تطرح رواية نائل الطوخي الجديدة 'بابل مفتاح العالم' واقعا افتراضيا، ووجودا مختلقا لا وجود لهما خارج ذهن الراوي الذي يقاربهما، والذي يؤكد بدوره في سطور الرواية الأولي أن حياته برمتها ليست سوي حلم: 'كل حياتي عبارة عن حلم واحد طويل، يتقطع ولكن لاتزول أسبابه. يغيب حتي أظن أنه لن يعود فأجده علي حين غرة يستعمر نومي لليال متوالية'. وفق هذا المنطق المعلن، فإن الراوي شخصية ورقية، لا وجود لها في العالم الواقعي، ولا تخضع من ثم لشروطه أو مرجعياته هي محض شخصية تتحقق أبعادها وفق قانون المنام، المفارقة المتجاوزة خصيمة المنطق.. وكل ما سنخبره من أحداث ماهي إلا تفاصيل ذلك المنام، ويبقي علينا أن نخمن: من الحالم بكل ذلك؟.
ستواجهنا حيلة أولية مربكة، فالراوي نائل يحمل اسم المؤلف الواقعي نفسه، كأنه ينقض بشكل ما ما اتفق عليه مع متلقيه المفترض. هي حيلة تجبر القاريء علي إقامة قدر من المقاربة بين المؤلف والراوي، وبالتالي الرغبة في التصديق، أو البحث في سؤال 'المحاكاة'. هذا الإرباك المتعمد يبدو رغبة دائبة في طرح سؤال مركب: إذا كان العالم محض احتمال وليس وجودا تجريبيا قائما وفق رؤية النص بالطبع فأين تقع الشخصية الإنسانية منه؟.. وهل يمكننا بدرجة أو بأخري قياس غائب علي حاضر والعكس؟!.
الراوي شخص يبحث عن شبيه قديم هو 'مراد' زميل طفولته في مدرسة 'ليسيه الحرية' بالاسكندرية، والذي كان وجهه صورة منه. السؤال البديهي: لماذا يبحث الراوي عن وجه آخر طالما لايزال محتفظا بوجهه، لم يفقده؟. المفاجأة ان 'مراد' هو من تشوه وجهه، بواسطة 'ماء النار' علي يد اخته 'سمية'، وهي عشيقته في الوقت ذاته .. وقد فعلت ذلك كي تبقيه عشيقا لها بعد أن لمحت اعجابه بصديقة لها ورغبته في الزواج بها.
في هذه الأجواء الحلمية العبثية الثقيلة، وذلك القدر العالي من التغريب، يتحرك النص. هناك تفكيك لفكرة درامية شهيرة هي 'ثالوث': الزوج، الزوجة، العشيق. هذا الثالوث يحضر هنا مشوها ومحرفا: الأخ، الأخت وهما عشيقان والعشيق/ الدخيل. وبمنطق مواز تتحرك الرواية في ثلاثة فصول مرقمة بلا عناوين، غير اننا يمكننا ملاحظة اقتسام الشخصيات الثلاث للهيمنة فيها: فبينما تهيمن 'سمية' علي الفصل الأول وتحرك أحداثه بالعثور علي نائل وتقديمه لمراد، يحتل مراد أمامية الفصل الثاني بواقعه النفسي وتشوهه وبسلسلة الاعلانات التليفزيونية التي يكتب سيناريوهاتها علي شاشة الكمبيوتر وهي بالمناسبة ثلاثة اعلانات أيضا، ثم يحضر صوت 'نائل' صفحات الأقسام الثلاثة متقاربة جدا، وهي علي الترتيب: 24،23،21 صفحة وهو ما يمنحها توازنا دقيقا.
