تقديم:
ركزت الدراسات البلاغية القديمة في دراستها لظاهرة الاستعارة على مستوى اللفظ، ولم تتجاوزه إلا مع الجرجاني الذي أسس لنظرية الادعاء، فأصبحت الاستعارة حينها تفاعلا بين لفظين، بل بين معنيين، لا يفرغ فيهما اللفظ من دلالته الأصلية، بل يكتسب، بالإضافة إليها، معنى جديدا ينقله من معناه الأصلي ليضيف إليه معنى جديدا. هذه النظرة إلى الاستعارة لم تتجاوز قط حد التركيب، بل ظلت لصيقة به، لذا، حين دراسة النقاد للقصائد الشعرية، كانوا يدرسون موضع الشاهد دون الالتفات إلى تعالق الظواهر البلاغية ودورها في جعل القصيدة كلا منسجما ومتسقا.
لكن، إذا ما بحثنا في الدراسات الغربية، نجدهم نقلوا الاستعارة من الكلمة إلى النص، هذا ما قام به ميكائيل ريفاتير في مقالته الموسومة ب"الاستعارة المسترسلة في الشعر السريالي"، حيث "نظّر" إلى كيفية "ترشيح الاستعارة" وتناميها في النص الشعري على المستويين الدلالي والتركيبي. سنحاول في هذه الدراسة النظر في الدور الذي تضطلع به الاستعارة المسترسلة في انسجام الخطاب الشعري واتساقه. نبسط في الفقرة الأولى كيفية انتقال الاستعارة من الكلمة إلى النص. ثم نعرف في الفقرة الثانية بالاستعارة المسترسلة ونقدم مكوناتها اعتمادا على تصور ميكائيل ريفاتير. بينما نتوقف في الفقرة الثالثة عند مقتطف من قصيدة "شعراء" لصاحبها "قاسم حداد" لنبين الدور الذي تلعبه الاستعارة المسترسلة بوصفها آلية لانسجام النص الشعري. لنختم الدراسة بأهم ما توصلنا إليه.
1. الاستعارة من الكلمة إلى النص:
شكّلت الاستعارة أهم الموضوعات التي شغلت المفكرين، والبلاغيين والنقاد على مر العصور، فقد كانت مجالا جاذبا نظرا للدور الذي تلعبه في نقل معاني النص باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز الخطاب، لهذا كانت الدراسات تهدف إلى كشف كنهها وفهم آليات اشتغالها. ورغم الاختلافات في وجهات النظر والمنطلقات إلا أن الأسس التي حكمت رؤية الاستعارة تقليديا كانت ثابتة، بحيث ارتبطت في أذهاننا باعتبارها مجال البلاغيين والأدباء، وبوصفها ظاهرة لغوية يتم فيها استخدام لفظ عوضا عن لفظ آخر على أساس التشابه بين طرفيها، فيما يسمى بالنظرية الاستبدالية، إلا أن الجرجاني فطن لظاهرة توسع المجاز وتجاوز حصره في اللفظة الواحدة وذلك من خلال نظرة تفاعلية تقر بأن مفهوم الاستعارة لا يكمن في اللفظة في حد ذاتها بل يكمن في التوتر الحاصل من التركيب، وهو ما تحدث عنه ريتشاردز وبلاك اللذان انتقدا المنظور التقليدي الذي يعزل الاستعارة عن سياقها التركيبي، إذ اقترحا تسمية الكلمة الاستعارية ب"البؤرة" "focus" وباقي الجملة ب"الإطار" "frame"، حيث تفقد البؤرة بعض خصائصها لتضاف إليها خصائص أخرى بفعل تفاعلها مع الإطار الذي بدوره يتعرض لعملية الفقد والإضافة، وهو ما سيتحدث عنه ريفاتير فيما بعد عند تأكيده على ضرورة احترام الانتقاء المتبادل، غير أن وجهة نظر البلاغة الجديدة جعلت الاستعارة تؤدي دورا هاما وأساسا في الخطاب الأدبي عموما، والخطاب الشعري خصوصا، كونها آلية من آليات إنتاج المعنى، "فالشعر يعد أعلى أشكال الاستعارة، إذ ينبني عليها؛ إنه يُبنى بناء استعاريا، وعلى هذا الأساس، يقوم بناء النص في الشعر على الاستعارة. إن النص الأدبي، رغم اشتماله على استعارات جزئية صغرى، يظهر أنها لا تجمع بينها أية رابطة، إلا أنه يعد استعارة كبرى يخضع لقواعد سياقية داخلية، وكذا لقواعد إيديولوجية تتمثل في مختلف علاقات التماثل والتخالف التي تقيمها مع عناصر العالم الخارجي".
