لماذا يفر مني هكذا؟ هل يبحث عن شخص آخر يرتديه؟ يشعر أننا لا ننتمي إلي بعضنا البعض! لم يُخلق أحدنا للآخر؟ كأن خطأ ما أوقعنا في مصير مشترك.. صدفة قدرية جمعتنا هكذا بلا أي انسجام، ولا أحد منا يملك حق الاعتراض علي الآخر}.
فهكذا خلق الإنسان، لا يستطيع العيش بجناح واحد منهما.
ونظل، أيضا، أمام مصير الإنسان علي الأرض. فهو يجاهد ويعاند، غير أنه لن يأخذ إلا "حقك من الدنيا" ، والتي فيها – القصة- يذهب السارد لشراء خمسة سندوتشات . ورغم دفعه الثمن لصاحب المحل، الذي يشبه والده، يماطل صاحب المطعم، إلي أن يشتبك معه السارد، فيتم القبض عليه، ويُحكم عليه بالإعدام، وعند التنفيذ، يأتي صاحب المحل بالسندوتشات:
{خد يا ابني .. بقية حقك من الدنيا.....}.
حيث يصبح صاحب المحل هنا هو من يملك منح الحق في الدنيا
{ولا تكون فاكر إنك الزبون الوحيد في الكون}. ف(الكون) هنا تفتح آفاق التصور ليشمل الجميع، والجميع هنا هم البشر، عامة. وهو من يملك حق إنهاء الحياة.
{لمحت ظله المحني وراء ظهري وهو يجذب حبل المشنقة من أعلي ويلفه حول رقبتي}.
وإذا كان شريف قد أعطي الرجل الشبه مع الأب {في لمحة عابرة شعرت أن هذا العجوز يشبه – من جانب وجهه – المرحوم أبي}. فلا علاقة بينهما إلا الاشتراك في السلطة. فالسلطة في البداية، وفي النهاية، هي المتحكمة في مصير الإنسان، فعلي الأرض سلطة أبوية، وفي السماء سلطة إلهية. والإنسان عجول لا يملك من الصبر ما يستطيع به الانتظار، فهو لا يعلم أن رزفه سوف يأتيه، حتي وحبل المشنقة ملفوف حول رقبته. تلك السلطة التي لا تشيخ ولا تكبر، رغم {كبر سنه وشعوري بالألفة لأنه يشبه أبي من زاوية معينة}. فقد ترك السارد المنتظر القلِقْ {ووقف يتسامر ويضحك مع فتاة خمرية، ودلوعة في حركاتها. لا يزيد عمرها عن عشرين سنة.... ثم عاد مبتسما وهو يقول: عجبتك البنت العسولة؟ إنت فاكر طبعا إنها حفيدتي.. صح؟
قلت متبرما: انت حر .. هو أنا سألتك؟!
- لا.. لكن الصراحة قلت أغيظك لما تعرف إنها خطيبتي}.
وليس ببعيد أن نتصور تلك الشابة الدلوعة.. .. ليست سوي الدنيا.
تلك الدنيا التي يعيشها الإنسان علي الأرض بجسده، إلا أن تفكيره ووجدانه كله يعيش مع السماء، مع ذلك المجهول وراء الوجود، ذلك الذي ينتقل إليه بعد الحياة. فيسير بنا شريف نحو ذلك العالم المجهول، لكنه يشفق علينا من الانتقال المباشر، فيمر بما يمكن أن نعتبره مرحلة برزخية، أي مرحلة بين الدنيا وما بعد الدنيا، فنقرأ في قصة "حامل الكتاب" تلك الانتقالة التي تجمع بين الدنيا والآخرة. فالسارد لم يزل علي قيد الحياة. ينام تحت البطانية. حيث يجمع النوم هنا بين الحالتين معا، الحياة وما بعد الحياة، غير أنه يعيش مشهدا من مشاهد الآخرة، مشهد يحمل أيضا بين الحالتين، يري نفسه يحمل كتابا. وإن كان الكتاب في كل من الحالتين، يحمل معناً مختلفاً. لكنه يحمل هنا المعني الأخروي للكتاب، فهو كتاب الأعمال: { وجدتني أهتف في داخلي : هذا كتابي.
