"لا تُوقِف الكراهيةُ الكراهيةَ بل يُوقِفها الحُبُّ فقط. هذه هي القاعدة الخالدة".
بوذا
"النَّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".
علي بن أبي طالب
"وحدهم الأموات شهدوا نهاية الحرب".
أفلاطون
"وَسَيَمْسَحُ اللهُ كلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُوْنِهِمْ، وَالْمَوْتُ لا يَكُوْنُ فِي ما بَعْدُ، وَلَا يَكُوْنُ حُزْنٌ وَلَا صُرَاخٌ وَلَا وَجَعٌ فِي ما بَعْدُ، لأنَّ الأُمُوْرَ الأُوْلَى قَدْ مَضَتْ".
سفر رؤيا يوحنَّا الحبيب 4:21
إلى أرواح الغائبين سُكَّانِ منازل الأبديَّة:
أحمد راشد ثاني
عبدالله أخضر
علي المعمري
حمَّادي الهاشمي
علي الزّويدي
حمد الخروصي
حسن شريف
1
معملُ البشرِ عابرُ الزَّمان والمكان
في السابع من يناير عام 3000 للميلاد عاد نذير راحل عبد الرحيم إلى الحياة الدنيا مرة أخرى.
في الثاني من يناير عام 2015 للميلاد فارق الحياة وهو في الثمانين من عمره. كان قد أوى إلى فراشه باكرًا، في بيته ببلدة سْدَاب الساحلية، لكنه لم يستيقظ. ولأنه كان وحيدًا لم يعرف بموته سوى الجيران، فبعد مرور أيام فاحت رائحة جثمانه، فأبلغوا الشرطة، وفي اليوم الخامس جاء أربعةٌ من قسم المباحث والتحقيقات الجنائية ومعهم ابناه وابنتاه، ووضعوه داخل كيس، وحملوه على نقالة، وكان في حال لا يمكن معها غسله، فصلوا عليه ودفنوه في مقبرة بلدة العامرات.
حين فتح عينيه من جديد أوحشت الصدمة إدراكه ووخزته بقلق مضت 985 سنة منذ فارقه. كان إدراك العودة ينزعه ببطء فاجع من السكينة التي خبرها في العالم الآخر. كمن يتعافى من مرض عضال أصاب بصره، بصعوبة بالغة فتح عينيه. كما كان عليه الحال حين نام على سريره في تلك الليلة القاصية في بيته ببلدة سداب، كان مستلقيًّا على ظهره. أول ما رأى كان أضواء ملونة شديدة الحدة، وما كاد حتى سمع أحدًا يناديه فتلفت، فإذا برجال ونساء طوال القامة يتحلقون حوله ويمعنون النظر فيه. سمع اسمه مرة أخرى.
نذير راحل عبد الرحيم.
نعم.
أهلا بك في عام 3000.
استولى عليه ذهول ضخ في وعيه حيرة لا متناهية. أين هو الآن وأين كان؟ سأل نفسه. تردد صوته فزعًا داخله. لم يكن قد رأى بعد كل ما بداخل ما بدا له مصنعًا كبيرا جدًّا أو مستشفى بلا نهاية ولا سقف ولا جدران، بل إنه الآن يرى سماء ونجومًا أيضًا، أما الرجال والنساء الطوال الذين بدا عددهم غير معقول فلم يكن قد رأى بعد من ناداه باسمه منهم.
قال الصوت: أنت الآن في معمل البشر عابر الزمان والمكان. ليس هذا مصنعًا ولا مستشفى، لكنك محق: معملنا بلا نهاية، وكما ترى، تحت السماء والنجوم، وباختصار يمكنك القول إن الكرة الأرضية بل وبعض الكواكب أيضًا تتمة لـمعمل البشر عابر الزمان والمكان. أدوات معملنا نحملها معنا متى تطلب الأمر وأينما كان، إنما ليس كما قد تعتقد ويشتط بك الخيال، مع أن هذا مطلوب أيضًا! فما يلزمنا فقط هو استدعاء الفضاء القديم إلى أرضنا وسمائنا لتوليد الظروف الموضوعية اللازمة لتحقيق عملية البعث. إننا نذهب إلى كل الأزمنة الماضية، إلى كل الأمكنة الماضية بينما نحن في الواقع في عام 3000، في معمل البشر عابر الزمان والمكان، وعلى هذا النحو بعثناك من جديد لتعيش في عصرنا.
