الموتى لا ينتحرون رواية جديدة للكاتب سامح خضر، تناولها نادي حيفا الثقافي والمجلس الملي الأرثوذكسي الوطني حيفا، بتاريخ 9-7-2016 في قاعة كنيسة القديس ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور من الأدباء والمثقفين والمهتمين والأصدقاء، وقد رحب المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي بالحضور، ثمّ تولت عرافة الأمسية الشاعرة ليليان بشارة منصور، وتحدث عن الرواية كل من د. راوية بربارة والكاتبة هيام أبو الزلف، وكانت مداخلات من الحضور لشيخنا الأديب حنا أبو حنا، والكاتبة الإعلاميّة سعاد قرمان، والمحامي حسن عبادي، ود. إلياس زيدان، وأنور سابا، وسلمى جبران، ومحاورة قصيرة أجرتها خلود فوراني سرية، ثم تحدث الكاتب سامح خضر وشكر الحضور والقائمين على تنظيم الأمسية، وفي نهاية اللقاء تمّ توقيع الرواية والتقاط الصور التذكارية!
مداخلة د. راوية بربارة: مساؤكم عابقٌ بالحياة، ليس لأنّ الموتى لا ينتحرون، بل لأنّ الأحياءَ منّا يعرفون بأنَّ الحياةَ أثمنَ مِن أن نُقايضَها بالموت، فعلى هذه الأرض نبضٌ مستمرٌّ للحنين إلى رائحةِ البيتِ والأهلِ والترابِ الذي سِرنا عليه حفاةً أوّل مرّة، وللقلوبِ التي تنبضُ فرَحًا حين رؤيتنا، فالموتى لا ينتحرون.. عنوان ملخّصٌ، كشَفَ لنا فيه سامح خضر حقيقةً نعرفها، مفادها أنّ الموتى ليس باستطاعتهم الانتحار، لأنّ الانتحارَ يعني مفارقة الحياة، والموت هو مفارقة الحياة، فكيف يمكن لفاقد الحياة أن يعطيها الحقَّ في الانتهاء؟ هذه مفارقة لا تتمّ إلّا إذا كان أحدُ المعاني مواربًا، فالموتى ليسوا أمواتَ الجسد، إنّما هم موتى الروح "ربِّ أرِني كيف تحيي الموتى"، فالموتى كلمةٌ تستعمل لمن مات حقيقة بخروج الروح من الجسد، وأبطال الرواية ماتت أرواحُهم، فما نفعُ الجسد إذا انتحر؟ هل يُقدِم الميّت على الانتحار إلّا إذا كان جسدُهُ حيًّا؟ وهذا يعني بأنّ الموتى في العنوان هم أحياء، وهذا الميّت الحيّ عبارة عن أوكسيمورون، إردافٌ خُلُفيّ كصوتِ الصمت، والنهار المعتم، والمنتحر الذي لا ينتحرُ. إذًا؛ نتوقّع أنَّ الروايةَ تقوم على التضادّ، وأصعب ما في التضادّ أن يكونَ بينَ الشيءِ وذاتِهِ، أن تكونَ ميّتًا وأنت على قيد الحياة، أن تكونَ منتحرًا وأنتَ ممّن لا يستطيعون الانتحارَ، أن تكونَ أنتَ ولا أنتَ!
العنوان ملخّصٌ، لأنّه أنبأنا أنّ شخصيّاتِ الرواية عانتْ مأساةً صعبة، أفقدتهم قيمةَ الحياة ومعناها، فما الذي منعهم مِن الانتحار؟ سؤالٌ يتركُ في العنوان فجوةً تحثّنا على متابعة القراءة، لسبر أغوارِ النصٍّ واكتشاف الأسباب، وبهذا يدعونا الكاتب من العنوان، لنصبحَ قرّاء مشاركين في تتبّع الأحداث، والتفاعل معها واستيعابها أو رفضِها، فيسردُ الحاضرَ متّكئًا على الماضي بكلِّ تبعيّاته، فكيف لحاضرٍ أن يقومَ بذاته؟ أليس هو محطّة آنيّة للانتقال بين زمنيْن، أحدُهما انتهى ولا خيار لنا في تغيير أحداثه، والثاني سيبدأ غدًا وعلينا أن نمسكَ زمامَ تحكّمه فينا.
سامح خضر يتّكئ على الماضي الفلسطينيّ للفلسطينيين في مكانيْن، في فلسطين وفي بيروت، ليقولَ لزمان الوهم كفاكَ بطولاتٍ، كفاك دموعًا، كفاك "ارحمنا من هذا الحبّ القاتل"، تعال افتح أوراقًا لم يجرؤ كثيرون على فتحها، وانثر لنا الخيبات والزلّات واللامتوقّع.. اكشف لنا حقائق نتغاضى عنها رغم وجودها، ونريد أن نجمّلَ لوحتنا الفلسطينيّة باسم القضيّة، ولكنّنا في الأدب وفي الفنّ لا نجمّل الواقعَ، بل نأتي به على قذارته وقبحِهِ، لنتحدّاه، لنبوحَ به فنزيل عبئًا راقدًا على صدورِنا، فكما قالت "حياة" لإياد في الرواية "أبوح لأنّ البوحَ يُصلحُ روحي" (الرواية ص. 47)، وسامح خضر يبوح في الرواية، لأنّ البوح يطهّر الفلسطينيين من الألم الاجتماعيّ النفسيّ السياسيّ المَعيش، ليقول هذا مجتمعٌ عاديٌّ على كِبَر قضيّتِهِ، هؤلاء أناس يخطئون بحقِّ بعضهم، وبحقِّ أنفسهم رغم فداحةِ ما حلّ بهم.