بعدما كانت الدراسات الأدبية واللسانية تقتصر في دراستها للغة على الجملة معتمدة في ذلك على فكرة التجزيء، فحين دراستها للظواهر الأدبية كالاستعارة، اقتصرت على الاستعارة الواحدة منعزلة عن التركيب والسياق، وركزت على البنية الداخلية للاستعارة فقط دون النظر إلى تعالقها مع الاستعارات الأخرى الموظفة في النص. تسعى الأدبيات البلاغية الحديثة إلى تحليل شمولي للاستعارة، وذلك استنادا إلى مفاهيم وإجراءات مستلهمة من أقطاب فكرية ومعرفية متنوعة، حيث تساهم "مفاهيم الموسوعة والسياق والتشاكل والترادف والتفاعل...في معالجة الاستعارة النظرية ضمن تصور نصي شمولي يراعي نمو النص وتعقد بناء المعنى داخله".
إذن ظهور الاهتمام بالاستعارة على مستوى النص والخطاب كان نتيجة لتقاطع البلاغة الجديدة مع الدراسات اللسانية الحديثة، خاصة بعد ظهور أعمال لسانية في أواخر الستينات وبداية السبعينات تصب في ميدان لسانيات النص، حيث كتب مجموعة من الدارسين أمثال فان ديك وهاليدي ورقية حسن أعمالا تطالب بضرورة تجاوز نحو الجملة إلى دراسة النصوص على نحو يأخذ بعين الاعتبار الظروف المشكلة للخطاب؛ ومنذ ذلك الحين أصبحت دراسة النصوص شاملة تربط النص من كل جوانبه، ولم يعد ينظر إلى الاستعارة كظاهرة منفردة في النص، إنما تدرس مرتبطة بباقي المكونات النصية، وهذا ما أفرز مصطلح الخطاب الاستعاري (le discours metaphorique) الذي يقتضي وجود استعارة كلية تتشعب إلى استعارات فرعية داخل الخطاب.
إن إدراك نمط الاشتغال الداخلي للحركة الاستعارية هو ما يضمن لنا سيرورة اشتغال النصوص ونمو دلالتها العميقة تبعا لنمو الاستعارات المولدة عن الاستعارة الأم وتعالقها فيما بينها. وبالتالي، وللوصول إلى تحليل شامل للنص الأدبي عموما وللنص الشعري خصوصا، يجب النظر إلى استعارة النص وكيفية بنائها ونموها الداخلي باعتبارها عاملا أساسا في انسجام النص واتساقه.
2. الاستعارة المسترسلة:
تكمن استعارة النص في الاستعارة الجوهرية التي ينبني عليها، والتي تتفرع بدورها إلى مجموعة من الاستعارات التي تترابط وتتعالق فيما بينها لتشكل الاستعارة الجوهرية. وقد سماها ريفاتير بالاستعارة المسترسلة، وتعتبر "من التجليات الأكثر وضوحا للقدرة التعبيرية للعبارة الاستعارية، والتي تتيح إنجازها من الكلمة إلى النص" و"هي مجموعة من الاستعارات المتتالية والمتسلسلة التي تتعالق فيما بينها عن طريق التركيب، والتي تنتمي إلى البنية نفسها أو الجملة ذاتها، وبواسطة المعنى حيث يعبر كل منهما عن مظهر خاص لكل أو لشيء أو لمفهوم تعرضه الاستعارة الأولى من السلسلة". ركز ريفاتير على محددين أساسين للاستعارة المسترسلة، يكمن الأول في محدد "التركيب" من خلال ارتباط الاستعارات فيما بينها وامتداد هذا التركيب إلى البنيات السردية والوصفية، ويتمثل المحدد الثاني في "الدلالة" من خلال تشاكل الاستعارات وارتباطها بالاستعارة الأولى من السلسلة، الشيء الذي يحيلنا على مفهومي الاتساق والانسجام.
