يجوب الكاتب العراقي في قصصه مع شخصياته شؤون الحياة المختلفة معرجاً على مواضيع، الفقر، الصدق، العسف الذي تعاني منه المرأة في بنية قصص متنوعة بين السرد الواقعي بمستواه المباشر إلى سرد حكائي يستعر من حكايات ألف ليلة وليلة مقاصدها في الحكمة والمعنى.

إيقاعات الزمن الراقص

مجموعة قصصية

علي السباعي

انتهى الدرس، وبانتهائه بدأت عجلة الحياة تدور في الاتجاه المعاكس، الدقائق بدأت تحصدها مناجل من لحظات راقصة، وبحركات رشيقة، اهتزازات متقنة، ترقص المخلوقات. إذ أصبح هذا الرقص جزءاً من حالات انتهاء الدرس لحركات الراقصين والراقصات، تتكسر الثواني كما الزجاج المتكسر من نوافذ المنازل بفعل ارتجاج عقارب ساعات الرقص. الأيام هجرها الزمن، ضاع الإنسان، وضياعه هذا تولَّد من أفعال معاكسة لإرادات جبارة، يقال إن البطريق إذا ضلَّ طريقه إلى أفراد فصيلته يصاب بالحزن-إذ سرعان ما تحتضنه كل البطاريق، وتجعله يأنس معها-.. الآن –أعني اليوم- الإنسان ضاع إلى الأبد، ولا يجد في ضياعه غير المادة. بهذا بدأ أستاذنا الجامعي محاضرته في درس التاريخ المعاصر، استأنف قائلاً:

-طويت صفحة من التاريخ بتداعي الاشتراكية، تكسرت عقاربها المتحركة فوق جليد البريسترويكا، بدأت صفحة أخرى، وعقارب جديدة، حديدية، قوية، وسريعة تدعى: النظام الدولي الجديد!

هكذا! هو التاريخ –كديناميكية الحركة التي تتولد من السكون.

وفي صمت كنت أتمعن في كلام الدكتور المحاضر وهو لا يزال مستمراً بإلقاء محاضرته:

-إما أن يأكلنا النظام الدولي الجديد أو نأكله- قد يكون هذا مبهماً، أصم عقيماً فقط للوهلة الأولى. فلا بد أن يحدث تغيير. جاء في الماضي الاسكندر المقدوني، أكل العالم –فأكله التاريخ، جاءت حقبة الحربين أيضاً ابتلعهما التاريخ. إذن! ستبدأ عقارب الساعة بالتراجع من الرقم الأعلى إلى الصفر عكس المعهود- لن تبدأ من الصفر لأن الحياة بكونها بدأت من الصفر، وتخطته إلى حواجز عديدة. سقطت كل الأقنعة، تكسرت عقاربها على ميناء التاريخ تخلصنا من القديم بالدمار. نعم! التاريخ قد يكون الدمار، الجوع، الحرب، ولن يكون الرقص.

أستغرب حديث الدكتور، ما دخل الرقص بمحاضرة عن التاريخ المعاصر؟ تذكرت بأن الليلة ستقام حفلة راقصة في نادي الساحل الأزرق، أيقظت بي أحلاماً لعالمي الخاص الذي لم يكن أبداً خيالياً. كما حدثنا أستاذنا عن: ثورة الزنوج، الثورة الفرنسية، والعالم الجديد... إن هذه المحاضرة حلم أيضاً، بينما الرقص حقيقة ملموسة... أوه... ما زال الدكتور يلعلع بحماس:

-التاريخ المعاصر للعالم أصبح: الصراع بين القديم والجديد، البداوة والتكنولوجيا، اللا مألوف والمألوف.

ولم يتبدل الوضع إلا بالحرب التكنولوجية. فالتكنولوجيا تسخرها القوة العظمى للهيمنة على العالم، وفرض النظام الرأسمالي رغم انتهاء الصراع الأيديولوجي بين الماركسية والليبرالية. أصبح الوضع في إطار اقتصادي بحت، عجزت الدول النامية عن استثمار التكنولوجيا التي أصبحت سلاحاً لحل معظم المشاكل في العالم –هنا- انهار التوازن والعالم يرقص على إيقاعات انهيار دقائق ساعة البلدان النامية.

دكتورنا المحاضر يبدو كنابليون الخاسر في واترلو، أستعيد لحظات العشق، الصخب، والموسيقى... أشعر بتدفق دمي وهو يصعد إلى رأسي بازدياد صخب موسيقى الجاز، اهتزازات، انحناءات، التواءات أجساد الفتيات الغضة الناعمة- عندما تداعبها أصابع الراقصين تجد الحياة حلوة بكل ما فيها وسط النظام الدولي الجديد. يا ليت المحاضرة تنتهي. إلا أن أستاذنا يستطرد مضيفاً:

-عمرنا قصير، ولن نعيش طويلاً. لهذا أنتم التاريخ المتجدد بأجيالكم القادمة، وجيلكم سيدحر النظام الدولي الجديد...

فيقاطعه أحد الطلاب:

-دكتور! أصبحنا نفتقد الآن أشياء إذا ما تذكرناها سنبكي، أضحينا بحاجة ماسة  إلى تلك الأشياء الثمينة.

فمن الواضح أن الإنسانية غارقة وسط ضجيج الرقص، وصخب الإعلانات المزعجة. تنهد أستاذنا الجامعي وأجاب:

-كلامي صحيح بعض الشيء!

سأضرب لكم مثالاً يفند ما أشرت إليه: إذا حدث طلاق بين زوجين في أمريكا، وكان الذي قد طالب بالطلاق الزوجة، وسبب دعواها للانفصال: قد وضعت في سرير الزوج قططاً، وعمدت إلى تدثيرها بدثار الزوج مدعية بأن الزوج بإمكانه تحمل البرد بينما القطط لا يمكنها ذلك. أرأيتم؟!

رغم هذا لا يكون ما يفقدونه ضرورة تجعلهم يخسرون حياتهم. بل يجددونها...

قاطعه زميل آخر قائلاً:

-إن كلامك يا دكتور يقودنا إلى التساؤل التالي: -ما هي الحياة؟

أوه... الحياة... إن هؤلاء الطلاب وأستاذهم يعيشون في وهم كبير اسمه: الحياة! إن الحياة تعني المادة –ثم المكانة المرموقة- وامرأة حسناء. إنهم يجهدون أنفسهم بتنظيرات قد دهستها أقدام الزمن، وما فتئت تطفو على أفواههم من جديد، يرد الدكتور على زميلي الطالب، وكأنه اكتشف كنز السندباد:

-إن دستوفيسكي يصف الحياة بأنها وقفة مع كل صورة حلوة ورحلة مع كل صورة معذبة. أليس كذلك يا أحبائي؟

يا للشيطان! إنني محتاج إلى حفلة راقصة لأعبر عما يعتلج داخلي من معارك نفسية متى ستنتهي هذه المحاضرة؟

***

وبانتهائها بدأت الموسيقى تصدح، اهتزازات، تشنجات، والتواءات أجساد الفتيات وهن يرقصن على فقاعات الزمن الجديد، ليبدأ التاريخ يولد من...؟

***

عرس في مقبرة

-كنت أحسب أنني أعيش في عزلة موحشة، كل ما فيَّ ينتمي إلى الماضي، حتى أنفاسي فإنها تصدر عن الوحدة المتفردة بداخلي. اكتشفت من يشاركني وحدتي.

أنظر إلى الشمس الغاربة، كأنها قرص أحمر ملتهب شرخ حياتي إلى نصفين: -عزلة، وخذلان. هكذا! عندما أقوم بجولتي في تفتيش المقبرة خوفاً من عبث السراق، امرأة في عقدها الرابع. تلف حول وسطها عباءة، بدا جسدها مترهلاً، تسحب أنفاسها بصعوبة كأنها قنينة تحشر في الماء عنوة فتطلق فقاقيع الهواء بعنف، وجدتها تنبش أحد القبور، نهرتها قائلاً:

-ماذا تفعلين؟

كخفاش مذعور انتفضت، لتقول بصوتها المخنوق:

-أفزعتني! ألا تراني أتزين لك- في ليلة- زفافنا..؟

أنظر متلعثماً يميناً وشمالاً لكن ألا أحد هنا غيري

-أتسرقين قبور الموتى يا امرأة؟

صوبت سلاحي نحوها، وببلاهة قالت:

أنا لا أسرق. فقط! أتزين لك.

أصبحت مذهولاً بما يجري، تستطرد قائلة بصوتها الفقاعي الذي يملأ سكون المقبرة ببقبقة مزعجة:

-تعال شاركني فرحتي في زفافنا، اجلس بجانبي نشاهد جميع الموتى قد حضروا عرسنا، وهم يغنون، يرقصون، ويصفقون لنا.

شلَّتني كلماتها، تراخت يدي الممسكة بالسلاح، لأسمعها تجتزئ بالقول:

-عملت لك سرير الزوجية فوق أحد قبور أثرياء مدينتنا.

كنت دائماً واقعياً، ولم أحلم قط بأن أكون خيالياً. جلت نظري متفحصاً، تخترق عيوني العديد من الهياكل العظمية تصطف على شكل أزواج، العشرات من الجماجم موزعة على مواضع منتخبة بإتقان وقد رتبت على شكل أزواج فوق القبور. علمت ساعتها أن هذه المرأة تعيش جنوناً يشابه حلقات الخوف عندما تنداح لتكبر متحولة إلى هوس مدمر، سحبت حبلاً بجانبها، تراجعتُ مذعوراً إلى الوراء، أصدرتْ الهياكل العظمية طرطقه مزعجة بفعل تصادم العظام مع بعضها، قالت بسذاجة:

-إنها تصفق مرحبة بقدومك.

حاولت استرجاع جرأتي، لم أفلح، نقلت بصري بينها وبين الهياكل العظمية، الجماجم التي تحدق بي بمحاجرها الفارغة كأنها صقيع بارد يجمد الأجساد فلا تبقى سوى النظرات البليدة، ارتفعت القعقعة تصدر من حولي تزعزع يقيني بما أشاهد، تحسست وجهي، قرصت يدي بقوة تأكدت أنني لم أكن أحلم، والشمس بانحدارها نحو الغروب تترك صبغتها الحمراء كالدم تعتمر بها قمم القبور، لم يبق بداخلي جزء إلا وارتجف، راح جسدي يتصبب عرقاً غزيراً، داهمني شعور بأن نذير شؤم ستحمله الساعات القادمة، ارتفع صوتها كالانفجار:

-سنزف خلال لحظات.

أغمض عينيَّ لإراحتهما، أشعر بأن قلبي السجين يقف أمام فرقة الإعدام منتظراً موته، أنتفض فزعاً، يداها ذات القبضتين الوحشيتين تعتصراني بقوة، وددت البكاء نعم! البكاء لما أنا فيه من تمزق. لعنت اليوم الذي عملت فيه حارساً للمقبرة، رن صوتها وسط شعوري بالضعف والوحدة:

-لأول مرة في حياتي أشاهد عريساً غير سعيد بزواجه؟

رفعتني بعيداً عنها، لتقول:

-لماذا خطبتني؟

أختنق صوتها بداخلها، راحت شفتاها ترتجفان بشدة، عيناها السوداوان الوحشيتان تهطلان دموعاً مخضبة بالكحل، أحسست بأنني كطائر البوم وحيد إلاّ من: مشاهداتي، تعطلت حواسي داهمتني قشعريرة برد كمن سكب عليه ماء بارد في شتاء قارص، أخذت بيدها، أجلستها فوق أحد القبور قائلاً:

-اجلسي! سيكون لك ما تشائين.

كانت مصرة على البكاء، لتذكرني بأيامي الماضية التي أنفقتها في مراقبة عوائل الموتى وهم يبكون موتاهم، ألبث مضطرباً لبعض الوقت لأسألها بعدما لوَّعني بكائها:

-علام تبكين؟

تدحرج صوتها بداخلها مندفعاً كصخرة سقطت من علٍ، قالت وهي تكفكف مطرها الأسود:

-وحيدة أبكي كل شيء في حياتي فحياتي بكاء في مأتم.

غريباً وسط الموتى أعيش، شعور باليأس شرع يقتات علي، يتآكلني تعب مزمن لما أشاهد من فواجع، قلت بقناعة:

-ابكي! فالدموع وحدها كفيلة بإراحتك.

ارتدى الليل ثوبه الجنائزي الأسود، اكتست القبور بظلام أب الحالك، نظرت ذاهلاً، مندهشاً من المرأة، طلبت علبة ثقاب، أعطيتها ما طلبت انبعث الضوء راجفاً بوهن بدد ظلمة أب، استطعت فيها مشاهدة وجهها المتغضن تعباً، هامت تزرع النيران في محاجر العيون، كأنها فلاح يوزع شتلات الرز في أرض منقوعة بالمياه، تضيء جميع الشموع داخل المحاجر، انتشر النور قادماً من عصور سحيقة، موحشة، ليملأ المكان برائحة الشمع والجماجم المحترقة قلت مستفهماً بقسوة:

-أسعيدة أنت بضوء الشموع؟

تقول بلهجة مستهزئة:

-قل لي بربك! عمرك كله شاهدت فيه عروساً حزينة يوم زفافها –يوم سعدها- اليوم الوحيد في حياتها الأكثر سعادة!

أغاظني كلامها، قلت لها:

-عن أي زفاف تتحدثين؟ وأين الزوج المزعوم؟ ومن سيرضى بك زوجة له؟ من..؟

إنها غيمة بدأت تهمي مطراً، اختلط صوت ضحكتها بصوت صرير الصراصر الحاد، قالت بعدما فرغت من ضحكتها المستهزئة:

-أنت من سيرضى بي!

خرقت بدبوس طويل حاد لسماعي كلماتها، قلت غاضباً:

-أمجنونة أنت... أمجنونة أنت...؟ تكلمي.

تجيب بهدوء:

-أجل! مجنونة.. مجنونة لأنني أقتات على السعادة كما العصافير التي تعيش سعيدة وهي تزقزق قبل التزاوج، مجنونة لأن في أعماقي تسكن امرأة... أنثى بانسدال ستائر الليل تتفجر بركاناً من الشهوة: فأعيش زفافاً كل ليلة... ينتهي بنشوة عامرة مع أحد العابرين. حينها أنام نوماً عميقاً... عميقاً جداً.

أذهل لكلماتها، أمتثل مرغماً لقسوة الحياة، الحزن يصر بداخلي، يكَّز بقوة ساحقاً بأسنانه القوية على مشاعري، جعلني أغامر قائلاً:

-سأحضر يوماً لنعيش زفافاً يبدد وحشتنا، نريق غربتنا ضحية للعرس. لكن! بدون جماجم وهياكل لأنها أمانة في عنقي.

فقالت بغير ما صبر:

-لماذا غير هذا اليوم؟ الآن سنحييّ عرسنا.

صرير الصراصر حاد وموجع، تقول ودموع الفرحة تترقرق من عينيها:

-سأنجب لك العديد من الأبناء.

وبخت نفسي لتهوري، قلت غير راضٍ عن اقتراحها:

-أتريدين أن تنجبي مجانين. تكلمي! أتريدين زيادة عدد مجانين العالم؟

وتقاطعني صارخة:

-كل الرجال متشابهون قساة القلوب، بلا مشاعر أتسمع يا رجل...