إنّ السببيّة التي تحكم العنوانَ، هي نتاج صراعاتٍ اجتماعيّة- سياسيّة كان سامح خضر جريئًا في طرحها، فالموت هو نتيجة، والانتحار هو السبب، لكنّنا في العنوان نجد اللانتحار، اللاسبب يؤدّي إلى نفس النتيجة- الموت؛ فيتحوّل الموت من نتيجة إلى سبب، فلأنّهم موت، النتيجة أنّهم لا ينتحرون.. هذا التبادل للإيجاب والسلب وللتضادّ وللتناقض هو قاعدة الأساس، لأحداث الرواية التي تنتفض وتسير "على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتها"؛ فرياح سفاح القربى تنعف "حياة" التي يغتصبها جدّها؛ ربيب المجتمع الذي يتعاملُ مع الناسِ بظاهرهم، والذي يرفع من شأن أناسٍ لو عرّاهم على حقيقتهم، لكان رجمهم حتّى الموت عقابًا رحيمًا.
ارتياح التضادّ في الرواية ليس في العنوان فحسب، إنّما في أسماء الشخصيّات، فشروق السوريّة قد غربت حياتها بعد أن أخذ البحر ابنَها، وأخذتِ المأساةُ زوجَها.. وتلك "حياة" عاشت الموتَ ستّ سنوات عجافٍ، لأنّ "حاميها حراميها"، لأنّ جدَّها "الموقّر" كبيرَ العائلةِ والقريةِ أرادها لنفسِهِ، لجنونِ عظمَتِهِ، لم يردعْهُ أنّها حفيدتُهُ، ولم يردعه يُتمُها، ولم يردعه أنّه اغتصبَ والدتَها قبلَها، فـــ"أمينة" الأمّ كانت أمينة على ثلاثةِ أيتامٍ تركهم "مشعل" يحترقون بنار الجدّ، كانت تخاف إن لم تلبِّ طلبَ حماها أن يقتلَها، أن يقتلَ أبناءَها، أن يحرمَها رؤيتهم، رغم أنّها كانت لابن عمّها، وأخذها الجدّ لابنه مشعل، فكانت بذلك سببًا في علوّ شأنِهِ، ثمّ بعد أن ترمّلتْ أصبحت سببًا في تسلّطِ عنجهيّته التي قوّاها عنده المجتمع، فهو سيّد البيت وحامي الحِمى، بينما أولاده كالأغلبيّة في عمرهِ، يعملون في إسرائيل لجلب القوت لعائلاتهم.
هنا، كما في كلّ الرواية يتجرّأ سامح على تعرية هذا الواقع الاجتماعيّ القذر، على تعريةِ هذا الواقعِ الفلسطينيِّ الذي لا يليق بمكافحٍ، محتلٍّ، مناضلٍ، فدائيٍّ يرى الهويّةَ الفلسطينيّةَ كفاحًا وبطولةً، كما كان يراها "إياد" الذي عاش مأساة تل الزعتر، والذي كانت تحلم أخته الصغيرة "وردة" برؤية فلسطين، فيأتيها الجواب من أمّها "حين يكبر إياد"، وقد ورد على لسان إياد عنها "أبقت وردةُ فلسطينَ حاضرةً فينا.. كانت الناطقة باسمها.. الجرَس الصغير الذي علّقه الله في رقابنا، كي لا ننسى أين نحن وأين يجب أن نكون" (الرواية ص. 21)، وردة الجرس الصغير الذي علّقه الله في رقابنا، كي لا نصبح خرافًا ضالّة، وباستشهاد وردة في تلّ الزعتر، فقدْنا البوصلةَ، وفقدْنا الحلمَ بالعودةِ إليها، فكيف سيعود إياد إلى فلسطين، والمجزرةُ تركت والدته وأختَهُ جثّتيْن منفوختيْن، وتركته في الرابعةَ عشرةَ من عمره لا مأوى له، ولا حلم إلّا السلاحَ لينتقمَ، فينضمّ إلى المقاومين بعد أن أخذ سلاحَ مقاتلٍ قد قضى، وتتتالى عليه الخيبات، لتكونَ أصعبها حينَ حُمّلَ بالسفينة للخروج من بيروت، وهنا ذكّرني المشهد الروائيّ بمقطعٍ من قصيدة لمحمود درويش، قصيدة "يأس الليلك": تذكرْتُ أنّي تذكّرْتُها يومَ مالَ الحديدُ عليَّ ومالَ الزبدْ/ إلى أينَ يا بحرُ؟ لي إخوةٌ من نحاسٍ، ولي لغةٌ مِن جَسدْ
وتتتالى الخيبات على إياد، فقدُهُ لأمِّهِ، فقدُهُ لأختِهِ وردة، فقدُهُ للسلاح وقد نشأت بينهما علاقة أبوّةٍ، المجزرة، الخروج من بيروت، من اغتراب الاغتراب عن الوطن الأمّ إلى ألمانيا، ليصبحَ إنسانًا مهشّمًا مهمّشًا، فها هو حين وصوله يصيح في شواره ألمانيا "أنا فلسطينيّ، أنا فلسطينيّ من بيروت"، لكنّ أحدًا لم يأبه ببالون البطولةِ المنتفخِ..أحدًا لم يعبأ بالفلسطينيّ ونضاله وحياته وموته وبقائهِ ورحيلهِ، فانفجرَ هذا البالون وتطايرَ الوهم، ليصبح إياد في عداد الموتى الذين لا ينتحرون، الموتى الذين يجمعهم القاسم المشترك "الخذلان من الدنيا" (الرواية ص. 20)، "يجمعهم الموتُ الصغيرُ المتكرّرُ الذي يُعطّلُ فكرةَ الانتحار" (الرواية ص. 66).