في حين يعرف هنري الاستعارة المسترسلة باعتبارها "تطور تصوري متكامل، هي سلسلة من الاستعارات التي توظف عناصر تنتمي إلى نفس الحقل الدلالي"، ويتماشى هذا التعريف مع ما اقترحه ريفاتير في تركيزه على وحدة المعنى المتمثلة في انتماء الوحدات المعجمية إلى نفس الحقل الدلالي ، لكنه أغفل العلاقة الرابطة بين الاستعارات المكونة للسلسلة مع الاستعارة الأولية.
ويتفق ربيريو مع طرح هنري؛ إذ عرف الاستعارة المسترسلة بكونها "استعارة تمتد إلى مجموعة مختلفة الطول مكونة من جمل متعددة وذلك بتوظيف دوال متعددة مرتبطة حسب شبكة منسجمة دلالية" .
ويؤكد الدكتور محمد مفتاح أننا قد نعثر في النص على "استعارة أُم واستعارات متفرعة عنها تتوالد عنها استعارات أخرى إلى نهاية النص". هذا التعريف يتوافق مع تعريف ميكائيل ريفا تير للاستعارة المسترسلة، إذ تنبني هذه الاستعارة على استعارة أولية تتأسس عليها استعارات أخرى موالية للأولى ومشابهة لها في التركيب ومتعالقة معها في الدلالة، ما ينتج عنه اتساق النص على المستوى التركيبي، وانسجامه على المستوى الموضوعي.
2-1- التعالق الاستعاري في النص الأدبي:
إن النص استعارة كبرى أو موسعة، تبنى من خلال استعارات جزئية مضمنة في النص تتعالق فيما بينها محترمة في ذلك الاستعارة المؤطرة للنص، في هذا الصدد، يعتبر ميخائيل ريفاتير أول من اهتم بالتعالق الاستعاري في إطار تحليله للاستعارة المسترسلة في الشعر السوريالي، الذي تبدو فيه الصورة مظلمة، معقدة، عبثية تؤدي بالنقاد إلى اللجوء خارج النص. يخالف ريفاتير هذا الطرح. فهذه الصور لا تبدو كذالك إلا حين تكون معزولة عن سياقها. أما حين نتناولها داخل سياقها (تعلق السابق باللاحق) فإنها تصير مفسرة، ذلك أن اعتباطية هذه الصور لا توجد إلا بالنسبة لعاداتنا المنطقية ولوضعنا النفعي بالنسبة للواقع اللغوي. إن الكلمات تفرض منطقها داخل عالمها الشعري، مؤسسة ومبدعة لذلك سننا خاصا.
لذلك اعتبر ريفاتير الاستعارة المسترسلة متتالية من الاستعارات المشتقة من الاستعارة الأولية؛ بحيث تقوم بتدقيقها أو تطويرها أو تفصيلها، والمقصود بالاشتقاق-وفق رؤية ريفاتير- أن خانة المستعار تشغلها كلمة بينها وبين خانة المستعار الأول أواصر قربى وكذا نفس الشيء بالنسبة للمستعار له. تؤسس الاستعارة المسترسلة "سننا خاصا، لأن الصور التي تكونها لا معنى لها، مفردة كما في مجموعها، إلا في علاقتها بوظيفة الاستعارة الأولى". هذه الصور ترتبط فيما بينها عن طريق التركيب في وحدة تركيبية من خلال مجموعة من الروابط التي تمكن من إنتاج نسقين مترابطين يتطوران معا وهما مركبان من استعارات مشتقة ترتبط أيضا عن طريق المعنى إذ تعبر عن مظهر تمثله الاستعارة الأولى. وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى أحد أقوال الجرجاني التي نجدها تقارب مفهوم "التعالق الاستعاري" بأسلوبه الخاص، فيقول: "ومما هو أصل في شرف الاستعارة، أن ترى قد جمع بين عدة استعارات قدا، إلى أن يلحق الشكل بالشكل وأن يتم المعنى والشبه فيما يريد" فيقر الجرجاني بقصدية المتوالية الاستعارية، التي تأخذ على عاتقها كامتداد تصوري التعبير عن غايات الشاعر وأهدافه، وهذا شرف الاستعارة ومغزاها الذي من أجله وجدت.
