لا يقدم ديبوف في كتابه انطباعات سائح، أو تصورات مستشرق، عن العالم العربي، بل يجري بحثا عميقا مقارنا بين تاريخ الثورات في أوروبا وفي العالم العربي. ولأن كتابه موجه للأوروبيين، في الأساس، فهو يحاول شرح تاريخ التوجس المتبادل بين أوروبا والشرق الأوسط كذلك. ويبدي الكاتب إيمانا عميقا ـ بأن الانتكاسات التي تواجهها الثورات العربية من حين إلى آخر، ليست إلا جزءا من العملية الثورية المستمرة.

سجال ضد فرضية انعدام التوافق بين الديمقراطية والإسلام

كورت ديبوف في «الثورات العربية: وجهة نظر أوروبية»

ياسر الزيات

في مقدمة كتابه: «الثورات العربية: وجهة نظر أوروبية»، يطرح الكاتب والباحث السياسي البلجيكي كورت ديبوف أسئلة تقلق الكثير، ليس في العالم العربي فقط، ولكن في أوروبا أيضا: هل بات الربيع العربي شتاء عربيا؟ هل الإسلام غير متوافق مع الديمقراطية؟ وإذا لم تكن المشكلة في الإسلام، فهل هي في العالم العربي؟ من أين جاءت «داعش»؟ وهل هي ـ حقا ـ نتاج للربيع العربي؟ وماذا يريد تنظيم الدولة الإسلامية؟ ولماذا يريد التظيم أن «يغزو» أوروبا؟ وما هي آفاق الثورات العربية في مصر وسوريا وتونس واليمن وليبيا؟

صدرت الترجمة العربية للكتاب حديثا، وكان قد صدر أصلاً باللغة الإنكليزية عن دار لانوكامبوس البلجيكية للنشر، نهاية العام 2014. وحمل الكتاب في نسختيه الإنكليزية والعربية مقدمة كتبها جي فيرهوفستات رئيس وزراء بلجيكا الأسبق، ورئيس كتلة تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا «ألدي» في البرلمان الأوروبي، حاليا، بعنوان «العالم تغير.. وما زال يتغير». ويشرح فيرهوستات المهمة التي أوفدت الكتلة من أجلها ديبوف إلى القاهرة، وكيف ساعد وجوده في الشرق الأوسط على وصول الكتلة إلى فهم أكثر عمقا لما يجري في بلدان الربيع العربي.

في الأول من أيلول/سبتمبر 2011، وصل ديبوف إلى القاهرة ليعمل ممثلا دائما لـ»ألدي» في الشرق الأوسط، وهو يغادرها الأسبوع القادم عائدا إلى بلجيكا بعد انتهاء مهمته. يقول فيرهوستات، شارحا الحاجة لإيفاد ديبوف إلى المنطقة: «ما بدا كربيع عربي (في كانون الثاني/يناير 2011) تحول إلى ثورة عربية عارمة، فخرجت المظاهرات في مصر واليمن وليبيا والبحرين والمغرب والأردن وسوريا، وحتى في السعودية». وامتدت موجة المظاهرات إلى خارج العالم العربي: البرازيل، تركيا، تايلاند، السودان، المكسيك، ماليزيا، أوكرانيا، فنزويلا، ووصلت إلى حركة «احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة. ويعزو فيرهوفستات ذلك إلى «الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت العالم عام 2008، وساهمت في تغيير النظام السياسي العالمي»، ويخلُص إلى أن «أهم تغيير في السياسة العالمية هو تراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، الأمر الذي بات أكثر وضوحا الآن بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران. وعلى العكس من الاتحاد الأوروبي فإن «لدى الولايات المتحدة خيار الانسحاب من الشرق الأوسط»، حيث «الساحة الخلفية لنا: التبادل التجاري، تدفق المهاجرين، والتبادل الثقافي والاقتصادي، كلها عوامل تفرض نفسها علينا. ولكن الاتحاد الأوروبي، يتعامل، منذ العام 2009، كأن لديه الخيارات المتاحة، نفسها للولايات المتحدة». ويضيف فيرهوفستات: «انشغلنا بالمعركة الأكثر أهمية داخل الاتحاد، وهي التغلب على الأزمة الاقتصادية التي تعدد قواعد الاتحاد، وأصبح كل تركيزنا على المشكلات الداخلية، حتى توقفنا عن النظر إلى الخارج».

