منذ عنوان المجموعة التي يقدمها الشاعر الفلسطيني باسم النبريص: (مقال في معنى الريح)، سوف تفرض الفلسفة نفسها بسؤال: ما معنى الريح؟ وهو ما يرفعنا، بدوره، لأسئلة الظنّ والتأويل: هل الريحُ العلّة؟ أم الريحُ الصيرورة؟، أم الريحُ الديمومة؟ غير أنه ليس بمقدور الظنّ ولا التأويل أن يصيران حقيقةً. من هذه الضرورة، إذاً، يَفتحُ لنا السؤالُ الأوّل بوّابةً على الميتافيزيقا، في حين يستجيب الثاني لإحلال التبدّد محلّ الريح: "مقال في معنى التبدّد". ملحوظاً، من سرعة الاستجابة، عجز الإنسان الحقيقي عن حماية وجوده، وبالتالي إبداعه الأشكال المتنوعة من "فن الحماية". وأما سؤال الظنّ والتأويل الثالث، فيناسبه من الإجابات: التعرية، بالمعنى المليء بالموضوع الميتافيزيقي والمادي الثقافي الواسع؛ لاسيما وأنّ في مقال الشاعر من هبوب العقل ما يُعرّي الواهن السنتمنتاليّ، ويفضح الثقافيّ الوضيع. ولعلّ حقل الريح سيظلّ في الشعر، بعامة، مرناً، ومِن نصيب علم الدلالة، والمقاربة والتأويل. إذن، سوف لن نفلح، على الأرجح، في إحراز الجزم بشأن ماهية الريح لدى النبريص؛ كما هو الشأن بالنسبةِ لأسئلة بمثقال سؤالٍ، تالٍ، من طرازٍ فلسفيٍّ بهيّ في طلعته الميتافيزيقية:
أيهما أبهى
أيهما أوسع
أيهما أكثرُ مضمونية
الماءُ
أم المعنى الكامنُ في الماء؟(ص54)
لكن، فمن شأن سؤال كالسابق، أن يعني لنا قرابةَ الشاعر للطبيعة، قرابةً تأمّلية، جديرة بالفرق بين الإيمان بالعقل، وبين الإيمان العموميّ. غير أننا سنعترف بحقيقة أن العنوان: ـ (مقال في معنى الريح) ـ يُقدّم للعقل فرصةً للنشاطِ وطاقةً للفكر. لنحقّقَ، إذاً، تأجيلَ البتّ في "معنى الريح"، مستأنسين، الآن، بالعنوان بوصفه مدخلاً لشاعرٍ يكتب النصّ منفتحاً على الفلسفي والثقافي الواسع؛ فمرآةُ "الريح" هي العاكس الإبداعيّ الذي يسمو للتماسّ مع "كهرباء العقل". العقلُ، مرّةً أخرى، يستغرق في تأملاته وعبوره في الشعريّ بما يمكّننا من الإشارة إلى اقتراح النبريص؛ مشيرين لجولةٍ طويلة من "التوازن" في كتابة الفكر والوجدان معاً.
ولعلّ هذا النموذج يذكّرنا بشاعر العقل، "أبي العلاء المعرّي"، بلزومياته وإشراقات عقله الشعريّ. سنتحدث، إذاً، عن باسم النبريص شاعراً من طراز فكريّ وثقافيّ ضالع في أصالةِ الإشراقِ، فله من التجليات وإشراقات المخيلة ما صار، بدوره، وجوداً شعرياً وشكلاً من أشكال "فنّ الحماية"؛ الحمايةِ من "عدمِ" عدالةِ مُحاكمة أفلاطون العقلية الصارمة للشعر! فهو شاعر متّفق مع الفلسفة، منذ (نظم العقل الخالص) مروراً بـ(الجلوس في عتمة البيت) ووصولاً -الآن- إلى (مقال في معنى الريح). وسيظلُ النبريص فلسفيَّ المنازع في كتاباته المتنقلة من الميتافيزيقي إلى المادي، والوجودي.
الجانب الشعريّ المادي الماركسي، والأيديولوجي
لا يخلو مقال الريح من الإشارة المتكررة إلى الشاعر باسم النبريص، الفرديّ السلبيّ المحتمي بعزلته الخصوصية من العموميّ والمحكّ الواقعيّ. وقد ذيّل قصيدة (هذيان) بعبارة لفيلسوف المادية الأوّل لودفيغ فيورباخ (1872-1804) ، تقول:[وحده الذي عنده الشجاعة بأن يكون سلبياً بالمطلق عنده القدرة على خلق الجديد]. إن هذه العبارة، عبارة اللزوم والضرورة، ملازمة وتنطبق على كل فرد من أفراد النزعات التأملية والفكرية الصافية، أيا كانَ توجههم؛ ففي جوهر هذا النزوع السلبي فضيلةٌ. أضف إلى ذلك: أن امتلاك الشجاعة فضيلة، وامتلاك القدرة على الخلق فضيلة، وخَلقُ الجديد لن يكون، على أية حالٍ، بمعزل مثاليّ مفارق، للإنسان والظروف المادية المحيطة. لكن، وبشأن فيورباخ ومفهومه "وحدة الإنسان والطبيعة"، فعلى الرغم من مادية الموضوع، إلا أنّ فيورباخ، يستبعد الطبيعة الاجتماعية للإنسان، وعلاقات التطور وإفرازات النسيج الاجتماعي؛ ويقول بمبدأ الضرورة. إن مضمون جملة الاستبعاد السابقة يمثّل نقدَ ماركس لمادية فيورباخ، ويمثّل، في الوقت نفسه، أساساً لبناء مادية ماركس. وعليه، يمكن اعتبار مفهوم "وحدة الإنسان والطبيعة" مناخاً لنموّ النزعة الفردية السلبية. و، لوهلةٍ أولى، سنكتشف قرابةً، في حدودٍ مظهرية معينة، بين فيورباخ السلبيّ، و"الكلبية"؛ التي نزع أفرادها نزعات فردية غاية في السلبية وفي اللامبالاة، والتدمير الاجتماعي:
فيورباخ !
