ليفي ستراوس، لاكان، ألتوسير،فوكو، ديريدا، بارت: جميعهم تأثروا بفرديناند دي سوسير، حتى ولو حاولوا تفنيد ذلك.
نادرة، هي المؤلفات التي غيرت مجرى تطور الفكر البشري .بدون كتاب دروس في اللسانيات العامة لفردينان دي سوسير، كان للقرن العشرين أن يسلك وجها مختلفا كليا، على الأقل فيما يخص تاريخ العلوم.علاوة على اللسانيات نفسها،الفلسفة، الأنثروبولوجيا، الاثنولوجيا، التحليل الأدبي، التحليل النفسي، وكذا حقول أخرى تأثرت بهذا البحث ،الذي لا تنطبق عليه التسمية الأخيرة بالمعنى الحرفي للكلمة، مادام الأمر يتعلق بملاحظات دروس تم توضيبها بورع من طرف تلامذة هذا اللساني الكبير. هم من أعادوا صياغة النص الذي يوضح الفكر الخصب والجديد جذريا لأستاذ جنيف.
ينبغي القول بأنه عمل سقط خلال اللحظة المناسبة. مقابل العلوم ''الدقيقة'' كما الحال مع الفيزياء خاصة، والتي لم تتوقف نجاحاتها المذهلة المتراكمة على امتداد القرون السابقة من إدهاش العالم منذ غاليلي وصولا إلى إينشتاين مرورا بنيوتن وماكسويل ثم علماء الديناميكا الحرارية، لم تقدم العلوم الإنسانية سوى وجها باهتا .ثم قبل ذلك هل استحقت تسمية ''علم''؟ وهل يمكننا أن نتناولها على محمل الجد؟ لذلك حينما سيجعل سوسير من اللسانيات علما حقيقيا، فقد أوضح الطريق. الحقول المعرفية الأخرى انخرطت في السياق مبتهجة تقريبا. تلك هي القضية الكبرى للقرن العشرين.
لكن من هو فردينان دي سوسير؟ ولد بمدينة جنيف سنة 1857وسط عائلة أنجبت العلماء. يعتبر أبوه هنري دي سوسير، عالما ذائع الصيت مختصا في علم الحشرات. جده المتأخر، كان عالما بالطبيعيات والجيولوجيا، أما شقيق الجد فهو كيميائي وعالم نبات. بناء على إرث كهذا، بوسعنا القول أن فردينان دي سوسير التزم كي يتحول بصرامة العلوم الدقيقة إلى اللسانيات.
فيما يخص مسار دراساته العليا، فقد ذهب سوسير إلى مدينة ليبسك Leipzig سنة 1875، ثم برلين وباريس سنة 1877، ولم يتجاوز سن العشرين، أرسل بمقالة مبهرة إلى الجمعية اللسانية في باريس. ثم طور بعد ذلك دراسته الشهيرة عن ''النظام الأولي لحروف الصوائت في اللغات الهندو-أوروبية. سنتان بعد ذلك، ودائما على نحو قبل الأوان، سيحصل على الدكتوراه في ليبسيك. عاد إلى فرنسا، مدرِّسا للسانيات الهندو-أوروبية طيلة عشر سنوات، قبل عودته النهائية إلى سويسرا كي يدرِّس ضمن أشياء أخرى، اللتوانية والسنسكريتية ثم اللسانيات العامة التي سيعمل إذن على تطويرها.
الجديد لديه راديكاليا، يتمثل في مفهوم اللغة كنسق، وبنية (لم يستعمل سوسير قط هذا المفهوم الأخير الذي أعطي مع ذلك للحركة التي نسبت إليه) إلى غاية تلك الفترة، كانت اللغات تدرس حسب صيرورتها التاريخية، من خلال الاتيمولوجيا، بحيث يتم تجميعها ثانية وفق مجموعات كبيرة، ثم يُبحث في تنوعاتها الإقليمية، باختصار يقف الأمر عند وصف ما يحدث في الزمان.
