كان فوز الكاتبة الانجليزية دوريس ليسنج بجائزة نوبل هذا العام وقبل أيام من عيد ميلادها الثامن والثمانين مفاجأة للجميع بما فيهم الكاتبة. هنا نقدم ترجمة لزيارة قامت بها الروائية الأمريكية المعروفة جويس كارول أواتيس لبيت دوريس ليسنغ في حي كيلبورن بلندن قبل خمس وثلاثين عاما.

زيارة إلى دوريس لسينج

ترجمة: مجدي عبد المجيد خاطر

مجدي عبدالمجيد خاطر

أجرت الروائية الأمريكية المعروفة جويس كارول أواتيس هذا اللقاء مع دوريس ليسنغ في بيتها بضاحية كيلبورن بلندن في ربيع 1972، وقد نُشر هذا اللقاء للمرة الأولى بـ Southern Review، في أكتوبر 1973.



يوم مُشرق، مُنعش، بارد في لندن، واحد من هذه الأيام الشتائية الرائعة التي تبدو وكأنها تبشر بالربيع. لكنه الربيع حقاً هنا، حسب الروزنامة، ربيع 1972، وليس الشتاء، و توقعات المرء مضللة بعض الشيء، فكُلّ شيء يُزهرُ هنا لشهورِ، والأشجار الآن مورقة بشكل كامل، الشمس في كامل حضورها القوي في كبد السماء، ومع ذلك لا تزال بالجو لسعة برد كما لو كان الزمن في حيرة دائمة. أسير بحذاء تل الشوت- أب في كيلبورن، لندن، أتطلع لأنفاس الناس المشبّعة بالبخار في منتصف مايو! - وكما هو حالي دائماً، يُربكني امتلاء الطرق الرئيسية بالحركة قليلاً، التيار السادر من عربات الأجرة والحافلات ذات الطابقين الحمراء اللامعة علاوة على السيارات الخاصة، و الهدوء الذي يُلازِم هذا الزخم. يبدو غياب الأبواق والضجيج شيئاً مُباغتاً. تصيب الأمريكيون في لندن حيرة بالغة من هذا التناقض المتمثل في هذا العدد الهائل من البشر المتزاحمين في مساحات صغيرة دون أن يتطفل أحدهم على الآخر بشكلٍ واضح، أو حتى عروض مرئية من واقع هذا الزحام. إنها عادة ما تكون الحالة التي تجلب فيها دقيقة من المشي على الأقدام في طريق مزدحم، هدوءاً مطلقاً، اللا احتمالية الرَعَوية للمُتَنَزَّه الأخضر، الذي يشبه الريف تحديداً وله نفس رائحته أيضاً، دقائق قليلة مشي من بيكاديللي من جهة ومركز التسوّق على الجانب الآخر ثم منزل دوريس ليسنغ، بضع ياردات فحسب من طريق كيلبورن العام، بشكل لا يصدق، هادئ و يتمتع بخصوصية، مكان نأي كأي منزل في أعماق الريف. تعيش دوريس في الطابق العلوي من منزل قوي مُبْهِج مكون من ثلاثة طوابق في طريق كينجسكروفت، وهو شارع قصير منحني يضم بيوتاً مُفْرَدة شبه منفصلة، تحيط بها جدران حجرية أو يغطيها القرميد ؛ تحمي حدائقهم من الشارع. ثمة رائحة معطّرة مِنْ العشبِ المَقْصُوصِ حديثاً في الهواءِ، ووفرة الزهورِ والأشجارِ المورقةِ تماماً تَبْدوانِ في مكان غير ملائم بسبب البرودةِ. في الطابق العلوي، حجرة فسيحة تستغلها السيدة دوريس كغرفة للطعام ومكتب، تُطِل على باحة من الأشجار، خُضرة رهيفة يُنيرها شروق الشمس تماماً كما رأيتها من الغرفة.  

إنها غرفة الأبعاد الواسعة: بأحد أطرافها حافّة نافذة واسعة تتراص فوقها أصص نباتات صغيرة، وفي جانبها الآخر منضدة عريضة مُغطاة بالكتب والأوراق. تتيح الشقة ـ والتي بمعاييرِ لندن كبيرة جداً ـ معيشة جيدة ومريحة، يملأها أثاث ليسنغ الخاص، بُسُط، وسائد، والكثير من الرفوف ومناضد الكُتُب.

