يحاور الكاتب العراقي ويفلسف علاقة الإنسان بالأدوات الحميمة كسرير النوم لرجل وحيد يعيش في أمريكا فيسرد للقارئ تفاصيل علاقة السرير بالإنسان وحياة كلاهما إذ يكون السرير شاهدا على أكثر علاقات الإنسان، الجنسية التي سرعان ما تخفت مع تقدم العمر وشيخوخة السرير في نص عذب وعميق وممتع.

سرير النكاح

كاظم الحـلاق

في السنة الأولى من وصولي إلى أميركا أي عام 1999 اعتدت النوم على فرشة سميكة أضعها فوق البلاط جلبتها لي منظمة اللاجئين. وذات يوم زارني أحد الجيران العراقيين واقترح عليّ شراء سرير من سواب مييت swap meet سوق لبيع الخردوات والأثاث المستعمل. فذهبنا في شاحنته الصغيرة ووجدت في أحد أطراف السوق امرأة مكسيكية يبدو على ملامحها الزهد أو التدين ربما في الخمسين من العمر تقف قرب السرير محاولة بيعه فاشتريته منها بخمسين دولارا وجئنا به إلى شقتي. كان السرير بمنتصف العمر تقريبا بلون أسود من الحديد يطلق عليه هنا Futon "فوتان" أي ممكن استخدامه كأريكة للجلوس أو فتحه على شكل سرير.
منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها أحسست بأن ثمة ألفة أو علاقة وجدانية تربطني به أو كأنه سعيد بامتلاكي له، كنت آنذاك في قمة حيويتي الجسدية والجنسية ولم ابلغ الأربعين بعد. وفي مساء اليوم الأول من شرائي له مارست الجنس فوقه مع إحدى النساء الجذابات اللواتي اعرفهن منذ مدة لكن لم يحدث بيننا شيء، فأخذت نوابضه تهتز مصدرة صريراً متقطعاً وكأنه مبتهج أو يبارك لي الممارسة الجنسية.
بعدها نقلت في عجالة إلى جواره كومودينو من الخشب الأصفر بأدراج ثلاثة وضعت فوقه قنديلا كهربائيا وطرحتُ إلى جانبه كرّاسة وقلماً وأخذت أسجل فيها أحلامي في أي وقت استيقظ فيه من الليل، أكثر من خمسة آلاف حلم كنت قد سجلتها في كراسات عديدة خبأتها في الأدراج، والفكرة المركزية التي صبغت عوالم تلك الأحلام هي الاستغراق في العلاقات الحسية والجنسية؛ ممارسات بشتى الأنواع مع فتيات ونساء بمختلف الأعمار والأشكال؛ على سواحل البحار، وفي الغرف والحدائق والمتنزهات والمستشفيات والشقق وملاعب الرياضة والسيارات والأبنية المهجورة، وارتأيت أن اسميه "سرير الأحلام".
عقب ذلك شهد السرير على ممارسات جنسية كثيرة مع حبيبات وصديقات وزميلات وبغايا من كل نوع ولون، والقاسم المشترك بينهن هو سحر الأنوثة والجمال والتأوهات والفحيح المبثوث في المكان، وواصل السرير ابتهاجه وارتعاشه ومباركاته وإصداره للأصوات التي تندّ عنه كأنها ضحكات فرح عالية تمتزج بتنهدات الفتيات مما جعل الجيران يضربون على الحائط كلما انبعثت تلك الأصوات.
وحينما جاء أحد الأصدقاء العراقيين المقيمين في لندن لزيارتي ومكث معي بضعة أيام في شقتي وأريته كرّاسات الأحلام وأخبرته عن قصة السرير وكيف أني أطلقت عليه اسم سرير الأحلام،، قال التسمية غير موفقة أو غير دقيقة والأفضل لو تسميه "سرير النكاح" فوافقته الرأي.
أحببت السرير كثيراً وتعلقت به جداً واعتبرته نذير خير وسعادة لي وحافظت عليه في جميع تنقلاتي، وكنت احتاط وأحذر غاية الحذر وأنا أنقله من شقة إلى أخرى خوفاً من أن يحدث شيء له. كانت اوقات المتع الحسية المسروقة من قبضة الزمن تمر بخفة ودعة مثل السحاب فيما أنا والسرير نتقدم بالعمر غير مبالين بمرور الأيام ولا السنوات، لكن في مرحلة حرجة من حياتي ومن غير سبب واضح أو إنذار أحسست أن طاقتي أخذت تغادرني وجاذبيتي راحت تتلاشى، ولاحظت أن الفتيات الفاتنات شرعن بهجراني والابتعاد عن عالمي شيئاً فشيئاً لتحل في أمكنتهن نساء لا يتمتعن بجمال مميز أو حتى يملن إلى الثقل أو القباحة والسمنة والغلظة في السلوك، اعتقدت بأن الأمر مؤقت وسيزول وتعود إليّ تلك الوجوه المستبشرة والأجساد الرائعة من جديد لكن ذلك لم يحدث، فتيقنت من أن الحياة لا يمكن الوثوق بها أو الاطمئنان إليها وان من طبيعتها الغدر، وكعادتها لا شيء فيها يدوم ،لا الشباب و لا الحيوية ولا الأثاث ولا الحظ السعيد ولا العلاقات، وفي النهاية حتى هي نفسها ستغادر.
لقد انكسرت إحدى أرجل السرير ذات ليلة بوقت متأخر من المساء وأنا في غمرة ممارستي مع امرأة بدينة في الأربعين من العمر، مما اضطرني أن أكمل الممارسة مستخدما الفرشة على البلاط ثانية. بعد أن غادرت المرأة حينما تطلعت إلى الساق المنكسرة للسرير العاري والمغلف بالحزن أدركت كأنها علامة تمرد منه يلومني بها على تخافت أو تدني ذوقي أو خيانتي له.
أردت أن انقله إلى مصلح أو لحام لمعالجة الساق المكسورة لكني تكاسلت فربطتها بسلك ودسست تحتها قطعة بلاستيكية. غير إن ذلك لم ينفع.. وبعد أيام حينما جئت بامرأة بدينة أخرى متقدمة بالعمر لأمارس معها فوقه انكسرت الساق الأخرى. وخلال وقت قصير أخذت أجزاؤه تتداعى وتراخت نوابضه ولم يعد يصدر أي صرير أو اهتزاز،وتوقف وغاب طرق الجيران على الجدار، فأخرجته من الشقة مع صديق في يوم سفري إلى العراق أي منتصف 2008 وأنزلناه إلى أسفل البناية وأسندناه إلى جدار بمحاذاة حاوية النفايات وأنا اذرف الدمع.
بدا هيكله في خيوط شمس الصباح الوليدة المنهلة من بين الأشجار شائخا ومحطماً دون أي سحر أو جاذبية مثل جسدي الواقف على مقربة منه. وعندما قدمت شاحنة نقل النفايات وسألنا سائقها أن نحمله إلى داخل الحاوية لكي يقلبه إلى باطن الشاحنة شعرت بالصدمة وأنا أراه يتداعى متكوما في باطنها مصدرا صرخة موت مدوية أخيرة لاحت لي تنبعث من أعماقي. وبينما السيارة تبتعد راودني إحساس كأن كائن حميم شاركني العيش عشر سنوات توفاه الأجل وها إنني ألقي نظرة أخيرة على جثمانه المبتعد عن ناظري، وانه سيدفن بعد قليل وتدفن معه جميع ذكرياتي العذبة والجميلة في آن.