كم صرت كلبياً مراراً لا مرّة يا فيورباخ!(ص61)
لكن ـ وكي لا يتسع بنا المقال النقدي، وترهقنا جبهات الفلسفة، وننحرف بعيداً ـ لنعتبر أنّ حذف فيورباخ إلى صيرورته الكلبية، من قبيل الترميز ـ كون أنّ للمحذوف الفضل الأوّل في ظهور المادية إذ يحمل هذا الترميز شحنة مثالية قويّة من الذمّ وجلد الذات الجمعية في إهابها الأيديولوجي، في إثرِ الإخفاق والتحولات والوهن الذي أصاب الطريقة العملية لتطبيق المادية. وهنا نصل إلى تبرئة فيورباخ الفيلسوف، هذه التبرئة نجدها في ذمّ الشاعر لفيورباخ الرمز، بدافع أيديولوجي، وليس ذمّاً ونقداً فكرياً لمادية الفيلسوف، التي سدّد إليها ماركس وأنجلز الذمّ والنقد، لكونها مادية فقيرة وسلبية، كان للرجلين الفضل في تصحيحها وتعزيزها وتوطيد منهجها. وعلى الرغم من ذلك سيظلّ ينظر الشاعر أيديولوجياً إلى زعيم المادية الملحد نظرةَ المؤمن لرجل الدين المصحّح، المخلّص من الوهن والتحول الخاطئ في العملية التطبيقية:
فيورباخ
نحّ ميّت الأمس عن
أصابعي يا فيورباخ!(ص59)
مثلما كان للزعيم المادي فضل تنحية مثالية هيغل بتسديد مزيد من النقد لها، وتنصيب المادية التي أصبحت أساساً ومنطلقاً لماركس وانجلز فيما بعد. وهنا ينبغي أن نرفع مطالبة النبريص فيورباخ بتنحية ميت الأمس، إلى أعلى مستويات لهجة النقد المُسدّد، إلى الممارسات العملية باسم ماركس.
لنأخذ، أيضاً، نصّاً أيديولوجياً آخر، هو بعنوان (انحياز). حيث يجدر بنا في عملية التطبيق هنا استخدام ثنائية: البنية الفوقية/البنية التحتية؛ والتي نسميها جمالياً بثنائية: الشكل/المضمون. ففي هذا المضمار يمكن، وبشكل مُتعمّق، أن ننظر النظرة المضمونية - في شكل هذه المطالبة: -"فيورباخ نحِّ ميت الأمس عن أصابعي"- إلى كلمة "أصابعي" بوصفها دالاً ومدلولاً؛ أي أنّ لها حراكاً في ذاتها لذاتها، وحراكاً موجّهاً لموضوع طبقي، مُثار في القصيدة، بشكلٍ جماليّ. فكلمة "أصابع" مرة أخرى، التي استخدمها النبريص في (انحياز)، نجد لها نفس الكناية في طلب الشاعر المتقدّم من فيورباخ. إنها "أصابع الفقراء"؛ وقد جعل (الفلفل) هذا النبات التحتيّ المحبّب للشاعر، يشبه -غالباً- أصابعهم، و-أحياناً- أصابع عازفي البيانو! لكن، لنتوقف جميعاً، برهةً، عن التعمّق في موقف الشاعر الأيديولوجي ، في لزوم الانتباه لجمهرة واسعة الانتشار في مقالة الريح، للحيّ من النبات والحيوان، وفلسفة العلاقة دائما بين العقل المدرِك والعقل المفلسِف للحيّ؛ على نحوٍ يُعرّفُ هُوية نزوع النبريص لدقائق وصغيرات الكوائن ورفدها بالأفكار والإشارات التي تعمل في ناحية الفكر.
في سياق ذلك يمكن لنا التمعّن في كنايات النبريص التي يستمدها من مُجتمع الحقل الطبيعي، لاسيما في تشغيله أشياءَ الحواسّ للكناية عن النزعات الطبقية، في مجتمع العقل البشري، الذي دبّر وصاغ المفاهيم. وإن كان لنا أن نشتقّ من مضمون نصّ (انحياز)، تسميةً بديلة؛ فيمكننا تسميته، على أية حال: (نصّ السوق)، ذلك لأنّ كائنات الطبيعة النباتية، وهي تشتغلُ في حيّز السرد، تذكّر بقطبي: العرض والطلب، بلغة السوق. لذلك، نلاحظ أن دلالة التوجّه في النصّ (ذي التسمية البديلة)، إنما تنطوي على تزايدٍ ساخر؛ في استعمال الأشياء في خدمة البرهنة على نموّ وخلود المفاهيم الطبقية: برجوازية/ فقراء.
وإنّ هذا الحراك والتناول الجمالي الساخر، ليمثلُ شكلاً آخر من أشكال "فنّ الحماية"، التي سنتناولها في قراءتنا للجانب الفكري الوجودي في شعر النبريص. لكن لنبقي في صدد شكل الحماية في الجماليّ الحسي الساخر المتضمن، في جوهره، مطلب الشاعر العريض: (ينبغي تكريم الطبيعة). إذ لنا قراءتان في حيّز السرد، كما سنأتي على عرضه تالياً، الأولى قراءتنا لنموّ معاني مدح الطبيعة، بلغةٍ حسية. وأما الثانية، قراءتنا لما تحت هذا الجماليّ الحسيّ من نموّ وتحرّك للمضمون الاقتصادي الاجتماعي، بلكنةِ الفكر الماركسي:
معجبٌ أنا بالفواكه
ولا شك: فكل فاكهة
عبقرية في شكلها وطعمها ولونها
من المانجا حتى البندورة.