دوريس ليسنغ صريحة أُنْثَوِيّة سَاحِرة جداً. تلف شعرها الرمادي الطويل على شكل كعكة معقودة خلف رأسها، وجهها رشيق وجذّاب، تماماً كالوجه الموجود بالصور، هي " الدوريس ليسنغ " التي طالما قرأتها و ملأني الإعجاب بها. داهمني شعور بالإغماء تقريباً عند اللقاء بها أخيراً - غير واقعي بشكل أكيد - سرب إحساساً بالشفافية إلى نفسي في حضور هذه المرأة المُعرفة كلياً، الواثقة بنفسها، و المعطاءة. كنت قد وصلت إلى كيلبورن مبكرة ساعة ونصف بهدف استطلاع الجوار لرؤية الجيرة التي تعيش دوريس بينها،و الآن، عند اللقاء بها في النهاية،اعترتني الدهشة من مقدار السهولة التي جرى بها القفز فوق المسافة التي تفصلنا. بشكل مؤكد، لابد أن يبدو لي كل شيء أخاذاً بدرجةٍ ما.

كنت قد توقفت، عند مغادرتي محطة مترو الأنفاق بكيلبورن، أمام بائع جرائد أقرأ مندهشة الأنباء عن محاولة اغتيال جورج والاس. وقد شرحت للسيدة ليسنغ أنني لا زلت مبهوتة بسبب تلك الأنباء التي عرفتها للتو، والتي تُشعرني بالاكتئاب والحيرة من جراء هذا التصرف العنيف. ومثل أمريكيين كُثَر خارج وطنهم، خالجني شعور بالخجل.

تحدثت السيدة ليسنغ بتعاطف شديد عن مشاكل العنف في الثقافة المعاصرة، خاصة بالولايات المتحدة. وقالت مشيرة لطفولتها بروديسيا الجنوبية "سوى أن الجميع في الحقل، كانت لديهم بنادق عندما كنت طفلة ". "كانوا يخرجون ويطلقون النار على الثعابين، لقد بدا القتل طبيعياً تماماً. لم يبد أن أحداً قد سأل أبداً : لماذا؟ لماذا نقتل؟ لقد بدا الأمر طبيعياً كليَّاً " وسألتني عدة أسئلة نافِذُ البَصِيرَة عن المناخ السياسي في الولايات المتحدة : هل سيشغل أحد موقع والاس (لأنه قد بدا، هذا الصباح، أن والاس من الجائز ألا يتعافى) وهل أظن أن السنوات الطويلة من الجهد الجسور الذي بذله المناهضون للحرب قد أضافت شيئاً ذا قيمة؟ تبدو متعاطفة بدرجة أكبر، عموماً، مع الولايات المتحدة أو مع الوعي الليبرالي للولايات المتحدة أكثر من انجلترا، وحين أطلقت تلك الملحوظة علقت، أن كتاباتها تبدو مفهومة أفضل في الولايات المتحدة.

"في انجلترا، لو أنكِ تنشرين بشكل منتظم، فأنت بسبيلك للانتحار، بينما في الولايات المتحدة، فأن المرء يتولد لديه انطباع بأن النقاد يتفحصون بدقة كل ما يُكتب ـ كما لو كانوا يمعنون النظر في جهوده باهتمام أثناء قفز الموانع وتغلبه على العقبات".

سألتها عن ردة الفعل في انجلترا بخصوص أخر أعمالها، الرواية الغير عادية "موجز من أجل الهبوط للجحيم" (1971) وأجابت بأن " القراء الذين استوعبوها بشكل أفضل كانوا من الشباب ". حسب تصنيف السيدة ليسنغ، فإن "موجز من أجل الهبوط للجحيم" رواية فضاء داخلي، و تكشف عن تعاطف ملحوظ مع الروح المنهارة. وهي تسجيل لانكسار أستاذ جامعي متخصص بالكلاسيكيات، خبرته بعالم بدائي حالم من الأسطورة والدراما، علاجه على يد الأطباء النفسانيين التقليديين، و شفاءه الساخر لاحقاً وانضمامه لعالم ناكري الذات الأثيم والضيق من العقلاء. تُسجل المؤلفة تعليقاً أخيراً يجعل من الملاحظة الآسرة بأن تعريف الكائن البشري "صاحب البصيرة بشكل استثنائي " كمختل عقلي لابد و أن" خللاً به "- الرد الوحيد الذي يمكن للمرء توقعه من ممارسي الطب التقليديين. سألت السيدة ليسنغ إذا كانت متعاطفة مع إنتاج رونالد لينغ، الذي تتشابه أفكاره معها.  