أما المجانين مختلفون، طيبون، ومشاعرهم نبيلة. لم أعان قط مثل هذا الإحساس الذي راح يمزقني بين شعوري بالعطف عليها، وبين محاولتي لملمة جنونها المتبعثر، واحتوائه، نشطت بداخلي مرارة الحياة، وبأنني معشوشب هنا في المقبرة، كأنني عشبٌ ضار يقتات وجعاً، يتلبسني الإنهاك كوني زمناً مضى، بل فكرة سرعان ما تناقضها حياة أرهقها الطوفان بين القبور حارساً للموتى. اكتشفت صورهم بتجمعهم في عرس المجنونة، قلت بعدما انحسرت كلماتي في أحد زوايا جسدي، انتشلتها متسائلاً:

-ما أسمك؟

كأنها مغامر يتسلق جبال حصاروست، لتقول:

-تاجية.

أثنيت إعجاباً باسمها، سألتها من جديد:

-ما هي قصتك؟

تحوم كخفاش، عيناها السوداوان أشبه بغرابين يبحثان عن غصن يحطان عليه، تقول بلغه: استكشافية لبواطن الأمور:

-لقد زوجني أهلي عنوة، وأنا بعد بنت في الرابعة عشرة من عمري، لشخص يدعي بأنه: تاجر! أنجبت له خمس بنات، باعهن زوجي لأحد بيوت الدعارة هه.. لقد كان: قواداً.

انتهكتني كلماتها، رحت أطوف صارخاً بغابة القبور الصماء، أصرخ محفزاً كل الموتى على –النهوض- من سباتهم الأزلي، تشاركني “تاجية” الصراخ والطواف بين القبور تبكي بناتها، حظها، وألمها الذي زعزع كياني، مزق يقيني بالحياة، أمسكتها من يدها مهدئاً، داهمني منظر الدموع السابحة في الكحل الأسود، قلت لها:

-اجلبي طبولك، دقي، اقرعي عليها إيقاعاً يوقظ الموتى، فهم أصدقاء اليوم.. دعي أصابعك تضاجع طبول الفرحة.

تهلل وجه «تاجية» وهي تقول:

-افرحوا يا أمواتنا وابتهجوا، فإن «تاجية» ستزف الليلة لعريسها.

تزغرد، تقرع طبولها، تراقصه نغماتها فوق جذع شجرة الكافور المنتصبة وحيدة وسط القبور، لتقول ثانية:

-أنذر نفسي لمن يساعدني في العثور على بناتي، ضحكت بحزن، صرخت طبولها

-أحب نفسها لمن يوقظ منسيي هذا العالم.

تستفيق عيون الفجر، تدعك عيونها بأياد من برد الصباح، يتثاءب الفجر ندياً، يطالعني وجهها مغرداً بالفرحة، يداها تعملان على قرع الطبول، أندفع محركاً الهياكل العظمية، والمحاجر بعيونها النارية تبارك عملنا، نوقظ الموتى، يرتفع صراخنا مختلطاً مع قرقعة العظام، وأزيز الشموع المحترقة، سكتت الصراصر، راحت نسمات عذارى تنعش أجسادنا المتعبة، قلت لها:

-أتعلمين أن البشر مقيدون حتى وهم في مثواهم الأخير. فكيف يبحثون عن بناتك...؟ دعينا نحررهم من قيودهم.. هـ..

تقاطعني متساءلة بغباء:

-نحرر من؟ الأحياء أم...

قاطعتها بلهجة رسمية:

-طبعاً الموتى!

**

عارية «تاجية» تستلقي، خيوط الفجر تغتسل بدموع الشموع طاردة كل أثر للنعاس، أيقنت بأنني من وضع الشمع الأحمر فوق بوابة الليلة الماضية، فسال الشمع الأحمر شوقاً في انحدار ظلفتي البوابة السحرية.

**

تسيد الفجر، أغمض عيون النار أجفانها، تراقصت، خشخشات ناعمة أصدرتها إغفاءاتها المتثائبة نشوة، فردت الحياة أجنحتها، راحت تنظف ريشها الزاهي بمناقير قدت من وهج الشمس، شرعت غربان المقبرة بالبحث عن غذائها، غراب أسود كبير بجناحين أبيضين عظيمين يحوم فوق “تاجية” المضطجعة على الأرض، مباعدة ساقيها ما وسعها، مغرية الغراب على النعيق، استفاقت مذعورة، تتلفت كمن داهمها لصوص سرقوا سعادتها منها، راحت تنشد منتحبة:

«شعندي وشخليت تنغك يا لغراب

                تنذكر ما تنشاف خليت الأحباب»

ازداد الغراب صلفاً، ينعق بعناد بينما «تاجية» ترتدي ملابسها، صرخت بهستريا مؤلمة:

-اغرب عني.. أجئت لتعلمني بنذير شؤم.. اغرب عني

غادرتها متجهاً إلى مهجعي كي ما أنام بعد تعب الليلة الفائتة، قلت وطعم اللذة المجنونة يقوّم أسناني النخرة:

-قولي للغراب: سكين وملح.

فغمزت «تاجية المجنونة» بعينيها الباسمتين، ولتصرخ بجنون:

-سكين وملح.. سكين وملح.

***

الخيول المتعبة لم تصل بعد

-لا تقاطعيني، فأنا لم أنه كلامي بعد.

قالها هارون الرشيد غاضباً، نظر كمن يتوجس خيفة بعيني (دموع) السوداوين، ظنت دموع بأن عاصفة من الغضب آتية في الطريق. إذ كان يتناهى إلى مسمعها صوت رياح عاتية، الشمس لأول مرة تراها دونما ألق، بادرها الرشيد قائلاً:

-تغير الزمن يا دموع! وتغير هارون، كا...

قاطعته وفي عينيها صرخة احتجاج تصدر من أعماق أتعبها عزف موسيقى تتجول أصداؤها في جوف امتلأ بالأسى:

-نعم! تغير هارون، ظهر بدلاً عنه ملايين الرجال الذين يدعون بـ (هارون)!؟

يجيبها وصوته يسابق صوت المطر الذي أخذت تتقيؤه السماء، وكأن هذه السماء خيول متعبة أضناها الجري فبدأت تتقيأ ما التهمته من صراخ الخليفة:

-ليس هارون وحده الذي تغير، بل كل التقاليد والعهود، الأحاسيس والإنسان الشجر والأغصان، السحابة والمطر، السجان والسجين. آه... كل العواطف تغيرت، حتى البحر تغير. والرشيد وسط ذلك كله يقف على الساحل وحيداً بلا مركب، بعد أن رحلت كل المراكب.

تختلط أصداء العواطف مع صهيل خيول العاصفة، تناهى إلى مسامع دموع التي بدت كأنها مساء ساحر اختلط فيه أنين (داخل حسن) مع صهيل خيول متمردة تنبثق من أعماق التاريخ، أصواتها سياط تلهب جسد الريح –الزمن سجن- ذيول الجياد سياط تلسع عصافير أسقمها حبسها، تنظر إليه مكتشفة في بريق عينيه عالماً من التساؤلات، عالماً من الرغبات المكبوتة والأحاسيس المرهفة، والأفكار السجينة مجموع ذلك كله يشكل نهراً دفاقاً من السعادة- السعادة التي إذا ما مرت فوق عشب يابس أخضر ونما، قالت دموع وصوتها عذب كالسعادة:

-مولاي الخليفة! اصنع لنفسك مركباً وسأكون شراعك المتين!!

-سألها الرشيد بحزن لم تعهده:

-أنبحر في شريان الدم رغم كل القتل الذي يجتاح الدنيا؟

تجيبه:

-مولاي! إن حياتنا قصيرة، عندما يمر بنا مركب الزمن فلن يتوقف، ولا يعود.

يضحك بحزن قائلاً:

-دموع! إنك حلوة كما الدنيا.

يدخل حاجب الخليفة متمنطقاً بسيفه، قال بعدما أدى تحية الولاء:

-مولاي! هناك أمير ينتظر المثول بين يديك. لكن يبادره هارون الرشيد:

-لكن! ماذا؟

يجيب الحاجب متلعثماً بكلماته مهابة لمولاه:

-هيئته، منظره، ثيابه كلها لا تدلل على كونه أميراً، بالإضافة إلى ذلك... يقاطعه الخليفة مغاضباً:

-بالإضافة إلى ماذا أيها الحاجب؟... تكلم.

يجيبه الحاجب بتلكؤ:

-يا مولاي الخليفة! إنه... عفوك... لا يرتدي خفاً!!!

أستغرب الرشيد قول الحاجب، بدا وكأن الوقت –الزمن- قد سحقه وأثقل عليه، تساءل في نفسه: أيكون هذا الزي الذي يدعيه الحاجب خاصاً بملوك، وأمراء عصر غير زماني هذا؟.. قال بشدة: -دعوه يدخل-

مثل نهر مهتاج تدفق الأمير على ديوان الخليفة، لم ينحن لمولاه الخليفة، نظر بعينيه الزرقاوين الصافيتين كبحر أزرق، وقال:

-أنا أمير يا دموع! أنا عبد الا...

يقاطعه الخليفة حانقاً:

-تحدث معي يا أمير.. ألا تعلم أنك تقف في حضرة الرشيد؟ أمير أي بلد أنت؟... من أين أتيت؟ وهل أمراؤكم يرتدون زي الشحاذين يا...؟

يضحك الأمير بسخط حتى تعالت قهقهاته، كأنها العاصفة التي بدأت ترعد خارج القصر أضاف الخليفة:

-ما الذي يضحكك؟... تكلم!

ما زالت كل براكين الأرض خامدة لا تستعر. لكن! بإمكان شرارة صغيرة أن تجعل الأرض تتنفس بعمق فتزفر جهنم إلى الخارج، بهذا تغرق الأرض في بحر من الحمم المستعره، تساءل الأمير:

-دموع! كيف يعيش الإنسان وسط أنهار الدم وبرك القتل؟ كيف؟

بادره الرشيد وقد استبدت به كل ثورات الغضب:

-إنك تصر على تجاهلي يا هذا...

قاطعه الأمير مخاطباً دموع:

-أصبحت خرائطنا مرسومة بالدم بعد أن قتلت أحاسيسنا، أفكارنا التي نحيا بها، ماتت التقاليد يا دموع... ماتت التقاليد.

يستشيط الخليفة غضباً، بادره بالصراخ طالباً من الحاجب الحضور:

-أيها الحاجب... أيها الحاجب... تعال إلى هنا لكي تخرج هذه القمامة من هنا بسرعة...

نطقت العيون الزرقاء، تحدث الجسد الهرم قائلاً:

-دموع! إن الإنسان يهرب من تعاسته بالقتل. لكن! الطيور بإمكانها الهرب من كل شيء دونما اللجوء إلى القتل، حياتنا لو كانت ثمناً لراحة العالم، سنمنحها لهم، وهذا غير جائز معك يا أميرة.. فمثلك شفافة، حلوة، تشبهين التفاحة النضرة، صعب أن تمنح حياتك من أجل... آه... حياة الآخرين!

يأتي الحاجب ومعه الجلاد بسوطه، يأمرهما الرشيد بإخراج الأمير من ديوانه، باءت جميع محاولات إخراجه بالفشل، عاد الأمير الشيخ يتحدث لدموع، كأنه لا يرى غيرها في هذا الديوان، والعالم كله أصبح دموعاً، قال وصوته كصوت البحر إذا أزبد وأرغى:

-لقد علمتني الدنيا...

تقاطعه، وقد امتلأت بالحزن كما يمتلئ قدح الماء فتفيض جوانبه:

-من أنت؟ ما بالك ترتدي الأسمال البالية؟ ما لي أراك تحمل ثلاثة أكياس؟ ما الذي تلف به رأسك بدل العمامة؟ ما الذي تضعه على أنفك؟

جاءها صوت الأمير بارداً عاصفاً:

-أنا من تقرّحت قدماه من السير فوق خرائط الدم، أنا عبد الأمير الشحاذ، أرتدي الأسمال البالية لأنها زي كل الفقراء يا مولاتي. أحمل الأكياس الثلاثة معبأة بالأواني الفارغة، والقناني، لأنها عدة كل أمير لحفلاته، الذي أضعه على أنفي قطعة من القماش تجعلني استنشق هواء نقياً لأن هواء الدنيا كلها يزكم أنفي لما فيه من نتانة يا ملكتي.

عصف صوت الخليفة كمدفع في الديوان، أطلق قذيفته، سقطت أمامه وحدث الذي لم يكن بالحسبان:

-شحاذ... أيها الوغد…! أيها الحاجب خذه وأطح برأسه.

***

 

هكذا وجدت نفسي

شيء لا يصدق أن تجد نفسك تحدث حماراً مسكيناً، يحاورك بكل طلاقه، هذا يذكرك بأن تعيش في منزل مهجور أبوابه تصر بانغلاقها وانفتاحها دون أن يحركها أحد. الذي حركها هو نفسه الذي جعل الحمار يتكلم، يخاطب "السيد وجع" حماره قائلاً:

-إن حياتي ضائعة!

تتنفس روح "وجع" أقداراً شوكية، تجتر أوجاعه، أيامه، حياته كلها كالبعير الذي يجتر العاقول، سقط بفعلها مكدوداً، تكلم الحمار كأنه جراح يزيل بمباضعه ندبات الزمن الغادر:

-حياتنا ضائعة يا سيدي.

تتحرك فوقها نسمات من الهواء الصاخب، تكهرب الجو بفعل تنفس الشمس بخار الغيوم، تصاعدت من الأرض أوجاع قديمة لأرواح تلتهم الحاضر، وتجتر الماضي، كل الماضي، قال "وجع" بنبرة حادة:

-حقاً حياتنا لا شيء، خصوصاً حياة كلينا.

نزلت دمعة، بل دمعات ساخنات على وجه الحمار الحزين، مما زاد ألم "وجع" قال مواسياً حماره:

-إنك أعز ما أملك.

نهق الحمار سعيداً، انشرحت كل أساريره، وكأنه جزء لا يتجزأ من الإحساس الرفيع الذي يملأ روح عشيقة شقية لمعشوقها يقول لسيده:

-دعني معك نصنع ظروفنا الجديدة.

أطلق "وجع" ضحكة مدوية، وكأنه أراد بها إخراج كل أحزانه وتفتيتها، بالفعل نجح في جعل كل أحزانه تتشظى متناثرة، يقول لحماره:

-كيف؟ وأوجاعنا القديمة، أنسيت يا حماري المسكين أن لكل واحد منا أطناناً من الأوجاع؟

تتعانق متحدة كل ذرات الشجاعة الموجودة في الجسد ساعة يندحر اليأس، يرتجف كل الغيم في السماء متجمعاً، تمطر السماء أملاً يسعد الأرض. هكذا! تجمعت شجاعة الحمار بغتة، ليقول لسيده:

-لا تُصنع الأقدار بالأوجاع يا سيدي.

تتجمع في ديوان السماء غيوماً بيض، تتصادم مع بعضها، تتألق أضواؤها الفضية لامعة تخرج من جوفها غضباً مكبوتاً طوال سنين مضت، تساءل "وجع" بحده:

-كيف؟

أجابه الحمار:

-بتغيير ما بأنفسنا.

بادره وجع متذكراً كلمات زوجته المتوفاة:

-إنك تذكرني بزوجتي رحمها الله، رغم فقرنا المدقع، كانت تشد من أزري وتأخذ بيدي، بقولها “معك يداً بيد نصنع حياتنا الجديدة”.

كنت أجيبها، وكأن شيئاً قد هتك بداخلي: “أحقاً ترغبين بذلك؟ وهل لديك القدرة على صنعها؟!