ولكن: من فكر في عبقرية الفلفل؟
هذا النبات الأشبه بأصابع الفقراء
وأحيانا بأصابع عازفي البيانو
هذا النبات ذو الطعم الجهنمي
والرائحة الوثابة
واللون الأليف؟
غير أنه لا مجال للمقارنة
بين الفواكه والفلفل
فالتربة التي تنبتهما واحدة
والماء واحد
والهواء كذلك، ولكل طعمه العبقريّ
ورغم ذلك.. لو سألتني أنا؟
أنحاز
للفلفل؟(ص36)
لقد بدا مُقنعاً أنّ السؤال عما إذا كان المقصود بميّت الأمس الايديولوجيا أو ماضي ماركسِ راعي سكّانِ [غالباً]، هو ذلك المقصود والمدعوم، بالفعل، بإجابةٍ صريحة في قصيدة(تحولات) كتبت في ذكرى ماركس لوداع الأيديولوجيات:
ماركس!
كنت شدّ ما كنتُ، وفيّاً
لك. وكأنك صديق مسافر. الآن...
افترقت بنا السبلُ والتبست الرموز. ربّما
لم تكن مخطئاً تماماً أيها الجدّ. ربما
لم أكن مخطئاً تماما أنا أيضاً. لكن قسوة
التحولات. لكن "الحال الذي لا يدوم". لكن الزمان
الذي والمكان
الذي..
ماركس:
وداعاً! (ص93)
هذا الوداع، يفضي إلى تقاطع النبريص، بوصف الذات إنسانية، في الوقت نفسه- بأفكاره ومواقفه واقتراحات نصه الفردية الفكرية الجمالية- في الدعوة الرواقية؛ وقد نظر الرواقيّون في الفرد إلى "المواطن العالمي" أو "الإنسان العالمي"، واقتبس المسيحيون عنهم الدعوة المحوّرة: "الإخاء المسيحي". ومن منطلق الإيمان بذلك، يعبّر النبريص، بغناء النثر الصريح المباشر، عن هذه النزعة الإنسانية المتخطية للإطارات والألقاب الجغرافية والمحلية والهتافية، في قصيدة: "صغيرة كغرفة"؛ فالدلالة، هنا، تنصرف إلى معنى: أنّ كاف التشبيه = من أجل المقاربة؛ إنما تتجمّل بهجاءِ الضيق، ويتحلّى بالتوجّه للواسع الإنسانيّ من قيم وحبّ وشعر:
أنا شاعر بروح
لا يسعها الكونُ
فكيف تسعها هذه الصغيرة كغرفة؟
أقولها
ولا أخاف:
(أنا أكبر منها)
وأظنّ:
هكذا يجب أن يقولها كل شاعر
وخصوصا إذا كان فلسطينيا ومحباً لفلسطين
فما أكبر الشعر في المطلق
وما أصغر بلادنا في الخريطة!(ص31)
وفي الموقف الثقافي من الثقافي، حريّ بنا التأمّل في توصيفٍ، سبق أن جعلناه، للشكل الشعري لدى النبريص: " كهرباء العقل". لنرى أن هذا التوصيف لم يكن اعتباطياً؛ لكون الشكل في مماهاة مع مضمونٍ أشدّ إشكالية في وقت المناحي المختلفة الراهن؛ ما يفرز الخطاب الراديكالي المتمرّد على المظاهر الجامدة والسطحية، غير الأخلاقية، وغير الجمالية:
غنيمة في حرب
بزات كاكية
وانتهازيات مختلفة
قصيدة النثر!(ص25)
أنظرْ!
حتى وهو ( يتنهّدُ) يظلّ بيروقراطياً!
يا إلهي!
أما من برقٍ تائه يعبر هذه الروح؟؟ (ص24 )
فالبرقُ، شكلاً ومضموناً، على صلةٍ، عقلية وحسية، بكسر الجمود وظلاميات النواحي والمناحي، وذلك بالعقل التقدمي أو بـ "كهرباء العقل" ذات الأصالة المستمدة من جوهر الطبيعة. هذه النوستالجيا لـ"عصر الأنوار" مُحِقّةٌ، ومحقّقةٌ في ثلاث انفعالات عقلية متتالية، يعقبها سؤالٌ مضغوط في واحدٍ، ومصرَّحٌ عنه بعلامتي استفهامٍ؛ كما هو ملاحظ في القطعة الثانية السابقة! وهذه الشحنات الانفعالية في انتمائها للعقل؛ منقطعةٌ عن العاطفة في ذيوعها السنتمنتاليّ في مناحي الحياة الراهنة:
كيف أعيش حياتي هكذا؟
في الصباح: الفول والشاي،
في الظهيرة: النوم.
في المساء: الأصدقاء السنتمنتاليون،
وهكذا دواليك
وهكذا دواليك.(ص100)
إنّ من شأن، وواجب هذا المقطع السابق، المقطوع من نصّ (ما الذي فعلته في حياتي)، المنطوي على مراجعة الشاعر لمعطيات الحياة؛ أن يكون العتبة التي سندخل عبرها من البوابة الوجودية للجانب الشعري الفكري الوجودي لدي الشاعر باسم النبريص.
الجانب الشعري الفكري الوجودي
فيما يتعلق بالجانب الفكري الوجودي، أيضاً، نحن في استدعاءِ الفلسفة الرواقية، لا سيما رؤيتهم أنّ الغرض من الحياة هو تحقيق السعادة، لكل فرد. السعادة، هنا، هي كبت الانفعالات العاطفية، وإخضاع الرغبة، غير الأخلاقية، لحكم العقل. إنّ فضيلة الرواقيّ هي الحياةُ بموجب الطبيعة (العقل). ولكنّ هذا ليس بحكر على الرواقيين وحدهم. وليس، أيضاً، يعني لزومَ الصرامة؛ إنما للعقل، هنا، فرصة الانعتاق من الذهن، والسموّ للقمة المشتركة بين الشعريّ والفلسفي.
لكن، نبقى في شعرية العقل. وفي وقوف النبريص على مادة الموقف الفلسفي الوجودي، لاسيما في نهوض المقال على مفتتح وركيزة "الموت" كإجابةٍ محتومة، على سؤال الخلود، يقتبسها من توفيق صايغ:
هذا هو أنتَ
من المَنْي إلى المنيّة.