عندما وصل ديبوف، مع أسرته، إلى القاهرة، تلقى في اليوم الأول اتصالا من السفارة المصرية في بروكسيل، فأدرك أن مهمته لن تكون سهلة. بهذا الموقف، يفتتح المؤلف الفصل الأول الذي كان عنوانه «إنها ثورة عربية». يقول: «اتصل صديق لي بصديقته وزيرة التعاون الدولي المصرية، فصدمته معرفتها بكل شيء عني: محل إقامتي، مدرسة أطفالي، ويوم وصولي لمصر بالتحديد. أخبرته الوزيرة بأن أنشطتي غير مرحب بها في مصر، وأن علي أن أعد حقائبي وأغادر فورا». لم يكن ديبوف قد مارس أي نشاط، لكن الرسالة وصلت بوضوح: «أدركت، حتى بعد سبعة أشهر على إزاحة حسني مبارك، أن الثورة لم تنته بعد». ولم تكن هذه مفاجأة بالنسبة له، فأخذ يقارن الحالة المصرية وقتها بالربكة «الشديدة» التي سادت بعد سقوط سور برلين في 1989، وانهيار الاتحاد السوفييتي في 1991. «لم تتحول دول وسط أوروبا إلى ديمقراطيات بين ليلة وضحاها»، يقول ديبوف. واستغرقت الموجة الأولى من الثورات عامين ليتغير العالم: «لم يسقط سور برلين فحسب، بل جاءت نهاية الدكتاتوريات الشيوعية في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا ورومانيا وبلغاريا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، والاتحاد السوفييتي نفسه».

لا يقدم ديبوف في كتابه انطباعات سائح، أو تصورات مستشرق، عن العالم العربي، بل يجري بحثا عميقا مقارنا بين تاريخ الثورات في أوروبا وفي العالم العربي. ولأن كتابه موجه للأوروبيين، في الأساس، فهو يحاول شرح تاريخ التوجس المتبادل بين أوروبا والشرق الأوسط كذلك، منذ تمدد الإمبراطورية العثمانية في أوروبا، مرورا بالاستعمار الأوروبي لأغلب الدول العربية. ويبدي ديبوف إيمانا عميقا ـ على امتداد فصول كتابه ـ بأن االانتكاسات التي تواجهها الثورات العربية من حين إلى آخر، ليست إلا جزءا من العملية الثورية المستمرة. ولإثبات حجته وتوضيحها، يقدم سلسلتين زمنتين متوازيتين للثورة الفرنسية والثورات العربية، مع خلفية تاريخية في الحالتين. ويتضح من المقارنة أن موجات الصعود والهبوط السياسي، والمراوحة بين الانتصار والهزيمة، وبين الحرية والطغيان هي جزء طبيعي من العملية الثورية التي تحتاج إلى وقت قد يطول لإحداث تغيير حقيقي. يقول ديبوف: «من الواضح أن أسباب كلا الثورتين، الفرنسية والعربية، اشتملت على مزيج من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والساسية التي جعلت الناس على استعداد للثورة. في الثورتين، كانت غالبية الشعب تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، في حين أن الطبقة العليا الفاسدة تسيطر على جزء أكبر فأكبر من الثروة. كل من لويس السادس عشر والطغاة العرب استخدموا الإرهاب والوحشية للحفاظ على صمت الشعب. كلهم قللوا من أهمية الضغوط الاجتماعية التي كانت قادرة على إعطاء قوة فير متوقعة لأفكار التغيير».