لكنها تبتسم رغم حزنها الشديد، وتقول لي: (نعم! معك أملك قوة ليس لها حدود).

يستغرب الحمار هذا الكلام، وإذ به يسأل بسأم:

-يا سيدي عم تتحدث؟ وهل في عالمكم شيء حقيقي اسمه الحب؟

يضحك "وجع" من جديد ويقول:

-أجل يا حمار! لدينا شيء اسمه الحب.

ينهق الحمار، وقد ألمّ به وجع كلمات سيده، فكان أشبه بسحابة صيف مسافرة، تمر على أراض جافة تمرح فيها كل حمير الأرض تقضم أطواق البرسيم، تلتهمها، تلوكها، تشعر بالشبع، تنهق دفعة واحدة، وكأنها بنهيقها تطلق أوجاعاً حررتها بأكلها البرسيم، يقول لوجع:

-سنحصل على كل شيء بعزيمة الورود وهي تشق رمال الصحراء طرباً بهطول المطر.

يصاب "وجع" بالهزيمة، بخيبة أمل كبيرة، لكون مأساته قد استعادت روحها، وأخذت قالباً آخر، يتمتم في نفسه قائلاً: «قالتها لي زوجتي. لكن: آه. من تخاذلي، قد خسرتها، وها أنت يا حماري تقولها ثانية».

يتكلم "وجع" بصوت متحشرج:

-قدرنا مرسوم كما ترسم حوافرك على الأرض آثاراً عميقة، لهذا أرفض أن أخسرك يا حماري.

يكشر الحمار عن أسنانه العملاقة، وكأنه يبتسم بوجه الحياة السعيدة، مما أصاب "وجع" بالحيرة يصرخ به بحده:

-إنني أتمزق يا حمار! أتمزق، القلب، الأذرع، الأرجل، الجسد في مكان ما؟ ضاع ما كان يسمى إنسان... ضاع!؟

يضرب الحمار الأرض بإحدى حافريه الأماميين، قال لسيده التالي، فكان كلامه كتلك الأبواب التي تحركت دونما أن ترى أحداً حركها:

-تستطيع أن تربط كل أجزاء جسمك الممزقة بأوتار من أوجاعك القديمة، تجد قلبك، أرجلك، أذرعك، وجسدك كله قد اكتمل نسجه بفعل أوتار الحياة التي خاطها حزنك الدائم، وكما قالت محبوبتك “تستطيع صنع قدرك الجيد بالإرادة”.

بل بإمكانك أن تذيب جبلاً من الجليد لو شئت ذلك. ينظر إليه "وجع" ببلادة، راح يحرك رأسه للأعلى والأسفل كما يفعل الحمار، حينها شرع ينهق بقوة... بقوة...

***

 

طائر الهزار

خطفت مني قلبي

سلبت مني نفسي

أخذت مني العالم

فرت مني

لم تترك لي غير الشوق الواري وفؤادي الظمأن

«عبد الوهاب البياتي»

سقط نيزك على الأرض، تناثرت أحجار فوق أمواج النهر كأنها النذور تلقى فوق رأس العروس، مويجات النهر امتطت إحداها الأخرى آنئذ –انطلقت زغاريد الفرح، حينها طبع النيزك فوق خد الأرض قبلة من: ألم، شوق، لحظة ابتسامة امرأة حال ولادتها طفلاً جميلاً، بصرخات الطفل وبكاء الأم تولد النجوم من رحم السماء... بسقوط النيزك ولدت: شهرزاد.

مويجات النهر، نساء الحي، نيازك السماء، كلها زغردت فرحاً بمولد: شهرزاد!

***

تجلس شهرزاد على ضفة النهر، يتراقص القصب سعيداً بمغازلته أشجار الصفصاف الفتية، يحضر «طائر الهزار» إلى ضفاف المواويل الجنوبية، يحيِّيها بصوته الموسيقي:

-مرحباً شهرزاد!

تبتسم شهرزاد لتبتسم معها الدنيا، كأن في ابتسامتها عناق الشمس وهي تحتضن الأرض بضفائرها الذهبية، وتقول له:

-مرحباً بك يا طائري الجميل!

شيء أكبر من النهر، أروع من كل حورياته، جعل الماضي كله يلحق بالحاضر، يدفع الطائر الجميل على أعتاب الجمال، أمام قيس الحب، ليقول لها بمودة:

-إنك رائعة في عيوني... و

ترمقه بنظرات عجب، ليستطرد قائلاً:

- بين أضلاع صدري جياد قوية، تسابق بعضها للفوز بنظرة من عينيك الساحرتين.

 تغضب لتقول محذرة:

-حذارِ! أتغازلني يا طائري الصغير؟!

ارتبك «طائر الهزار» أصبح كفرخ بط دفعته أمه إلى المياه، لتجبره على السباحة، يرتبك، يصيح، يضرب بجناحيه الصغيرين أمواج النهر العملاقة، فيقول بارتباك طيور الحب ساعة السحر:

-نعم أغازلك..

تشيح بوجهها بعيداً إلى أفق النهر، الغارق تعبداً في معبد الشمس الغاربة، يقول بثقة:

-إنهما عيناك يا غالية، وقوامك الممشوق، وخالك البديع

تقاطعه بحدة:

-ما هذا الكلام يا طائري الصغير؟

اخترقته سهام عينيها السوداوين، تحطم كقدح من الكرستال فوق صخور كلامها القاسي، زرع قلبه بجانب صفصافة شابة، تحدى كل طقوس معبد الشمس، ليقول كأنه ينتزع نجوم السماء ليصنع عقداً بديعاً من الكلمات:

-إنك حلمي الدائم، فأنا أتنفس أنفاسك وأصوم بعدها عن التنفس، ألتقط فتافيت الخبز من يديك فأصبح عنقاء لا تعرف غير استغراق النظرات للإلهة التي تتعبد فوق جنات خدك الأيسر.

تقول له:

-أراك تبالغ كثيراً، وفي عينيك انهزام الذكر أم أنثاه!!

يحلق عالياً، بتحليقه الرشيق كأنه يرسم حروفاً تقول لها، بالحرف الواحد:

-أنا أملك ثمن عينيك يا غالية.

تضحك شهرزاد بضحكتها الطفولية، يتلألأ ضياء وهاج تبعثه روحها الصافية الكرستالية، تجدها حين ذاك كأنها ريحانة صغيرة تداعبها قطرات الندى في صباح ربيعي دائم، تقول بعدما فرغت من ضحكتها:

-كلماتك دافئة... دافئة يا طائري الجسور.

يقول لها كأنه يقلدها قلادة صنعها من ريشه الساحر:

-كم أنا سعيد! كلماتك الرقيقة جعلتني كزورق دونما شراع، أبحر في مياه عينيك، مطمئناً إلى شواطئك الدافئة.

تصدر شفتيها الناريتين كلمات كأنها اللؤلؤ:

-إنك مغازل من الطراز الأول.

يقف طائر الهزار على كفي شهرزاد ليقول منتشياً:

-أشعر بك دائماً كدموعي التي تأبى السقوط عزة.

كل قصب النهر، وصفصافه، وغربه, وشمسه المتوهجة ترقص معهما على أجنحة الحلم الوردية، تنحني لتطبع قبلة حانية فوق ريشه الزاهي وتقول له بهدوء:

-إنها الحياة يا طائري، قدرنا هكذا!

عندها تألق شوقه محمولاً على نقاط المطر، ليصرخ بها مودعاً:

-لن أيأس أبداً... أبداً.

حرك جناحيه مودعاً أن:

-إلى اللقاء!

***

تنظر إلى أمواج النهر الذاهبة إلى معبد الشمس عند عتبات الأفق الشمسية، وفي عينيها سحر كل نساء هذا العالم، وجمال كل نساء الأرض في خالها الأسود.

***

 

قطار اسمه:-غاندي

أن تتأمل الحياة دون ضجة أو شكوى

ربما يكون أفضل المواقف... ألا نشارك في الأشياء

ولكننا آنذاك ونحن نتأمل

سنفهم أن الحياة ليست سوى مزاح ثقيل

مزاح مبتذل وبليد

ولعب أخرق بالألفاظ

الجيل الخائب/ ليرمنتوف

-أكاد.. آسف على أيامي الماضية!

قالها. (غاندي). وتنهد ببطء مفتعل. كأنه يسعى لإخراج كل ألمه على شكل دفعات متقطعة ليوفر بطابع من التناغم الفارغ الذي يجعل صدره واسعاً، أجوفاً كالقنينة الفارغة ليحدث نفسه قائلاً!

-في حالات كثيرة أكاد آسف على أيامي الماضية.

غاندي يجلس لوحده –لكن! هنالك حسب ظني رجل يجلس أمامه يحمل نفس صفاته إلا لون بشرته، فغاندي. –أسود العينين، أسود الشعر، أسمر قصير القامة لكن الذي يناديه كان! –أسود العينين متفحماً كأنه خيال.. ربما يكون خياله.. ففي هذه الأيام كل الأشياء متوقعة الحصول، يقول له باعتدال:

-ليت ألمي الذي أحمله بداخلي يخرج من جسدي ليكون مارداً عملاقاً!

خيال غاندي يبادره بتنهيدة ملؤها الوجع. ليقول بفخر:

-أنا المارد... أنا المك يا غاندي. سأجعلك تتخلص من كل وجعك ووساوسك بسهولة.

يصفق غاندي كفاً بكف. وكأنه ينفض عنهما سكون الموتى، وهباء كلماته الضائعة في الفضاء ليخاطبه بغضب:

-وكيف ذلك يا مجنون؟

يستوطن على خيال غاندي إحساس بالقوة، ليحدثه مجيباً على تساؤله قائلاً له:

-لأنني ألمك!!

استعاد غاندي بعضاً من إحساسه بسلامة عقله، قال كأنه ينكئ جرحاً يتدفق منه ألم الماضي ووجع المحاولة:

-أنا سعيد بذلك. إنك حقاً مارد عملاق.

يومئ خيال غاندي برأسه دلالة منه على رضائه، فيقوم الخيال بسكب مشروب (الجن) لغاندي يقول له:

-اكرع، واسترح من الماضي.

يشعر غاندي بالهدوء، وتحدث ثمة موازنة داخلية ما بين ألمه وبين ما يكرع من (الجن) فيزداد هدوؤه ويركن إلى الأمان، يقول بعدما فرغ من كأسه:

-أشكرك يا ماردي العملاق!

يتنهد خيال غاندي. وكأنه قد وفق في إرجاع القطار بعرباته إلى مساره بعدما انحرف عن السكة الحديدية.

من جديد يخاطبه قائلاً:

-أتعلم أن الوجع الذي يسكنك منذ زمن بعيد، تستطيع طرده بتنهدات متقطعة لكنها عميقة.. عمق روحك؟

يبادره غاندي متسائلاً بعدما يجلس منتصباً أمامه كأنه أفعى الكوبرا:

-وكيف؟

يتنهد خيال غاندي، ويقول له بثقة المجانين:

-لأن ألمك على شكل قطارٍ ممتلئ بالألم يجرُّ وراءه مقطورات من الوجع المزمن فوق سكة الخيبة بداخلك، عندها تعمل على إخراج ألمك بتنهيدة متقطعة فإنك بهذا تعمل على إخراج وجعك عربة... عربة.

يسكب مزيداً من (الجن) في كأسه، ويكرعه دفعة واحدة يبتسم، وهو يقول:

-أحقاً ما تقوله؟

يجيبه خيال غاندي بثقة، وهو يسكب مزيداً من الجن:

-أجل!

**

كرعهم للجن أهم من اهتمامهم بعقولهم. فالنفوس البشرية تستطيع التحمل ولكنها لا تستطيع الانتظار. لأنها مهيأة للحياة لا للانتظار. فعلاً!

أصبح الكل سكارى.. الكل مجانين، وكأن هذا العالم كله مشحون بأناس يظنون أنفسهم “غاندي”، غاندي قطار حديدي الهيكل، فارغ من الداخل... حقاً! إنه لشيء أشبه بعزف سمفوني رتيب. لكنه يصدر عن عازفين ليس بيدهم آلات، لأن الأوتار كلها قد التهمت غاندي! ينهره خيال غاندي قائلاً:

-أنت متمرد.

هنا –امتلأ فراغ غاندي بغضب على شكل جماد.. استفاق هذا الجماد وتحرك من ركوده- وكان لديه من القوة والإدراك ما يعينه على التمرد والحركة كأولئك العازفين في الهواء دونما آلات موسيقية.. فهم يعزفون لأنفسهم بأنفسهم، يقول بغضب:

-أنت كاذب، كاذب.

يرد عليه خيال غاندي، وكانت كلماته هذه المرة كأنها أوان خزفية لكونها منذ زمن على الرف تملؤها الأتربة فيأتي غاندي ويحطمها كلها:

-يا غاندي. الكل يكذب! الكل يكذب!!

يسحب قنينة الجن من عنقها يحطمها بالطاولة ممسكاً عنقها بيده، يهم على خياله هاجماً صارخاً ضارباً:

-هي... الكل يكذب.. حتى أنا... الكل!

يغرس عنق الزجاج بذراع خياله، تفتق جرح من دماء تتدفق كأنها احتضار الأنهار عند حبسها بسدود، يعالج خياله بضربة تجعل النهار يحتضر وهو ينتظر ولادة المساء.

يسقط غاندي على الأرض، وهو يصرخ:

-الكل يكذب.

***

حمل فوق أكتاف الندل إلى المستشفى وخياله العملاق ينزف ظلاماً على صاحبه –في المستشفى أخبروه أنه كان سكران وعمل على ضرب نفسه بعنق قنينة (الجن). أتته الممرضة لتعمل لـه إضبارة أو (ملفاً) للعلاج، وإبدال ضماداته، تقول له بدعابة مرحة:

-ألمك يا غاندي على شكل قطار ممتلئ بالألم، يجر وراءه مقطورات من الوجع المزمن فوق سكة الخيبة.

هكذا كنت تهلوس ليلة أمس.

يضحك غاندي بوهن، لتسأله الممرضة عن مهنته، فيجيبها قائلاً:

-سائق قطار.

وتسأله عن لقبه، فيجيبها وفي عينيه السوداوين ألق ما زال مبكراً فتياً:

- غاندي.

***

 

ورقة

اهتزت الورقة الملقاة ما بين الحائط والأرض، تحركت، حركة مريبة، الجو ساكن، تحركها آثار مخاوفي: أمن حركها؟ /قلبي يمتلئ بالحياة/ أطرق برأسي، نظرت، الورقة تهتز أكثر، تصدر منها خشخشة مسموعة، جذبتْ حركة الورقة بعض الصغار، رفعها أحدهم (أبو الحجل!) صرخوا، يصارعها، يقربها، يرفسها، سحقها أحد الصبية بقدمه بقوة، فتغلغل بداخلي صوت، سحقه، مجساته تناضل هذا الموت /الموت في كل مكان/ أصابني الخوف، الألم، الفزع، التصاقه بالأرض... الحياة تستمر، تناولت الورقة، حاولت أن أحركها، لم أستطع، تجمدت، تركتها تحركها الريح.

***

 

دم أخضر

1 - تلتمع أجساد الخيول المتعرقه تحت شمس الصباح الساطعة، الرجال فوقها مراجل مستعرة، عيونهم تدمع من فرط الريح القوية، على يمينهم كان النهر يجري مضطرباً محملاً بدوامات الغرين الحمر بلون/ الدم/.