في كل قسم تتحرك شخصيتان من خلال الثالثة، التي تهيمن وجهة نظرها عليه دون اغفال لقدر من التبادل الحواري.. غير أن الراوي يظل واحدا هو 'نائل'.. وكل ما يفعله انه يترك للشخصيتين الأخريين حق تقديم نفسيهما متواريا كمحض مراقب، قبل أن يهيمن علي القسم الثالث ليعيد خلق القصة برمتها من وجهة نظره. الاحتفاء بالتشوه، هو في ظني، إحدي مفاتيح قراءة هذا النص المركب واستشراف الذهنية التي تحكم رؤية شخوصه للوجود، إن النص بأكمله يبدو كما لو كان صورة للعالم في مرايا محدبة ومقعرة كتلك التي نعثر عليها في مدن الملاهي.. بينما لن نعثر ابدا علي مرآة واحدة مستوية تعكس الصورة كما هي. 'الأطفال الكهول' علي سبيل المثال، يشكلون الخيال البصري الرئيسي للراوي، ويتكرر حضورهم بامتداد النص: 'أجدهم أطفالا ما زالوا، هم في سنهم الذي تركتهم فيه، ولكن ملامحهم تغيرت بحيث كان عليٌّ أن أجهد نفسي لتمييزها بعد هذا السن. لم يكونوا أطفالا كاملين. كانوا أطفالا كهولا. مثل طفل يولد بوجه مجعد أو بصلعة مرسومة أو بكرش وطيات في جسده ووجهه ورقبته، كانوا يتحلقون حولي، كأنما لغرض شرير'.
وإذا كانت هذه هي الصورة الإنسانية للزملاء القدامي في ذهن الراوي.. فإنها تأخذ شكلا أشد تطرفا في تمليه شبه الهندسي للعلاقة بين وجهه ووجه 'سليمان'، أحد هؤلاء الزملاء: 'عندما أنظر لنفسي الآن في المرآة أجد شخصا غريبا، تنمو ذقني الكثيفة بسرعة، أحلقها فيبدو وجهي أسود من تحتها، اسأل نفسي: من كان المرشح لتملك وجه مثل هذا؟.. أليس 'سليمان'.. من نما شاربه في الابتدائية؟... وفقا للسيناريو الذي رسمته: يصاب سليمان بمرض خبيث، يفقد شعر وجهه تدريجيا.. يصير وجهه الآن املس كوجوه الأطفال أو كوجوه المخلوقات من كواكب أخري، أما أنا فأصير ابن الأرض، ابن الأرض إلي درجة الوحشية'. بالمنطق ذاته، تحتفي 'سمية' بوجه أخيها الذي ذابت ملامحه وانمحت معالمه بفعل 'ماء النار'، وتراه أجمل علي هذا النحو، وأشد التصاقا بها: 'ستقرر أن تكون هي الوحيدة التي ترسم وجه أخيها، وبشكل عاصف لايدع للخصم فرصة التفكير في الرد. ربما كان هذا واحدا من أهم أسباب افتتانها بوجه أخيها المشوه. وجهه الذي صار من الآن فصاعدا هو مرآتها الخاصة، مرآة ملامحها ومرآة انتصارها، بصمتها المطلقة'.
أما فيما يخص 'مراد'، فالوجه الذي يبحث عنه هو العالم نفسه، مراد بدوره قذف ب'ماء النار' علي وجه العالم ليختصره في ثلاث إعلانات تليفزيونية منحها اسما دالا في الملف الذي يحفظها فيه علي شاشة جهاز الكمبيوتر: بابل. ربما لاتحتاج مفردة 'بابل' لشرح ماتنطوي عليه ميثولوجيا كقصة توراتية شهيرة ضمها الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين، وصارت إشارة ثقافية علي انهيار العالم وهيمنة العدم.
يمكنني أن أختزل 'بابل' ك'دراما' في الوجوه وليس في سياقات انسانية مكتملة. 'الوجه' هو السؤال المهيمن، والوجه يبقي كيانا فيزيقيا خارجيا، أيقونة بصرية، تماما كتلك الموزعة علي شاشة كمبيوتر ببساطة.. تحتاج فقط ضغطة كي تفصح عما تخفيه في الداخل. غير أن الراوي لايبدو منشغلا كثيرا بهذا 'الداخل'.. انه يقارب الوجود كصورة مخاتلة، كأيقونة مفرغة من محتواها، كفضاء بصري لن تجد في احشائه سوي الخواء.
الاحتفاء بالتشوه يجد لنفسه مكانا أيضا في رؤية الشخوص لمعان انسانية كبري، كالحب. فالراوي يؤكد لسمية أنه: 'لاحب حقيقي بدون تشويه حقيقي، وأن معني الحب هو أن تشوه من تحب'. التشوه هو ايضا في احدي تجلياته إقامة علاقة محرمة بين أخ وأخته، يبررها مراد ببساطة بالحفاظ علي 'نقاء العائلة' من أي كابوس خارجي. وبهذا المنطق فقط يسمح مراد بوجود علاقة بين 'نائل' و'سمية' ذلك أن وجه نائل الذي يطابق وجهه الذاهب، يجعل منه بشكل أو بآخر أخا، وليس دخيلا.