2-2- مكونات الاستعارة المسترسلة عند ميكائيل ريفاتير:
2-2-1- الاستعارة الأولية
تعتبر الاستعارة الأولية أول مكون تطرق إليه ريفاتير وركز عليه بشدة باعتلارها تطرح معادلة دلالية تكمن في T=V ، حيث (T) تقابل مصطلح المحمول TENEUR و(V) تقابل مصطلح الحامل VEHICULE اللذان سبق ووظفهما ريتشاردز في الثلاثينيات؛ يعني (T) "الفكرة الضمنية"، في حين يعني (V) "الفكرة التي من خلالها تمرر الفكرة الأولى". ستمثل الاستعارة الأولية نموذجا للاستعارات الموالية والتي ستمكن القارئ من فهمها فهما صحيحا. وتعد مفتاح السنن الخاص CODE SPECIAL الذي وضعته الاستعارة المسترسلة، وكل كلمة موجودة في هذا السنن ستوسم بعلاقة دلالية ووظيفية مع الحامل الأول (V1) للاستعارة الأولية، وستصبح مفهومة في إطار المعنى المشار إليه في النموذج الأول، وبالتالي فأي اخلال في فهم الاستعارة الأولية سيُخل بمنظومة الاستعارة المسترسلة ككل، لأنها الأساس الذي يُنتج هذا التناظر بين الحامل والمحمول واللذان سينتجان بدورهما نسقين من الاستعارات المشتقة، هذان النسقان يقومان بالدرجة الأولى على مفهوم مهم يتمثل في "التناظر الثنائي" المميز للاشتغال الاستعاري.
وبما أن الأولية هي مفتاح السنن الخاص الذي وضعته الاستعارة المسترسلة فلا بد لها أن تكون استعارة مقبولة ومفهومة ومعتادة من قبل القارئ، إذ يعتبر ريفاتير "الاستعارة الأولية استعارة تقليدية ومتواضع عليها، تشبه الواقع ويمكن التحقق منها بإجراء مقارنة بين الكلمات والأشياء: إنه تمظهر للوظيفة المرجعية للغة".
إذن تتحدد مقبولية الاستعارة بعلاقتها باللغة، إذ يجب أن تكون متداولة وليست بغريب الكلام الذي يخرق القواعد اللغوية ولا يتفق مع التواضعات الأدبية، وتحدد المقبولية أيضا بالسياق، فالقارئ يتعرف في الحامل الأول V1 على كلمات مشابهة أو متعالقة مع الكلمات الموظفة قي المقطع السابق وذلك حفاظا على انسجام النص وتماشيا مع تكامل مقاطع النص بأكمله، فكيف للاستعارة الأولية باعتبارها الخيط الناظم الذي يجمع شتات الاستعارة المسترسلة والنواة التي تدور في فلكها الاستعارات المشتقة، ان تكون منقطعة وغريبة عن باقي النص.
2-2-2- معجم السنن الاستعاري:
يتشكل المقطع اللفظي الي تحتله الاستعارة المسترسلة من نظامين بطريقة متوازية، أحدهما مركب من كلمات مرتبطة ب V1 والآخر مكون من كلمات مرتبطة بنفس الشكل مع T1، وكل من هذه الأنظمة تصف الاستعارة الأولية، لذلك يعد التطور محكوما بضرورة مزدوجة، يجب من ناحية الحفاظ على الوظيفة المرجعية لأن الاستعارة الأولية تمظهر للوظيفة المرجعية للغة، وبالتالي لا يجب أن تُوظف المدلولات إلا في المعنى الذي تمثل فيه حقيقتها، ومن ناحية أخرى، يجب احترام الانتقاء المتبادل أو ما اصطلح عليه أصحاب النظرية التفعلية بالتفاعل بين النظامين المشكلين للاستعارة، فضمٌ نظام لآخر لا يتم بطريقة اعتباطية بل يتم بطريقة انتقائية، إذ يسعى إلى إظهار ما يشتركان فيه وتقليص اختلافاتهما "فإذا كان زيد أسدا فكل ما يشكل سمات خلافية سيتم تجاوزه مثل وبر الأسد ولونه الأصفر، لكن الشجاعة والقوة سيُبالغ فيهما: شفرة أسد/ رجل تعيد تنظيم تمثل الإنسان بطريقة إنتاج البطل". إذن، يتم تطور نظام الحامل من خلال توظيف مكونات مماثلة في النظم الآخر ويتم إلغاء كل مكون غير مماثل باعتباره غير نافع أو ضد إنشاء علاقة استعارية؛ أي أننا نربط بين نظامين متوازيين بواسطة آلية المشابهة، إذ تنتقي السمات المماثلة والتي تكون في الغالب عرضية كالشجاعة في الأسد والرجل، لأن الوبر والأنياب .. سمات جوهرية وخلافية في نفس الوقت، لذلك يتم استبعادها، وهذا لا ينفي وجود سمات جوهرية مشتركة بين زيد والأسد، مثل الحياة، إلا أنها لا تكون موضوع مشابهة؛ غذ رغم تماثلها تعد مكونا غير نافع، ويتم إغفالها إن لم نقل إلغاءها، وما قاله ريفاتير في موضوع الانتقاء المتبادل يتماشى مع مبدأ عام في الاستعارة، يتمثل في التماهي الكلي والسعي إلى خلق وحدة بين عالمين مختلفين وذلك بتعميم السمات المشتركة.