"نعم. كلانا كان يستكشف ظاهرة التجربة الغير قابلة للتصنيف، المعروفة بـ 'الاختراق' النفسي والتي يحكم عليها العالم الاصطلاحي باعتبارها جنوناً. أعتقد أن لينغ كان بالغ الجسارة ليتشكك بالافتراضات الأساسية لمهنته من الداخل.. في أمريكا، لقد طرح النفساني توماس زاس في كتابه " صناعة الجنون "، مزاعم مُشابهة. لقد أحتل موقعاً بالغ الثورية ".

(في الحقيقة، فإن زاس راديكالي، فقد طالب بمنح المضطربين عقلياً حقوقهم المدنية كاملة، بما في ذلك حق القبض عليهم ومحاولة الوصول إلى جرائمهم وليس التعامل معهم باعتبارهم " مرضى "، ويعتقد أن التدخل الطبي، ببساطة، وسيلة للسيطرة على مجموعة من الأفراد على خلاف مع النظام، وهو إجمالاً ما يجعل من السهل بالنسبة للأطباء النفسانيين وذوي النفوذ تشخيص حالة من يكرهونهم بكل بيسر على أنهم مجموعة من " المختلين عقلياً).

كانت السيدة ليسنغ قد عرفت هؤلاء الذين خبروا ما يبدو فراسة باطنية , فبعد نشرها الكتاب المتمرد " الدفتر الذهبي " (1962)، تلقت رسائل عديدة من عديدين أُدِعوا بمصحات عقلية أو سبق لهم الخضوع لعلاج نفسي، لكن وحسب رأى السيدة ليسنغ، فإن من ليسوا بمختلين، ليسوا مرضى على الإطلاق. 

سألتها ألم تكن مفردات كـ " باطني " و " مُتَخَيّل " مُضَلِّلة، وإذا ما كانت تلك التجارب ليست طبيعية / عادية تماماً.

"أظن أن الإجابة هي بلى. ما عدا أن المرء يكون حذراً من مغبة الحديث عنهم. فالناس بشكل عام يمرون بخبرات يخشون الاعتراف بها، كونهم يرتعبون من أن يوصموا بـ " الاختلال " أو " المرض "، فليس من ثمة فئات كافية تستوعب هذا النوع من التجارب ".

ولأنها مشكلة أصادفها في كتاباتي سألت السيدة ليسنغ ما إذا كانت تشعر بصعوبة تحميل خبرة الحس الباطني في رواية تهدف للتواصل بشكل طبيعي مع جمهور واسع. وقد وافقتني، قائلة أنه في انجلترا، على الأقل، ثمة اتجاه من القائمين بالمراجعات الأدبية لتجاهل كل وجهات النظر التي تخالفهم، والتي تبدو من الخارج الرد الطبيعي. ذكرت أن كولين ويلسون، في معالجته البالغة التعاطف مع كتابات العالم النفساني الأمريكي ابراهام ماسلو (في كتابه طُرق حديثة في علم النفس: ماسلو والثورة ما بعد الفرويدية) قد نالته على الأقل مراجعة واحدة حاولت تجاهله باعتباره " نابهاً " وكنت قد ظننت أنه أمراً عارضاً بالكلية في المراجعات الأدبية الإنجليزية بشكل عام. وقالت السيدة ليسنغ، التي التقت كولين ويلسون، أن القائمين بالمراجعات والنقاد كانت لديهم نية مبيتة على الانتقام منه منذ البداية، فور نجاح كتابه " الغريب " الذي كتبه وهو لا يزال بالثالثة والعشرين، سوى أنه كاتب متقد ومطلع وبالغ الأهمية. وعلى كل حال، فأي استجابة نقدية على كتاب مماثل، أو أي كتاب يحاول التعاطي بتعاطف مع ما يسمى بالخبرات " الباطنية "، سوف تلقى معارضة من نفس النوع.