إنّ فضاءات البوحِ في الروايةِ تفقأ الوهمَ الفلسطينيَّ المترنّحَ على حدود الخيبات، وعلى حدود البطولات، وعلى حدود من ضحّوا بحياتهم، وأولئك الذين بقوا على قيد الحياةِ يعاينهم الموتُ، "لأنّ الألم الأكبر أن نظلَّ أحياء ونرى الحلم يتبدّد" (الرواية ص. 99)
وسامح خضر بجرأته ربّتَ على كتف مآسينا وأحزاننا، وأيقظنا من حلمنا الفلسطينيّ الفاتح نوافذَهُ على العالم الخارجيّ، وقال قوليْن:
أوّلهما: الفلسطينيّ بمجتمعه المنغلق نحو ذاته هو إنسان، تحكمه كلّ المنازلات والمآسي والمصائب والأفكار والهواجس التي يمكنها أن تحكم أيّ إنسان، على اختلاف جنسيّته وتاريخه وجغرافيّته.
وثانيهما: إنّ وهمَ البطولاتِ الفلسطينيّة لم يرفعنا إلى مصافّ الأنبياء، الأتقياء، الأولياء.
إنّ فضاءات البوح الصريح بما حلَّ بنا، وبما يمكن أن يكبّلَ حاضرنا، تلك الفضاءات لا يمكنها أن تتمّ إلّا بأمريْن تصرّح بهما الرواية وتعتمدهما:
أوّلهما: أن نبتعد جغرافيًّا عن موقع الألم، عن القرية، عن بيروت، عن فلسطين، لنتمكّن من الهروب من القيود الاجتماعيّة التي من الصعب كسرُها، والتي تكبّل أوتارَنا الصوتيّة والعقليّة فنخشى البوح، لذا كان هروب شروق من بحر سوريا، وهروب إياد من وهم البطولات، وهروب حياة من المجتمع الفلسطينيّ الرافض للتصديق بأنسنة القائد الاجتماعيّ وغيرهِ.
ثانيهما: أن نستدعيَ الماضي "لنرى جروحنا ونلمسها، نلمسَ جروحَنا حتّى نُشفى منها، فلا شفاءَ لجرحٍ لا نلامسه بأيدينا" (الرواية ص. 55)
إنّ فضاءات البوح في الرواية لم تعتمد المجاز اللّغويّ والتورية، قدر اعتمادها المجاز الطرحيّ لقضيّة نخبّئها تحت سَجّادة المجتمع فتركها قذارةً نتكتّمُ عليها. فضاءات البوح في الرواية اعتمدتِ المسرحةَ بلا خلفيّات وتقنيّات لأنّ التبئير كان على الشخصيّات بحركاتها ومشهديّتها فتداخلت أصوات الرواة وتبدّلت بين المشاهد وأحيانًا في نفس الجملة، للتأكيد على جماعيّة الموتى الذين لا ينتحرون، فها هما إياد وحياة في مشهديّة رسيس الحبّ وبداياته يتناوبان ويتبادلان إتمام الجمَل "قبلكَ كنت ياااوحدي..معكَ صرتُ في حضن الدنيا، أراكَ أوّلَ رجلٍ على الأرضِ.. أراكِ آخرَ امرأةٍ في الخلق" (الرواية ص. 28)، وهكذا بهذه التبادليّة تتحرّر الرواية من صوتٍ واحدٍ للسارد، فيتناوب السرد صاحبَ الشأن ذاك الميّتَ الذي لا ينتحر لأنّ فضاءات البوحِ في الرواية انفتحت على نافذتين: أوّلهما: مواجهة أنفسنا
وثانيهما: مواجهة المجتمع، وهذا ما فعله إياد بعودته إلى فلسطين، إلى قرية حياة ليحاسب جدّها على فعلته، ليبرّئ ساحةَ حبيبته، ليواجه الموتَ بصدماتٍ كهربائيّة، علميّة، أخلاقيّة، وليقول للفساد كفى، لم يذهب دمنا هدرًا، سنواجه كلّ فسادٍ في هذا المجتمع لنطهّره منه، ولا حاجةَ لأربعةِ شهودٍ لنثبتَ الجرمَ المشهودَ من الضحيّةِ، علينا أن نلملم جراحنا ومداويها، لا أن نتركها تنزّ وتقيح. علينا ألّا نُقتَلَ قربَ البئرِ، بل أن نحاكمَ المسؤول المجرمَ، وننشلَ ماءَ الحياةِ من بئر محبّتنا.