وكذلك "النشوة" كإجابة حسية من صقل العقل، على السؤال ذاته. فهذه "النشوة"، التي ستكون منذ هذه اللحظة محور جولتنا، هي "النشوة" المُفَكَّرُ بها. غير تلك المُدانة بجموح الرغبة. النشوة المُدَبَّرة، غير تلك "اللذة" المُحققة بالسعي الأليفِ، والمنزوعة بالسعي الوضيع. "النشوة" غير "اللذة" التي هي قضية خلاف عريق، بين الفلاسفة الإغريقيين والسفسطائيين؛ حول ما إذا كانت فضيلة أم لا فضيلة. إنما هي "النشوة" الأخلاقية والجمالية؛ هي الفضيلة بفضل تدبير العقل الشعري لها، حيث الشاعر رواقيٌّ، من دون أن يكون رواقياً.
والآن، إنّ لدينا الرغبةَ في استثمار المفارقة بين "الطبيعة" و"مسرح العبث"، ففي ذلك تناولٌ للفكر وتوطين لـ"فنّ الحماية" في حياة الكائن البشري؛ فإذا كان الضحك البشري العالي صورةً من صور انفعال المتلقي بقصد الحماية من اللامعقول وفقَ الفلسفة الوجودية؛ فإنّ مُراقبةَ الحيّ من كائنات الطبيعة- "اليعسوب" مثلاً في قصيدة (أحكم الكائنات) إنما يُعبّر لدى النبريص عن حيلة العقل بقصد حماية النفس من عدمها الحاضر في سؤال الخلود، وتلهيتها بإعادة القرابة والأصالة، ولو بالوساطة التكنولوجية- التي نُشاهد من خلالها مسافة الحرمان- لعلاقة الإنسان بالطبيعة الأم:
أفكّر في اليعسوب
رأيته في التلفزيون،
ورأيتُ لحظته الخالدة
كان هو وكانت الملكة
وكان سريرها أعلى ذؤابةٍ
في شاهق الشجر،
كم كان سيدَ لحظته
كم كان رواقياً خالصاً
كم كان! وهو يشرع..
وهي تعنو له،
وزهرةُ الجنس بينهما
تتفتحُ
ياربّ أيّ حَسَدٍ
ضرَبَ قلبي آنها
وأيّ احترام مَحضته
وهو يتقدّم
جريئاً نحو لحظته الخالدة
جريئاً نحو موتهِ المحقّق بعدها(ص46)
فالشاعر في (أحكم الكائنات) هو بوزن المفكّر الوجوديّ الذي يجابه سؤالَ الموت بإعلاء مشهد "النشوة"؛ بعد تخليص المشهد من حقيقة الحكيم التراجيدي. وذلك بالتحايل على مصداقية العقل هذه المرة. فهنا، في ربط الموت، حقيقةِ ذاتِهِ، بـ"النشوة" يَظهرُ سؤال الخلود مُجاباً عنه بالتفكير الجماليّ في منشط اليعسوب السعيد وكفى. إنه يُحقّق خلاصه وسعادته في برهته الخالدة. إن هذه المُشاهدة الفكرية الفردية لليعسوب ترتدّ على الإنسانيّ، فيما هي تردّ الآن، الحيلةَ أو الحماية لعجزها؛ ذلك لأن الاهتمام بغبطة اليعسوب وحجب العقل عن حقيقة مآل الكائن، إنما يؤكّد انكسارَ دلالة التجاوز أمام برهان الموت: "جريئاً نحو موته المحقق بعدها". كذلك، فاستغراق الذات في تأمل اليعسوب وغبطته هو بمثابة تلهية للنفس بتمثلات وجودية حية الحضور، وفي ذلك اتكاءة جمالية لرؤية الحياة في "نشوة" اللحظة، ورغبة في إقامة العقل في السعادة والحماية، وبالتالي، أخذُ إقامةِ العقل سِعَتَها الكونيّة، بالقرابة من {الله} قرابةً ذات مُتجَّهٍ صوفيّ. على أنها تظلّ "النشوةُ" تستغرق "مقال في معنى الريح" في أزمنة: المرأة، الكتابة، تأمل الطبيعة. فَمسرّةُ العَدَمِيّ في زمن المرأة تكشف عن انكشاف العقل على حقيقة الموت، دون اختلاق حيلة عقلية؛ إنما الحيلةُ -الآن- قد تجسّدت بالمرأة بوصف الأخيرة حمايةً حسية ومَسرّة حياةٍ لهذا العدميّ، وهذا مُتَّجَهٌ صُوفيّ آخر:
ماذا عليك لو
أعطيتها في ليلةٍ كهذه
من دفء نعناعك السائل؟
أيها العدميّ الطيّب
كُنْ أكرمَ من أبيكَ
ولا تتردّد!
ليكونَ له المجدُ كاملاً في الأعالي
ولكما بعضُ المَسرّة في الأرض.(ص20)
وثمة إقامة للشاعر في حماية أخرى، في ليل فرديّ وخصوصي، الكتابةُ فيه للاستغراق في زمن "النشوة" بما هي غاية في ذاته وذاتها، وبما هي وسيلة معنوية لحماية الفرد من الليل العمومي. إنه كذلك، ومن أجل اشتقاق أشكال الحماية، من أصلها الأول، "النشوة"، يجعلُ من الليل مأمناً ومبعثاً للرضا، فيما الليل العقليّ مكان وزمن للرهبة. يجعله مأمنا وموقفاً للتجربة والإقامة المختارة. وقد عقد القرابة بالتأمل بين الليل كليل والرحم كرحم، من أجل توضيح ما يدركه العقل من فرق حقيقي بين الليل كصيرورة عدم، والرحم كوجود، ككينونة. هذا الإدراك يتجلّي كحقيقة ليست بمنزلةٍ الظنّ أو التأويل لغاية الآن. لكن ثمة سعي شعريّ، في ملابساتٍ فنية، لغض العقل عنها باستدعاء التماهي بين الرحم والليل:
بعد ثلاثين سنة من ألفة الوهم الجميل
استيقظ الشاعر على الحقيقة الذريعة
الليل ليس رحماً.