2 - ترجل الرجال عن خيولهم هتف بهم رجل ربعة، تلتصف عيناه ببروق الشر:

«يا رجال! لنستل روح الغادر أمام عياله» قعقعة الأسلحة بأيديهم، تعالت صيحات النسوة المستجيرة، صراخ الأطفال يملأ المكان استغاثة، الرصاص ينتهك السكون، دوامات التراب تتصاعد محتجة على انتهاك البارود، يسحب خلف جسده رجلاً كهلاً، رصاصات حاقدة اغتالت الصمت/ تدفق الدم/ الشمس تبكي دمها المراق/ ارتوت خيولهم بالدم/ وعادت قوية كالريح.

3 - انهمرت دموع الجياد، تكوي مقلها بتساؤل يتيم: «لم قتلوه أمام نسائه وعياله؟»

4 - سائس الخيل يبكي أخاه، تساءل مخنوقاً بالعبرات: «لماذا قتل الشيخ أخي؟» تجيبه زوجته: «ادعت زوجة الشيخ الصغرى أنه نظر لها باشتهاء» ضرب كفه بظاهر فخذه حسرة، عيناه الحمراوان تغرقان في بحر الدمع، صاح مستاءً: - «متى...؟» تومي برأسها تسأله: «ماذا؟»

5 - تطلعت إلى الشمس الغاربة، وهي تعانق النهر، ذكَّرها لونها بمنظر / الدم/ بادرته متأثرة: «لماذا لا نهرب؟» توقف عن البكاء، يتلفت ذات الشمال واليمين، يجيبها مرتاباً:

«لأنني جبان يا امرأة…! جبان!!».

***

 

آخر رغيف

نقلت ساقي ببطء، مجتازاً باب المستشفى، تمرغت بصدري رائحة المطهرات، رؤية بياض الملاءات، وقد تقيأ الناس آلامهم فوقها، يشيع في النفس الألم. دلفت إلى غرفة الكشف، استمر الكشف رتيباً حتى حضر رجل يبلغ من العمر ثلاثاً وأربعين سنة يبكي بحرقة، حاملاً بين ذراعيه طفلاً عمره قرابة أربعة أعوام يصرخ باكياً، خلفهم يعول باكياً صبي آخر يرتدي زياً مدرسياً، هتفت بهم الممرضة:

-الزموا الهدوء من فضلكم.

تحذير الممرضة حافز استنفر مشاعرهم على البكاء، قلت لهم:

-ما بكم؟

هبَّ نحوي الرجل مرتجفاً باكياً، تمتم بصوته الباكي:

-ابني دكتور! قد فقد سمعه.

حمل باب الغرفة المشرع تياراً هوائياً محملاً برائحة المطهرات، جاءني سكوته مدعماً بالذنب الذي أشاعته عيناه، حملت الممرضة الطفل ووضعته فوق السرير، اتضح من معاينته سريرياً أن:

)طبلة أذنه اليسرى ممزقة). سألت والد الطفل:

-ماذا حصل لأذن الصغير؟

رفع يداه عالياً كأنه طائر أفرد جناحيه للطيران وضرب بهما فخذيه قائلاً:

-أنا من ضربه، بعدما أكل رغيف أخيه. حضر أخوه من المدرسة جائعاً، طالباً ما يسد به جوعه، راحت أمه تبحث عن رغيف الخبز فلم تجده، وبعد عناء أخبرنا بأنه أكل رغيف أخيه، لذا صفعته حتى...

قاطعته مغتاظاً:

-بدلاً من أن تصفعه كان من الأجدر بك أن تعطي ولدك الثاني شيئاً يأكله.

اقترب مني، وضع فمه على أذني، وأسرَّ لي هامساً:

-أرغفة الخبز، تصدَّق بها أحد الميسورين من جيراننا، وكان ما أكله آخر رغيف. يا دكتور!

***

 

صيد حديث

هربت الشمس بعيداً، خلف شباك من الغيوم الرمادية، انتشرت فوق نخلات فارغات في نهر صغير. خدش السكون رجلٌ يسير على الضفة، عَلَّق دشداشته بحزام عسكري، بانت ساقاه السوداوان هزيلتين. كان ممسكاً بيده صليباً خشبياً طويلاً ذا نهاية حديدية كأنها سيف أسطوري، يتدلى منها سلك طويل يتصل بأحد أعمدة الكهرباء خلفه. حررت الشمس نفسها من شباك الغيوم الرمادية، وراحت بضوئها المتوهج تتذوق عذوق الرطب الشهي.

غطس صليبه الخشبي قرب أعشاب طافية، ارتفعت قعقعة الكهرباء مع الماء، زأر التيار الكهربائي بعنف، مياه النهر فارت بسورات كيدية كالدخان، شعت في عينيه التماعات فضية عكرت صفحة الماء، وطفت الأسماك تتلوى من أثر الصعقة الكهربائية، عيونها جاحظة، ترتجف بعنف كأنها امرأة في المخاض، تدفق ضوء وحشي أحمر كالدم فوق أشجار النخيل، غطست الدنيا في بركة الدم، عيون المحارب الأسطوري بُهرت بمشاهدتها طفو الأسماك كمن يراقب موكباً ملكياً.

***

 

مظلومة

دبكات، أهازيج، نقر دفوف ترافقه موسيقى عذبة لمزامير عاشقة، وشموع كبيرة تضيء مأخوذة بالبدر النيساني الذي يتألق فوق القضاء الذي أعمل فيه مدرساً.

تحملنا الزوارق بأحلى زفة نهرية... مزقت شرنقتي أنا المأخوذ بهذا الانعتاق الجديد، يأسر عيني منظر امرأة متشحة بالسواد، تضع نقاباً على وجهها، قلت في ذات نفسي: (إنه حقاً عرس جميل).

عيون السماء مكحلة بسواد آسر، وصلنا إلى ضفة النهر حيث منزل الزوج، هرع الجميع للنزول، عمت الفوضى كل القوارب، المرأة ذات النقاب كادت تسقط، مددت يدي لمساعدتها مدت يدها، هالني ما رأيت... وشم بحروف كبيرة فوق ساعدها الأيمن بلون أخضر مزرق... (المظلومة..!!(.

كياني تطاير كالريش المحصور داخل كيس فتحته يد عابثة تحت ضغط أكف الريح الخريفية، شعرت بوجهي ترتسم عليه تعابير التساؤل، جاءني صوتها دافئاً كهمسة طفل... (شكراً أستاذ!(.

اليوم –بداية فصل الربيع- نهاية الشتاء، رياح شرقية تهب علينا، سيطر عليَّ فضولي، قلت مبتسماً: أحب أن أكون مظلوماً معك.

أطلقت زفرة قوية تكسرت على أثرها كل جدران الصمت، قالت: (عيب أستاذ)! قلت محاولاً الابتسام: (أظلمك الذي جعلك تخفين وجهك؟) كانت ذاهلة، بينما أحلى الرقصات تؤدى أمامنا، سألتها مراوغاً: (بم يؤثر عليك رفع نقابك؟)

تشيح بوجهها ناحية العروسين. قلت: ألهذا الحد تجدين النقاب ضرورياً لاستمرارك في الحياة؟.

طأطأت رأسها انكساراً، فقلت مماحكاً: (عندما يوزعون عصير الفواكه، ستكون فرصتك المناسبة لرفع نقابك وإلى الأبد(

عناقيد العنب تتدلى... الأيادي متلهفة لمعانقتها، قالت بأسى: (ندمي مبعث حزني). بادرتها محرضاً: (مزقي نقابك... مزقيه). جفت كلماتها كينبوع جف ماؤه، أطرقتُ رأسي متحاشياً التوغل في سوادها المضني، مما حدا بي للسلام على العريسين والانسحاب، وما زالت كلماتها تنكئ رأسي بعنف... (أنا امرأة خرقتها أصابع آثمة!!).

***

 

رجل أنيق

حلَّتْ الظلمة شعرها الفاحم فوق أكتاف المدينة عند مفترق الأزقة، حيث مكان القمامة.

احتشدت كلاب تحوم فوق القمامة، تتشممها، تلعقها، وعلا نباحها يمزق سكون الليل، إثر مرور رجل ببدلةٍ أنيقة.

القمر منير في عرشه، تدغدغه غيمات بيضاوات رشيقات، خُطا الرجل الأنيق تتعثر بأحجار الطريق، داهمه نباح كلاب شرسة، كأنها خفافيش من نار اخترقت أذناه، رأسه، جسده، انحنى يروم التقاط حجر يدفع به شر الكلاب. كان الحجر عبارة عن: رأس كلب صغير، بعينين حمراوين لامعتين كالجمر، يظهر رأسه ورقبته من الأرض. شهق مرعوباً، تردد صدى شهقته عريضاً في الزقاق، ابتعد بعض خطوات مرتبكة، انحنى على حجر آخر كبير، فإذا هو كلب برأس أبيض وبوز أسود، ونفس العينين الحمراوين اللامعتين. ارتجف، تضعضع، تلفت حولـه كعصفور تحاصره النيران، دارت عيناه في محجريهما، نظر إلى أعلى وجد القمر يتكئ مسترخياً على وسادة من الغيوم البيض.

ارتفع صدى الرجل الأنيق باللهاث، والكلاب تنبح بشراسة، عيناه عبثاً تبحثان في الظلمة عن حجر، تقدم الكلاب الجائعة، وبلا توان راح... يشاركها عواءها.

***

 

ورود الغابة

في صبيحة يومها السابع، حياتهما تنساب كالينبوع المتدفق من بين الصخور، لمس شعر زوجته، أبصرته بعينين سوداوين سعيدتين، قائلة بلهجة جذلى:

ـ ضمني إليك! ضمني.

تفتت الصخور المحيطة بالينبوع، وتدفقت مويجاته كنغمات بيانو يطلقها تشايكوفسكي، ابتدرها متهللاً بقوله:

ـ لقد حلمت بك ليلة أمس.

بدا وجهها القمري  سعيداً بخالها الأسود الذي صنع له عرشاً جميلاً على صفحة خدها الأيسر، تألقت ابتسامة عذبة راحت تداعب الشفتين الناريتين، أسندت رأسها على كف يدها اليسرى: قالت بمرح:

ـ اروه لي؟

شعت عيناه بلهيب الحب، فقال:

ـ أتيتيني كشلال دافئ، بملابس بيضاء، بيدك رغيف خبز أسمر، أعطيتيني إياه، قلت بعدما ابتسمت بدلال:

«لم أرتو منك بعد».

من الخارج أتاهم صوت أمه المبحوح، قائلة:

ـ صباح الخير يا عرسان! هيا... استيقظا لتذهبا إلى النهر... إنه يومكما السابع.

أطلقت زغرودتها بفرح، راح يجوب المنزل كأنه أمير يبحث عن محبوبته لينبئها بخبر سار.

***

سارا متهاديين على طين الشاطئ كان النخيل زاهياً شامخاً،  أقدامها تترك آثارها فوق الطين كأنها، خرائط لمدن بدائية يسكنها المحبون فقط، الحمائم المطوقة تهدل بسعادة، بدا النهر بلون الفضة ساطعاً ساكناً، قالت له:

ـ إنك حلمي الذي طالما حلمت به.

ابتسم بوجهها، أمسك عن الكلام، تابعت وفي عينيها التماعة غريبة:

ـ عشت بذاكرتي أملاً، فكنت حياتي التي أعيشها معك حتى النهاية.

انفرج فمه عن ابتسامة مرحة، انحنت وبيدها إبريقها النحاسي على الماء، انحسر ثوبها عن فخذيها الأبيضين الممتلئين بعدما شمّرت عباءتها خلف ظهرها غطّست الإبريق بالماء عنوة، تصاعدت بقبقة دخول المياه إلى فوهة الإبريق، ضحكا بصوت جذل، فقال لها:

ـ أحبك.

رنت ضحكتها من جديد، سقطت العباءة عن رأسها، فتمايلت ضفيرتها السوداء الطويلة، تعانق لذلك سعف النخيل بلهفة مرسلاً صوتاً ناعماً يقول: «باركهما يا الله!»

بغتة صمتت كل الأصوات، كف سعف النخيل عن العناق، خرق السكون صوت زئير رهيب، تنبه أومن مخطوف اللون، هتف بهما شخص من الخلف:

ـ ماذا تصنعان هنا في أملاكي يا تعساء؟.

تلعثم زوجها على  إثر رؤية «شاب» برفقته مجموعة من الحراس، ونمر بعينين وحشيتين، سأله بصوت مخنوق:

ـ ماذا تريد؟

نظر إليهما صاحب النمر بصمت، ثم تساءل بوقاحة:

ـ أريد زوجتك؟!

فزعت كل الحمائم، انحسر النهر الفضي هارباً كحيوان قارض إلى جحره في الضفاف المتآكلة، دوت كلمته كرصاصة أطلقها وغد في مسجد يعج بالمصلين، انكمشت راقية، بهت لونها، شمس وجهها انطفأت، تمسك يداه بالإبريق، انتفض قائلاً بغضب:

ـ اصمت يا وغد وكفاك إثماً.

هجم عليه الحراس وقيدوه، راح النمر يطلق زئيراً حاداً متواصلاً، ابتسم صاحب النمر، وقال بثقة:

ـ زوجتك لي..

عض بأسنانه على شفته السفلى، اشتعلت عيناه اللوزيتان بنار الغيظ، تلاحقت أنفاسه مسرعة، خرج صوته متحشرجاً:

ـ ماذا يا آثم؟

أجابه بصلف:

ـ زوجتك ستكون خليلتي. أتسمع!

زعق بوجهه:

ـ تباً لك... اتركوني... اتركوني...

صفعه أحد الحراس، وقال له:

ـ تكلم بأدب يا كلب. إنه الأمير.

فزعت الحمائم المطوقة، وراحت تحرك أجنحتها الرصاصية بعنف، تكسرت آنية الفضة، تحرر الماء من أسره، هرب الهواء من رئتيه، تلاشى صوته، خارت عزيمته، وعيناه تستغيثان.

قذفت زوجته الأمير بالإبريق النحاسي، تحاشاه الأمير، سقط الإبريق على عقبه على بعد أمتار عنه، تقافزت منه لآلئ الماء بقوة إلى الأعلى تعلن عن احتجاجها، هرع حارسان لإمساكها، قاومتهما بجنون، طار سرب الحمام المطوق فوق الضفة، هدلت بأصوات جنائزية نائمة: «يا الله... يا الله.».

زأر نمر الأمير، الشمس ساطعة تحبو على سجادة السماء الزرقاء كطفل تعلم الحبو، أمر الأمير حراسه قائلاً:

ـ أيها الحراس عرّوها!

انطلقت صرخة جبارة من فمها رددتها ضفتا النهر:

ـ أغثني يا زوجي!

شعر زوجها بالضلال، هتف ضارعاً:

ـ أغثنا يا الله... أغثنا!

تعثرت شمس النهار الحابية بوسادة من الغيوم، حطت فوق عرائش النخيل حمامات منهكات، سأل الأمير  متضرعاً:

ـ دخيلك يا مولاي! افعل بي ما تشاء، ودع زوجتي لحال سبيلها.

جلجلت ضحكة الأمير، فتمطى النمر متثائباً، قال الأمير آمراً حراسه:

ـ عرّوها!.