كنت أشعر به مفتوحا علي صفحة ما. هل هي من الماضي الذي عشته أم من المستقبل الذي مازال محجوبا عني؟ حتما إذا رفعت رأسي قليلا وقلبت في صفحاته سأعرف المكتوب كله}. غير أن صاحبنا لا يستطيع أن يرفع رأسه، ولا حتي يده، فهو يعيش حالة كابوس يطبق علي أنفاسه. وكأنه حالة الموت التي يتشبث فيها بالدنيا، بينما الآخرة تنتزعه منها.
البنية الحلمية
قد تبدو هذه القراءة لقصص المجموعة، قراءة وعظية، أو سطحية، وهي بعيدة كل البعد عن هذا وذاك، ولكنها تنفذ إلي عمق الأشياء وعمق الحياة، من خلال بنية حلمية، قائمة علي قوانين الحلم، المنفلتة من قواعد الزمان والمكان في الحياة المعيشة، وإن لم تستقل عنها، برؤية علمية تربط بين المعيش والحلم، علي إعتبار أن ما يراه الحالم ليس بمنفصل عما يعيشه بالوعي، أو بالتوافق. بل يصل بنا الكاتب إلي التداخل بينهما، حتي لا نستطيع التمييز بينهما، إلا في الانفلات الزمكاني، لنصل في النهاية، أن عيش الحلم داخل الحياة، أم نعيش الحياة الحلم. وقد يكون مرجع القراءة المذكورة إلي وجود الرؤية الدينية، والتي تعتبر مرجعا أساسيا في ثقافة الإنسان – الشرقي تحديدا – والتي تسري في عروق المجموعة كعصب دقيق بين خلايا السرد، والتي تري في الحياة مجرد معبر، وأنها لا تساوي في حساب الكون غير لحظة، بإعتبار الزمن في الآخرة غير الزمن في هذه الحياة، إذا اخذنا في الاعتبار ما أبرنا به القرآن الكريم في { { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}سورة الحج الآية ( 47 و {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } السجدة آية 5} و { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) سورة المعارج آية 4}.
وأتصور أن هذه الرؤية هي التي استطاع بها شريف أن يكرس الحياة في قصة قصيرة، محافظا بها علي حدود النوع، ومتجاوزا بها كل قيود الواقع.
وإذا لاحظنا بدايات الكثير من القصص، الكابوسية الخالصة منها بشكل خاص، سنجد أنها بدأت بالليل، أو في الليل مثل:
في "قطعان الليل الهائمة تبدأ بي { رايتها تمشي في الليل .....}
في "سهرة مع بجعة" تبدأ القصة ب {كنت واقفا أمام موج البحر، في الليل...}
في "علي باب غزالة" تبدأ ب { كنت أعيش في الطابق الأرضي شبه المعتم..}
في "حامل الكتاب" تبدأ ب {كنت نائما ودافئا تحت البطانية...}
وكذلك سنلاحظ أن الماء أيضا يحتل مساحة كبيرة فيها، مثل:
ففي أولي قصص المجموعة"رحلة النهار والليل" نري إختفاء الأب في مياه النهر، وينظر السارد إليه { كان الماء دافئا لكنني كنت مرعوبا وجسدي كله يرتعش وينتفض}. حيث يمثل الماء مصدر خوف وقلق. كما أن المياه هي التي ابتلعت الأب، أو أن الأب اختفي فيها. فضلا عن {بعد الغروب، رأيت أطفالا يتشبثون مثلي بجذوع الأشجار وأعواد الغاب ونبات السمار..} حيث يمثل الماء مصدر خوف لهم، وتشبثهم بما ينجيهم منها.
وفي قصة "كوخ ست الحسن" نجد الماء هو الارتواء، يسعي السارد للاستزادة منه، وتطلب ست الحسن منه أن يسقي النبتة . فإذا كان الماء في "رحلة النهار والليل" رمزا للموت، فإنه في "كوخ ست الحسن" رمز للحياة .