مداخلة الكاتبة هيام ابو الزلف: لقد وقفت على عتبة النّص طويلا، حتى قبل أن أزيلَ النايلون عن الرّواية، وقد حمّلتها في البداية دلالاتٍ سياسيّة وتساءلت: أهي دعوة إلى الانتحار، وعلى هذه الأرض ما يستحقّ الحياة؟ الموتى لا ينتحرون، لم يخلّصني من تفكيري المسبق إلا قراءة الرواية الّتي لم أدعْها إلّا في ختامها، وقد وجدت متعة في قراءتها، وكنت في غاية الامتنان لهذا الأديب الّذي أتاح لي أن أستقطع وقتًا ذا جودة في هذا الزّمن الرّديء.
الشخصيّة المركزيّة في القصّة هي "حياة" (اسمها يُشكّلُ مفارقة كبرى)، شابّة فلسطينيّة في العشرين من عمرها، أصبحت يتيمة الأب وهي في السّادسة من عمرها، تنتقلُ مع والدتها وأختها سناء وشقيقها حسن إلى بيت جدّها مختار القرية وأحد وجهائها.
حياة ولدت لعائلة ميسورة الحال نسبة إلى بقيّة الأسر في القرية، وفي ليلة شديدة البرودة يوقظها جدّها، يزوّدها بجواز سفر، ويَطردها من بيته. لم تحاول أمّها المغلوب على أمرها ثنْي الجدّ عن قراره. بعد تسع سنوات من التعلم والعمل في برلين، تلتقي بإياد، وهو شابّ فلسطيني مغترب، يقعان في الحبّ ويتزوّجان، بعد أن يسرد كلّ للآخر بعضًا من خلفيّته، وما دفعه إلى الهجرة.
في القصّة شخصيّة مساعدة ذات أهميّة، هي صديقة حياة السوريّة "شروق" التي كانت لها سندا ومعينًا على التّأقلم في بلاد الغربة، وكان لها الدور الأكبر في تعارف حياة وإياد، الشابّ الفلسطينيّ الذي يجد نفسه في برلين وهو في الثامنة عشرة، بعد خروجه مع من خرجوا من الفصائل الفلسطينية من بيروت، بعد أن فقد أمّه وشقيقته وردة ابنة السابعة تحت أنقاض بيتهم في تل الزعتر جراء القصف، فيُقسم أن ينتقم، وينضم إلى صفوف المسلحين في فتح بعد ثلاث سنوات من استشهاد أمّه وشقيقته، أي وهو في سن الرابعة عشرة من عمره.
مع أنّ الرواية اجتماعيّة بامتياز، لم يكن بالإمكان تحييد السّياسة التي هي جزء يولد مع كلّ فلسطينيّ. "وردة ابنة السابعة تقول لأخيها ابن الحادية عشرة: بدّي اياك تكبر بسرعة يا اياد، منشان ترجع لفلسطين. امي بتقول إنّا راح نرجع لفلسطين. هنا تكمن مأساة شعبنا الفلسطيني، فكل الشعوب يحتويها وطن، إلا الفلسطينيين يحتوون وطنا لا يبرح ذاكرتهم الجمعيّة الّتي تتوارثها الأجيال. "بضمانات أمريكيّة يا رفيق"، جملة ردّدها أحد النّاجين من مجزرة تل الزعتر، يقصد أنّ أمريكا ضمنت للفلسطينيين منع اجتياح الكتائب للمخيمات الفلسطينيّة، وكم كان هذا الضّمان محدودا."
إياد يبدأ بتعلّم اللغة الألمانية ويكتسب شهادة جامعيّة، ويعمل في مصنع للملابس الرياضية، وعندما التقى بحياة كان في ال 35 من العمر، وقد تبلورت شخصيّته كأيّة قطعة فحم يحوّلها الأتون إلى ماسة نادرة وغالية، فقد جعلت التجارب من إياد إنسانًا واعيًا متفهّمًا قادرًا على الاحتواء، ممتنِعًا عن محاكمة الآخر، قادرًا على إيجاد المسوّغات لغيره كما نفسه، وهو أمر في غاية الأهمّيّة، وصبورًا على صدّ حياة له، فلم يأخذ حقّه الشّرعيّ عنوة، إذ أرادها زوجة شريكة، ما جعله بعيدًا عن الرجل الشرقيّ النمطيّ، الذي قلت له ذات خاطرة: أشفق عليك أيها الرجل الشّرقيّ النّمطي، أيّها الْأرمل الأبديّ، الذي يمضي حياته بدون زوجة.. بدون حبيبة."
أمّا شروق فلها خلفيتها الخاصّة ومأساتها الّتي دفعتها إلى الهجرة، فقد تعرفت إلى زوجها د. فوّاز أثناء عملها كمعيدة في جامعة دمشق، وكان كلّ شيء يَعِدُ بحياة مشتركة سعيدة متناغمة، إلى أن غرق طفلهما في البحر أثناء إغفاءة قصيرة للزوجين ذات إجازة. قصّة شروق مشحونة بعواطف ومواقف حياتيّة فلسفيّة، ومع كلّ ما مرّت به، فهي تتحلّى بروح الفكاهة الّتي ساهمت في إزالة الحرج هنا، وفي تقبل فكرة جديدة هناك.