سقطت عروسه بين أياد آثمة، فاجرة، شرعت بالبكاء، قدماها راسختان بالطين، لونها شاحب، بينما أيديهم الآثمة تطالها، تعريها، تفضح أنوثتها، تسرق كنوزها، ظهر جسدها أبيض كالحليب بساقين ممتلئتين ونهدين نافرين بحلمتين ورديتين، تناثر شعرها الليلي الطويل ساتراً شلال أنوثتها، عيونها قطعة من «كهرب» مغطاة بالدموع، وخالها الأسود يبكي أيام ملكه التي قضاها خدراً فوق عرش خدها الناعم، شتمهم قائلاً:

ـ كلاب... أجلاف... سفـ...

عالجه أحدهم بضربة قوية بأخمص مسدسه، غامت الدنيا في عينيه المنتفختين بالدموع، سبح في دوامة من الدوار حتى أغمي عليه، تيجان النخيل غطت عيونها بسعفها الراجف، في غمار هذا العذاب أربد وجه عروسه، أشاحت برأسها بعيداً عن منظر زوجها المسجى، أمرهم الأمير بغلظة:

ـ يا حراس اجلبوا قوارير العسل في الحال وصبوها عليها.

أسرع الحراس يفتحون قوارير العسل، بدأوا يصبونها فوق الجسد الملفوف، ارتعشت شفتاها الزرقاوان بشدة لتصدر من أعماقها المحترقة صرخة استغاثة:

ـ أغيثوني... أغيـ...ث...و...

أغرقتها دفقات العسل الذهبية، تدفق سيل العسل مغرقاً كل مروجها الصادحة بالأنوثة، فكان لها العسل ثوباً ذهبياً كشمس حزينة على ضفة مزروعة بالآس الأخضر.

إذ ليس في الدنيا أحد يمنع عنها الموت، أشار الأمير بيده ذات الأصابع الطويلة إلى نمره أن: نتسلى قليلاً! زأر النمر بهيجان، هجم على عروسه بجنون، راحت أنيابه الحادة تمزق الجسد المستحم بالعسل، انطلقت صرخة من أعماقها تلقفتها ضفاف النهر، شرع النهر يبكي بسورات حمر كالدم، قعقعت ضحكة الأمير مستهترة صاخبة، عيناه تبرقان بالشر لرؤيتها امتزاج الدم بثوب العسل، وعباءتها السوداء سحبتها مويجات مشيعات معزيات زوج الشهيدة.

***

 

مملكة الغضب

ليل أيار مبهم بعتمة أحرقتها نيران صغيرة تضيء منذ الأزل،  مثل شعلات أولمبية موزعة في ميدان واسع، عيناه طائران أبيضان يحلقان اشتياقاً في الفضاء. فجأةً! انقطع التيار الكهربائي عن المدينة. ألقت السماء عباءتها عن رأسها فوق أكتاف الأرض، أصبحت المدينة كبدوية تتشح بالسواد تبكي زوجها الميت، صدح بصوت مسموع كمن يشاهد الجبال كلها تنهار فوق رأسه:

ـ يا إلهي. ما هذا؟ يالهُ من نجمٍ غريبٍ؟!

نجمٌ عملاق بذنب كبير، يجري كفرس شهباء في بيداء السماء، مخلفاً وراءه سحابة ضوء أبيض، عن يساره كان القمر قرصاً أحمر كالدم يتكئ بخدر فوق وسادة مرصعة بالنجوم، شعر بالضياع، تاه في دروب معتمة، في دهاليز العبث، شرعت أسراب غربان القلق تنعب في رأسه أفكاراً مشوشة، وشوش لنفسه قائلاً: ـ ظهور النجم المذّنب يجلب معه الموت.

بقيت عيناه العسليتان تحلقان بجانحين من عسل في ريح تلهث كوحوش تمتد زفراتها بعيداً محركة السكون، فتولد النسمة العذبة تزيح الأسى من النفوس، خطفه صراخ فتاة تطلب النجدة.

رمى جلباب الموت عنه، تصاعد الدم إلى صدغيه، تجاسر ضارباً رجلاً أبيض كالقطن... طويلاً بعينين زرقاوين طويلتين كعيون القطط، كان يراود الفتاة عن نفسها، أكال له لكمات قوية، هرب ذو العيون القططية، فشكرته الفتاة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً بصوت يسقسق كالعصافير:

ـ شكراً لصنيعك هذا... يالك من شهم!

أطلقتْ تنهيدة، جعلت العرق يتفصّد من جبينه بارداً، ثم استطردتْ تقول:

ـ كنت أحسبُ الدنيا قد خَلتْ منها المروءة!

كان كلامها كنبضات موسيقى، تقلّب أوراق الروح، لتخط نوتة الثقة سُلَّمها الموسيقي جعل الليل يطوي دروب السماء الإسفلتية العريضة، لملَمَ الظلام نفسه متكوراً كطفل يضم ساقيه بيديه من شدة البرد، قال لها بصوت متهدِّج:

ـ كنتِ على وهم؟

أجابته بتلقائية:

ـ نعم.

برقتْ عيناها الشهلاوان الكبيرتان بوميض ناري لمعرفتها بخفايا الحياة، سطعت عيناها بنيران مجوسية، قال هامساً: ـ نحنْ مخدوعون!

يشّع النجم المذنّب بتمزيقه الظلام، تتساقط قطع من سماء إسفلتية تتشوه بانغماسها في ضوء ذنبه البراق، صرختْ به بحدة، كلماتها كسمكة قفزت على صفحة النهر بقوة

ـ أنتم يا معشر الرجال مخدوعون.

تأملها بوجهٍ غلفته موجة ضباب جلبتها كلماتها القاسية، لوح بيديه حائراً، أنه لا يعلَم! انحدر شهاب لامع يرجم الظلمة خلفها تصدع في جسمها إيقاع ألحان التمرد، انطلق بعقله لحن مشاغب يحرك شفتيه بكلمات الوداع، قائلاً:

ـ إلى اللقاء.

كطائرٍ خطافٍ، جاءته كلماتها:

ـ أكمل جميلك، أوصلني إلى منزلنا.

قصر مضيء على شكل مسجد، يعتمر قبعة من مصابيحٍ كاشفةٍ تنير اثنتي عَشَرَةَ قبة خضراء، يلّف القصر شال أضواءٍ فضيةٍ تضفي عليه قدسية تفيض بريقا،ً تزدحم شموسه لتصنع شمساً سرمدية تنوس بها اثنتا عَشَرَةَ منارةً بزخارفها السيراميكية الخضراء، تلصف في هدأة الليل الأياري، شرعت تنهش رأسه ديدان عدم التصديق:

ـ استيقظوا يا مخدوعي العالم!

عند بوابة القصر، وقفت فتاة حارسة كأنها فسفورٌ يحترق، داهمته وساوس الخوف تتعثر في صدره قال لها:

ـ ها.. قد وصلت منزلكم، لم يعد وجودي ضرورياً.

ألهبتها كلماته، تساءلت بحنو دافئ:

- أسمعت يوماً بمضّيفٍ يطرد ضيفه؟

ابتسم مستسلماً، فاخترقتْ السكون ضحكتها الرنانة، انتشرت تزيح ظلمات وثنية امتدتْ معها ألسنة الأضواء تلعق أشجار التوت، انتشى التوت الأحمر بدغدغة نسمات باردة، بثت فيه الثقة بمحدثته، قال:

ـ كلا...

أشارت بيدها أن يلج بوابة القصر، اكتفى بابتسامة ساذجة أظهرت غمازتيه، دخلا سوية ممراً طويلاً جدرانه مغلفة برخام أبيض تزينه زخارف أندلسية، أفضى بهما الممر إلى قاعة تسبح على جدرانها بقع الضوء المتوهجة، تضيء لوحات نساءٍ شقراوات عاريات، فيبارك نور المصابيح لوحات لطيور حب بمناقير ذهبية، ببغاوات بذيول حريرية، غزلان بقرون عاجية، أرانب بيض بعيون زمردية، اجتازا القاعة نحو قاعة جانبية جدرانها مغطاة برخام أسود، سقفها تزينه فسيفساء غاية في الروعة، يلتمع أمام زواياها الأربعة مباخر نحاسية لامعة تنفث بخوراً يضوع برائحة العنبر، بغتة، تحولت الفتاة إلى لهب أشقر سرعان ما استوى إلى فتاةٍ يشتعل جسدها العاري لهباً غمر القاعة نوراً، تراجع مذعوراً، ارتعد، اصطكت أسنانه ببعضها، دخلت عليهما فتاتان ناريتان عاريتان، أراد أن يصرخ، فمه مفغور، فأغمض عينيه، المنذهلتين من شدة إشعاعات أجسادهن الفتية، فاحت رائحة بخور طيبة، مشتْ ثلاثتهن نحوه، راحتْ مهاميز ذهبية مربوطة بأرجلهن تحتك بالأرض فتطلق شظايا نارية حارقة، رفع يده اليمنى أمام عينيه يتلافى حدة الضوء، هتفتْ به إحداهن:

ـ أعلمت كم أنتم مخدوعون معشر الرجال؟

تصاعدت دوامات البخور تحتضن ضفائر النور بحنين مفرط، أحس أن قلبه سيتوقف، كّف عن الحركة، تساءل مذهولاً:

- مَنْ أنتنَّ؟

أجابته إحداهن: نحن الموت...!

تساءَل مبهوتاً:

- ماذا؟

قالتْ إحداهن باستخفاف:

عندما يظهر النجمُ المذَّنب نحّل معه، جالباتٍ الموتَ للبشر!!!

قال مستنكراً كلامها:

ـ لكن البشر يموتون بالجملة كل يوم... بل بالساعات... فما دخلكن بذلك... أنتنَّ كاذبات.

جلجلت ضحكاتهن الهازئة ترج القاعة، تكلمتْ فتاته:

ـ إنك تخاف كل شيء، تخاف الموت، نفسك، وتخافنا.

كلماتها كبقايا خطوات مطبوعة فوق رمال متحركة، قال بعصبية مما جعل لكلماته إيقاعاً حديدياً يصطك وسط القاعة:

ـ نحن جيل الخوف يا هذه... بذار نساء الرعب... أيام الخوف أرضعتنا... وأصابع الشقاء الحديدية فطمتنا... يا جالبات الموت.. أسمعتـ...

قاطعته الأخرى بغضب:

ـ اصمت. لنْ يجديك ذلك نفعاً، لابد من موتك.

حدّق فيهن بنظرة شفقة، وقال بهدوء:

ـ الموت راحة لبائس مثلي، وستصنعنَ خيراً لو عجلتنَّ بموتي.

عقبت فتاته:

ـ يا هذا. نحنْ لسنا بشراً.

لم يجبها، تكلمتْ صاحبة الضفائر النارية بصوتٍ صداحٍ:

ـ إذن سنصنع معروفاً بقتلك.

زكمت أنفه رائحة فمها الشيطانية، أجابها:

ـ بالتأكيد فكل ظالم يقول جئت بالخير، ومعروفه بقتل الناس.

همستْ بأذنه:

ـ ستموت... أنت الآن في مملكةِ الفجيعةِ، برحاب الفناء، لا حياة لك!

مطّ شفتيهِ، وقال بثقة:

ـ لقد عشتُ أزمنة الخوف، البؤس، الغربة، وما أجمل أن أعيش لحظات الموت!

اقتربتْ صاحبة الفم الشيطاني، لتقول بمرارة:

ـ إنك تحيا بالأوهام... فهي زادكم يا بشر.

أجابها بنبرة ساخرة:

ـ أنتنَّ الوَهم بعينه!

صفعته بعنف، بينما الأخريات سَحَبْنَهُ من ياقته نحو بابٍ جانبي أفضى بهن وسط قاعة مملوءة بالجثث الممزقة، تخدرت حواسه، اضمحلت الأشياء مندفعة نحو ظلمات مجهولة، مزقّن ملابسه، أضحى عارياً مذهولاً وسطهن كرجل يدخل عارياً حمام نساءٍ، غطى بيده عورته، تدافعت ضحكاتهن الماجنة تخنق ثقته بنفسه، أمسكتْ كل فتاة بيد من يديه حّل أمامهن الرجل ذو العيون القططية ممسكاً برجليه، مددوه فوق مصطبة  مرمرية بلون الجمر، أطلّت أمام عينه جمجمة معلقة بالسقف، أشارتْ ناحيتها إحدى الفتيات، قائلةً:

ـ إنها جمجمة الحلاّج.

حينما شاهدها، شعر أنْ حياته لها قيمة. لأول مرة يتمسك بالحياة.. فجر بداخله إحساس سيطر على تفكيره راح يكبر.... يكبر.... ليسع العالم بأسره، هتف صارخاً:

ـ عجّلن بالموت... عجلّن.

سحبن مهاميزهن بعنف، راحت المهاميز تحرث جسده، أحدثت فيه شقوقاً عميقة غير مرتبة، عُزفت سمفونية العذاب الأبدية ألحانها الراسخة بالروح: قابيل يذبح هابيل. الحلاج يصرخ ما في جبتي إلا الله. وهو كالمنذور يدور ضالاً بأفلاك سديمية، تدفق دمه راقصاً مخضباً سواقي الجسد المحروث، ترافقه نفثات بخار ممزوجةٍ بالدمِ، هجم الألم يلتهمه، زعق بقوة:

ـ يا الله نجني من هذا العذاب.

صُعقت الفتيات لذكر كلمة الله، وبينما دمه، يتعثّر متخبطاً بسواقٍ حُرثت جديداً، تذكر جدته لأمه إذا ما أصابها بأس، تقرأ آية الكرسي، ارتجف قلبه خاشعاً، بصوتٍ مسموعٍ رددها، والفتيات يمزقن جسده حانقات، استمر يتلو الآية الكريمة، وصَلَ إلى قوله تعالى: ولا يؤوده حفظهماارتجفن. خبت نارهن. كررها ثانيةًولا يؤوده حفظهما. ثالثةً تلاها، ندت عنهن صرخات وحشية. رابعة أعادها. ارتعشن رعباً. انكمشت أجسادهن النارية. خفتت نارهن، تصاعدت أبخرة رصاصية تخنق أنفاسه، غص جو الغرفة بسحب دخان كثيفة تقبر موجات الضوء الشابة، للمرة الخامسة والستين رددها. احترقن كملابس صوفية رثة. للمرة الثامنة والسبعين أعادها على مسامعهن، تحولن إلى رماد رصاصي ثقيل، ترتفع منه أبخرة زنخة تلهث فوق صدر فجيعتهن، أغفى وهو يكرره : ولا يؤوده حفظهما.

***

 

بندقية الحاج مغني

«إِنَّ ما يمنعني عن التفكير في الموت أنَّ في داخلي قدراً كبيراً من الحياة».

«ألبير كامو»

سرقه صوت الرصاص مما هو فيه من خدر، حطم جدران الأمان، تصدعت سقوف الخدر، هيهات بعد ذلك أن يحصل على الاستقرار، تساءل في ذات نفسه، من يا ترى قد توفيّ في القرية؟

استأنف رجال القرية إطلاق الرصاص، والسماء تزغرد مزدانة بنجوم مضيئة سرعان ما تتخافت، تذوب أمام برد السماء الحبلى بالنجوم الغازية من فوهات ملتهبة.

هرع  “الحاج مغني” متأثراً لوفاة عزيزه، وصديقه “الحاج دنيف” اجتاحته أحاسيس فقدان جزء من الروح، غالبته دموعه، هاجت في مقلتيه تكسر جدراناً شفافة من الروح العذبة.

