يكتب محرر باب سرد في (الكلمة) هنا عن خبرته الأليمة في الحرب، ومن خلال رصد لتجربة تفصيلية عاشها الراوي يتكشف لنا وجع زمن المثالية النادر، وأهمية العلاقة الإنسانية والرفقة التي تعلو على كل الظروف، وكيف لا يستطيع الراوي أن يغفر لرفيقه لحظة ضعف تبدو لنا مبررة في سياق الحدث.

الرفيق

سلام إبراهيم

عدنا مُتعبين. كان يسير جواري بعناء ونحن نصعد الجبل نحو مقراتنا. أحببته بشدة حال التحاقي بالثوار، وأفضى لي بأسرار كنت أجمد مذهولا، متيبساً من هولها. مع ذلك أحببته وبشدة ولا أدري لِمَ، هكذا أصبح قريباً إلى نفسي، وأمسينا نثق ببعض دون سؤال.

من غبشة الصباح كلفونا بالنزولٍ إلى المقر القديم في أسفل الوادي جوار النهر، لمعرفة ما جرى للرفاق، فقد وصل مع أول خيط للفجر رفيقان فقط من المجموعة يبكيان ويلطمان ويرددان:

- راح الرفاق!.

البارحة وبعد منتصف الليل بقليل رأينا وهج القصف الصاروخي على الوادي، قلت مع نفسي:

- عليهم يا إلهي عليهم!.

كان يسير جواري مرتبكاً، يريد أن يقول شيئاً لكنه يتردد ويثقل خطوه، قلت له أكثر من مرة:

- ماذا بك؟!.

يحدق في وجهي بعينين ترمشان بسرعة وكأنه غير قادر على مواجهتي ويقول:

- لا.. لا.. ماكو شيء!.

عبر قبلي إلى الجهة الأخرى حيث المقر، إذ انشغلت بالرفيق الذي انتحر على ضفتنا. لحقت به بينما بقى رفيقان مع رفاق ثلاثة يهذون ويشتمون متأثرين بقصفٍ بغاز الأعصاب. لحقت به متخذا ضفة النهر، وفيما كنت انحرف نحو الممر الصاعد وجدته ينزل مسرعاً، قال لي:

- أبو الطيب لا تزال رائحة غريبة في المكان و"أبو جواد" أستشهد. 

حاول أن يثنيني عن الصعود لكني صعدتُ.

جمدت أمام جلال الموت الممد تحت قامتي. رفيق بالأمس كنا نضحك معاً يغور في رقدته الأبدية مرعوباً ومنديل مبلل يحيط بأنفه وفمه. انحنيت عليه لأسمع نبضه، عل وعسى، لكن هيهات كان مندملا في أبديته.

دفناهم الثلاثة على عجل وعدنا بالناجين.

كان يسير جواري مخنوقا، يلوب ويتعذب من أعماقه. كان يحبني بشدة. والحب أعمى. وقبل أن ننحرف في وادٍ جانبي طلب مني التمهل قليلا عن بقية الرفاق، فتلكأت. قرب وجهه من وجهي وقال بصوت خافت رغم انفرادنا:

- أبو الطيب، لقيت سبعين دينار بجيب "أبو جواد" وتقرير طبي من دكتورة "مريم" عن مرضه وعدم صلاحيته للبقاء مع الثوار!

- ما المشكلة؟

سألته بكل براءة، فرمقني بقوة وقال:

- أريد رأيك أسلم الفلوس للحزب لو أخذهن!.

هنا صرت خبيثاً بالمعنى العميق لا السطحي. إذ لم أكن الصديق النصوح. كنت أستطيع أن أردعه، لكن أردت أن أكتشف أعماق رفيق أحببته بلا سؤال، فأجبته بحياد رغم تراجيدية الأحداث:

- ما أدري .. أنت تقرر رفيق!.

وجعلت أراقبه بعينين فضوليتين، كان يتعذب بشدة حتى أنه حاور نفسه وأسمعني الحوار:

- أي ألمن أسلم الفلوس لفلان، لو لفلان، وهو وين الحزب، شو راح نتشرد، لو أسلمها لواحد راح يأخذها مو؟

كنت ألتزم الصمت وأنتظر قراره بحرقة. وأخيرا مزق التقرير الطبي وأخفى النقود.

من تلك اللحظة ابتعدت عنه مسافة، وقليلا .. قليلا أَذْبَلتُ العلاقة.

الغريب أنني لازلت أحبه.

 

30-7-2016 دنمارك