أخذت الحيرة تنمو بوتيرة أعنف في نذير راحل عبد الرحيم، وأصبح فؤاده فارغًا.
قال الصوت: لأعد إليك، قف، در إلى الخلف، هنا، أنا من يحدثك.
ببطء ووهن وتلقائية وخنوع جمع نذير راحل عبد الرحيم جسده وأطرافه ووقف، وببطء أخذ يدور. عدد هائل من فريق المعمل كان يملأ عينيه، وكان الصوت مستمرًّا، وكان يصغي إليه، وفجأة أصبح قبالته.
نحن بشر عام 3000 كلنا طوال القامة. هذا تطور طبيعي ومعملي قادت إليه أساسًا خريطة الجينات البشرية الكلاسيكية التي اكتُشِفت في عصركم الغابر. كان الأمر صعبًا في عصركم المتخلف مقارنة بعصرنا المتفوق قاهر المستحيل، إنما ينبغي لي القول أيضًا إن العلم لا تحده حدود!
عصركم؟ سأل نذير راحل عبد الرحيم نفسه، لماذا خاطبه الرجل بصيغة الجمع؟ غير أن الرجل التزم الصمت. لعله لم يسمعه. كيف إذًا أجابه عن أسئلته السابقة التي أسر بها لنفسه؟ أدرك أنه يستطيع معرفة ما يفكر فيه! كان طويلًا اضطر إلى رفع رأسه كي يتمكن من رؤية وجهه. كان وجهه ضخما أكبر بثلاث أو أربع مرات، وربما خمس مرات، من وجه نذير راحل عبد الرحيم، بملامح متجمدة صارمة أشبه بقناع أو صورة مُكبَّرة. كل أعضائه، وكذلك الآخرون، يفوق حجمها أعضاء البشر أمثاله الذين كانوا يعيشون في زمنه القديم. كان الرجل ذو الوجه الصارم يرتدي حذاء جلديًّا يغطي ساقيه الطويلتين وسترة بيضاء تنسدل حتى ركبتيه. الآخرون نساءً ورجالًا كانوا يرتدون مثله. وتذكر نذير راحل عبد الرحيم لحظةً اللِّباس الأزرق الموحَّد لعمال البلدية الذين كان يشرف على عملهم في بعض نواحي العاصمة عندما كان يعيش حياته الماضية في القرن الحادي والعشرين.
تحت أشعة القمر والنجوم، عندما رمى نظره بعيدًا خلف ظهر المتحدث العملاق، لاحت له سكك كان يعبرها كل يوم حتى وفاته في حياته الدنيوية الأولى. ما لبثت السكك أن تبخرت. بدت كأنها مرسومة بالماء. كان ظهورها يستغرق وقتًا ضئيلًا لكن بقدر يكفي لأن يأنسها ويكمل استدعاءها من ذاكرته القديمة.
حار وتشتت ثم خطف الرجل العملاق ذو الفم الذي قدَّر أنه ضعف فمه خمس مرات أو أكثر انتباهه مرة أخرى.