سيكون أحد النتائج البعيدة المدى لكتابي دوريس ليسنغ الأخيرين، موجز و المدينة ذات الأبواب أربعة، ربط الخبرة الباطنية بالحياة اليومية، لنكشف أن من يبدون مرضى قانونياً المختلين - أعضاء مجتمعِنا ربما، في الحقيقة، على اتصال بأعمق وأكثر حقائقنا البشرية وأكثرها شاعرية، بدرجة أكبر ممن يبدون أصحاء. لكن روايتيها كلتيهما من النوع العسير، وقد أصابتا كثير من القراء النابهين بالحيرة. فحين قرأت المدينة ذات الأبواب الأربعة أول مرة، من أجل كتابة مراجعة لها بالسترداى ريفيو، أذهلتني جرأة الكاتبة في تناول بطلة بسيطة بمكان عادي، لتخضعها لتجارب استثنائية، دافعة بها ليس فقط للوقت الحاضر بل أيضاً للمستقبل قريبة من موتها مع نهاية القرن العشرين. لا أستطيع الإدعاء بأنني قد سبقت لي قراءة رواية مماثلة. علاوة على أن الأكثر تمرداً في الرواية وهي الجزء الأخير من خماسية " أطفال العنف " التي بدأت سنة 1952، متتبعة حياة مارثا كويست، أنها تبدو متعلقة بالسيرة الذاتية للمؤلفة.

سألت السيدة ليسنغ عن العمل الذي تقوم بكتابته في الوقت الحاضر إذا كانت تواصل استكشاف هذا الجانب من الروح، لكنها أجابت بلا، بطريقة قد تتهم معها بالنكوص، فالرواية التي فرغت منها للتو تدور حول امرأة تفسخ زواجها لتصير حياتها بغتة جوفاء دون معنى. " سيكون عنوانها الصيف قبل الظلام، والمرأة بها، المرأة التي تفقد زوجها، ستنهار بشكل شاهدت نساءً تنهار مثله ". ذكرت السيدة ليسنغ أن زواجها لم يكن دائماً تماماً، ولم يؤثر عليها أيضاً بشكل دائم، سوى أن ظاهرة المرأة التي يجري تعريفها بشكل كامل عبر زواجها تجتذب اهتمامها. هي الآن، وبشكل فوري، تخطط لمجموعة من القصص القصيرة : من المقرر أن يكون عنوانها بالطبعة الأمريكية " إغراء جاك أورناي " وعنوان الطبعة الإنجليزية " قصة رجل أعزب ". وهي تخطط من أجل زيارة للولايات المتحدة لإلقاء سلسلة من خمس محاضرات بالمدرسة الجديدة، وهي تطلع لرحلة تزور خلالها أصدقائها وتسافر، إذا أمكن للجنوب الغربي.

كانت رحلتها الأخيرة للولايات المتحدة سنة 1969، حين ألقت عدد من المحاضرات بجامعات مختلفة. في ذلك الوقت قابلت كورت فونيّجوت، " رجل تواصلت معه جيداً " فكتاباته تعجبها بشدة. وقد باغتني هذا الأمر ؛ فبالنسبة لي فإن كتابات دوريس ليسنغ ذات قيمة أدبية أكبر بكثير من كتابات فونيّجوت، لكن مخاوفَهما المتماثلة حيال جنون المجتمع وميوله للتدمير الذاتي، ربما يُفسر هذا الحماس. تحدثت عما سمعته بنية فونيّجوت التوقف عن الكتابة الأمر الذي لم يتبادر إلى سمعي، شخصياً الأمر الذي أصابها بالتعاسة ؛ فهي تعتقد في حجم موهبته، في الحقيقة. وذكرت كتابه " المذبح خمسة " على وجه التحديد كأحد أروع كتبه.