وفي قصة "إحياء الطفل" نجد السارد، لا يمكنه الوصول للطبيب، أو لإحياء الطفل، إلا عن طريق الماء {لا يمكن الوصول إلي الطبيب دون عبور حواجز كثيرة من الأشجار والمياه ونباتات الماء وركوب أحد القوارب ...} أي أن المياه هنا هي وسيلة الوصول إلي الحياة، أو ما يمكن أن يصدق عليه القول الكريم{{وجعلنا من الماء كل شئ حي}}. وإن اختلف استعمال الماء في الحالين.
وفي قصة "سهرة مع بجعة"، يمثل الماء فيها مصدرا للخوف والقلق، كما هو رمز للغموض، الذي يدعو للقلق {كنت واقفا أمام موج البحر، في الليل. وحدي تماما والهواء البارد يصفع وجهي. كان الموج هادرا. أضواء الشاطئ الشاحبة تزيده غموضا..}.
وفي قصة بحيرة الطين، وحيث تدور أحداث القصة تقريبا في الماء، وتحديدا في حمام السباحة. نستطيع القول بأن الماء هنا هو الحياة، أو أنه يعادل الحياة، التي يفضل الإنسان أن يقف علي حافتها، خوفا، وتوجسا من الغوص في أبعادها غير المعلومة، والتي يتصورها، حتما، عميقة، وربما مُغرقة {ركزت كل جهدي أن أجيد لعبتين في وقت واحد: السباحة وفذف الكرة، رغم أن مهارتي فيهما كانت متواضعة ... آثرت البقاء بالقرب من مرمي فريقي. هكذا وجدتني واقفا وقتا طويلا في المياه الضحلة، بينما إثارة المباراة كلها كانت أمامي في المياه العميقة}.
والمعروف أن كلا من الليل والمياه، (خاصة مياه البحار والمحيطات)، كلاهما يحمل في طياته العمق والخوف، أو الترقب والمجهول، وكلاهما ما يتحسس المرء قبل ولوجهما، الأمر الذي بفرض الرؤية الكابوسية، أو علي الأقل الرؤية الحلمية، بما يحمله الحلم من خوف أو ألم، وكلاهما (الليل والماء) يحمل الجانب الخير، إلي جانب حمله غير ذلك، وهو ما جعل من استخدام الكاتب لذلك الإسلوب، استخداما منطقيا ومبررا.
فإذا ما تأملنا قصة "قطعان الليل الهائمة"، نستطيع أن نري الصيغة الحلمية بكل أبعادها، ونستطيع أن نلمح رؤية الكاتب للحياة في ذات الوقت، ونظرته إليها، حيث التداخل بين الحلم والواقع، بين الضبابية، والشفافية، لتثمر السؤال الأبدي الوجودي: أيهما نعيش... أواقع أم خيال؟
فتبدأ القصة مباشرة من المنطقة الضبابية {رايتها تمشي في الليل، إمرأة بنية .. بنية العينين .. بنية الشعر والحذاء وطلاء الوجه ..} لندخل مباشرة إلي عالم متخيل.. يساعد الليل فيه علي التصورات، أو التهيؤات. لندخل في عالم ليس هو ما ألفناه، أو ما نتصور أننا نعيشه. فإذا ما تصورنا أن اللون البني الذي يسود المشهد، ويغطي تلك المرأة الغريبة، هو لون التفاؤل، والبهجة. وإذا ما استكملنا القراءة { سألتها متوددا مبتسما، وليتني ما سألتها: ماذا تفعلين؟
ابتسمت وقالت : أسوق قطعان الليل الهائمة.
- وأين هي ؟!
- لا أحد يراها غيري}.
فنحن أمام أمل {مبتسما .. ابتسمت ..} وتوجس وخوف {ليتني ما سألتها} في ذات الوقت. ثم دلفنا إلي الإجابة الموغلة في الغموض، والدافعة للتساؤل، والتأمل {أسوق قطعان الليل الهائمة}. ثم الكشف عن ذلك التوجس حين يسأل السارد: {ما الذي ورطني فيها؟ سؤالي أم ابتسامتها؟} فإذا ما استكملنا الحكاية، ونتخيل أننا أمام آدم وحواء {ناولتني تفاحة مرة المذاق}، أمام العلاقة الأبدية، التي يتوجس منها الجميع، والتي يتحدث الجميع عن مرارتها، بينما لا مفر منها، لا لكليهما فقط، وإنما لوجود الحياة علي الأرض، ولوصلنا إلي جوهر الوجود، العلاقة بين الرجل والمرأة، أو بالأحري العلاقة بين الذكر والأنثي.