بدأت الشمس ترسل أشعتها دافئة، وثمة أسراب من الطيور تستحم بالدفء تحت وهج الشمس، حضر “الحاج مغني” مجلس الفاتحة، وبمعيته مجموعة كبيرة من الرجال. أطبقت  الظلمة في طريق عودته، وجد باب داره مفتوحاً، ولجه مستغرباً، جال في خاطره العديد من المخاوف صرخ عالياً:

ـ بنت الناس!

فلم يأته أي جواب، فعاود الصراخ:

ـ بنت الناس...! يا بنت الناس...!!!

تسمر “الحاج مغني” مذهولاً، شعر بأنه محاصر بعاصفة من القلق القاتل الذي بدا ينهش أحشاءه، تجهم وجهه وشرع يبحث في كل مكان عن زوجته: (بنت الناس رمان) التي تزوجها على نسائه الخمسة، مما حدا بأولاده الكبار الاعتراض على والده لزواجه من امرأة شابة- غانية ـ إلا أنه في لحظاته القادمة تبادر إلى ذهنه خطف امرأته، خرج إلى المنازل المجاورة يسألهم عن زوجته، جاءه الرد، كما توقعه، انبجست الدموع الحبيسة من عينيه، وقد لاحت خيبة الأمل على محياه، قال بصوت مفجوع:

ـ لن أدعها تضيع مثلما ضاعت سنوات عمري بين الأرض، وقأقأت نساء الدجاج.

أتم الليل نصب خيمته السوداء على القرية، هاجت أحاسيس تنمو في الصدر، وكأنها طحلب يمد فروعه في كل مكان، وعواصف ربد بدأت تجوب طرقات مظلمة، موحشة، تخفق فيها تساؤلات يتيمة كأنها جراح حبيب خلفته تجربة حب شقي، فتنزف جراح القلب ما دامت العاصفة مستمرة من شدة العذاب عض على نواجذه من وطأة الحسرة.

أراد أن يعبر عن اختطاف زوجته بالفعل عقد عزمه على أخذها بالقوة، بهذا ساقته خطواته إلى منزله ليأخذ معه بندقيته التي رافقته في حروبه كلها، أمسكها بقبضتيه القويتين، ضغط بشدة عليها فشعر كأنه مارد باستطاعته أن يقاتل جيشاً عصرياً لوحده، فيما مضى خاض معارك عديدة دفاعاً عن القرية ـ عن أرضه ـ عن ماله. أما الآن وقد شارف على السبعين فمعركته هذه إثبات وجوده، معركة مع ذاته، وليس مع أولاده، معركة تجعله يرفض كل قيد ـ كل شرط ـ كل ما بإمكانه أن يمس وجوده.

وبينما هو سادر في عزمه لمقاتلة أولاده، انطلقت صليات متتالية من الرصاص فوق رأس “الحاج مغني” من رشاش ابنه البكر، بعدما تموضعوا بساتر ترابي أمام دارهم، فلم يأبه بصلياتهم وكأنها أسراب من البعوض، مما دفع ابنه إلى معاودة إطلاق صليات متعددة، متعاقبة، غرضها ثني والده عن عزمه. قال “الحاج مغني” بصوته الهادر:

ـ اضربوا ما استطعتم! فأنا قادم.

قال ابنه الأوسط لأخيه:

ـ تنح جانباً لكي أكسر ساقيه بقناصتي هذه.

فشل في إصابة أبيه، وبدلاً من إصابته بساقيه فإذا بالرصاصات تترك ثقوباً في ثوب أبيهم بعدما ألقته على الأرض، وبهذا استمرت رشقات بنادق أولاده، فاض قلبه في فمه، تمنى لو كان صقراً لحلق في الفضاء هارباً من مقاتلة أبنائه.

صرخ بهم من جديد بعدما نهض من على الأرض:

ـ اضربوا فأنا قادم.

غذَّ السير نحو هدفه، وصدى الرصاص يتناهى إلى مسمعه وكأنه همسات عتاب. فملأه بالاعتزاز، والانعتاق مما هو فيه من حالةٍ لا يحسد عليها، قال باحتجاج عنيف:

ـ إنني أعيش حلماً مزعجاً. آه واحسرتاه.

قالها “الحاج مغني”، وقد جف حلقه، تيبست شفتاه، شعر بالحزن لأجل ذلك، خاض بمجاذيف حزنه وسط بحر الرصاص الهادر ـ وماهي ـ إلا لحظات، وإذا به ينتصب وكله ثقة، وأمله يرفرف أمامه كرايات بيض تتجاسر ملوحة لكل أهل القرية من الشيوخ والشبان الذين تجمعوا لوقف حرب الأب مع أبنائه، تأملهم قائلاً:

ـ أحضروا لي زوجتي قبل أن....

قاطعه أحدهم قائلاً:

ـ هدئ من روعك يا حاج.

أجابه مستغرباً:

ـ كيف تريدوني أن أهدأ وأنت تشاهد بأم عينيك ما يفعله أبنائي؟

قالها، ولمعان الأبوة يشع في عينيه السوداوين. سألهم في ذعر:

ـ أين زوجتي؟

أجابه ابنه البكر:

ـ إنك تحرق نفسك بيديك، وتجعلها ملعونة دنيا وآخرة، لقد جعلتنا مضغة على كل لسان من أجل مو....

تناول بندقيته مباعداً عتلة أمانها متهيئاً للرمي، فتراه كمن يصارع غولاً حين سماعه كلمات ابنه الكبير، اجتاحته رعشة لا مرئية من الغضب ـ فصوتها يسري في جسده كفحيح أفعى، أخذ “الحاج مغني” نفساً عميقاً استعداداً لرمي أولاده ـ لولا ـ تدخل أحد شيوخ القرية في لحظة شروعه برميهم قائلاً:

ـ لك ما تريده هدئ من روعك يا أبا مطرود.

هتف ابنه معترضاً، وصوته يسابق فعله:

ـ لن يأخذها إلا على رقابنا.

صدم “الجاج مغني” بجواب ابنه، امتلأت عيناه بدموع حارقة تلهب وجنتيه، تملأان عينيه غشاوة، غاب عن الحياة برهة.. تلك الحياة التي أخذ العمر فيها يذهب كخيط الدخان وسط صحراء قاحلة، وصوت أنفاسه اللاهثة كأنها أنفاس أفراس النهر المهتاجة من شدة الجوع، دقات قلبه متسارعة تشابه دقات قلب عداء المسافات الطويلة، قال برزانة:

ـ خاب أملك يا بني، فما زلت أستنشق البارود وصفا الرصاص يحرسان صدري. تمرق رصاصات غادرة فوق رأس “الحاج مغني”، لكنها كهالة تحيط بالقمر، فكان مشعاً ككتل الضوء التي تحملها حشرات صغيرة في مؤخرتها، وبأجنحتها الشفافة تدخل به إلى عالم لم يألفه، كان ينظر إليه فيما مضى على أنه الوجود الحقيقي في مقارعة أعدائه. أما الآن فلا. كيف يحارب أولاده؟ أي وجود سيثبته لنفسه بمقاتلتهم؟ فقال في نفسه ملتاعاً:

ـ سأرتكب جرماً إن قاتلتهم.

تدخل أحدهم مانعاً حدوث كارثة بقوله:

ـ اذهب يا مطرود لإحضار زوجة أبيك، لأنني سأحل القضية وأتعهد بذلك أمام الجميع.

حضرت “بنت الناس رمان” مطرقة الرأس، شعر “الحاج مغني” بأن روحه تركض قبل قدميه لاستقبالها، سحبها من ذراعها، وسار ممسكاً إياها من يدها، وباليد الأخرى يمسك بقوة واعتداد ببندقيته، قال والغبطة تفيض من شقوق وجهه المتعب:

ـ يا بنت الناس! مستعد لأن أحارب جيشاً جراراً من أجل عينيك. تحسست “بنت الناس رمان” عينيها، راقبت السماء بنجومها المتلألئة تخترق عباءة السماء لتجعل الليل كله مضاءً بمشاعل تحترق نيرانها سعادةً بعودته سالماً برفقتها، فقالت مستفسرة:

ـ ما الذي أخرك عني حتى هذا الوقت؟

تردّد “الحاج مغني” وقال:

ـ ها أنذا الآن أمامك يا عزيزتي.

فردت برقة، ولين، ونشوتها عامرة بالحب:

ـ ألهذا الحدّ تحبني يا حاج، رغم كوني..

 رفع يده الممسكة بكفها، وضعها على فمها يمنعها من إكمال كلامها، قال بكلمات دافئة:

ـ كنت مستعداً لأن أقتطع جزءاً من الليل لأصنع لك عباءة تحميك من الأعين الحاقدة.

أشاعت كلماته فيها الدفء، قالت منتشية:

ـ الله يحرسك ليّ يا حاج، وإلى الأبد.

استطردت تقول:

ـ كانت قناعتي بك بلا حدود، كنت واثقة بأنك ستأتي لتأخذني، تحملني فوق كفيك كما الطفل الرضيع، لتخلصني من طيش أولادك، وبطشهم، فالساعات المنصرمة كانت فيها كل عذابات حياتي تتلاشى تجاه ـ العذاب ـ الذي أعانيه جراء فراقك، وقلقي من  عدم الرجوع إليك يا حاج!

فبادرها مجيباً:

ـ نعم! يا بنت الناس.

فتساءلت بخبث:

ـ يا حاج مغني! أتحبني أكثر أم نساءَك الأخريات؟

يجيبها وطيف ابتسامة فتانة ترتسم على شفتيه:

ـ أنت بالتأكيد.

تداعبها نسمات الفجر العليلة محملة برائحة الأعشاب المستحمة بندى الصباح الجميل، تترك عباءتها تدفعها نسائم الفجر، ليظهر جسدها مغرداً بالفرحة وطافحاً بالصحة، لتقول متغابية:

ـ كيف بالله عليك؟

زمّ شفتيه بانتشاء:

ـ يا بنت الناس! أنا مثل نخلة “البرحي” بدون أرضها ومائها تموت، فأرضي هي: قريتي، والماء أنتِ.

تبتسم بدلال قائلةً:

ـ لقد أشعلت الحرارة في دمي يا حاج مغني.

تتراقص ملايين العصافير مزقزقة فوق وجنتيها الطافحتين دماً، وفي عينيها لمعان مشع متأت من ثقتها بمحدثها، فعقب قائلاً:

ـ شعرت بمتعة لا حدود لها، وأنا أستردك، وحينما لمستك ولدت فيّ ملايين الخلايا، حينها أحسست بأن دماء الشباب تجري في عروقي.

أشاحت بوجهها، لتقول بغنج:

ـ افتقدتك يا حاج لأنك رجلي، واشتقت إليك لكونك أثمن مشاعري على الإطلاق.

ردّ قائلاً:

ـ لن يخيب أملك فيّ أبداً. أبداً.

***

 

النافذة

إنَّ نافذة في جلدي قد أشرعت. ظلت تبرق أملاً، وتتزود بشيء من ذلك الحب النابع من كون البؤس في ظروف واحدة واحداً رغم تغير المكان. نافذتي شفافة كالزجاج سرعان ما تتهشم بحجارة يطلقها طفل ما لأنه قد رام التخلص من سقمه بقذفه حجارة، ولا يعلم مكانها أحد حتى أنا، قد تكون المجهول! ذلك المجهول الذي يطل على الماضي ليبشر الحاضر ويزف لـه نبوءة ما! أو عروس تنتظر موعد زفافها بلهفة! آنئذٍ تلتمع بها كؤوس من ارتعاشات الحب فوق مائدة الحلم الوردي، وأرى القمر أصبح أبيض كمصباح يغفو فوق زجاجة والزجاجة هنا الليل ـ الحب ـ الخيبة! ليطل من شعاع المصباح ومن خلال كؤوس اللذة عند مائدة الحلم، امرأة عجوز سوداء في السابعة والستين، لها عينان صغيرتان وحشيتان تغطيهما حواجب بيضاء كثة. تتدلى خصل الشعر الأبيض لكلا الحاجبين على عينيها ليمنحانهما شيئاً غامضاً. ربما يكون ذلك الغموض طلباً جميلاً يجعل هنالك ترابطاً واضحاً بين الطفولة وخيباتها والكؤوس الفارغة وارتعاشات الأيادي وهي تطلب المزيد من نادل الحياة، القدر. تخاطبني بصوت ضعيف يصدر من أحد مقاعد المائدة الوردية، صدر متماسك كالصلب إلا أن حبلاً مجنوناً التف حول عنقي كالأفعى بالتفافها حول الرقبة، فتجعل الدماء تتزاحم وتعربد في عروقي عند الرقبة كأنها تقول:

ـ أراك خائباً يا فتى.

شيء قد طفح في عيوني فجأة. إذ أشاهد خيطاً رقيقاً قائماً من ضياء القمر يلوم في عينيها متقداً مظفراً بالذي قد فعل بي سؤالها ويداها الكبيرتان ترتجفان بوهن، لأقول لها بخيبة الذي خسر حبيبته بخجله المفرط:

ـ أجل إنني خائب.

تبحث بوجهي علها تجد شيئاً ضائعاً تستطيع العثور عليه بوجه فتى خائب، تحدق فيه، تتبحر فيه، تتعمق فيه كأنها نسيت ماضيها كله في وجهي أو في عيوني، كما تقول أمي لي دائماً  مداعبة إياي: لك عيون جميلة كأنهن عيون فتاة هندية!

عيون المرأة رجعت خائبة غير مشرقة رغم وحشيتها، تراجعت صوب جفونها مندثرة متأثرة برؤية ماضٍ أو بؤسٍ كانت قد وجدته في وجهي، لتقول بعد طول تبحر في صفاء وجهي وباستفهام:

ـ لماذا أنت خائب؟

أجبتها وكأني حمامة حاصرها صياد ماكر بشباكه الخفية، فأهرب محلقاً في ذلك الفضاء الشاسع بعيداً عن المادة، والتماعات الكؤوس الفارغة: خضت غمار تجارب كبيرة وعملاقة لكن! ما الفائدة؟  كل الذي حصلت عليه هو... أللاشيء، وها أنتِ تضيفين شيئاً جميلاً ألا وهو خيبتي.

سرحت ببصرها كذاك الصياد الذي فرت منه حمائمه البيض جميعها، لأن عصفوراً أسود اللون قد مزق شباكه كلها، وفرغت جميع تلك الكؤوس من بؤسها، وتحركت المائدة الوردية ساعتها لكونها تخلصت من بؤس قيد تلك الحمائم البيض، قالت كأنها عثرت على قدح يحتوي على حمامة بيضاء واحدة قد كسرت أجنحتها وجعلتها خائبة ترقب الآتي: الأمل في الحياة شيء رائع ومؤنس، بالرغم من كونه يعطي للنفس دفعات من القوة إلا أنه وهم.

تستطرد قائلة:

- في العالم أفضل شيء هو كؤوس ممتلئة، وأمل وهم

تتابع وعيناه الوحشيتان تضطربان بالذكريات والخيبة:

يا فتى أتعرف الأمل الوهم؟

أطأطئ رأسي خجلاً،  وكأن شعري الأبيض قد تحول إلى سياط تلهب يأسي وخيبتي بحيث يجرجرانهما إلى الخارج، حين ذاك يجلد كل من يأسي وخيبتي بسياط تجعل الماضي يتلاشى مع صفعات الهواء العنيفة حينما يلامسهما السوط صافعاً، ومع ذلك رحلت عيونها بعيداً عني ولم أجبها.