الزمن في 'بابل مفتاح العالم' دائرة وليس خطأ افقيا. النص يمكن ان يبدأ وينتهي عند أي نقطة فيها، وهو بالتالي نص يملك القدرة طوال الوقت علي ان يكتب من جديد.، وان الأحداث بعد صفحات قليلة يتم فيها الايهام بالتقدم في الزمن للأمام من خلال لقاء سمية بنائل ثم لقاء نائل بمراد تتوقف تماما، وتبدأ لعبة تبادل أدوار في نقطة زمنية واحدة، غير قابلة للتحديد أو كشف الماهية رغم ذلك، تتري عليها الأماكن فقط في أذهان الشخوص: الاسكندرية، القاهرة، والصحراء التي يجري فيها بناء برج، والتي هي مشروع مراد. وفق منطق 'الحلم' أو 'لا منطقه' إن شئنا الدقة يتساوق ذلك تماما مع ما أسس له النصب. وعلي جانب آخر فإن الشخوص تؤسس ل'لا زمنيتها' في أكثر من موضع. تقول سمية لنائل: 'نحن أشخاص محفورون في العدم'. العبارة نفسها، لكن في صيغ أخري يتبناها نائل ومراد في غير موضع. حتي شقة 'سمية' و'مراد' التي تمثل المكان المهيمن في النص، هي صالة محاطة من كل جوانبها بالحجرات، في تأكيد علي فكرة الدائرة. النص أيضا يفترض كون الوجود برمته دائرة تبدأ من نقطة لتعود إليها، مستبعدا أطروحة وجوه شيء ما يحدث بشكل فعلي..
إن 'بابل' هي بالضبط 'الفراغ المحاط ببصمة من الخارج'، تلك العبارة الجوهرية التي تشكل هاجسا لكل شخوصها.. عالم مكتمل ينتظر بصمة تصمه ليحيا بمعزل عن تماسكه الوهمي واكتماله الزائف، والعكس تماما صحيح، عالم لم يوجد بعد ينتظر بصمة تمنحه شريان الحياة اللازم ليخرج من كونه افتراضيا، من محض عالم بالقوة الي عالم بالفعل. هكذا يساوي النص بين كل نقيضين، كونهما بالضرورة تأكيدا علي جوهر واحد: الفقدان التام للملامح يساوي الإ معان في تأكيد وجودها كما هو الحال مع الراوي وقيام العالم يساوي انهياره. لا معقولية الحلم لاتختلف كثيرا عن معقولية الواقع.. والقبح ليس إلا قرينا للجمال.
ويأتي 'عجز اللغة' كسؤال قار في البنية العميقة للرواية، اللغة التي لم تقرب ابدا بين شخصين، الشفرة التي لاتزال مغلقة علي كل ماتوحي به من جسر تواصل وهمي. في احلام الشخصيات هناك دائما حوار بلغات غريبة، أو شفاه تتحرك دون شريط صوت. العالم لم يغادر اشاريته البدائية، لم يتخلص من كون كل ما يبدر من آهليه احتمالات قد تكون المعني ونقيضه في الوقت ذاته، وهو مايردنا من جديد لجذر عميق في احالات 'بابل' كمحرك بحث في هذه الرواية. يبحث 'مراد' عن طريقة مثلي لعمل سلسلة اعلانات تبشر بمجيء قاموس 'ألف' الذي سيحل جميع مشاكل البشر.. لكن بعد أن يكون البرج انهار والبشرية فنت: 'الترجمة، ومعها الفهم، ومعها امكانات حياة البشر، كل هذا تم بأثر رجعي، وليس هناك أي أمل في اعادة عقارب الساعة للوراء. واحتمالات صلاح العالم لاتحدث إلا في ذهن المشاهدين'.
ينتظر الراوي ابنا سفاحا من سمية، هو أخ أصغر لابنها من 'مراد' .. ليحتل العالم أطفال بلا آباء، بلا ملامح، ولتبدأ دورة جديدة اشد تعقيدا وإلغازا في رحلة الوجود: دورة لن يكون فيها البشر سوي لقطاء، بلا وجوه، فراغ كامل بلا بصمة في متاهة مغلقة علي شروطها، بأبوابها المغلقة، التي لن يفعل حيالها مفتاح 'بابل' سوي أن يحكم ايصادها