3. الاستعارة المسترسلة: آلية لانسجام النص الشعري (تحليل قصيدة)
ستتأسس هذه الدراسة على مقترحات ميكائيل ريفاتير، متخذة إياها خلفية نستأنس بها، بحيث إنها تزود بحلول علمية –نسبيا- من أجل التعامل مع نص شعري كقصيدة "الشعراء" لقاسم حداد، لتكشف تعالق استعاراته ونزيح اللثام عن مساهمة هذا التعالق في اتساق النص وانسجامه ومن ثمة تحقق نصيته.
شعراء:
1. يرسم الشعراء الطبيعة قبلها
2. ويبتكرون
3. ويببنون كوخا يغادره ثلة من الأصدقاء
4. يغنون حينا
5. ويفتتحون طريقا لكي يأخذ الماء شكل النهر
6. يبثون في الطين ذاكرة للشجر
7. ويكتشف الطيرر ألوانه من كلام القصائد
8. يختار أسماءه النادرة
ستحاول هذه القراءة التعامل مع مفهوم "الصورة الشعرية" على أنها مكون قابل للتدرج أو هي جزء ينتمي إلى كل، تتفاعل أجزاؤه بشكل متناغم ومترابط قابل لأن يتدرج صعودا ونزولا فيعمل على تحقيق الانسجام ومنه النصية للنص. تنبني القصيدة على استعارة أُم (جوهرية) تتمثل في استعارة: القصيدة طبيعة تؤسس لها الاستعارة الأولية المضمنة في البيت الأول من القصيدة قيد التحليل: يرسم الشعراء الطبيعة قبلها والمتمثلة في "اللغة طبيعة"، فالشعراء لا يرسمون الطبيعة بل يكتبون الشعر، وهنا يسند الشاعر للشعراء وظيفة رسم الطبيعة فهم يخلقونها من جديد، وتؤكد كلمة "قبلها" هذا المعنى، أي قبل أن تخلق الطبيعة أو قبل أن تكون اللغة، وكأن اللغة جاءت من أجل الشعر، حيث يتمثل المحمول الأول (T1) في "اللغة"، في حين يمرر الحامل الأول (V1) المتمثل في "الطبيعة" المحمول الأول، ويمكن تمثيلها وفق تصور ريفاتير كالآتي:
يحكم هذه الاستعارة تشاكل استعاري، إذ تحمل كلمة "الطبيعة" مقومات/سمات ذاتية تتمثل في: {+محسوس} {-إنسان} {+خلق}، تتشارك فيها مع كلمة "اللغة" التي تحمل المقومات نفسها، مما يجعل الاستعارة مقبولة لدلى القارئ حسب تعبير ريفاتير. وعند تتبع سيرورة بناء القصيدة، نُلفي الاستعارة الموالية متأسسة على الاستعارة الأولى ومشتقة منها: ويبنون كوخا يغادره ثلة من الأشقياء ويبدو أن عمل الشاعر لا يتوقف عند رسم الطبيعة (اللغة) بل يمتد إلى بناء الكوخ (القصيدة)، وبهذا تتكون استعارة جديدة متمثلة في: القصيدة كوخ مشتقة من الاستعارة الأولية ومؤسسة عليها، تتشاكل ذاتيا بتوافر مقومات ذاتية تجمع بين المستعار منه والمستعار له وتستبعد المقومات الأخرى غير النافعة والتي قد تكون ضد إنشاء علاقة استعارية: القصيدة: {-إنسان} {+بناء} {+كلمات} الكوخ: {-إنسان} {+بناء} {+حجر} هذه الاستعارة إذا ما تم عزلها عن السياق تُفهم بمعناها الحقيقي، لذلك لا يجب الاكتفاء بالمقومات الذاتية، بل يجب اللجوء إلى مقومات سياقية تعزز هذه الاستعارة ودورها في سيرورة بناء القصيدة. ويستمر الشاعر في سيرورة بنائه للاستعارة المسترسلة، وذلك باشتقاق استعارات أخرى تضيف بدورها معان جديدة تساهم في بناء الخطاب