الكؤوس تُملأ من جديد، والمائدة الوردية عامرة بالخيبة كقصر عامر بالخدم، وتعيد كل تلك الأيام خيباتها وتدلقه دلقاً في باحة القصر عند المائدة، لتقول مستفهمة ومن جديد:

ـ يا فتى لماذا خرجت خائباً هكذا كما أشاهدك أمامي؟

حنان فياض قد دحر نظراتها الوحشية جعلها تسكر حد الثمالة، ثم جرجرها ذلك الحنان مشبعة بالخيبات فتضطرمان من جديد بحنان واسع أود توسده وإلى الأبد,. أتوسد في عينيها ذلك الدفء الرائع وتلك الرموش التي تدغدغ صدري بلذة لأقول بلوعة:

ـ خرجت من الحياة الآن وأنا أطلب عيونك وسادة لي وسط جفونك بعيداً عن الخيبة.

تحدق بي وكمن يمتص الهم من القلب ، تقول وكلماتها كأياد تمتد لتنقذ غريقاً من النهر. فهكذا لم أجد من ينتشلني غير كلماتها وحنان عينيها الجديد:

ـ يا ولدي خذ كل حنان قلبي وتوسد عيوني لترفل بالراحة.

أحدق بشيء خلفها ربما كان هذا الشيء حباً قد نسيته هذه الأم خلف زيقها والآن سحبته إلى أمام عينيها بعدما غابت عنهما النظرة القاسية. أتبلد اللحظة وأصبح كطفل أستيقظ من النوم فزعاً من حلم مرعب، لأقول لها بأسى:

ـ الحياة كالبيضة عندما توضع فوق أحد كؤوس المائدة الوردية دون سلق تبقى عند رأس الكأس ترفض السقوط. كم مرة حاولت تحطيم الكأس لكي أسقط لكنني لم أستطع، ومع ذلك نحن عند قمة الكأس عند الدرك الأسفل مع الثمالة.

لا تتكلم، وكأنها أخذت كفايتها من الحب الخائب. فارتطمت بأحد الكؤوس وتكسرت قشرتها الخارجية وخرَّ مافيها من يأس وخيبة فوق مائدة الحلم الوردي. يتعاظم بداخلي سخط مستبد وفي نفس الوقت جبن رهيب حطم تماسكي وكسر كل كؤوس المائدة، رحت أصرخ طالباً المساعدة من المرأة:

ـ لقد تحطمت كل كؤوس الخيبة وخرج فوق المائدة الأمل الوهم، ولم يبقَ فوق المائدة سوى علبة سعوطك الهندية، التي تزدان بزخارف سود كأجنحة غراب مداج.

أبصر في وجهها وقد تغلب عليه ألم سرمدي، قد يكون ألم عالمها ذي القشور المكسورة، ألم عاث صاحب الأقداح المحطمة، لتقول لي:

- إنك مسكين.

لا أقوى على الكلام وأظل تائهاً عن طريقي كالسكران يتخبط في وحل من المياه الآسنة، وعيناها تحدقان بحنان وعطف نحوي، وتجتزئ القول:

ـ يا ولدي كل شيء يتكرر ليعيد نفسه يومياً، وإن صباحك لم يعد غير كؤوس فارغة، وسماءك ليس فيها ماضٍ يولد من نجوم، بل ماض يولد من مائدة وردية.

تصمت لبرهة ثم تستطرد بالقول:

ـ حياتك كتلك الكؤوس لها حاملوها ومائدتها، وبعدما يفرغ منها ترمي بأوساخها التي هي هنا خيباتنا.

هذه المرة ألمها السرمدي قد طغى على تجاعيد وجهها، وأقول مخففاً من وطأة الألم عن نفسها قائلاً:

- إنها الحياة.

تخرج من جيبها علبة سعوطها الفضية، وتقوم باستنشاق السعوط، وأنا أراقبها وكأن كلماتي قد عملت بداخلها عمل المهدئ في مريض يعاني سكرات الموت. تضحك برهةً وكان أنفها جميلاً  رغم كبر سنها، وعيناها أصبحتا منذ لحظات أكثر وداعة وحناناً يطوف فيهما كسفينة تجوب وتمخر عباب البحر برتابة الشيخوخة وهي تقدم على المرفأ الأخير لها. تقوم من جديد باستنشاق السعوط ليعتمر صدرها زاكماً متأثراً من السعوط، ليصدر عن ذلك فعل إرادي حر، تقول وهي تأخذ بيدي لتخلصني من خيبتي:

ـ هيا يا ولدي لنحطم كل الأقداح ونكسر تلك المائدة اللعينة ونحطم النافذة، الآن السفينة قد وصلت إلى الميناء الآمن يا ولدي.

نحن على الأرض واليوم هو يوم حزيراني شديد الحرارة، عندما حطمنا جميع الكؤوس والمائدة ذات الحلم الوردي وخرجنا من السفينة التي كانت قد عملت على شكل بار عند ضفة النهر.

الأيادي المتعبة

نشر شراع مركبه، وفي دقائق أخذ بالابتعاد عن مدينته، خلال إبحارهما منحهما البحر مع كل ضربة من موجاته الأمان، مما حدا به ليقول لرفيق رحلته الصقار:

ـ السماء والبحر.

يضحك “محبس” وكأن أصابع البحر تدغدغه، ليقول: متلذذاً:

ـ عزيزي “برع”! هنالك العديد من الأمور ليست ملك أيدينا.

قال “برع” وصوته كرتاج باب خشبي كبير:

ـ لماذا تعذب نفسك؟

على امتداد سواحل أنفسناـ نحن لا نرى الظلام الذي بداخل كل واحد منا، فترتفع جدران أجسادنا متينة، قوية، وعالية، توحي لكل شخص بأنه حي بينما سماء عيونه تنبئان بالتعب والخذلان. أجابه (محبس) وكأنه عصا قوية حطمت الرتاج وجعلت الباب ينفتح على مصراعيه لهذا هربت كل الطيور السجينة إلى الشمس فقال:

ـ لأنني حر!

يبادره الصقار "مسحورا بمنظر البحر:

ـ إنك تذكرني بالصقور فهي ترفض القيود دائماً، مما تجعل داخلك إذ........

يقاطعه محبس:

ـ إذن فأنت ضائع!

كلام محبس وضع "جبلاً "من الهم فوق صدر الصقار، فيقول:

ـ اطمئن يا محبس! فأنا كالصقور لا تفيدني سلاسل ولا حدود. يجيبه محبس:

ـ هذا يعني أنك...

تململ الصقار "منزعجاً "والنوارس بصراخها تجعل السماء كورقة النوتة الموسيقية ترقص على أنغامها أحلى الطيور. فقاطعه “محبس” صارخاً، منبهاً، ومتعجباً:

ـ انظر إلى سرب النوارس ـ أتشاهد ما أراه؟!

هز برع رأسه مؤكداً  ما لاحظه. ثم قال:

ـ يا إلهي! إنها “نصف طائر ونصف امرأة”!!

الرياح تضرب الأشرعة بعنف فتمايلا مع الموج الطافح بالإصدار وتمزقت بداخلهم أحلام صنعت من ورق شفاف لسماعهم المرأة الطائر تغني بأعذب تغريدة سمعتها أذن بشر..

حط الطائر على مقدمة المركب وشرع هو الآخر بالإبحار صوب مرافئ الكلمات قائلاً: "على لسان نصف المرأة":

ـ حرراني من ازدواجيتي! فأنا منكودة الطالع.

عظيمة هي المفاجآت، لكن! في لحظات تجد البشر أسرى قيودهم الماضية، فأكتافهم ما زال الغبار يملؤها، وتسمع في صدورهم آهات فشلهم.

فقال الصقار بيأس:

ـ وكيف ذلك؟ ونحن مقيدون. فاندهش “محبس” لكلام الصقار، وقال بانزعاج:

ـ متى ينتهي هذا الجنون؟

فصدرت إجابة بالنفي بحركة من رأس المرأة الطائر، وقالت:

ـ الحياة حلوة وأحلى مافيها جنوننا المستمر... فأضافت موضحة:

ـ إلى متى نبقى نصبغ حياتنا بألوان التشاؤم؟ فنعيش حياتنا كالملدوغين.

فيرد محبس بعدما أشعل سيكارته:

ـ إنه وجودنا.

رد برع:

ـ أوه.. لا يوجد هنالك معنى للذي نفعله، نحن في دوامة يا محبس بادره قائلاً:

ـ إنها القيود دائماً.

قال برع:

- نعم فحزننا وتقاليدنا ومخاوفنا هي أساس حريتنا، والذي نفعله يجعلنا نعي وجودنا.

أجابه محبس بآهة عميقة:

ـ آه... أتمنى أن أملك جناحين قويين لأحلق بهما إلى عوالم جديدة ـ عوالم مجهولة ـ لأضيع فيها وإلى الأبد. فنحن...

قاطعته المرأة الطائر:

ـ فنحن كالدمى يا أحبائي.

تحسر محبس وأجاب:

ـ نعم دمى وتحركها خيوط خفية بيد القدر.

فتقول بيأس:

ـ كلامك هذا يلغي وجودنا. النوارس والبحر، بإمكانك أن تفتح كل الأقفال بمفاتيح التصميم لتلجَ بوابة الأمل إلى باحة السعادة.

فمنذ ليال لم تستطع كل النجوم البيضاء من أن تسحرني كوني قد أقفلت على نفسي الباب، ونسيت أين وضعت المفتاح؟

رد برع طوعاً:

ـ إننا آسفون كوننا لا نستطيع تحريرك من ازدواجيتك.

***

همست الرياح كأنها موسيقى عذبة لسترافنسكي، وليالينا تزدان بالأقمار، فترانا كطيور النوارس على الدوام نسافر كالخواطر في نداءات أنفسنا وهي تضاجع أسطر نوتات عزف الزمن فترفرف المرأة الطائر بجناحيها برشاقة لتقول لنا:

ـ رحلة ممتعة، وأتمنى لكما صيداً وفيراً.

لوحا بيديهما المتعبتين، ونهض محبس يباعد شباكه عن بعضها، ويرمي بها إلى البحر ـ هنا ـ استطاع الولوج إلى عالم حي، عالم يتنفس نسائم عذبة تمازجها أغانٍ قديمة كان يتغنى بها عشاق شارع الهوى ليبثوا فيها شجنهم المشتاق إلى:

“مرن بنات الهوى بعكد الهوى مرن”

***

 

ضريح الأمس ـ ضريح اليوم

لقد بدأ عقرب الساعة بالاقتراب من السادسة، في هذا الوقت الباكر من الصباح كانت الشمس تشرق على المدينة التي يعمل فيها عرفان ميكانيكياً. فنجده كل صباح يخاطب بداخله كائنات شفافة رقيقة هي أمانيه. فيضحك بداخله حزن ما زال ندياً، كالندى المتألم وهو يتوسد أوراق الأزهار، فأخذ يكلم نفسه من جديد:

ـ إنني لا أستطيع التخلي عن أحلامي الجميلة التي تعيش معي يومياً، تعمل معي، تسير معي، وتأسى على ما قد لحق بي.

***

ويبدأ العمل بصخب، والكل متجهمون عابسون وكأنهم في طقوس آلية تمنعهم من الابتسام، فتجدهم في خشوع الزمن وهو يطوي الأيام والساعات وهنا ـ فوق مكائن صنع البلاستيك ـ على ماكنة صنع القوالب يعمل عرفان مع رجل كهل يدعى : ـ “الحاج ماضي” يحيه قائلاً:

ـ صباحك جميل يا عرفان.

يحيه بمودة:

ـ صباحك أجمل يا عماه.

فيسأله الحاج ماضي، وهو كالبستاني يقلم الأغصان المتشرذمة.

ـ لماذا أراك مهموماً، هذا الصباح وأنت كنعناع البراري؟

يضحك بحزن، ويقول للحاج ماضي:

ـ كلا لست نعناع براري، أنا نبات الصبير.

يبتسم الرجل الكهل ويخرج من دائرة همومه قائلاً:

ـ الجو ناعم وهاهي ذي الشمس دافئة وكأنها دماء طائر جريح.

يبادره عرفان بقوله:

ـ ياعم ماضي! أنا كنبات الصبير خلق ليستفيد منه الآخرون فتراه على الدوام أخضر، "وحيداً" من أجل أن تقتات عليه الحيوانات، فأنا أعيش يا عماه لأنفع الآخرين. أما أحلامي فكلها محض ادعاء لا أكثر.

فيجيبه الرجل الكهل متسائلاً بمودة:

ـ ألا يكفيك فخراً "كونك مفيداً" للآخرين؟

يتنهد عرفان ليجيب الكهل بهدوء الحكماء، وبعنفوان الشباب:

ـ إن بذوري التي قد بذرتها في الأرض أينعت، وأصبحت سنابل، والسنابل أصبحت ملأى بمئات الحبوب والكل يقطف ما تزرع أنت.

الحاج ماضي يستمع بصدق، وما زال عرفان "غارقاً" في لجة همومه قائلاً:

ـ إن قلبي يتمزق كوني لا أهتم بنفسي... إنها حقيقة ما أحس، وكل ما أشعر به أنني يا عم هرم وقلبي أصبح هرماً، و"كأنني طائر صغير قد قطع القارة الآسيوية طيراناً"، فعند وصوله إلى القارة الإفريقية توقف عن الطيران فوجد نفسه "كهلاً"، وقد شاخ قلبه ولم يعد يقوى على الطيران.

الحاج ماضي يعقب:

ـ يابني أنت تعيش في حيرة فأجدك كل يوم تندم على كونك جزءاً "هاماً" لحياة من يحيطون بك.

يقاطعه عرفان متسائلاً و"الوقت هنا يقترب من تمام الساعة التاسعة صباحاً":

ـ كم عمرك يا عماه؟

أجابه: ـ ثلاثة وخمسين عاماً، لكن! لماذا تسأل؟

أجبني يا عماه رجاءً:

ـ أسعيد أنت في حياتك؟

يجيبه قائلاً:

ـ إني حقاً "سعيد"! وذلك لكوني مطمئن النفس، وراضٍ عما حققت حيث في كل مرة تتكرر سعادتي، وترتدي حلة جديدة، وفي النهاية أجد نفسي أعيش قرير العين يا بني.

يهمهم عرفان:

ـ هـ.... م هل حققت كل أحلامك يا عماه؟...

يجيبه:

ـ ليس كلها، ولكنني يا ولدي أصبحت في نهاية المطاف أمقت الأحلام، لأنها تشل الروح على الدوام، تنزف أحلاماً ليس بمقدورك وقف نزيفها وإذا بأحلامك تتراكم ـ تتراكم فتغرق أنت في لجة اليأس والكراهية اللتين تعيشهما أنت الآن.

يلومه عرفان:

ـ لقد جرحت قلبي يا عماه بكلامك... إن أحلامي أصبحت جزءاً من كياني، من حياتي كلها، لهذا تجدني بين لحظة و أخرى أتذكرها كما يتفقد الإنسان الوقت في ساعته اليدوية.

الوقت أخذ يتقدم بسرعة والساعة تتكتك في قلوب الجميع وهي تشير إلى الساعة التاسعة والنصف، والحاج ماضي عابس وكأنه زمن مركون في خانات الماضي، ويستطرد عرفان قائلاً:

ـ أصبحت أحلم، وأحلم، فكلما عشت حلماً "جديداً"، أجده وللأسف لا يتحقق فأعمل على ركنه "جانباً"... حتى أصبح لي مكتبة أركن فيها أحلامي كل صباح كما تركن الكتب في المكتبة.