كما أن الأخصّائية النفسية د. كلوديا التي وفرتها شروق لحياة، بعدما وجدت صعوبة في التواصل الجسدي مع زوجها، كانت شخصيّة مفصليّة، جعلت الأحداث تنعطف لصالح إياد وحياة. لولاها ما شفيت جروح حياة، ولربما ما كتب لزواجها الاستمرار، فالفصول المتعلّقة بمراحل العلاج (ص113-135)، يدرك أهميّة أن يستعين المرء بأخصائيّ نفسيّ، بعد مروره بأمور وتجارب تُخرج الأحداث العاديّة عن مسارها، ومن المهمّ جدّا أن يرصد المريض مشكلته ويحجّمها ويواجهها، وإلّا فلن يشفى، ولن يكون بوسعه إغلاق دائرة بغيضة من حياته.
إعجابي بالقصّة يعود إلى كونها تمدّ القارئ بمتع عديدة:
متعة السّرد: لم تُكتب الرّواية بترتيب زمنيّ متصاعد، بدأت بعقدة، وهناك أكثر من عقدة في الرواية، فطرد فتاة في العشرين من عمرها يضعها في مهبّ ريح المجهول، مع ما فيه من الخوف والقلق.
عنصر التّشويق: جعل للسّرد متعة، حيث لم يعرف القارئ ما حلّ بحياة وسبب طردها إلّا في فصل متأخّر. ثمّ أنّ القفزة العريضة بين الباب الأوّل والثّاني زمكانيّا، جعل القارئ مُدركًا أن ثمّة فراغات عليه تعبئتها، ولا يتمّ ذلك إلّا بالتوغل في مجاهيل الرواية.
ساهمَ في إمتاعنا اعتمادُ تقنيّة ما يسمّى بالرواية البوليفونيّة؛ أي لغة تعدُّد الأصوات، إذ تسرد كلّ شخصيّة الحدث الروائيّ بطريقتها الخاصّة، وطِبقا لخلفيّتها وتجربتها، ما يجعلنا مُتشوّقين إلى كيفيّة تفاعل الشخصيّات مع بعضها عند حدوث التقاطع فيما بينها، فهل سيكون بين الشخصيات تنافر أم انسجام؟ هل سيتغلب التآلف على التّخآلف؟ هل سينجم عن تصالب الشخصيّات ترابط أم قطيعة؟ ما هو القاسم المشترك للشخصيّات؟ في روايتنا كان الهروبُ هو القاسم المشترك الأكبر، والقدرة على تجاوز المآسي وإرادة الاستمرار هي قاسم مشترك آخر.
الفصول (3 و4 و15) هي مونولوج إياد، والفصول (19-21) هي مونولوج شروق، وما تبقى من نصيب الشخصيّة المحوريّة حياة، مع أنّي لا حظت (ص163) مونولوجًا لإياد لم يُدرَج تحت رقم خاصّ، ربّما سهوًا، أو تداخل مع مونولوج حياة. كان يجب أن يكون عدد الفصول 32 بدلًا من 31.
أذكر أن رواية قواعد العشق الأربعون كتبت بهذه الطريقة. كذلك رواية (המאהב- العاشق) للكاتب أ ب يهوشوع. من جهتي أحببت هذه الآلية التي جعلت من الكاتب راويا عليما بكل شيء على المستوى الواضح المتمثّل بالحدث، والمستوى الغامض المتمثّل بالصّراع النفسيّ والفوضى، والعبث والعذاب أو بما يعرف بـ "تيار الوعي".
بالنسبة إلى عناصر التشويق، فقد اعتمد الكاتب قرائن أثارت علامات استفهام القارئ الّذي سيكون سعيدا حين يقف على صدق تخميناته. كجملة على لسان حياة: "وجدت أمي واقفة ووجهها كوجه راهبة ضبطت وهي تمارس الفاحشة". وجملة وجهتها لشقيقتها سناء يفهم منها أن سبب طردها يتعلق بشرف العائلة وسمعتها: "لا تسمحي لأحد أن يقترب منك. لا تخافي من أحد. ولا تذْعني لسلطة تحت أيّ ظرف.". "اطمأنت أمي كثيرا لنوايا جدّي الطيّبة". "في ذكرى رحيل أبي الثّالثة، لاحظنا جميعا أن أمّي لم تعد كما كانت. قلّ حديثها، وأصرّت على أن ننام في غرفة أخرى". "كلما ناداني جدّي، تترك أمّي ما في يدها، وتنتظر حتّى أعود لتستجوبني، ماذا قال لك؟ ماذا طلب منك؟" هذه الجملة تمدّ القارئ بالقناعة أن الجدّ غير نظيف، وربما مارس الفحشاء مع كنّته، وها هي حفيدته على وشك أن تعي أنّه من مأمنه يؤتى الحذِرُ. "معلشّ، بكرة بتتعوّدي على إيد جدّك. كلماته أكّدت لي أن إمساكه بصدري لم يكن حركة عفويّة".