نعم أستطيع أن أقرأ شفرة أفكارك. هذا أمر بسيط جدًّا لا يعدو أن يكون استنساخًا، والشيء بالشيء يذكر فقد كان الاستنساخ من أعظم إنجازات الزمن الذي عشت أنت فيه، بيد أن الاستنساخ الذي أقصده هنا هو استنساخ الأفكار، سبر ما يحدث في العقول. في الحقيقة، هذا أمر سهل أيضًا في عام 3000، بل، لمعلوماتك، كإنسان يعود إلى الحياة بعد 985 سنة من الموت، هذا الاكتشاف يعود إلى ثلاثة قرون خلت، وبالتحديد إلى عام 2797 للميلاد، حين تمكن العالم إدريس تكرار من السيطرة على مجال حركة إشارات الذاكرة وفَكَّ رموزها المستغلِقة، الأمر الذي جعل قياس مسار الذبذبات الخفية ممكنًا، وهو ما قاد البروفيسور إدريس تكرار إلى اختراع جهاز عُرف منذ ذلك الأوان باسم جهاز تكرار. القرون اللاحقة شهدت تطويرًا منقطع النظير لهذا الجهاز الذي حلت مكانه إبرة ثم حبة ثم أخيرًا شعاع ذري غير قابل للرؤية بالعين المجردة. أمَّا عملية الخلق، كما في حالتك، فإن زرع جهاز تكرار في ذاكرتك أمر أكثر تعقيدًا إذ يجب أن يأخذ مجراه عبر الأمواج والذبذبات الخفية نفسها وليس بمادة ملموسة كالإبرة أو الحبة ولا حتى بالشعاع التقليدي الفعال للأحياء. هذا الأمر وحده يتطلب تخليص الوصفة الخام من شكلها السائل أو الصلب وتفريغ محتواها من خلال حلِّ شِفار المخ والنظام العصبي ومجاري الذاكرة ومحاور التماثل وطاقة الإشارات اللامرئية ونطاق حركتها في الأثير كما شرحها إدريس تكرار. مؤكد أن هناك عمليات موازية تأخذ في الاعتبار العوامل البيولوجية إنما شأنها أهون ويمكن القول بأنه تحصيلُ حاصلٍ فهي كذلك مبرمجة سلفًا.
كان نذير راحل عبد الرحيم لا يزال حائرًا ومصدومًا، وبينما كان الرجل الصارم يواصل حديثه كانت حدة حيرته وصدمته تتصاعد، وصور من حياته الماضية تظهر في أضواء مائية ملونة تمحو معالم المعمل وذلك الحشد الغريب وتصبح واقعًا يعيشه بوجدانٍ مسلوبٍ مضطربٍ أو تخالط الحشد بقوة غبشية تشبه ما يراه نائم مذعور، ثم تذوي، تختفي، ثم تعود بوتيرة تمد بأس الحيرة حتى أقصاه، ثم تتبخر من جديد.
وكما حدث قبل قليل، رأى أربعة حيطان بيضاء غطت حشد أعضاء معمل البشر عابر الزمان والمكان. بحنين يلم شمله من حياته المنقضية في الثاني من شهر يناير عام 2015 أدرك أنها حيطان غرفة نومه التي مات فيها في تلك الليلة البعيدة قبل 985 سنة.
قال الرجل الصارم: في حالتك، الحيرة أمر طبيعي. تحتاج إلى بعض الوقت لتألف حياتك الجديدة، وذلك لأنك قدمت من عام 2015، العام الغابر المنقرض الذي ما عاد له وجود إلا في كتب التاريخ والآثار، وما ستراه وتسمعه وتحسه من الآن فصاعدًا سيكون برمته في عام 3000، وسيكون مختلفًا كل الاختلاف عما أدركته حواسك المحدودة وتجربتك الفقيرة ومعرفتك الجاهلة.
في تلك الليلة التي صرمتها مئات السنين كان نذير راحل عبد الرحيم قد عاد منذ ساعات من مشيه اليومي الذي واظب عليه طيلة عشرين عامًا منذ بلوغه الستين وإحالته إلى التقاعد من عمله في البلدية. في ذلك المشوار المسائي الأخير أَبْعَدَ نطاقَ جولته المعتاد بين سِكك حارته القريبة من الساحل. مشى على الطريق البحري المرصوف بمحاذاة الشاطئ، ووقتًا طويلًا عصر ذاكرته ليستحضر بيت الشعر الوحيد الذي كان يحفظه فلم يستطع. وعند عودته كان هناك صيادون يطوون شباكًا، وكانت هناك أكداس سمك، أطفال، سيارات دفع رباعي تسحب قوارب صيد نحو اليابسة، ونسيم معتدل يدفع رائحة البحر النفاذة الممزوجة بسَهَكِ سمكٍ متفسِّخ. عندما قطع شارع البحر لمح داخل سيارة عابرة طفلة تحمل وردة حمراء، وفي سكة في حارة الساحل حيث يقطن دخل دكانًا وشارد الذهن تفقد أرففه فوجد وردة بلاستيكية وابتاعها. ومن مخبز التنور المجاور اشترى خبزًا ساخنًا. وحالما وصل بيته وضع ربطة الخبز على طاولة الطعام في المطبخ. أكل خبزة واحدة فقط والربع المتبقي من صحن عدس كان قد اشتراه قبل أربعة أيام من مطعم هندي ليس بعيدًا مطل على شارع البحر. تناول حبة الضغط، ومن أحد أدراج المطبخ أخرج قنينة زيت زيتون فارغة وضعها تحت الصنبور وصب فيها ماء حتى منتصفها ثم غمس ساق الوردة داخلها دون اكتراث لكونها بلاستيكية. فعل كل ذلك تلقائيًّا كأنه يفعله كل يوم مع أن بديهته كانت غائبة.