كلا!
ولا يمكن اعتباره كذلك!
بل من الهرطقة القول بإمكانية تصور الأمر
فالليل ليل والرحم رحم
مستحيل أن يتماهيا معاً
إن في الرحم أشياء لا يوفرها الليل
التغذية الذاتية مثلا
والنخط.....
هل يمكن أن يوفر الليل نخطاً للشاعر؟(ص105)
إذ، يمكن، هنا، تفسير الحماية على أساس أن الليل مَحَلُّ إقامة الشاعر، ومحلّ خلق الكتابة، بما هي حمايةٌ يحققها الاستغراق في "نشوة" الخلق. وكذلك الرحم محلّ كينونة الطفل في عالم لا يدرك المسؤولية وقضايا القلق. تلك هي ما تسبغه قصيدة (بدائل للرحم) في القارئ، وتكون في تأييدها، من قبلُ، قصيدةُ (ليل كهذا) فيه ما لا تقدر الحيلة مع برهان الليل: ذلك الموت.
ليل من سديم وعتمة.
ليل من هيولى وغمغمات.
ليل من قصب وميتافيزيقا.
ليل من شجى وماء وانتباهة روح
الآن وقد نامَ من حولك الدهماء
نامتِ المدينة
نام طياروا سلاح الجوّ الإسرائيلي
الآن: جيد أن تفكّر في الكتابة
جيد أن تتأمل
جيد أن تقرأ.
فمن يدري
ربما تنتظر عامين آخرين
لتتمتع بليل كهذا(ص98)
كذلك، فإننا نعثر على شكل من أشكال الحماية في نصّ بعنوان (قرابة)، فيه من العبثية ما يجعل عرفان الفرد مندلعاً لها، إنّ هذا العرفان هو بمثابة صلاة تقيمها الذات في حماية هذه القرابة ذات المنزع العبثيّ:
... غير مرةٍ:
الأمعاء الرخوة تحيل إلى قصيدة متماسكة.
... غير مرةٍ:
تأخذني هرطوقيتي إلى رعونة الضحك.
... وكل مرةٍ:
يندلع العرفان عالياً لهذه القرابة!(ص72)
كذلك، أيضاً، فهنا، من الطرد والسلب الوجودي، في مقال الشاعر، ما يعين على متابعة مظاهر القرابة مقترنة بالحماية. في مقابل، دحض القرابة، وبالتالي، الحماية، في إثر اقتران معنى الامتناع بالعدم. فتفكّرُ الشاعر بسؤال الخلود يكون من الغباء أمام حقيقة من مثل <عدم وجود سيجارة>. إنّ هذه الجملة المحروسة تعنى زوال الحماية وبطلان التلهّي عن سؤال الموت بـ"نشوة" السيجارة، بما هي السيجارة، صورة من صور الحماية التي يطلبها الشاعر. إنّ "عدم وجود سيجارة" هو بعلاقة وجودية سببية بـ" يمنع ميلاد قصيدة!"، وفي ذلك العدم والامتناع، حقيقة عجز الشاعر عن حماية وجوده:
إلهي! بعضهم -قال- يفكّر في "الخلود"
بعضُ أغبياء الشعراء يأخذُ الحكايةَ على مَحملِ الجدّ
اللعنة!
أي خلودٍ هذا وعدم وجود سيجارة
يمنع ميلادَ قصيدة!(ص83)
إلى الآن، يصلنا إدراكٌ أنّ الشاعرَ يتّجه اتجاهاً جمالياً لكائنات طبيعية حيّة في خلق الحماية إزاء ما يتعلق بقلق الشاعر حِياَل سُؤال الخلود. لكنّه يتّجه هذه المرّة اتجاهاً مادياً للأشياء الصلبة مضيئاً، بذلك، المُستهلَكَ الثانوي أو المهملَ في نظر المَتفكّر بعلاقة البشريّ بالطبيعيّ. فهنا يستغرق الفكرُ في تأمّل حضور الشيء المهمل. فهو، إذ يتوجّه بالحديث "إلى سدادة كوكاكولا"، يقصد - في سياق سؤال "الخلود"- إثارةَ حقيقة تفوّقها على الكائن الهشّ.
أكانَ لا بدّ أنْ تخلقنا من مادةٍ هشّة
كهذا الطين اللعين؟ أكان ضروريّاً ذلك؟
غفرانك يا إلهي!(ص82)
إنّ إعادة المهمل -سدادة كوكاكولا- بعد أن كان منسحباً في ذاته، وفق وجودية هايدغر، في هذه الحالة، يكشف عن حقيقةٍ، لا يمكن للحماية المثالية والحيلة العقلية والحسية معاً، هنا، أن تَصون الإنسان من برهانها الماديّ الصلب الذي يستغرق الخلود في زمنه. لكن، وعلى الرغم من ذلك، لا ينقطع الشاعر عن جلب الحماية وقد عبّرَ، عنها، بتلهّيه الحسيّ بشرب السائل السحريّ في صهد ذلك الصباح:
يا 3 غرامات من البلاستيك
هل قلتُ لكِ إنكَ أكثر خُلوداً مِن
الكائن البشريّ
ورزانةً
وحكمةً من الأشجار؟
وثقلاً من الفكرة؟
وهل، أيضاً، وَسَمْتكَ بالأشدّ وسامةً
من فتحاتِ الإناث، بشَرياتٍ وغيرهنّ أمْ
تُراني تلهيتُ عنكَ بِشُرْبِ ذلك السائل السحريّ
في صهد ذلك الصباح؟(ص52)
إنّ هذا الشمول في توجّهِ الوعي للخارج يتضمنه انحيازٌ وتبجيل ثرّ للطبيعة بحيوياتها التي تشكّل مَعيناً لأفكار الوعي. ففي جوهر وُفُوراتِ هذا التوجه للأشياء الحية الحسية، في مقابل ندرة التوجّه للأشياء الصلبة؛ نجدُ أصالةَ الانتماء للطبيعةِ، وإن بدا الحديث، أعلاه، يدور في حقيقة فناء الحيّ و استغراق التافه - من قبيل 3 غرامات من البلاستيك- في الوجود.