اعتمادُ الحوار ألقى المزيدَ مِن الضّوء على الشخصيات والأحداث التي مرت بها، كحوار إياد مع زوجته الذي شرح للقارئ طبيعة علاقة إياد برفاق السلاح قبل الخروج من بيروت إلى الشتات، وشرحُ حياة لأسباب إذعانها وأمّها للجد الّذي لم يكن يتورّع عن حرمان الأم من أولادها، وعن تهديد حياة بإلقاء جثتها عند البئر لتنهشها الضّباع، إن هي أفشت لأحد ما يتمّ بينهما، وسرّ شروق المتعلّق بفقدان ابنها، ورحيل زوجها.
متعة التخيل: مدتنا الرّواية بهذه المتعة عبر فجوات تركها الكاتب بقصد أو بدون قصد، فمعرفة تفاصيل تهريبها إلى ألمانيا كانت في الفصل (28)، والتي اعتمد فيها الكاتب تقنية الاسترجاع الفنيّ "الفلاش باك" أثناء رحلة حياة إلى الأردن، لتعرّج منها إلى فلسطين، وعدم وصف الشّخصيات وصفا حسّيًّا باستثناء إياد، أطلق لخيال القارئ العنان، فإنّ حياة وشروق مختلفتان في خيال كلّ متلق وآخر، عدا عن الأماكن كبرلين الشرقية والغربية وأماكن اللقاء، وعن صباحات فلسطين التي تشبع كلّ الحواسّ.، إذ إنّ لها روائحَ وأصواتًا ووتيرةً خاصّة.
متعة اللغة: وجدت نفسي مسحورة بالتشبيهات الدقيقة الجديدة، ووصف الحالات الشعوريّةِ والاستنتاجات العميقة الناجمة عن تجارب حياتيّة حبلى بالمعاناة، فالكاتب لم يقع في مطبّ ما أسمّيه "متلازمة أحلام مستغانمي"، أقصد أنه لم يتعب القارئ بوصف داخلي طويل، ومناجاة شعريّة تطغى على الأحداث الّتي يجب أن تتلاحق في خلفيات زمكانيّة عديدة، كما تتطلبه الرواية الّتي يجب أن تعبّر عن تجربة حياتيّة زخمة. القارئ يجب أن يلاحق الحدث بشوق: "طالت المسافة من غرفة جدّي، الخطى ثقيلة كأنها حجارة تلقى عليّ، فأصير واجهة من زجاج تتشظى إلى ملايين القطع. أشعر أن خطواتي تدوسُني وكرامتي تُدميني".
هذه الجملة دارت في رأس حياة في أعقاب قرار جدّها بطردها، ثم وهي خارجة إلى المجهول "أمسكت وحدتي من يدها، وتعلّقت بذيل جلبابي كأطفال صغار يجرهم ثوب أمّهم، ولثمت وجهي بما تبقى من كرامتي". لا أدري لم أبكتني هذه العبارة، ففيها من التعطش إلى الاحتواء والحنان ما فيها، كأن حياة تعتصر من خوائها ما يمدّها بالمناعة النفسيّة.
وفي موضع آخر: "أنا ابنة نفسي، ليس لي في الدنيا سواها، علّتي جسدي، فما استطعت يومًا أن أنزع روحي عنه لأطويه، أحفظه في مكان لا تصل إليه الأيدي". "أنظر إلى تلك الفتاة الآن، أراها هشّة صغيرة بائسة، تعلمت أن تعيش حياتَها على طريقة خبراء الاقتصاد، ممّن يضعون موازنات الدول الفقيرة. أستدين من نفسي لأغطي عجزي".
وعلى لسان إياد: "كنت أسبر أغوار حياة، كناسك يهمّ بدخول كهف ناءٍ مهجور حاملا في يده شمعة، وفي اليد الأخرى كتابًا مقدّسًا، كان حناني عليها شمعتي، وصبري عليها كتابي المقدّس".
وتداخل صوتيّ حياة وإياد في حوار صامت رائع ستجدونه ص28، "لست حبيبة سوية، لم يلتئم شملي أبدًا منذ وعيت على هذه الدنيا، قلبي أمامي، وجسدي خلفي وأنا بينهما. عشت حياتي هاربة من جسدي، ولاهثة وراء قلبي."
بعد قبلة حياة الأولى تقول: "شعرت أنني أطلّ على هاوية، رأيت فيها جسدي في القاع". ربّما هذه حالة كلّ أنثى في مجتمعنا، هل يدعُنا المجتمع نتصالح مع أجسادِنا، وهو يحقننا بعداوته باسم التابوهات التي يجب أعادة النظر في جميعها؟
لغة سامح خضر الراقية جزلة لم تمنعْه من استخدام العاميّة في الحوار. "حرام عليك يا مفتري، الإم وبنتها؟ بكفّي اللي عملتو فيّ". العامّيّة أفضت على الرواية أيضًا متعة الإيهام بالحقيقة، فالكتابة الناجحة من مقوّماتها توافر عنصر الصدق، وكأنّ الرواية واقعيّة، فأديبنا وصف البنية الأسرية الهرميّة، والمجتمع الأبويّ الذكوريّ السلطويّ، بطريقة تطابق الواقع تقريبًا، بطريقة وصف الجدّ جسديًّا، وطريقة كلامه الّذي لا يقبل النقاش، والأنثى التي لا سبيل لها إلّا الطّاعة.