الاستعاري ونموه لكن دائما في ارتباط مع الاستعارة الأولية: الشعراء يفتتحون طريقا لكي يأخذ الماء شكل النهر=الشعراء يفتتحون مسالك المعنى يأخذ الماء شكل النهر= تأخذ الكلمات شكل القصيدة وعن هذه البنية الاستعارية يمكن صياغة الاستعارتين التاليتين: الكلمة ماء القصيدة نهر ونلاحظ في الأبيات الأولى من القصيدة تشعب الاستعارة وتفرعها إلى استعارات جزئية تتعالق فيما بينها لتشكل بالتظافر مع الاستعارة الأولى نسقا مترابط العناصر، حيث انتقل الشاعر من الطبيعة إلى الكوخ إلى الماء إلى النهر، ففي إحالته على عنصر الطبيعة إحالة على الحياة في شموليتها، ولا يتأتى لهذه الحياة الاستمرار بدون ماء ينبع ونهر يجري. يسترسل الشاعر في القصيدة قائلا: الشعراء يبثون في الطين ذاكرة للشجر ينتقل الشاعر في هذا البيت إلى مستوى جديد يُقَوٌي فيه علاقة الشعراء بالطبيعة وعلاقة الشعراء باللغة؛ إذ يلجأ إلى استعارات متعددة ومترابطة ومنتمية إلى نفس الحقل الدلالي العام المؤطر للقصيدة والمتجلي في (الطبيعة)، مكونا بذلك صورة شعرية تتضمن عنصري التجذر والعلو، ورغم كونهما عنصرين متناقضان ظاهريا، إلا أن الشاعر استطاع خلق توليفات جديدة مقبولة لذى القارئ الذي، عند قراءته لأبيات القصيدة، سيُكَوٌن سننا استعاريا خاصا بها سيمكنه من فهم هذا التناقض والتفاعل معه، وبذلك يكون الشاعر قد حافظ على الوظيفة المرجعية للاستعارة الأولية، إذاك تنتج الاستعارات التالية: اللغة طين القصيدة جذور الخيال شعر ويحيل السياق العام المؤَسس انطلاقا من الاستعارة الأولية على تعالق استعاري وتشاكل دلالي يربط الاستعارات الجزئية/ المشتقة، فالشاعر يتخذ من الطين (اللغة) وعاء يزرع فيه جذورا (القصيدة) ويبني منه كوخا (القصيدة) وتنمو فيه الأشجار (المعاني المتخيلَة). وتكتمل سيرورة بناء الاستعارة المسترسلة في قول الشاعر: ويكتشف الطير ألوانه من كلام القصائد يختار أسماءه النادرة فيربط الشاعر علاقة بين الطير بصفته رمزا لعلو المعنى وبين الشجر كونه محطا للمعاني المتخيلة، وهو أمر تؤكده كلمة النادرة التي تخلق توترا استعاريا بين ما تقوله اللغة وتخلقه القصيدة، وبذلك تتأسس العلاقات التالية: اللغة وعاء للقصيدة الطير علو للمعنى الشجر محط للمعاني المتخيلة وما نلحظه في البناء الاستعاري لقصيدة الشعراء، بالإضافة إلى توظيفه تقنية الاشتقاق dérivation، وظف أيضا تقنية التوسع أو الاتساع expansion، إذ تتحول الاستعارة الجوهرية/الأم إلى استعارات متعددة وجزئية تحمل كل منها على الأقل مقوما من المقومات الدلالية التي عليها تشتمل الاستعارة الجوهرية:
الاستعارة الجوهرية/الأم: القصيدة طبيعة