ثم يرسم شريف ذلك الشد والجذب الأبدي، المحبب والمخيف بين الطرفين:
{فقط كانت تحدق فيّ بعينيها البنيتين
- ماذا تريدين مني؟
- ابتسامتك وعدتني!}
ثم يكشف عن تلك الإغراءات التي تشد الرجل للمرأة ، أو ذلك الرباط غير الظاهر الذي يربطهما معا، إلي أن يتم التزاوج، ويخرج قطيع من تلاقيهما، وسيلقون نفس المصير:
{ أولادك سيتيهون في الليل مثلك. في لمح البصر، رايت عشرات النسخ البنية مني ... تتكاثر حولي. أشارت إليَّ : ألن تقود قطيعك؟
قبل أن أجيب، أعطتني ظهرها وانقلبت عنكبوت عملاقة}.
ففي لمح البصر، كانت الذرية، وكأن الزمن تط ضغطه، وفي لمح البصر، تحولت إلي شبكة، لا تحيطه أو تتلبسه هو فقط، وإنما تحيط وتتسلق الوجود من حوله. وكأنه لا مهرب، ولا مفر من تلك العلاقة الأبدية، المُلغِزة. وليؤكد شريف صالح أنه قادر علي التعبير عن جوهر الحياة بطولها وعرضها، في قصة قصيرة.
وهو ما نستطيع أن نخرج به، أيضا، في قصة "سهرة مع بجعة"، حيث تبدأ:
{ كنت واقفا أمام موج البحر في الليل. وحدي تماما والهواء البارديصفع وجهي. كان الموج هادرا. أضواء الشاطئ الشاحبةتزيده غموضا. لا أدري في أي لحظة رأيتها....}
فنحن هنا بإزاء البحر والليل، معا، إلا أن الحلم عنا ليس حلم نوم، وإنما ما يمكن أن نقول عنه، حلم يقظة. وإن كان الأمر لا يختلف كثيرا. حيث أن عملية استغراق المرء في تفكير ما، خاصة أما عدم الوضوح أو عدم الرؤيا، يعتبر استغراق أو غيبوبة مؤقته. يري فيها المرء ما يشعره بتجسد تلك الرؤي، فهو وإن لم يكن يري علي المستوي الحسي، فإنه يري علي مستوي اللاوعي.
فصاحبنا هنا تخيل أنه يري بجعة خارجة من البحر. و{عندما وصلت إلي الشاطئ لم تعد بجعة، ولا حتي عروس البحر بذيل سمكة، بل أصبحت فتاة سمراء عاجية}. شعر معها بالألفة، سارا معا نحو مقهي قريب من الشاطئ، كان المقهي يغص بشبان وفتيات يشربون ويرقصون مع فرقة تعزف موسيقي غربية بجنون. غير أنه رأي أن هذا المكان لا يروق لها (هو ما يقول ذلك، وكأنه يسقط داخله عليها). سحبها وسار بها للتمشية بين أشجار علي الجانبين، سمعا فايزة أحمد، لنتبين أن صاحبنا يعيش حالة استغراق في حب، لكنه هنا حب عذري، يبحث عن الهدوء وينفر من الصخب. ثم تقطع هي الصمت لتقول (أنا تعذبت وأنا أغني)، تسحبت من يده واتجهت نحو البحر من جديد، وطلبت منه عدم الاقتراب، أظهرت له مركب (ورقية) وسألته عن المكتوب علي المركب، الذي لم يكن سوي { الحب كالموت .. لا يجعلنا مثلما كنا}. وعادت إلي المياه من جديد، وعادت بجعة، لتتركنا وترك صاحبنا وحيدا من جديد {واقفا أمام البحر، في الليل، وحده تماما} .