يبادره الكهل  وسيماء الشيخوخة هي التي تتحدث:

ـ حين يصطدم الناس مع الواقع تجدهم يغدون كالعيدان اليابسة وسط حقل مليء بالزهور.

يقول له عرفان وكلماته غيمة محملة بالمطر:

ـ لقد جرحت قلبي ثانية فجعلتني كالأطفال الذين يعيشون في دنيا أعاجيبهم، وفي عالمهم السحري الذي يقوده السندباد، ويضيء الدرب لهم علاء الدين بمصباحه السحري.

سعد الحاج ماضي وقد لاح على ثنايا تجاعيد وجهه أثر ألم حبيس:

ـ إن الحياة تبدأ على الجانب الآخر لليأس. أليس كذلك!

تتلألأ في عيني عرفان أضواء المصنع، وصوت ماكنة صب القوالب يصدر مجلجلاً، وإذا بعرفان كالنسر أخذ بالتحليق في دنيا أعاجيبه السحرية، فهذه المرة انساق قسراً إلى الماضي، حيث سحبته خيوط من نسيج الماضي، فجعلت هذا النسر يحلق في الأعالي ليعيش عالماً جديداً ألا وهو:

تذكر كل ماقد حل به، كل أحلامه تذكرها فسرعان ما هرب النسر، ودحر وجعه المزمن، فسيطرت عليه حالة أقوى من ترابط الزمن بعقارب الساعة الزاحفة على لوح أبيض يحمل أرقاماً تشير إلى الزمن المنقطع من أحلامنا تلك... فسعى محلقاً في الأعالي طالباً الخلاص من نسيج الماضي رغم كل أضرحة الزمن الماضي.

***

 

كلب

ثمة كلاب تستريح تحت الشمس، جراء تلاعب بعضها بلطف، كلب أحمر ذو ذراع مقطوعة، جاثماً يحاول التهام عظمة، عيناه حمراوان تدمعان جوعاً، سقط في محاولته قضم العظم، الكلاب تنظر إليه بحذر، نهض عاوياً / ثانية حاول قضمها/ سقط عاجزاً، وقف مجهداً،/ ثالثة قضمها محمحماً /سقط بعنف، ارتطم بوزه بالأرض، تركها يائساً، توقف على بعد أمتار، عاد ثانية يتأمل العظمة، انقض عليها عاوياً قاضماً بألم/ سقط بقوة/ تعثر بوزه بالتراب، ابتعد عنها وعيناه حمراوان دامعتان كمداً.

***

 

رياح

حمله القطار الصاعد من الجنوب وبين جوانحه صدى رياح ضائعة، رياح يلوك صداها وحده، وكأنه يسمع حشرجات روحه تتأهب لقضاء فرصة من الراحة فوق خلجان تحاصرها مشاعر قد سقاها إنسان يحاول أن يشق حياته كينبوع يتدفق من بين الصخور.

استقل (باسل) آخر عربات القطار وقادته ذكريات جعلته يعيش في عالم نهايته غربة وبدايته ألم. عالم لـه طعم الأحلام ونشوة الانتصار، وكأن القطار ومن في القطار أشياء لا يراها وبهذا سرح خياله بعيداً وأخذ يشق درباً وعرة موحلة. لكن! هنالك ما يجذبه ويجعله قوياً، ويصر على الاستمرار كما القطار الذاهب نحو الأمام كأفعى عملاقة لا تحيد عن سيرها.

تذكر زوجته وطفلته إذ حدث في يوم نيساني: سمع ثلاث طرقات متواصلة على باب منزله. حيث ما زال صدى الطرقات يحرك بداخله مشاعر تتمايل، وتتماوج كزوبعة من رياح تعصف بكل شيء، وتحطم كل شبابيك جسده فتؤكد بذلك شكوى مرسومة ببراعة من قبل القدر، فتح باب منزله فظهر أمامه أبوه وعلامات التعب مطبوعة على محياه، فجلس القرفصاء، وقبّل حفيدته، وقال لباسل:

ـ والله زال التعب يا ولدي.

فانتشى الزوجان السعيدان، فبادرته زوجته (لبنى) تعاضد عمها:

ـ البنون زينة الحياة الدنيا.

تنهد باسل وقال بلوعة:

ـ نعم، البنون زينة الحياة.

***

كل شيء يحمل شذاه براقاً كنجوم معلقة في شجرة عيد الميلاد، تحكي عن عالم سعيد، عن عالم صار يعبر عن صورة معاشة، وحياة لها مع كل همسة حكاية، فيسمع صوت اصطكاك عجلات الزمن والقطار وكلاهما يصارع الزمن للحصول على عوالم ليس فيها من يعد وراءك خطواتك، وصدى طرقات ملحاحة تداعب الذاكرة الندية فهرعت لبنى لفتح الباب، ودخل حميها وقد خطف لونه، تمسك باسل بالصبر، وحبس أنفاسه، وبدا يعدها كما يعد خرزات المسبحة فتذكر كلمات معلمه عندما كان غض العود يخبرهم بأن حياة كل إنسان عبارة عن طرق نحو نفسه، فقلة من البشر من باستطاعتهم معرفة أنفسهم، وكثيرون يجهلون ذلك، فينهارون بسببه. فابتسم باسل لكلمات معلمه، فتحسر بقوة وتدفق بداخله صوت الساعات، بل أيام ماضية قد ضاعت سدى:

ـ الحياة لها طعمان: جنون، وأحلام.

صوت القطار، والريح الهائجة تتصدى بعنف للقطار وللزمن معاً، فيسمع صليلها وكأنه يعيش بدوافع تنبع من إصرار يقاوم ساعة وأخرى يندفع نحو سكون الليل، سكون ذلك العالم الصعب الذي يهابه الصغار بالتحديد، ولـه طعم الشهد وحلاوته كحلاوة الطفولة وهي تبتسم للحياة بملء شدقيها، فسرقته من هذه اللحظات  الممتعة طرقات أخرى يتذكرها الآن جيداً. طرقات قوية ومندفعة يكاد باب الدار يتحطم من قوتها، فهرع باسل لفتح الباب وكأنه يعلم في دواخله بأن الطارق شخص يعرفه. فإذا بكبش أبيض ضخم يصارع الباب بقرنيه الكبيرين، فدخل إلى باحة المنزل وبدأ بالثغاء.

***

 

المدينة

الصراخ

حفاة، مجانين، بائسون، متسولون، يطلبون الصدقات من المارة في معبد الشمس. صراخهم يجثم فوق أكتاف الهواء، تجدهم أمام كل : ضريح، مرآب، مطعم، وبجانب بائعي السكائر يصرخون:

ـ لله يا سماسرة... لله يا سماسرة، وحدة شفيعكم يا سماسرة.

فتاة تحترف التسول، شعثاء الشعر، بعينين صفراوين حولاوين، تصرخ بدأب:

ـ من كروشكم المباركة تصدقوا بلقمة على جائعة... لله يا أصحاب الكروش المباركة... الله!

الليل خزانة حديدية كبيرة، فيها يدخر المتسولون البائسون، والحفاة الجائعون/ آهاتهم، أحزانهم، آلامهم، يعدونها كدنانير من ذهب، بعدها، يتضاحك المتسولون عندما يتذكرون الفتاة الحولاء وهي تصرخ في المارة:

ـ بارك الله بكروشكم الكريمة لقمة لمحتاجة؟!

خيط الغش

يتقدم زعيق الباعة ضجيج الناس المتسوقين، تهيأت أواني الباعة ذوات الحديد الصدئ، لاستقبال ولادة الدنانير وهي تخرج من أرحام جيوب المتبضعين، تسقط الدنانير في الأواني، وهي ما زالت تتنفس وجع عدها مراراً، زعقت امرأة بوجه أحمر متورد، تروج لبضاعتها:

ـ حمراء يا طماطة... حمراء!

تخاطف من أمامها صبيان يركضان، وكل واحد منهما يمسك بيده أكياس النايلون، يتدافعان على زبون طلب شراء كيس واحد، ازداد احمرار وجه المرأة، وهي تتابع عراك الصبيين، هبَّت من مكان تفرجها إثر صراخ أحد الباعة بصوت خشن أنهكه التدخين:

ـ صديق العائلة... حلو يا أسود... يا أحلى صديق.

عيناها العسليتان، تتدافع منهما بروق الجشع، شاهدت رجلاً بلحية يقف أمامها، تغامزت عيناها طمعاً، هتفت بصوت مرحب:

ـ أهلاً ومائة أهلاً، الطماطة اليوم حمراء كخدود العروس، كم كيلو تريد؟

عز على الرجل أن يخذلها، قال بلهجة مدير مدرسة ابتدائية:

ـ أهلاً وسهلاً... كيلوان.. رجاءً أريدها بلون الدم.

رفعت عينها اليسرى، دعكتها بأصابع وسخة، تمتمت بلهجة تلميذ مجتهد:

ـ تؤمر "ماء عيني"! والله كلها مثل الورود.

حدق الرجل الملتحي في الميزان مرتعباً، غير مصدق، أحس بأن المرأة تخدعه، ضرب كفة الميزان النحاسية بعنف، فتساقط مابها، تكلم وهو يهز يداً متوعدة:

ـ أتغشين يا...!!

تدافع الناس لسماعهم سباب الرجل، وتساءل بعضهم، بينما استغل الصبية هذا الشجار ليسرقوا جيوب الغافلين، احتقنت عروقه، وعيناه واعيتان لهول ما يشاهد، صرخ بها بعدما أزاح عباءتها عن قدمها اليسرى:

ـ أيتها اللصة! انظروا هذا الحبل الرفيع، يا ناس... شاهدوا آخر ابتكار للسرقة.

تدافعوا كأمواج نهر يجري بين ضفتين ضيقتين، تساءل أحدهم:

ـ كيف ذلك بالله عليك؟

ازداد وجهها حمرة، اكتست بملامح البراءة فجأة، وبدا حنكها بوشمه النجمي جميلاً، قال بنبرة احتجاجية:

ـ ربطت هذا الحبل بكفة الميزان أسفل الجهة التي توضع فيها الخضراوات، ونهايته الأخرى بإبهام قدمها، وقد غطته بعباءتها.

تصارعت كلمات المتسوقين في التسابق، بقذف المرأة بأشنع الأوصاف، لكنها استأنفت صراخها ببرود، وتلافيف وجهها السمين تتلبد فوقه غيوم الخديعة، تصيح:

ـ حمراء يا طماطة... حلوة يا طماطة...

الطعنة

تهيأت نفوس الناس لاستقبال شهر رمضان المبارك، كاستعداد الصحراء لاستقبال هطول الأمطار، تخثرت السماء بالغيوم، احتجبت الشمس في قمقمها، تسارعت خطا الناس في العودة إلى منازلهم، وصل أسماع المارة وهم يخترقون باب الدار، عويلها يرتفع طاعناً رحم السماء أثناء ولادتها المطر. تساءل الناس:

ـ ماذا حصل؟

ضاع سؤالهم، إثر مشاهدتهم: رجلاً أسود البشرة، عمره نيف وخمسون، مسجى على الأرض الاسمنتية والدماء تسيل من عنقه المخروق بخنجر يماني مقبضه من عاج، صرخت العجوز منبهة مستغيثة:

ـ أمسكوه... أمسكوا بقاتل أبيه.... ي.... و..... ي..... ل..... ي......

تقادحت الغيوم، إثر طعنها بصرخة المرأة المدوية، أمسكوا بالشاب ذي البشرة السوداء، عض شفته المتهدلة السفلى بمرارة، تأوه، وعيناه حمراوان تحدقان في عيني أمه العجوز، تساءل أحد الشيوخ:

ـ ماذا حصل؟

غامت عيناها بسحابة من الدموع، فأمطر لسانها بدل عيونها كلمات مؤلمة:

ـ لقد بعنا بعضاً من أغطيتنا الشتوية من أجل شراء: رز، طحين، بقوليات وسكر، استعداداً لشهر الطاعة والغفران، أخذ زوجي المبلغ ليشتري المواد الغذائية، بعودته من السوق جلب لنا يا ويلي... يا ويلي..

فرغت من عويلها، وقالت بنبرة تتمزق فيها الخيبة وجعاً:

ـ جلب قناني خمر! قناني عرق، ونحن جياع...؟ ولهذا تشاجر ابني مع أبيه غيظاً لصنيعته الشنعاء، فطعن أباه بالخنجر... يا ويلي...

اصطفقت الأكف مع بعضها تعلن أسفها، وبصبر تهيأت النفوس لاستقبال عيد الفطر المبارك.

الأكفان

الناس في سوق الهرج، تلتصق، كالكف على الكف، علت أصواتهم تختلط مع هدير رتل من السيارات تشيع جنازة بزعيق منبهاتها، حدق رجل ذو شارب كبير يصل حد حنكه، تساءل في ذات نفسه:

ـ من أين حصلوا على الكفن؟ رغم أنني جمعت أكفان المدينة كلها!!

تدافعت الأجساد، تشابكت الأصوات مختلطة بضجيج الباعة وهم يروجون عن بضائعهم، نزلت الشمس إلى وسط سوق الهرج، تحرق بأشعتها جباه الباعة، علا صوت الرجل ذو الشارب العظيم:

ـ أكفان.. أكفان للمزاد.

تجمع المزايدون، أنفاسهم زنخة، عيونهم لائبة، أفواههم شرهة، استمر الدلاّل يجعجع:

ـ من يفتح المزاد؟ أكفان صنعت بأيد ماهرة من أرقى الأقمشة المستوردة، من يزايد؟ من؟ هتف رجل بكرش كبير: لماذا نزايد على الأكفان؟

صرخ الدلاّل.

ـ كلنا ميتون كلنا آثمون، لهذا نحتاج إلى الأكفان في الوقت الحاضر!

عقب أحدهم معلقاً:

ـ نذهب إلى جهنم بأبهى كفن. يا آثم!

انطلقت صرخات ضاجة من أفواههم الذئبية، هتف رجل أصلع بكرش عظيم:

ـ ألف دينار.

اهتز الشارب الفرشاتي إثر زعقة صرخ بها فمه:

ـ ألف دينار... من يزايد؟ ها... ألف دينار... من يزايد؟

ساد الصمت ، صرخ الدلاّل مباركاً:

ـ مبارك عليك الأكفان.

تراجعت الشمس متعبة، تسابق الناس للتحلق حول ذي الكرش الكبير، وهو يعلن عن افتتاح مزاد ثانية.

ـ أكفان، أكفان للمزاد من يزايد؟ أكفان للسماسرة بتشكيلات متعددة!!

الراية:

فكت الطلاسم، أضيئت قناديل سحرية، انبثق منها النور خافتاً، حشد من المجانين يخرجون من أزقة مدينتنا الضاربة في الحزن، يمسكون بأيديهم المتشققة أغصان الرمان، ملفوفة عليها خرق خضر، تدافعوا يرفعون راياتهم الخضر، وحناجرهم مراجل تطبخ الكلمات، صائحين:

ـ لايوجد حظ... لا يوجد حظ!

ظهر للقمر أربع وأربعون قدماً، حملته بعيداً... بعيداً، تلوى صوت الفتاة المتسولة، تنتف شعرها الكث، وعيناها الحولاوان ضائعتان في تحديقهما نحو الأجساد المجنونة، تصرخ بصوت يرغي في الهواء بؤساً:

ـ الحظ... الحظ موجود في كروش السماسرة!!؟

***