وربما كان أغلب الأوروبيين يفهمون ذلك، لكنهم يواجهونه بالكثير من التشكك في قدرة المسلمين والعرب على تأسيس أنظمة حكم ديمقراطية، لكن ديبوف يفند ذلك: «هذا الرأي يستند إلى عدم البصيرة وغياب المنظور التاريخي. أندونيسيا هي واحدة من أكبر الديمقراطيات في العالم، وهي بلد مسلم. تركيا وألبانيا ليستا ديمقراطيتين فحسب، بل هما عضوان في حلف شمال الأطلسي، ومرشحتان للانضمام للاتحاد الأوروبي. القول بأن الإسلام والديمقراطية غير متوافقين هو ببساطة قول غير صحيح». هل المشكلة في العالم العربي إذن؟ يجيب ديبوف: «هذا أيضا غير صحيح، فقد عرفت مصر نظاما ديمقراطيا حتى العام 1952 (صعود الضباط الأحرار إلى الحكم وعزل الملك فاروق)، وعرفت دول عربية أخرى النظام الديمقراطي، لكنها لم تكن مستقرة بالمرة. واليوم، لا ينكر أحد أن تونس نجحت في مرحلة التحول الديمقراطي بعد الثورة، إذ أقر أول رئيس منتخب ديمقراطيا في تونس (منصف المرزوقي) بهزيمته في الانتخابات الرئاسية الثانية، وترك منصبه طواعية». ومن هنا يخلص إلى أن فرضية عدم توافق الديمقراطية والإسلام، أو الديمقراطية والعالم العربي، غير صحيحة، «ولكن هذا لا يعني أن العالم العربي اليوم في حالة جيدة، فهو المنطقة الأكثر اضطرابا في العالم». كما يفند ديبوف فرضية أن تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» هو نتاج للثورة العربية، ويقدم تأصيلا تاريخيا لنشأة التنظيم، وامتداداته الفكرية، وارتباطه بتنظيم القاعدة، ويقارن ممارسات «داعش» بفترة روبسبيير الإرهابية التي تلت الثورة الفرنسية: «بعد أربع سنوات من الثورة الفرنسية عام 1789، قاد روبسبيير فترة من الإرهاب. وفي سنة واحدة قطع رؤوس ما لا يقل عن 19 ألف شخص على المقصلة». الأمر نفسه حدث عقب الثورة الروسية عام 1917: «عندما فاز البلاشفة (في الحرب الأهلية التي دامت أربع سنوات بعد الثورة)، قاد لينين عهدا من الإرهاب أيضا. كل من بدا معاديا للثورة يُقتل أو يُرسل لمعسكرات العمل في سيبيريا. وواصل ستالين عهد الإرهاب هذا إلى العام 1950». فالإرهاب ـ في رأي ديبوف ـ كان طريقا في الحالتين لتصحيح المسار، وقاد إلى ديمقراطية في فرنسا، وجعل الاشتراكية أكثر اعتدالا في أوروبا.

ولا يكتفي كورت ديبوف بالوقوف في شرفة القاهرة، حيث كان يقيم، والإطلال على شارع الشرق الأوسط، بل ينتقل من تونس إلى سوريا، ومن سوريا إلى اسطنبول، ومن هناك إلى لبنان وليبيا وفلسطين والأردن، ويلتقي قيادات من كل التيارات السياسية، ويزور مخيمات اللاجئين أحيانا، ويقترب من جبهات القتال في أحيان أخرى، في محاولة لفهم ما يجري في المنطقة، ويربط كل هذا بالبرلمان الأوروبي، ويؤثر في الكثير من قراراته تجاه المنطقة. كذلك يتفاعل مع الحياة السياسية في تلك البلدان، ويقدم تحليلا ووجهات نظر وحلولا، أحيانا، للخروج من بعض الأزمات السياسية، وتقييما موضوعيا لمواقف القوى السياسية.

ويكتسب كتاب «الثورات العربية.. وجهة نظر أوروبية» أهميته من كون مؤلفه راصدا وباحثا خارج دائرة الأحداث، لكنه داخلها في آن. ويمكن تلخيص الكتاب كله في جملة اختتم بها ديبوف مقدمة الطبعة العربية لكتابه بقوله: «من الإنصاف أن نقول إن الثورة العربية لم تنته بعد، بل إنها بدأت».

 

كورت ديبوف: «الثورات العربية: وجهة نظر أوروبية»

ترجمة محمد سامح

دار بدائل للنشر، القاهرة 2016

296 صفحة