(ص51): "غالبًا ما يصبح جدًّا في الأربعين، ويتوقف عن العمل، ويُرسل أبناءه إلى العمل في إسرائيل، ويَغيبون لفترات طويلة، ويبقى هو في البيت ينفق من دخل أبنائه على البيت الكبير، ويتصرّف كسلطة مطلقة في البيت، هكذا بكلّ بساطة أب شابّ، يمتلك السلطة والمال والقرار والهمّة الجسديّة وسط زوجات أبنائه. الأب مقدّس بأخطائه وكوارثه، بسوء تصرّفه بدكتاتوريّته، لو حاول الابن التحقق من الأمر، فسيُطرد من البيت ثمّ ينبذ من العائلة".
المتعة الشعورية: تتمثّلُ بالتشويق والإثارة، ونجد ذلك في الفصول الّتي تصف كيف يُنسج التّقارب بين حياة وإياد، وكيف يصف كلّ منهما الآخر من منظوره. وبعد شفاء حياة من مرضها النفسيّ، الذي انشغلت عنه في أمور تتعلق بالبقاء والحماية، يصفُ لنا الكاتب لقاءَهما الحميميّ الأوّل بعد ثلاثة أشهر من الزواج بطريقة لطيفة، ليس كما يصف يوسف زيدان العلاقة الجسديّة في كتابه عزازيل مثلا: "تتناغم أجسادنا مثل عازفيْن يقرآن النوتة الموسيقيّة نفسَها، تتصاعد وتيرةُ الّلحن بختام خرافيّ، فنرتمي وصوت لهاثنا يتصاعد. لست أدري من كان المايسترو، فلقد تبادلنا الأدوار مرارا".
الفصولُ الأخيرة في الرواية فيها إغلاق دائرة بالنسبة لإياد الّذي تأرجح بين الرجوع وعدمه، بين القبول بتسوية أوسلو وبين رفضها لأسباب مذكورة في الرواية، وكان فيها إغلاق دائرة لحياة التي عادت خائفة، لكن مع رصيد من الدعم من قبل الزوج الّذي تبين أنه زار القرية خفية أثناء فترة علاج سناء، وقد أوهمها أنه في بعثة داخل ألمانيا تتعلّق بعمله، وقد شرح لعم حياة "عبادة" الّذي صدم وبكى، ما تمّ من أبيه المجرم، وكان إياد يتوق إلى عقابه: "أنا هنا لأنتصر ولو مرّة واحدة في حياتي. أين ومتى سأحظى بانتصاري الأول، إذا لم يكن نصري الصّغير لفلسطين وفيها".
لكن عبادة يقرر أن "يلف الطابق" بمشورة المختار أبو سعيد ورجلين آخرين: "ستكون فضيحة مُدويّة، سنخجل أن نمشي في الشّارع. لن يتقدم أحد لبناتنا. لن يحدّثنا أحد. ستوصمنا القرية بما فعله أبي".
لم يشفِ الحلّ غليلي، خاصّة بعد أن قرأت الخاتمة الصادمة: "هاد السنسال لسناء. صحيح.. هي وين يمّا؟ تجوزت؟ سناء لقيناها مقتولة عند البير يمّا."
طمئنّي أديبنا، هل تفكر بكتابة الجزء الثّاني؟ أتمنى أن أرى "أبو مشعل" يُرجم حتّى الموت، بعد أن يتلقى سيلا من البصاق والإهانات. بودّي أن أرى حياة مستعدة لدفع الثّمن، في سبيل أن يصبح واقع الأخريات أفضل، ففي النهاية جميعنا يصبو إلى مجتمع سليم، ولن يكون ذلك بالحلول السياسية فقط، بل بعلاج جذري لأمراضنا الاجتماعية، وسيتمّ ذلك إذا كانت المرأة معتدّة بنفسها، لا تقبل الذّل والإهانة من أحد، ولن يتحقق الأمر والرجل لا يزال في جلباب أبيه. تلزمنا ثورة اجتماعيّة لنحقق نصرًا سياسيًّا.
مداخلةحسن عبادي: إنّ (زنا المحارم/ سفاح المحارم) هو أي علاقة جنسية كاملة بين شخصين تربطهما قرابة، تمنع العلاقة الجنسية بينهما طبقا لمعايير ثقافية أو دينية، بغضّ النظر إذا كان اغتصابا أو بالاتفاق، وعلى هذا تعتبر العلاقة بين الجد (أبو مشعل) وحفيدته (حياة) أو كنّته (أمينه) علاقة مُحرّمة .
الظاهرة منتشرة عالميًّا (وليس في المجتمع العربي فقط) و75% من الاعتداءات الجنسية تحصل داخل العائلة، والجاني قريب الضحيّة، وفي الغرب تداولها الباحثون والإعلام بصورة جديّة أكثر، ففي عام 1967حاول باحثان (آدم ونيل) أن يدرسا هذا الأمر من الناحية البيولوجية البحتة، وقاما بتتبع حالة 18 طفلا كانوا ثمرة زواج مَحارم، فوجدا أنّ خمسة منهم قد ماتوا، وخمسة آخرين يُعانون من تخلف عقليّ، وهي نسبة مفزعة، لذلك خلص هذان الباحثان أن انتشارَ زنا المحارم يمكن أن يودي بالوجود البشريّ من أساسه، وربما يكون هذا جزء من الحكمة من التحريم الدينيّ، والتجريم القانونيّ، والوصم الاجتماعي.