ولا يزال صاحبنا يعيش حالة العشق في قصة "علي باب غزالة" ، غير أن عشقه هنا عشق مادي، عشق الجسد، وما زال في حالة استغراق، تقوده لتجسيد خيالات الداخل . فكان صاحبنا يعيش {في الطابق الأرضي شبه المعتم} ناظرا إلي نور السماء، ليري حمامة تتحول إلي إمرأة. ثم نظر إلي الناحية الأخري من الشارع ليري غزالة، تتحول في الداخل هي الأخري إلي حورية من حوريات الجنة. ولأن صاحبنا هنا متعطش للجسد فقد رأي {جسدها كأنه منحوت من مرمر، لامع ومصقول، أحسست بنعومة الانحناءات دون أن ألمسه، كأنه لا عظم فيه.. كان جسدها، ولا شئ غيره، هو ما يعكس الضوء الخفيف الذي يتسرب إلي عتمة الصالة...} فالوصف هنا وصف حسي.
وإذا كانت قصص المجموعة تنطلق من الذات الفردية، دائرة في فلك الكون، باحثة عن موقعه منها، إلا أنها ، أيضا، تدور في فلك الوطن، فالذات الفردية، لا يمكن أن تعيش معزل عن ملامسة الواقع المعيش، وإن ظلت محتفظة بفرديتها. وهو ما نستطيع تبينه في قصتي "الخالة اليابانية" و"قصر الأموات". حيث يظل السارد فردا، وإن كان بين مجموع. تأخذ المعالجة فيهما شكل المقارنة الكاشفة، والتي تحمل في ضمنيتها الانتقاد، وربما اللوم، أو الرغبة في المستوي الأفضل.
فنحن نعيش في "الخالة اليابانية" مع أحد أفراد العائلة، وقد عاد من اليابان، ومعه زوجته اليابانية، وكيف هي في حالة نشاط دائم، لا تعرف غير العمل، والإنتاج، سواء الإنتاج العادي، أو إنتاج الأبناء، ويكف يصبح لا هم لنساء العيلة، إلا السخرية منها، أو الكيد لها.
وفي قصة "قصر الأموات" وحيث أننا من أكثر البلاد التي اشتهرت بأثارها، ويأتي إليها السائح من آخر بلاد الدنيا مستمتعا بها.. فكيف يلتقيها السائح، وكيف نلتقيها نحن؟
فإذا ما تأملنا بماذا يهتم السائح في تلك الآثار، وبماذا نهتم نحن.. سيكشف لنا طبيعة كل.
فالسياح {مشغولين بتوثيق صور لأنفسهم داخل القصر وليس خارجه، وكأنهم يرغبون في الإيحاء بأنهم من سكانه الذين عاشوا فيه. لقطات علي السلالم الرخامية العريضة بعروقها الصفراء الشبحية.. لقطات في البهو الرئيسي، وأخري أسفل لوحة زيتية عملاقة لصورة برنسيسة شاحبة وحزينة، كانت تضع يدها علي خدها} فهم مشغولون بالجمال، وبالعمق، حد تمنيهم الانتماء لهذه الآثار.
أما نحن ف {زملائي في الفوج السياحي انشغلوا هم أيضا بالتقاط صور لبعضهم البعض بجوار رأس أسد ومنحوتة فارس برونزي فوق حصانه..أو يلتقطون انعكاس وجوههم علي المرايا والألواح الزجاجية} فكان التركيز والاهتمام علي مظاهر القوة الخارجية، أو البطولة الزعومة المتمثلة في رأس الأسد والفارس الممتطي صهوة جواده.