مادة الروح/ روح المادة:
لمالارميه عبارة شهيرة، تقول: "الشعر لا يصنع من الأفكار، إنما يصنع من كلمات". هذه الكلمات سوف لن يكون لها أن تكون من عالم المُثُل. إنها أشياء العالم، المادّة التي يُحْييِها الفنُّ بكيفيات جمالية. إنّ أيّ سؤالٍ عن الكيفية لا يعدو أن يكون سؤال الفنّ؛ فالإجابة عن هذه الكيفية نجدها، مثلاً، عند ميكائيل أنجلو، أحد فناني عصر النهضة، وقد أجاب بخصوص كيفية أو فنية خلق التمثال، بقوله: "التمثال موجود في الحجر، وما على الفنان إلا إن يزيل عنه الأحجار، التي تغطيه ويخرجه من بينها". فهناك فكرة وصورة؛ فما كان مثالاً أو غايةً في الوعيِ أو صورةً أصبح بكيفيةٍ ما شيئاً جمالياً "التمثال". إنه تجسيدٌ للفكرة، وتركيز على إبداع الصورة.
في الكتابةِ نحن، في كلّ الأمر، أمام نصّ، ولدينا معطياتُ الإيحاء والإشارة: الأول وجدانيّ، والثانية بحاجة إلى فاعليات الكشف الجماليّ، كون أننا نقرأ النصّ المرن؛ لا الجامد الصارم، ذلك لأننا لسنا في مؤسّسة منطق ورياضيات. وهنا لنا أن نتذكر البنيوية وشبكات العلاقات وبؤر التوتّر والارتكازات، في النصّ.
أما بشأنِ ثنائيةٍِ ميتافيزيقيّةِ الحضور، هي: المادة/ الروح؛ سنبني سؤالاً، على سبيل التخصيص، عن روح، أو بمعنى مكشوف، عن مزاجية إنسانٍ ما، الآن؟ لنفترض إجابةً: أنّ الروحَ "متوتّرة". سنقول للإنسان: إثبَتْ على الافتراض، كُن ميتافيزيقياً! وكن مرناً في آن. كُنْ في المُناورة حتى يناولك الفنّ قطيعةَ الأيديولوجيا. فهذا الكلام لا يخونَ الله ولا الوطن ولا الزوجة!
إنّك وأنتَ تَتلَسّنُ عن روحك بكلمةٍ خبريةٍ واحدة: "متوتّرة". دون أن تكشف مضمونك الشخصيّ والاجتماعي؛ تفسح المجال للمرونة أمام التضمين و الغمغمة؛ فهذا، إنما، يَخدم الفنَّ الذي يدحض التسطيحَ، ويُعظّمُ الجمال قبل المضمون؛ حتى وإنْ كان المضمون بعلاقة نبيلة بـالتعدّد، بـ "التوتّر"! سنقول: خُذ مسكنَكَ في اللغة، فـ"اللغة مسكن الوجود"، على حدّ تعبير هايدغر. دع روحَك مع اللغة في حالة تخمّر. ورجاءً ألا تكون صاخباً كضجّة الانسحاب من غزّة، ولا عاجلاً كالفضائيات. لا تجعل المفردات تهرع في الحدث. كن صلداً ولا تكن بليداً، كن إسفنجةً. وتأكّدَ أنّ تحتَ الوعي وحواسّك هيولى. إنهما الآن: الحالة واللغة في جُهد الكيمياء! أنتما في جُهد الخيمياء! أنتما في جُهدِ الغامض!
اللغة مادة الروح. كيف سنسلك طريقنا للبرهان على ذلك؟ لنبدأ:
أمامنا زجاجة مملوءة بالماء، وإنارةٌ في شارعٍ ضيّق؛ إرفعِ الزجاجةَ لتصبح في مستوىً وَهْميٍّ مع عينيك، وخلّها بموازاة سبب الإنارة. واتّبع خداع الحواسّ. ثمّ بعد ذلك، عبّرْ لي باللسان: تتلألأ. ترقص. ترتجّ. ترتجف. لكن، كيف سأعرفُ، بالشكلٍ الثابتِ، أن لكلّ فعلٍ ثابتٍ فاعلاً مقترناً بشكلٍ ثابت ومناسباً للفعل وكفى؟! هذا سؤالٌ ينطوي على جهامةٍ ميتافيزيقية! لكن، لنسدد، بلطف المرونة، للجهامةِ السؤال: من التي تتلألأ: الإنارة، الزجاجة، الماء، العين، الروح؟ من التي ترقص: اليد، الماء، الزجاجة، العين، الإنارة، الروح؟؟ سأنحْتُ صورةً شعريّة، ضدّ تقاليد المنطق: الماء ترتجف. وبالمصادفة: أنتَ بيدك الآن سيجارة! أجبني: لماذا يدك ترتجف؟ ما سرّ الحاجة إلى الإجابة عن السؤال بصورة شعرية؟ قبل قليل نحتنا صورة شعريةً: الماء ترجف. وبعد ذلك سألنا سؤالاً بعد الملاحظة: لماذا يدك ترتجف؟ أحسّ بأنك لن تكون حقيقياً. لديّ حَدسٌ بأنكَ تندسّ كثيراً، بلطف المرونة، من حقيقةٍ نفسيّة أنتَ تعيها. أنْ تندسّ، بلطف المرونة، يعني أن تكون جمالياً؛ كأنْ تجيبَ مُبرّراً: يدي بردانة، أو كأنْ تقول: عُروق يدي تغني؟ أو كأن تدندن: يدي منتشيةٌ بأغنية السيجارة؟ إنها إجابات الصورة الشعرية، التي تحميك من أن تجيب: إنها الشيخوخة. سوف يكشفك فرويد.