اللغة طبيعة القصيدة كوخ الكلمة ماء القصيدة نهر اللغة طين القصيدة جذور الخيال شعر ساهمت هذه الاستعارات في بناء القصيدة وجعلتها كلا موحدا ومنسجما يدركه القارئ ويصل إلى دلالته ليكتشف العلاقات الرابطة بين الاستعارات وتعالقها. ومما يعزز انسجامَ النص العميق اتساقُه الظاهري الذي يطفو على السطح بواسطة التركيب، فنجد الشاعر في هذا المقطع قد وظف أفعالا تنتمي إلى حقل دلالي واحد متمثل في حقل البناء والخلق، ولها نفس الصيغة الصرفية المضارعة المتجسدة في "يفعل" التي تنسجم مع عملية البناء والخلق بوصفها سيرورة ونشاطا تؤسس لها القصيدة: يرسم/ يبتكرون/ يبنون/ يغنون/ يفتتحون/ يبثون/ يكتشف/ يختار إلا أن اللافت للنظر هو ما يبنيه الشعراء وهو الأمر الذي تجيب عنه بنية الاستعارة المضمنة في القصيدة. ترتبط الأفعال المنتمية إلى الأبيات (2-3-4-5-6 ) بضمير متمثل في الواو الدالة على الجماعة يعود على فاعل البيت (1) المتجلي في (الشعراء) ،والذي ينتمي إلى الاستعارة الأولية، باعتبارها آلية من آليات الإحالة القبلية. ونلاحظ في البيتين (7-8) من المقطع قيد التحليل تحولا في الفاعل من "الشعراء" إلى "الطير"، لذلك لجأ الشاعر إلى آلية أخرى من آليات الاتساق المتمثلة في العطف، إذ يوظف حرف "الواو" ليربط بين الاستعارة الجديدة والاستعارات القبلية، كما وظفه في الأبيات (2-3-5) ليعزز ارتباط الأبيات ويقوي الخطاب الاستعاري المكون من استعارات جزئية، ثم وظف الفصل لوجود رابط دلالي يغني عن استعمال الوصل في الأبيات (4-6)، وليعطي القارئ نسخة صوتية تعزز إيقاع القصيدة. وفي ما يلي خطاطة تبين كيفية تنامي الاستعارة الأولية وتوالد استعارات جزئية: استعارة مسترسلة M1: الاستعارة الأولية V1: الحامل T1: المحمول M’/M’’.....: استعارات مشتقة V’/V’’......: حوامل مشتقة T’/T’’.......: محمولات مشتقة تركيب : تعتبر الاستعارة المسترسلة آلية من آليات إنتاج المعنى في النص الأدبي عموما والنص الشعري خصوصا، إذ تسهم في بناء الخطاب ونموه، وقد بينا كيفية تضام الصور الشعرية وتعالقها لتصوير العملية الإبداعية وبالتالي الإسهام في ربط هذه الصور للوصول إلى صورة كلية واحدة عملاقة، كالعنكبوت تمد خيوطها من أول سطر في القصيدة إلى آخر بيت فيها، واعتمدنا في ذلك على تصور ميكائيل ريفاتير باعتباره أول من قعد للاستعارة المسترسلة وبيٌن دورها في انسجام الخطاب واتساقه.
لائحة المراجع:
surréaliste, /web/revues/home/prescript/article/lfr_0023-8368_1969_num_3_1_5433 , Consulté le 04 mars 2015. |
حنصالي، (2003)، ص 15-16.
نفسه، ص 160.
الاستعارة المسترسلة ترجمة ل la métaphore filée، ، لها مقابلات عدة في الدراسات الأدبية: الاستعارة الممتدة، الاستعارة المحبوكة، الاستعارة المرشحة.
BORDAS,( 2003), p.24.
Riffattere, (1997), p 47
Henery, (1983) , p122.
Robrieux, (1998), p83.
مفتاح، (1990)، ص 85.
ينظر في هذا الصدد حنصالي، (2003)، ص188.
نفسه، ص 47.
الجرجاني (1992)، ص125.
RICŒUR, (1975), p.105.
ريفاتير، (1997)، ص 219.
نفسه، ص 221
تأسست دراستنا على تحليل د.حنصالي (2003).