ووسط هذه الرؤية، نري السارد وكأنه قد انفصل عن مجموعته، لاجسديا، بقدر ما هو وجدانيا، فلا يشعر بالانسجام مع المجموعة { غادرت مسرعا تحت وطأة دوخة خفيفة وانتظرت زملائي علي مقعد في الحديقة المواجهة لباب القصر الرئيسي}. بل إن رابطا خفيا ربط بينه وبين الفن الراقي.. بينه وبين العمق والأعماق. بينه وبين البرنسيسة في لوحتها. تلك التي رسمها رائد الرومانسية في الفن، في منتصف القرن التاسع عشر فرانشيسكو هايز، صاحب لوحة "الحزن": {لوهلة لمحت البرنسيسة الشابة في لوحتها العملاقة وهي تبتسم وتغمز لي كأنها تغويني بالتقاط صورة بالقرب منها. من سيفكر في سبب حزنها أو حتي في مصير الرسام الذي أفني الليالي في رسم ملامحها قبل أكثر من تسعين عاما} . ويصل الرابط بين السارد والبرنسيسة حد التجسد والالتحام، عندما يعود للبحث عن زر الجاكت الذي أهدته له أمه.. تخرج من لوحتها، وتخيط له الزر، بل وتمنحه برتقالة: {ساعدتني البرنسيسة الحزينة في ارتداء الجاكت وناولتني برتقالة.ثم ابتسمت قبل أن تعود إلي اللوحة التي كانت تحمل توقيع الرسام الإيطالي فرانشيسكو هايز. لا أدري لماذا ظللت أردد اسم فرانشيسكو هايز في سري}.فتعيد البرنسيسة له هدية أمه، حيث ترمز الأم هنا إلي الماضي، إلي ذلك الذي هو سكان ذلك القصر، إلي عالم كان يقدر الفن، ويقدر العمق ويقدر الجمال، فظل السارد يردد اسم فرانشيسكو هايز، وهو لا يدري لماذا.. بينما ندري نحن أنه يحن للعودة لرومانسية فرانشيسكو، ولزمن كان يقدر الفن، والجمال.
النهايات غير المشبعة
قد يتوارد علي ذهن القارئ لهذه القراءة لمجموعة "دفتر النائم" أن تلك الموضوعات قد تطرق إليها العديد من الكتاب والمبدعين. بل إن شريف نفسه تطرق إليها في الكثير من مجموعاته السابقة. لكنا نسارع بالقول بأن الكاتب عندما تلح عليه رؤية معينة، تصبح موضوعه الرئيس، الذي لابد أن نجده متواجدا بصورة أو أخري في معظم، إن لم يكن كل، أعماله. لا بالتكرار، ولكن بالتنوع، والتجديد. خاصة أن شريف صالح قد ترسخت قدمه، وأصبح بلا مبالغة، أحد أعلام القصة القصيرة العربية، وقد تحددت ملامحه، وخصائصه. وأنه لم يشأ أن ينفرد بقضيته وحده، وإنما يسعي بالطرق المختلفة، أن يشرك قارئه فيها، وكأنه يتناقش معه، وصولا إلي قناعة محددة، حول مصير الإنسان علي الأرض، والذي يراه – من خلال قصصه – مجبور علي الفعل والتصرف. واختياره للطفل في الكثير من القصص، كشخصية رئيسة فيها، إنما يمنح القارئ فرصة التفكير، علي اعتبار أن الطفل لايتصرف إلا وفق قوي خارجية، أو سلطة خارجية – والطفل هنا بالطبع، هو الإنسان - هي في الغالب سلطة الأب، التي يمكن أن تتدرج مع المجتمع إلي سلطة القوانين، أو سلطة التقاليد، أو سلطة الرئيس، أو سلطة الدين، او سلطة القوي الأكبر، السلطة الإلهية. والتي يتحرك الطفل، والإنسان عامة، بوازع التمرد علي هذه السلطات المتنوعة، أو علي الأقل محاولة تجنب عقابها.
فعلي سبيل المثال،في أولي قصص المجموعة "رحلة النهار والليل"نجد الطفل، المُسَير بأوامر والده، وفي لحظة ما يقول، تعبيرا عما يفكر ويبطن{ لم تدم بهجة امتلاكي كرة سوي لحظة، ثم تلاشت بعد لكزة أبي. كتمت دموعي حتي لا يعنفني أكثر..}. فحتي الدموع بات الطفل يحاول حبسها، خشية عقاب الأب. وكما رأينا من قبل في قصة "ابتسامة بوذا" كيف فكر الأبن في قتل الأب: {لم أخبرها أنني قررت قتل أبي}. نظرا للعداوة النفسية، أو علي الأقل، الغيرة، التي تنشأ من الإبن تجاه الأب. وهو ما قاله علم النفس، نتيجة العلاقة مع الأم. فالرغبة في التخلص من سطوته، إن لم يكن منه، موجودة.