أنت تتذكر أنك منذ قليل أفصحتَ عن روحك بالكلمة الخبرية الواحدة: "متوترة". هذه الكلمة، في حدّ ذاتها، سأعتبرها مجمعَاً لعالم أو لـ"مادّة الداخل". إذ أعتبر أنّ الوعي مُتَوجّه للداخل. فلو قلت: إنّ روحكَ "مُتهشّمة"؛ سيقصدُ وعيي شيئاً سريعَ التهشّم، "صورةً صوتية" كـ"المرآة"، أو كَـ"سِرْبِ كؤوسٍ"، مثلاً. هنا سأنظر إلى أنّ وعيك يَتجه للخارج. نحن الآن كنا في جدلية الوعي/الموضوع، أو نحن الآن، قليلاً، في الظاهراتية أو "الفينومينولوجيا". وإذا ما عدنا مع جاك ديريدا إلى هيغل في كتاب "فينومينولوجيا الروح"، فسنجده يصف:
1. علاقة الوعي بالموضوع بوصفها حقيقة، أو بوصفها علاقة للحقيقة، من حيث كونها مجرّد موضوع،
2. يصف علاقة الوعي بالموضوع، من حيث أن الوعي هو الحقيقي،
3. كما يصف العلاقة الحقيقية للوعي مع الحقيقة.(1)
أما أنّ "الوعي أولي والموضوع ثانوي"، فهذه هي وثيقة المثالية. معكوسها، بالضبط، برهان "المادية". لكن، نحنُ مانزال نتحدّث في هذا الجانب عن مادة الروح/ روح المادة. إذ يجدر بنا، الآن-أيضاً، استحضار هيغل كأمينٍ على نسقٍ فلسفيّ خالدٍ؛ له قولٌ في الفنّ والجماليات..[ فبحسب تقسيم هيغل للفنّ تكون (الرمزية) حيث "تكافح الروح أو الفكرة نصف كفاح لتبرز من كتلة المادة"، أما الكلاسيكية فهي " انصهار الفكرة(أو الشكل) بالمادة انصهاراً كاملاً"، أما حين " تتدفق الروح وتغلف المادة باشباعٍ واعٍ لذاته"(ص536/3) فتلك هي الرومانتكية](2).
وقد اعتبرنا، في التو، اللغة "مادّة" والروح "متوترة". والآن- لنستبدل، على سبيل الترادف اعتبارنا السابق بإعتبارها الآن: "مُتقلّبة". إنّ روح المادة هي أنّ حصان الشعر من "متوتّرة" ينطلق فارّاً في الشعرية من التوتّر، من التقلّب إلى الثباتِ، إلى التشيىء، إلى المَسْكِ والاستتباب والاستقرار، إلى اليقين الظاهراتي.
هذه قصدية الوعي، للمَسْك والإستقرار، نراها في تمثّل الروح بالمادّة، من خلال أمنية الشاعر النبريص أنْ تصير الروح وتداً، إذ الوعي يتوّجه، الآن "إلى رِجل طاولة":
أحياناً،
بالأمس مثلاً:
تمنيتكِ وتداً لروحي.(ص50)
ولعلّ من فطنة التفكيكِ هنا أن نشير إلى أن هذه الـ"أحياناً"، التي نعيها الآن، وهي تبشّر بظاهراتية النُدْرة؛ تنطوي على الـ"غالباً"، بما في مكمن الأخيرة في مظهر الأولى، من وفرةِ عذابٍ محض.
هذا التفكيك، أيضاً، لرسالة الشاعر المتوجّه "إلى رجل طاولة"؛ هو يكشف انطواء المرسل، على حيرةٍ مشروطة بالفكاهةِ والسخرية، وإنها لتثير شفقةً، على حقيقة الحبسِ الوجوديّ. فبمقدار ما يمتليء وعيُنا شفقةً على وجودية الشاعر، يَمتليء ، بدوره، في الوقت ذاته، وعي الشاعر، رأفةً وشفقة على وجودية الحجر:
حتى أنت أيها الحجرْ
حتى أنتَ أشفقُ عليكَ!
ألست مثلي سَجيناً في شكلك؛
شكل الجسد؟
عفواً، شكل الحجر؟!(ص140)
وسوف لن يكون لنا أن نخرج، أبداً، من هذا المَعقل والمعتقل الوجودي؛ حين نقفُ في تأمّلِ أمنية(رمزيّة) المقطع التالي للشاعرة سمية السوسي(3):
لو أنّ روحي علّقت بضفيرتي
- تُعجبُكَ الضفيرةُ-
لقصصتُ رُوْحي
كي تظلّ لكَ الضفيرةُ.
فلا منازعة، في المَعقِل والمُعتقل في آن، بشأن فرضية أنّ لغةَ (مادّة) السوسي تتضمن روحَ الإدمان على الآخر إلى حدّ التضحية. هذه التضحية نقرأها من صورتين: الأولى، من توجّه الشاعرة نحو "تشييء" الروح في هامة الجسد- "بضفيرتي". والثانية، من توقيف شرط التضحية - " لقصصتُ روحي كي تظلّ لك الضفيرة"- على تحقّق صورةِ التضحية الأولى "التشيىء". هذه التضحية ليستْ هِيَ، بحال، الخسرانُ. هي المَسْكُ والكسبُ. وهي المنحُ، كـبُرهان على الإدمان على الآخر. هذا الإدمان هو عَفَوية التوجّه للخارج، وهو جبرية التوجّه، في آن. فهُنا يُصبح الآخرُ مُهيمناً. لكن من هو الآخر؟
الآخر، هنا، الأشياءُ أو الخارج، أي ليس الداخل، الأشياءُ وهي تمتزجُ بالداخل. ويكون الآخر هو المُهيمن الحسّي، لدى الشاعرة. إنه آخرُ تعْقِدُ معَه الذاتُ تصالحاً جبرياً يفوز بالهيمنة. فالهيمنة هي وعاءُ التضحية والكسب. لكن، فإنّ الهيمنةَ في حضورها الذي يُغذّي سياقَ قراءتنا لوعي الذات لذاتها أو لامتدادها الذي يجمع ويسند إليه؛ تنسحب على مضمون رسالة النبريص، كما هي في مقطع السوسي؛ فالنموذجان يقعان في هيْمنة الخارج. وفي الوقت ذاته، يقعان في رغبةٍ وجودية، وإنْ وَشْوَشَ لنا التأمّلُ بفروقٍ في كُنْهِ الرغبة بين الشاعرة والشاعر.