وبدرجة أقل مباغتة، تشعر بصلة قرابة مع نورمان ميلر، وتعتقد بأن رد الفعل النقدي حيال كتابيه " شاطئ بربري " و " متنزه الأيِّل " كان غير عادل. " إنهما كتابان جيدان ". ذكرت لها أن الأمر المثير بخصوص ميلر - وهو الأمر الطارئ بالنسبة للسمة الجمالية التي تتميز بها أعماله هو تجانسه الكامل مع العصر الذي يعيش فيه، ورغبته في التأثير بشكل جذري في الوعي بالزمن، ومسرحة نفسه باعتباره التمثيل الروحي للأزمنة وتناقضاتها، وهذا الإحساس بوجود مهمة واضح في كتاباتها أيضاً. " في بداية سلسلة مارثا كويست، لن يمكنك الجزم نهائياً كيف ستنتهي الرواية، والقارئ المتعاطف الذي يتتبع حياة مارثا لا يستطيع تقديم العون بل يتحول مع تحولات مارثا ". السيدة ليسنغ كتومة بشكل مفهوم حيال ما يخص كتاباتها وربما أحرجها حماسي، رغم أنني لم أخبرها بخطأ شعورها بأن كتاباتها لم تحظى بالتأثير الذي كانت ترغبه : فالدفتر الذهبي وحده غيَّر بشكل كامل وعي كثيرات من النساء. هل من ثمة أحد آخر تشعر معه بوجود صلة قرابة؟ ذكرت صول بيلو وبالطبع د.هـ.لورانس والكاتبة الأفريقية نادين جورديمر (لا تستطيع السيدة ليسنغ العودة إلى بلد طفولتها وصباها، روديسيا الجنوبية ؛لأنها مهاجرة محظورة، ولأنها تعاني من الحنين لسهوب الوطن، فقد طلبت من ابنتها إرسال عدة صور ملونة للزهور الأفريقية تعلقها على جدران الشقة). في رأسها، حسب ما قالت كتاب عن " رجلين في السجن " الذي لم تكتب عنه (مثل فونيّجوت الذي لم يكتب لعقود قصة حريق دريسدن التي مثلت محور روايته المذبح خمسة)، ربما يكون هذا العمل، الذي قد تكتبه يوماً ما، يرتبط بخلفيتها الجنوب أفريقية.

أكثر ما يثيرها بخصوص أمريكا، أثناء زيارتها، روح التحرر والغضب عند الشباب. كانت قد ألقت محاضرة بجامعة الولاية بنيويورك في بافلو سنة 1969، عندما كانت تلك الجامعة في حالة من الاضطراب (حينها ولأسباب مجهولة كانت وكالات الأنباء الوطنية تغاضت عن الأحداث، مركزة على الأخبار الواردة من كولومبيا وبيركلي) ثم طارت إلى ستوني بروك، والتي كانت حتى ذلك الوقت مؤسسة بعيدة عن أن تكون راديكالية، انفجرت بها أحداث شغب وهيجان طلابي أدى إلى تاريخ طويل من المضايقات الشرطية أكثر مما يجب. عقب زيارتيها لهاتين الجامعتين، كان من المقرر أن تطير السيدة ليسنغ من كل الأماكن إلى بيركلي، حيث ألقت محاضرة أخرى. كان أكثر ما أثر فيها هو رد الفعل الإيجابي من الطلاب والشباب عموماً، الذين تواصلت معهم بشكل جيد. سألتها إذا ما كانت ترغب في التدريس بشكل كامل لكنها قالت أنها ربما تتردد حيال موقع بمثل تلك المسئولية (كان قد عُرِضت عليها وظيفة ممتازة بالسيتي كوليدج، لكنها رفضتها آسفة) فهي تقريباً تعتبر خلفيتها الأكاديمية ضئيلة نوعاً ما. " أنهيت تعليمي الرسمي في عمر الرابعة عشرة، وقبل ذلك كان ما تعلمته في الحقيقة ضئيلاً ". و باغتتني المفاجأة : امرأة شكلت كتبها انجازاً صاعقاً، هي نفسها شخصية كبرى بصورة لا تقبل الجدل بالأدب الإنجليزي في القرن العشرين تتردد في التدريس بالجامعة! أنه بالأحرى يماثل بعثاً لكافكا، خجولاً، ذليلاً معاقاً، يُصر على أن يُدرِس أعماله أياً من الآخرين، أي أكاديمي عادي بمؤهلات أكاديمية عادية، شاعراً بنفسه ليست أهلاً لما نيط به. ربما ثمة بعض الحقيقة في ذلك. لكنني وجدت نفسي مدفوعة لإدراك الاستبداد الذي يوجد في مجال التعليم، كيف يُغلق الباب إما بشكل علني أو بالتأثير أمام عبقرية ما بحجة أن خلفيته الأكاديمية غير كافية.

