يصور القاص المصري في نصين حال البشر، شأنهم الوجداني في الأول معطياً للمشاعر وجودا محسوساً من خلال حركة الناس وما يرتسم على قسماتهم من انفعالات، وفي الثانية عن شأن اجتماعي يتعلق بقيادة الحياة الاجتماعية في قرية والصراع بين الأخيار والأشرار.

قصتان

سـمير المنزلاوى

 

1- لا أحد
اثر شفائي من مرض عضال ، صرت أرى الحزن والفرح بعيني .

الحزن يمرق ويدخل كالمكوك ، دخانا أسود . رائحته تشبه رائحة طعام فاسد ، أو قمامة مختمرة!

يتنقل بين العمارات ، بلا توقف . حين يهبط بعض السكان ، ألمحه  يصحبهم ناشبا مخالبه في قلوبهم . يعود فيتسلى بهم في الغرف والصالات والحمامات!

تنكشف لي توا أسباب إقامته في المكان : صدمة ، فشل ، فاقة ، فقد !

يحرك لسانه يمينا ويسارا ليسخر منى ، لكنني أتماسك ،

 و أوبخه :

  • كيف تسول لك نفسك ، أن تتقوت بالألم ؟

يزمجر كالرعد ، ويحاول أن يدخل عيني ! أغمض و أبتعد .

أما الفرح فيخرج نسيما أزرق هادئا ، برائحة زهر القرنفل!

لكن أسبابه تحجب عنى !

 يغيب طويلا في نزهات بعيدة ، ثم يتلكأ في العودة! ألوح له مستحثا ، فينظر لي بدهشة ، أطمئنه :

  • إنها إحدى نعم الله على .

منذ أسبوعين ، يحتلني ذلك الدخان الأسود الذي ينبع من جميع منافذ العمارات .

 يغزو مسالك جسدي بقذارته و عويله . سرت محاولا سد أنفى حتى الاختناق!

في عيادة الطبيب ، اعترفت له بما أعانى :

- أسبوعان يا سيدي أتنفس السخام ، وتمتلئ ذاكرتي بالكوارث !لا أثر للنسيم الأزرق .

- جرب منطقة أخرى ! ولا تذكر ذلك للعامة !

غرقت بعيدا في قاع المدينة أسبوعين آخرين ، نكهة الطعام الفاسد والقمامة المختمرة في كل مكان . تمرق لتتجمع فوق البيوت .

 تتداخل في دوائر كما يتداخل الجن وقت التلذذ !تعود على الفور ،لتنشب مخالبها في قلوب الناس !

أجلس في مدخل عمارة حديثة . أفرغ معدتي بعنف .

من نافذة عالية مغلقة ، لمحت النسيم الهادئ ينسل أنيقا ، معطرا .

أفقت قليلا ، أردت معاتبته :

- ما أقل مكثك !

مضى في جلال . تابعته بعيني وهو يبتعد . كانت آثار عطره ترد روحي .

أتقيم في تلك الشقة العالية ، دون بقية المدينة الفسيحة؟

رفعت بصري . النوافذ مغلقة ، وكذلك الشرفات .

لابد من رؤية سكانها !إنهم كنز .

سأصعد على قدمي مسترشدا بالرائحة .

أمام الشقة وقفت مبهورا . دقائق مرت ، حتى استجمعت شجاعتي وقرعت الجرس .

يأتيني صوت الرنين في الداخل ، متواصلا يجلجل . إصبعي أصابه الخدر .

أردت أن أنصرف ، لا أستطيع !

بدأت أضرب الباب بقبضتي ، ثم بقدمي حتى ارتعش . الصوت الأجش المكتوم ، يتبدد في بحيرة الصمت . أعصابي خيوط مشتعلة .

أركله بكل قوتي :

- يا من هنا !

 

 2- الذي شبع
في صبيحة يوم انتخاب العمدة ، خرجت القرية كعادتها لتعيد الحاج فرج إلى منصبه .

كان دائما رحيما فزوج اليتيمات ، وحازما فجلد السراق ، وعادلا فطرد بسيونى عامر لنجاسة ذيله.

لم يعر الناس اهتماما لعبد العال الذي ينافسه . قالوا كيف لجربوع عاطل أن يتجرأ على الرجل الصالح ؟

القرية بأذنها الكبيرة كأذن الفيل ، سمعت أن بدر الشباسى هو المحرض .

 انهالت سبا على الذي شبع بعد جوع ، ثم أعطى المال للشر، ولقن الجربوع كلاما يقوله.

ومع ذلك استمر المنافس يطوف الشوارع بحملته ، ويرفع صوته النحيل كصوت العنزة :

  • جربوني ، لن أجلد أو أطرد ، كل شئ بالقانون .

القرية بمخلوقاتها أمام اللجان . خرجت الجلاليب الصوف والملافح المدخرة والأحذية اللامعة . هلت أيضا روائح صابون وعطور.

يدخل الرجال وراء الستار ، تطالعهم صورة الحاج ، بجلبابه الكشمير ، وعمامته البيضاء . الصورة صغيرة ، لكنه ينظر إليهم ، ويبتسم لهم ، خاصة من لم يسرق أو ينجس ذيله .

يضعون العلامة أمامها ، ويهرعون إليه :

  • مبروك مقدما يا حاج .

يمد يده بود ، ويأتي الشاي . يحاول بعضهم التودد بمهاجمة الخصوم .

تظهر في وجهه الرحمة التي زوجت اليتيمات ، يقول :

  • من حق أي واحد فيكم أن يترشح أو يرشح غيره !

بعد قليل جاء عبد العال برفقة أخيه وابن عمه ولمة عيال . تجنب الواقفون مصافحته فغمغم بمرارة :

- تعودتم على الذل !

ودخل ليدلى بصوته . لم تمض لحظات حتى خرج صارخا كالمحروق :

  • الحقونى يا خلق ، الحقونى يا ناس !

أسرع أخوه يحتضنه، ويتحسس سكينا في جيبه ، تجمع حوله العيال:

  • هل اعتدى عليك أحد ؟

الآذان كلها بحجم آذان الفيلة ، والعيون تركزت على شفتيه المرتعشتين وهو يحشرج :

- نسيت وانتخبت الحاج فرج !