1- لا أحد
اثر شفائي من مرض عضال ، صرت أرى الحزن والفرح بعيني .
الحزن يمرق ويدخل كالمكوك ، دخانا أسود . رائحته تشبه رائحة طعام فاسد ، أو قمامة مختمرة!
يتنقل بين العمارات ، بلا توقف . حين يهبط بعض السكان ، ألمحه يصحبهم ناشبا مخالبه في قلوبهم . يعود فيتسلى بهم في الغرف والصالات والحمامات!
تنكشف لي توا أسباب إقامته في المكان : صدمة ، فشل ، فاقة ، فقد !
يحرك لسانه يمينا ويسارا ليسخر منى ، لكنني أتماسك ،
و أوبخه :
- كيف تسول لك نفسك ، أن تتقوت بالألم ؟
يزمجر كالرعد ، ويحاول أن يدخل عيني ! أغمض و أبتعد .
أما الفرح فيخرج نسيما أزرق هادئا ، برائحة زهر القرنفل!
لكن أسبابه تحجب عنى !
يغيب طويلا في نزهات بعيدة ، ثم يتلكأ في العودة! ألوح له مستحثا ، فينظر لي بدهشة ، أطمئنه :
- إنها إحدى نعم الله على .
منذ أسبوعين ، يحتلني ذلك الدخان الأسود الذي ينبع من جميع منافذ العمارات .
يغزو مسالك جسدي بقذارته و عويله . سرت محاولا سد أنفى حتى الاختناق!
في عيادة الطبيب ، اعترفت له بما أعانى :
- أسبوعان يا سيدي أتنفس السخام ، وتمتلئ ذاكرتي بالكوارث !لا أثر للنسيم الأزرق .
- جرب منطقة أخرى ! ولا تذكر ذلك للعامة !
غرقت بعيدا في قاع المدينة أسبوعين آخرين ، نكهة الطعام الفاسد والقمامة المختمرة في كل مكان . تمرق لتتجمع فوق البيوت .
تتداخل في دوائر كما يتداخل الجن وقت التلذذ !تعود على الفور ،لتنشب مخالبها في قلوب الناس !
أجلس في مدخل عمارة حديثة . أفرغ معدتي بعنف .
من نافذة عالية مغلقة ، لمحت النسيم الهادئ ينسل أنيقا ، معطرا .
أفقت قليلا ، أردت معاتبته :
- ما أقل مكثك !
مضى في جلال . تابعته بعيني وهو يبتعد . كانت آثار عطره ترد روحي .
أتقيم في تلك الشقة العالية ، دون بقية المدينة الفسيحة؟
رفعت بصري . النوافذ مغلقة ، وكذلك الشرفات .
لابد من رؤية سكانها !إنهم كنز .
سأصعد على قدمي مسترشدا بالرائحة .
أمام الشقة وقفت مبهورا . دقائق مرت ، حتى استجمعت شجاعتي وقرعت الجرس .
يأتيني صوت الرنين في الداخل ، متواصلا يجلجل . إصبعي أصابه الخدر .
أردت أن أنصرف ، لا أستطيع !
بدأت أضرب الباب بقبضتي ، ثم بقدمي حتى ارتعش . الصوت الأجش المكتوم ، يتبدد في بحيرة الصمت . أعصابي خيوط مشتعلة .
أركله بكل قوتي :
- يا من هنا !
2- الذي شبع
في صبيحة يوم انتخاب العمدة ، خرجت القرية كعادتها لتعيد الحاج فرج إلى منصبه .
كان دائما رحيما فزوج اليتيمات ، وحازما فجلد السراق ، وعادلا فطرد بسيونى عامر لنجاسة ذيله.
لم يعر الناس اهتماما لعبد العال الذي ينافسه . قالوا كيف لجربوع عاطل أن يتجرأ على الرجل الصالح ؟
القرية بأذنها الكبيرة كأذن الفيل ، سمعت أن بدر الشباسى هو المحرض .
انهالت سبا على الذي شبع بعد جوع ، ثم أعطى المال للشر، ولقن الجربوع كلاما يقوله.
ومع ذلك استمر المنافس يطوف الشوارع بحملته ، ويرفع صوته النحيل كصوت العنزة :
- جربوني ، لن أجلد أو أطرد ، كل شئ بالقانون .
القرية بمخلوقاتها أمام اللجان . خرجت الجلاليب الصوف والملافح المدخرة والأحذية اللامعة . هلت أيضا روائح صابون وعطور.
يدخل الرجال وراء الستار ، تطالعهم صورة الحاج ، بجلبابه الكشمير ، وعمامته البيضاء . الصورة صغيرة ، لكنه ينظر إليهم ، ويبتسم لهم ، خاصة من لم يسرق أو ينجس ذيله .
يضعون العلامة أمامها ، ويهرعون إليه :
- مبروك مقدما يا حاج .
يمد يده بود ، ويأتي الشاي . يحاول بعضهم التودد بمهاجمة الخصوم .
تظهر في وجهه الرحمة التي زوجت اليتيمات ، يقول :
- من حق أي واحد فيكم أن يترشح أو يرشح غيره !
بعد قليل جاء عبد العال برفقة أخيه وابن عمه ولمة عيال . تجنب الواقفون مصافحته فغمغم بمرارة :
- تعودتم على الذل !
ودخل ليدلى بصوته . لم تمض لحظات حتى خرج صارخا كالمحروق :
- الحقونى يا خلق ، الحقونى يا ناس !
أسرع أخوه يحتضنه، ويتحسس سكينا في جيبه ، تجمع حوله العيال:
- هل اعتدى عليك أحد ؟
الآذان كلها بحجم آذان الفيلة ، والعيون تركزت على شفتيه المرتعشتين وهو يحشرج :
- نسيت وانتخبت الحاج فرج !