قالت السيدة ليسنغ أن أواصر العلاقة بين الكُتاب الإنجليز والجامعات كانت نادرة تقريباً، لكنها تبدو في الولايات المتحدة ممتدة. شرحت لها السبب بوجود برامج الكتابة الإبداعية في جامعات الولايات المتحدة، و هي ليست أكاديمية تماماً لكنها تتيح لكاتب مقيم بلقاء طلابه مرة أو اثنتين أسبوعياً، وتعطيه وقتاً أطول لمناقشة أعماله. في انجلترا، كثير من الكتاب مجبرين على العمل في دور نشر أو مجلات. تقول السيدة ليسنغ، أن عالم النشر في لندن، يتغير باستمرار، فالمحررين يتحولون إلى ناشرين، تختفي دور نشر وتظهر أخرى. في الحقيقة، أخبرتني بأشياء لم أكن سمعتها (وربما ليست متاحة للسماع، نظراً لكوني في عالم حالم هنا، بعيدة بشكل غير عادي عن الاتصال بالأحداث الأدبية المحلية) مُركزة على دار النشر الورقي التي تنشر لكلتينا، Panther: استقال أكبر محررين هذا الأسبوع وهما بسبيلهما لتأسيس دار نشر خاصة بهما. حين عبرت عن دهشتي، أخبرتني أن مثل تلك الأمور تحدث دائماً. مدينة نيويورك، رغم أنها أيضاً متململة، ليست بمثل هذا السوء.

ناشر السيدة ليسنغ الأمريكي دار Knopf، ومحررها هو المحرر المعروف بوب غوتليب، الذي تستمتع بالعمل معه جداً، وقد انتقلت مع غوتليب حين غادر دار سيمون وشوستر، و هي تعتقد أنه محرر ممتاز ؛ و قد ساعدها على الترتيب لسلسلة من المحاضرات. سألتها إذا كانت سعيدة، بوجه عام، بما تكتب ورد الفعل على كتاباتها. وللغرابة، أجابت بأنها أحياناً تجد نفسها مضطرة لإجبار نفسها على الكتابة - وهي الأحيان التي ترى فيها كل شيء خاوياً. سألت السيدة ليسنغ إذا كانت تعني أن كتاباتها تبدو لها أحياناً عقيمة، أم أنه دور الأدب في المجتمع.

"أفترض أن المرء يبدأ بفكرة تغيير المجتمع، عبر الأدب ثم، حين لا يحدث شيء، ينتاب المرء شعور بالفشل، لكن السؤال ببساطة هو لماذا يشعر المرء بأنه قد يغير المجتمع؟ يغير أي شيء؟ وعلى كلٍ، فالمرء لا يتوقف".

أخبرت السيدة ليسنغ أن كتبها قد أثرت في تغيير أشخاص عديدين، هؤلاء الأشخاص، على ما قد يبدو بأنهم منعزلين،فأنهم في الحقيقة، يشكلون مجتمعاً، ففي رأيي، أن كتاباتها لا تسبح في فراغ، لكنها تُعزز و معززة بكتابات بعض أهم معاصريها (من خارج عالم الأدب) مثل رونالد لينغ وابراهام ماسلو و بوكمنيستر فولر وباري كومّونر والكثير من النقاد الآخرين لمجتمع " التدمير الذاتي".

"رغم ذلك يحق للمرء أحيانا،استجواب المقدمات المنطقية للأدب.. هل تغير شيء؟ هل سيتغير شيء؟ المعارضة الجارفة للحرب في فيتنام، بأمريكا هل أحدثت أي تغيير حقيقي؟".