تناول سامح خضر موضوع زنا المحارم بجرأة، فأخذ "زيتون الشوارع" لإبراهيم نصرالله، وانتهاك جسد المرأة لتصبح الأرملة مُستباحة كركيزة، وتناول انتهاك جسد القريبة المُحرّم دون عقاب، بل والإفلات منه كما رأينا في رواية "شرفة العار" لإبراهيم نصرالله، ليبني رواية مُشوّقة تُذكّرني بلقيطة إستانبول، وقد قال محمود درويش: "أنا حيٌّ ما دمتُ أحلم، لأن الموتى لا يحلمون" ويقول سامح خضر: "الموتى لا ينتحرون".
درس سامح خضر أصولَ علم النفس وعلم الاجتماع، ليكتبَ رواية لا تصبو إلى أن تكون علميّة، بل لتلقي الضوءَ على ظاهرة اجتماعيّة مُهمَّشَة، نريد لها أن تبقى بعيدة عن الأضواء، لأنّنا نجبُن أمام أنفسنا، ونضعَف أمام المواجهة! وقد استعمل اللغة المحكيّة وأبدع في ذلك، وخفّف من حدّة وقع موضوعها، فكان موَفّقا في ذلك حين كانت لغةً عربيّة عاميّة، وحبّذا لو استمرّ في ذلك، عندما عرض إياد الزواج على حياة، عوضًا عن لغة ألمانيّة متلعثمة (ص81).
دوْرُ الأمّ "أمينه" سلبيٌّ جدّا، لأنّها سكتت وتكتّمت حين استباحها حموها، ولم تساعد ابنتها في أصغر الأمور "عندما باغتتها أنوثتها" والدورة الشهريّة، أو أكبرها حين سكتت وتكتّمت على انتهاك طفولة ابنتها حياة، ومِن ثمّ التخلّي عنها حين طُرِدت وشّرِّدت، وتصرُّفاتها أدّت إلى استباحة ووأد ابنتها الثانية سناء.
حياة تغلّبت على جدّها وفعلته النكراء، فتخاطبُ أختها: "جسدك لكِ، لا تسمحي لأحد أن يسلبك إيّاه، احتفظي به طاهرًا لزوج أو حبيب" (ص7). وتصرخ: "الغرباء دومًا أحنّ عليّ من أهلي"، وتصمد ولا تنتحر كما أرادوا لها.
الشعورُ بالذنب والعار والخجل لدى الضحيّة يمكن أن يؤدّي إلى اكتئاب شديد، وربّما يكون من مضاعفاته محاولة الانتحار. لكن، هل بإمكان الميّت أن ينتحر؟ يقول إياد: "راودتني ذات مرّة فكرة الانتحار، ولم أفلح فيها، لأنني ببساطة ميت. مُتّ يوم ماتت أسرتي، ومُت يوم ألقيت سلاحي، ومُت يوم خرجت من بيروت. ربّما عطّل الموت الصغير المُتكرّر في حياتنا فكرة الانتحار الكبيرة. الموتى لا ينتحرون" (ص 66). وحياة ماتت يوم اغتصبها جدّها، وماتت يوم طُردت من بيتها بموجب أعراف القبيلة، فكيف لها أن تنتحر؟
لسامح فلسفة وتساؤلات تجاه الدين، ولم يكن جريئًا ليُنسبها لبطلته حياة التي تؤمن بأنه "لا يُحمد على مكروه سواه"، فأوجد "شروق" لتصرخ: "لا أريد مخدّرات إلهيّة. مَن تسبّبَ في مأساتي لن ألجأ إليه ليُداويني. جئت لأحاسِب الرّبّ على ما فعلَه فيّ. لم أكذب ولم أسرق ولم أزن ولم أعصِ، لكنّه نكّل بي وأذاني. جئت لأقول له لقد خسرتَ مؤمنة، لأنّكَ خسّرْتَها ابنها الوحيد".
كتابٌ جديرٌ بالقراءة لأنه يُنذر بالعاصفة، لكن سامح لم يصرخ صرخة الضحيّة، ولم يخطُ الخطوة الضروريّة لصالحها، فلم يُحاسب الجاني وجعله يفلت من العقاب، ولم يصرخ صرخته المدويّة التي صرخها في روايته الأولى "يعدو بساق واحدة": لقد أنذرتنا يا سامح إنذارًا يكفي ليهزّ كل شيء فينا، يكفي ليُزلزل الأرض تحت أقدامنا، يكفي ليوقظنا من سباتنا، وليفتح أعيُننا التي أغمضناها عمدًا أو جهلا على حقائق مروّعة، لا تُنذر بعاصفة فحسب بل بكارثة محققّة.
وأخيرًا، يقول سامح على لسان بطله إياد: "ربما استطعت التعايش مع غياب البندقيّة، ولكنني لا أستطيع أن أتخلّى عن حيفا ولو في مُخيّلتي" (ص64)، فها أنت يا سامح في حيفاك وبين أهلك، أهلًا بك وبوركت على هذه الرواية الرائعة.