إن التوجه للأشياء، في هذا الصدد، لا يعنى تشيءَ الروح، بقدر ما أنّ ذلك يَعمل في الإضمار؛ ولنا أن نسوق دعامةً لهذه المناسبة، من حوارٍ أجريَ مع الروائي الفرنسي آلان روب غرييه؛ يذكر فيه: "أن رولان بارت كتب عن رواية "المماحي" مقالاً عنوانه " الأدب الموضوعي"، أي الأدب المتوجه نحو الأداة، نحو العالم الخارجي، أي أن هناك فاعلاً يتوجه نحو العالم الخارجي، لا نحو نفسه، كما هو الحال في الوعي عند هوسرل.. كما يرى غرييه، أن الوعي لا يُحَلّل من داخل نفسه، بل يسقط على أشياء، أي أن هذا الوعي لا يوجد داخل نفسه بل هو حركة نحو العالم الخارجي..الشيء لا يوجد في ذاته بل ينبثق من خلال النظرة، القارىء يحس أن الكاتب يصف العالم الخارجي ولكنه في الحقيقة يتحدث عن "العالم الداخلي".. وبهذا الصدد أيضاً، فغرييه يذكر قول جان بول سارتر:" الوعي عند هوسرل لا يملك داخلاً" إنه وعي متوجه كاملا للخارج. وربما هو الوعي الوحيد الموجود"(4)
هذا التوجّه، عبرالشعرية، للأشياء، يتطلب أنْ نفهمَ حركةَ كشفِ واستعمال وعي الذات لـ"ذاتِ"ـه أو لموضوعه، والذي، هو، في جوهره: وعي الكائن سؤالَ الحرية الذاتية الوجودية. وهنا، بشأن الجملة الفعلية السابقة: < يتطلب أن نفهمَ حركة كشف واستعمالِ وعي الذات لـ"ذاتِ"ـه أو لموضوعه>، جديرٌ بنا أن نكون في حَسْمِ هايدغر، لهذه المسألة، وهو يُقدّمُ إشارةً مُفارقةً للعلاقة الميتافيزيقية المنتهية في يقين أن الذات و(الأنا) بعلاقة خاصّة وثابتة بالإنسان. إن هايدغر يطالب بضرورة أنّ نفهم " كلمة "ذات" هذه "Subjectum"، في الحقيقة، كترجمة للكلمة الإغريقية "أيبوخيمنون" التي تعني: ما هو ممتدّ أمام.. أي ما هو بمثابة عمق يجمع ويسند إليه..(كلّ شيء).. ذلك أنّ هذه الدلالة الميتافيزيقية لمفهوم الذات، عند هايدغر، ليس لها في البدء أية علاقة خاصة بالإنسان، وأكثر من ذلك بـ(أنا).(5)
إنّ أحداً يقرأ ألفَ كتابٍ وهو مستلقٍ على ظهره، سوف لن يهنأ بإفاضة الكلام من بئري بصره، على لسانه الذي من فرط دهْشةِ الكَمّ يلغو بغير "كيفية"؛ هذا لن يجدي شيئاً، ذلك لأنّ الوعي (إسفنجة)، ولأن العينينِ حلقةٌ بين الآخر (العالم) والوعي. وأذكّر أنني قلت: لا يجب أن نجعل المفردات تهرع في الحدث.َذلك لأنّ تحتَ الوعي والحواسّ هيولى.
ليبزغ الفجر من سمائِك الخفيضةِ يا خانيونس(=)
وليخرج اللّحامونَ بذبائِحِهم إلى السوق
ولتلتهب العصافيرُ شقشقةً ضاجّةً
وليستيقظ أولادُ المدارس مُتبرّمينَ
وليشتر الجارُ-نِصفَ نَعسان- صَحنَ فولِه
ولتدلق الجارةُ-مُتوردةً-ماءَ استحمامِها
ولينده بائعُ الحليب نداءَه البائرَ
ولتحمُ الشمسُ
وليتصاعد غبارُ الخُطى في الطرقات
وليتعال دبيبُ المكائدِ في الصُّدور
وليتطاحن الحمقى على نصيبٍ من الجِيفة
وليجأر غيري بشكواه
وليهنأ سواي بانتصاراتِه
وليستمع ثالثٌ لأخبارِ لندن
ولأظلّ أنا (أنا ماليا)
حتى يجيءُ ذلكَ الغائبُ المشتهى
فيمسحُ باسفنجته كلّ المهازل الواردة أعلاه!(ص38)
مصادر ومراجع:
(*) صدر: "مقال في معنى الريح"، عن منشورات مركز "أوغاريت الثقافي"برام الله/2005.
1- جاك. دريدا، أطياف ماركس، ترجمة: منذر عياشي، ص237.
2- أنظر: مراجعة: جمال عبود[ ص، مجلة الفكر العربي، العدد26/آذار(مارس)1982، السنة الرابعة] لكتاب "تاريخ النقد الأدبي الغربي"، تأليف و. ويمزات وك. بروكس، ترجمة: محيي الدين صبحي، ومراجعة د.حسام الخطيب، صادر عن: منشورات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، مطبعة جامعة دمشق.
3- سمية السوسي، وحدها وحدي، سنابل للتوزيع والنشر، الطبعة الأولى: مارس2005، مصر، ص11.
4- انظر: الحوار، أجرته سلوى النعيمي، مع غرييه، في "الكرمل"، العدد30/1988، ص68.
5- مارتين هايدغر، (التقنية، الحقيقة، الوجود)، ترجمة: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى1995، ص159.
(=) "خانيونس" الواردة في المقطع الاخير من قصيدة للشاعر هي ثاني مدن قطاع غزة وتقع إلى الجنوب من غزة المدينة، وتفصلها عن الحدود مع جمهورية مصر العربية مدينة رفح الحدودية.