وفي قصة "تووووت" تتطاير الأشياء من السارد / الإنسان، اثناء مسيرة الحياة. حتي محبوبته التي وصلت متأخرة دقيقة واحدة عن موعدها، فلا هو بمستطيع إعادة الدقيقة، أو حتي إيقاف اندفاع الزمن. و{أي قوة في هذا الكون كله قادرة أن تعيد تلك الدقيقة إلي الوراء، أو أن تسحب رأسي المندفع بعنف إلي الأمام}.
وفي قصة "هروب جسدي" حيث وجد الإنسان نفسه يعيش تحت تأثير طرفين متنازعين، لا يستطيع العيش بدونهما معا، الجسد والروح، نجده يعبر عن ذلك الذي يعيشه مضطرا، حين يتحدث عن الجسد: { صدفة قدرية جمعتنا بلا اي انسجام، ولا أحد منا يملك حق الاعتراض علي الآخر}.
وفي قصة "الخالة اليابانية" تتآمر الجدة وزوجة العم علي الزوجة اليابانية. أرادا سرقة "الكيميونو" الخاص بها. لم يجدا غير الطفل لهذه المهمة. لكنه تساءل: {لماذا أسرق "كيميونو الخالة اليابانية وهي لم تضايقني في أي يوم؟
لكزتني امرأة عمي وهددتني بأنها سوف تكوي بلبلي بملعقة حامية إذا لم أفعل} فما كان من الطفل إلا أن يفعل.
وأمام هذه الجبرية، والتي تؤكد بأن شيئا قطعيا سيحدث، لا يستطيع الإنسان التنبوء به، فدائما ما سيحدث خاضع لكل الاحتمالات.
لذا جاءت نهايات القصص، متوافقة مع تلك الرؤية، لتفتح الحكاية علي الاتساع اللانهائي للحياة. ولا أقول النهايات المفتوحة. حيث في النهايات المفتوحة، تكون النهاية مفتوحة علي عدد من الاحتمالات، أو اختيار بين بدائل. أما نهايات شريف صالح، فهي ما يمكن أن نقول معه أنها نهايات مبتورة، ومتعمدة. وكأنه يستدرج قارئه بالسرد المدهش، ويسير به إلي أن يفاجأ القارئ بأنه قد وصل مع السارد إلي حافة المحيط.. يتلفت وراءه، فلا يجد السارد أو الكاتب. بل يجد نفسه أمام المجهول. ليجبر شريف قارئه علي المشاركة، والإيجابية. إلي جانب الاستعمالات المتعددة لإساليب الدهشة أو الحيرة، أو عدم اليقين، حيث يقول لقارئه، ليس عندي يقين.. فابحث معي. فعلي سبيل المثال : "خمنت" ، "لا أعرف ما علاقة ما حكاه لنا بإحياء ابني" ، "كان من الصعب أن أعرف هل هي زوجته أم حبيبته أم ابنته" ، "لست متأكدا إذا كنت قد استسلمت ... أم لا..." وغيرها كثير.
لقد خلقنا الله أفرادا، وسنذهب إليه أفرادا، ونظرة الإنسان إلي الأشياء والكون والبشر من حوله، تنبع من شخصه وذاته بالدرجة الأولي. ولكل هذا، كانت معظم أعمال شريف صالح، وخاصة مجموعته الجديدة المرهقة، والممتعة، سيطر عليه ضمير المتكام، وكانت شخوصها محدودة، والكثير منها، خيالي، تنسجه رؤية السارد. فجاءت "دفتر النائم" تدوين لأعماق الفرد علي الأرض، قد نتصور أنه نائم، وقد نصور أنه مستيقظ، وبينهما مشتركات عديدة، للقارئ أن يتخير منها ما يشاء. فقد فتح له شريف الباب مفتوحا دون ممارسة أي من سلطات الوجود. فما لم يستطع هو الحصول عليه، كإنسان، أراد، أو علي الأقلن تمناه لقارئه. وكأن يريد إيقاظ الفكر بالكتابةفي "دفتر النائم"