لقد ترك سوسير التعاقب الزماني جانبا، بمعنى اعتبار التطور التاريخي، مركزا على المتزامن: ماهي اللغة، خلال لحظة ما؟ كيف تشتغل؟ تتمثل الفكرة الأساسية في كون اللغة عبارة عن نظام من العلامات مغلق، بحيث تتحدد كل واحدة قياسا لعلامات أخرى، إذن وفق اختلاف محض. ليس هناك علامة في ذاتها، فالمكانة الأولى يحتلها النسق. من جهة ثانية، تتألف كل علامة من عنصري: المدلول والدال،«ينسجان علاقة» مثلما كتب سوسير. تقتطع اللغة دالا من بين مجموع للأصوات غير محدد الشكل ثم مدلولا ضمن كتلة للظواهر أو الأفكار (في العالم) بدورها غير محددة المعالم، ثم تعيد ربطها ثانية بكيفية تعسفية: إنه اعتباطية العلامة. يتضمن كذلك كتاب درس اللسانيات العامة أفكارا أخرى ثرية غير أن تلك المشار إليها أعلاه، تناولتها ثانية العلوم الإنسانية.
من المغري أن نرى في كل مكان أنظمة من نمط التي درسها سوسير: كلمة "نسق" عوضت بـ"بنية" ثم تبلور المذهب البنيوي .مرجعية اشتغل عليها كلود ليفي ستراوس في الاثنولوجيا، وجاك لاكان على مستوى التحليل النفسي (حد اعتقاد الكثيرين بأنه صاحب ثنائية دال-مدلول) ثم تودوروف في التحليل الأدبي. الفيلسوف الماركسي لوي ألتوسير، عثر معها على ما يبرر ''نزعته اللا-إنسانية النظرية"، كما تأثر بها ميشيل فوكو وجاك ديريدا، حتى ولو حاولا إنكار هذه المسألة .أما رولان بارت فقد أصدر سنة 1967 "نسق الموضة" قبل تراجعه عن ذلك.
إذا توخينا تحديد المشترك بين جميع هذه المقاربات، فسيكون بكل تأكيد مايلي: كيفما الموضوع أو الظاهرة التي نبحث عن فهمها، يلزم تمثلها كنسق لامعنى في إطاره لتحليل عنصر منفردا، بل ينبغي إحالة كل عنصر قياسا لموقعه مع باقي العناصر الأخرى بالتالي النسق في مجموعه. نرى جيدا سبب انقياد العلوم الإنسانية، أو على الأقل من يحملون لواءها وراء جاذبية البنيوية، انطلاقا من الاعتقاد بأنهم قد عثروا معها على علمية يشبه السعي نحوها، رحلة البحث عن الكأس المقدسة. بعد غاليلي والذي بالنسبة إليه: «كُتب الكون بلغة الرياضيات» ثم نيوتن صاحب مقولة: «لا أتصنع قط فرضية» بمعنى: «هاهي المعادلات التي تصف الظاهرة، ولايمكننا الاستطراد في الحديث، من غير المجدي استحضار أسانيد ميتافيزيقية». بوسعهم أخيرا القول، كذلك: «هاهي بنية ما أدرسه، إنها أشبه تقريبا بلغة الرياضيات، ونحن لا نتظاهر قط بوضع فرضية، فلا شيء يمكننا إضافته في هذا الإطار، ضعوا نقطة انتهاء للإعلان!» فالعلوم الاجتماعية تستحق حاليا تسميتها.
سنوات السبعينات تراجع وهج البنيوية شيئا فشيئا. كان ميشيل فوكو أول مفكر كبير اتخذ مسافات نحوها، بكيفية جد واضحة، وذهب حد إعلان: «لست بنيويا ولم أكن قط كذلك». ثم انطلقت ما بعد البنيوية، من تقلبات العلوم الإنسانية، وكذا التعقد البشري (فأين سنجد «بنيات» راسخة وبسيطة؟) حيث انتصرت مع ديريدا ودولوز وجوديث بتلر وآخرين طبعا.
من المؤكد أن كتاب درس في اللسانيات العامة يبقى معلم أساسيا في الفكر الإنساني ومنبعا دائما للإلهام .بهذا الخصوص، يستحق تماما الاحتفال بمئوية صدوره. قصد إثبات ذلك.
http://saidboukhlet.com
*هامش:
La revue : numéro 65- 66 ;juillet-aout 2016.p : 156-157.