قلت " أظن أن ثمة تغيير حدث، مكانه تحولات بالضمير ". وقد استمعت السيدة ليسنغ لرأيي باحترام، وإن بددت أنها لا تشاركني هذا الرأي. و واصلت حديثها كاشفة عن إحساسها بأنها غير مُلمة بالكتابة الحالية منذ أنكبت على نفسها، عموماً، وهي لم تبذل جهداً يُذكر لمجاراة تلك الكتابات. سألتني عن الكُتاب الإنجليز الذين يعجبونني. وحين أخبرتها بإعجابي الشديد بكتاب نايبول In a Free State، وافقتني الرأي بأن نايبول كاتب متميز. " سوى إنني لا أستشعر وئاماً معه، كنوعية التعاطف الذي أحسه مع كاتب مثل فونيّجوت، رغم أنه يكتب عن جزء من العالم، أفريقيا، أعرفه جيداً ".

كان اسم الكاتبة الإنجليزية الشابة الوحيدة التي تعجبني، مارجريت درابل، مألوفاً للسيدة ليسنغ. فهي معجبة بكتابات درابل وإن لم تكن قد قرأت حتى الآن "عين الإبرةَ "، أخبرتها أن تلك الرواية تتشارك مع كتبها بعض الثيمات الهامة ـ الخلق الواعي لمجموعة من القيم التي يمكن للناس العيش بها، و إن كان من الصعب، التقليص التراجيدي للعالم المتمدن ".
قالت : " حسناً، سواء أنجز الأدب شيئاً أم لا، سنستمر بالتحرك ".

عندما غادرت شقة السيدة ليسنغ ومشيت عائدة هابطة التل إلى محطة مترو الأنفاق، غزاني إحساس أكثر قوة من الإحساس بالاستثارة، إحساس بالوهم. لقد بدا الأمر لي أحد التناقضات الملتبسة للحياة، عجز الموهوبين فعلاً، " العباقرة " الملهمين (كلمة لا تُغتفر لكنها ضرورية) عن فهم أنفسهم ومكانهم في التاريخ : نادر في الحقيقة الشخصُ المدرك لذاته والمُعَرَّفُ بذاته مثل ييتس، الذي يبدو وأنه لم يتفق مع إنتاجه الإبداعي فحسب بل مع مصيره. لكن دوريس ليسنغ، الدافئة، رابطة الجأش، المرأة الممتعة جداً التي قضيت معها للتو ساعتين، لم تدرك حتى الآن أنها دوريس ليسنغ.

على الرغم من كونه أمراً طبيعياً، كما أظن، بالنسبة لها أن تعرف أو تخمن كم أثر الدفتر الذهبي (السابق والناسخ حتى لأغلب الأعمال الأكثر تطوراً في مسألة حرية المرأة) وما يعنيه لامرأة شابة من جيلي، كم أنارت قصصها القصيرة بجمال ومهارة الحياة، أكثر المناطق سرية و تمنعاً على الكشف في الحياة الخاصة، في أسلوب لم يكن أبداً مدبراً أو على استحياء. لن تقيس مدي تأثير، المدينة ذات الأربعة أبواب، الرواية التي يبدو أنها قد أرهقتها بشكل واضح، على تحول وعينا ليس فقط بالكارثة الإيكولوجية التي نواجهها، و جنون الإبادة الذاتية الذي يسيطر على مجتمعنا الذي يصم منتقديه بالجنون، بل إمكانيات الشكل المفتوح للرواية ذاتها. ليس تجريباً بشكل سطحي مُطلقاً، فكتابات السيدة ليسنغ تتمتع بعمق التجريب والاستكشاف - في جهدها لتعديل توقعاتنا فيما يخص حياتنا ومدي وعينا.

لقد اقتفت كتبها، خاصة سلسلة مارثا كويست، الدفتر الذهبي، و موجز من أجل الهبوط للجحيم، تطوراً ثورياً للروح، إلى حدٍ ما يغير القارئ أثناء القراءة. أعتقد أنه من حقيقي بالنسبة لكتابنا العظام أن تأثيرهم علينا يأتي متأخراً، والذي قد يستغرق سنوات كي نفهم ما قدموه لنا. تمتلك دوريس ليسنغ حساسية فريدة، فهي تكتب خلاصة خبراتها، ذاتيّتها الخاصة، لكنها في ذات الوقت عن روح العصر. تلك منحة غير قابلة للتحليل، يجب أن تُبجَل فحسب.