يجيد الكاتب المصري محمود عبد الشكور الحكي وبناء المشاهد السردية، لكنه في عمله الأخير «كنت صبياً في السبعينات» لم يكن مجرد حكَّاءً يروي من ذاكرته حكايات شخصية فحسب، وإنما كان مؤرخاً يبني سيرة مصر الثقافية بطريقة فريدة لم نعهدها في كتابة التاريخ ولا في كتابة السيرة الذاتية. فيجد القارئ أمام بناء سردي تمَّ ترميمه من ذاكرة ثرية منقوش عليها بصمات فنانين وأدباء وساسة وبشر، ما يجعل منه مخزناً فريداً لا يعرف قيمته إلا من يدرك أن سيرة الحُكَّام يكتبها المؤرخون من أعلى استناداً إلى وثائقهم المشكوك فيها غالباً. أما من يكتبون سيرة الأوطان فإنهم مؤرخون يشتقون التاريخ من أرواحهم ليقيلوا الأوطان من عثراتها. ولهذا يمكن اعتبار كتاب عبد الشكور مرجعاً ثقافياً لحقبة السبعينات المصرية، يُسترشد بها لمعرفة كيف تلقى واحد من ملايين من الصبية المصريين ما كانت تعيشه مصر ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وفنياً وإعلامياً، إضافة إلى الأزمات والنكسات والانتصارات والاغتيالات والرموز الفاتنة والمفتونة، والجماعات المتطرفة والمتصوفة ممن يعيشون بيننا لا نعرفهم إلا بعد أن يكونوا قد عبروا مكاننا وزماننا بخفة تليق بأرواحهم النبيلة.
لا شك في أن محمود عبد الشكور المثقف والناقد السينمائي في لحظة كتابته مخزون ذاكرته ليس هو نفسه محمود عبد الشكور الصبي الذي استقبل للمرة الأولى هذا الإنتاج الثقافي والأحداث الاجتماعية والسياسية. الأمر الذي يجعل من عملية سبك الأحداث بما يتفق مع رؤية الكاتب من دون طمس صوت الطفل أشبه بعملية تأريخ ديموقراطية تتسم بتجاور الأصوات المتباينة حول حدث معين، من غير أن يتحول هذا التباين إلى تناحر. بل تتآلف الأصوات المتباينة لتقدم الحدث الواحد من زوايا متعددة لأن غاية السرد ليست احتكار الحديث باسم الماضي أو باسم الحقيقة، وإنما بعث أصوات الماضي غير المسموعة في الحاضر، ورسم صور المهمشين في قلب المركز.
ومثل ذلك سرد عبد الشكور لأحداث عديدة جرت في عهد عبد الناصر بعيون الصبي، فكانت أحداث الجنازات الشعبية المتوازية في مدن مصرية وعربية مختلفة حافزاً سردياً للحكي عن جوانب من عصر ناصر، من دون الحرص على تقييم أيديولوجي أو سياسي للماضي بأثر رجعي، وإنما لسماع صوت غير وارد حضوره في التأريخ الرسمي للمرحلة الناصرية عند تفسير رفض المصريين لتنحي عبد الناصر عقب النكسة. وهذا التفسير هو أن ما فعله المصريون من موقف غير مفهوم حتى الآن للكثيرين، أمر يخص المصريين وحدهم الذين يمكن أن يمنحوا الرئيس فرصة ثانية إذا اعترف بالمسؤولية، ليس من باب عدم القدرة على العيش من دونه، وإنما من باب «رد الجميل».
وهنا نلحظ محاولة رأب الصدع بين ذاكرة الصبي ووعي الكاتب بعد فحص مخزن ذاكرته وتأمل خبراته القرائية ليقول لنا: «سألت كثيرين ممن عاشوا تلك الفترة، بمن فيهم أبي، جميعهم أجمعوا على أنّ أحداً لم يحرّك الناس في الشوارع. ما هذا الشعب العجيب الذي يستبقي حاكماً مهزوماً؟...» (صـ 13). إن التماس مشاعر الناس تجاه الأحداث قد يفسر أموراً تبدو لدى بعضهم عصية على التفسير، فقط نحتاج إلى السماح بالأصوات المتباينة أن تأخذ حقها بالعدل إن كانت غايتنا الحقيقة. ينسج عبد الشكور من أغاني المرحلة وحكايات أصدقاء أبيه التي كان يسمعها واختزنها في الذاكرة صوراً للحياة في مصر من خلال مشاهد متلاحقة سردياً وزمنياً ومتشابكة على أكثر من مستوى.
ناصر الذي رفض المصريون تنحيه عقب النكسة، كان عمود الخيمة وفق استعارة أحد أصدقاء والد الكاتب، وهي استعارة تأتي بعناصرها مكتملة حيث معنى «الستر والغطا» وحضوره الفريد في المجال السياسي؛ ذلك الحضور الذي ربما لم يحدث من قبل في أية معالجة تاريخية أو سياسية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم: «هناك صديق آخر لأبي كان يردد دوماً عبارة لا تتغير، مازالت ترن في أذني حتى اليوم... اعلم يا أبتِ أن الأسرة كالخيمة، كلها ستر وغطا». لعلّ العبارة مفتاح الحكاية كلها، فتُرَ حماس الجيل للسياسة التي انتهت إلى هزائم مروعة، انفصلت الشعارات عن الحقيقة، لم تكن هناك سياسة إلا ما يتقرر من أعلى» صـ 27.
لم يكن يدرك الصبيّ معنى سقوط عمود الخيمة، لكنّ الحزن دخل قلبه من طريق آخر نتيجة سقوط عمود الخيمة في النكسة، واحتلال سيناء الذي استمر إلى ما بعد جنازات ناصر الشعبية بثلاث سنوات؛ حيث وقعت - بعين الطفل - «مأساة» اغتيال مذيعة الأطفال المحبوبة سلوى حجازي وهي تستقل طائرة ليبية بقذيفة أطلقتها إسرائيل من قلب سيناء المحتلة في 21 شباط (فبراير) 1973.
شعراء كثيرون رثوا عبد الناصر بعد رحيله، وآخرون كثيرون انتقدوا نظام حكمه، لكنّ السبعينات التي يرصدها عبد الشكور بعيون الصبي بكل ما شهدته من تغير في القيم وصعود الجماعات الدينية المتطرفة وهيمنة ثقافة الاستهلاك وغزو المؤسسات والشركات العابرة للجنسيات للعقول والقلوب جعلت جُلَّ المصريين يبكون مصر الناصرية، ويحنون إلى زمن كانت الخيمة فيه مازالت قائمة بقوة، وأوتادها مغروسة في الأرض. فلا فرق بين بكاء طفل فقدَ مذيعته المحبوبة بقذيفة إسرائيلية وبين بكائيات شعراء يرثون عبد الناصر، إذ يبدو أن البكائيات قاسم ثقافي موروث تتناقله الأجيال، وليس أدلَّ على صدق ذلك من أن الراوي الصبي ينقل عن أبيه رثاءه الأجداد لمُلك شيخ العرب همَّام الفرشوطي: هيَّاك يا دار هيَّاك/ بس ضبَتك غيروها/ تسعين أوضة وشباك/ في تلايلك كسَّروها». إن الرابط بين همام الفرشوطي وعبد الناصر، وبين احتلال سيناء واغتيال مذيعة أطفال، وبين إعلانات التلفزيون والأغاني الوطنية والأفلام ومنظومة القيم المصرية وتغيرها الدراماتيكي، ليس سوى ذاكرة ثريَّة لحكَّاء ينسج من الخاص والعام سيرة مصر الثقافية في السبعينات.