أخذ نذير راحل عبد الرحيم يتذكر. امتلأ أنفه برائحة البحر. كانت الصور المائية تظهر وتخفي أعضاء المعمل وتضعه في غرفة نومه.
هل كان ميتًا أم حيًّا؟ لقد أحدثوا شيئًا في دماغه خلخل إدراكه وأعمى بصيرته وشحن ذاكرته وفي الوقت نفسه أخواها، طمرها، فكيف لم يعد بمقدوره تذكر العالم الذي جاء منه قبل قليل؟ على هذا النحو راح يفكر وتغشَّى تفكيرُه مرة أخرى.
وضع قنينة الوردة على حافة النافذة، بجوار صورة أرملته تقوى التي غادرت الحياة قبله بخمس سنين. كان مريضًا بحبها، لم يجد لشوقه إليها دواء، ومنذ رحلت كان فقط يعد العدة للقائها في العالم الآخر.
كتلةٌ مائية صقيلة أحاطت به وأخفت فريق المعمل مرَّة أخرى، ورأى سريره الواطئ وقوائمه القصيرة المنغرزة في سجاد غرفة نومه في سداب، ورأى الوردة الصناعية الحمراء على حافة النافذة أمامه والستارة الخضراء القصيرة المسدلة التي مع ذلك لم تكن تشغل حيزًا واسعًا من الحافة، ورأى صورة تقوى المعلقة على الجدار. وتذكر أنه قبل استسلامه للنوم الذي أسلمه إلى الموت في تلك الليلة كان يحاول تذكر بيت شعر أخفق في تذكره في أثناء مشيه قرب البحر، وتذكر أنه في حياته الدنيوية الماضية لم يكن يحفظ شعرًا سوى ذلك البيت الوحيد. يعود سبب هذا إلى مساء حزين لم يكن حزينًا لولا بيت الشعر ذاك، ووصْفُه بالحزين، في الوقت نفسه، لم يكن منكرًا بل حميمًا، شادًّا، غامضًا ومرهِقًا، لأنه يرتبط بأحياء، وأكثر من ذلك بأسْرة، ولعل الأمر لا يستحق كل هذا التأويل ـمتذكرًا فكَّر نذير راحل عبد الرحيم في سره ـ وفي أي حال، كان عائدًا من عمله في البلدية، ودخل بيته، ولم يكن هناك أحد عدا إحدى ابنتيه تراجع دروسها في البهو المغلق، هاتفةً ببيت الشعر ذاك مُقطِّعة إياه عروضيًّا كي يسهل عليها حفظه وحفظ بحره، مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ، مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُن مُتَفَاعِلُن، وهكذا سمعها تردد البيت عشرات المرات مُنغِّمة إيَّاه وفق بحر الكامل. لم تكن له علاقة بكل هذا غير أنه شغف به، وحفظ البيت، وأخذ هو الآخر يردده في سره كل يوم، وطوال حياته الدنيوية الماضية لم يذكر لابنته ولا لزوجته تقوى ولا لأي أحد شيئًا عما جرى، والآن كم تقترب نغمة البيت من ذاكرته وكم ينأى البيت نفسه مثلما أخفق في تذكره في مشوار مشيه الأخير في ذلك الزمن! شلَّه هلع، وأوَّلَ مرَّةٍ منذ عاد إلى الحياة الدنيا سمع نبضات قلبه تدق، تدق، تدق، وأنشأ تنفسه يثقل ورأسه يدور وخرَّ من وقفته.
إنها أعراض العودة إلى الحياة، قال الرجل الصارم ومن أحد جيوب سترته أخرج جهاز تحكم عن بعد وكبس بضعة أزرار.
سكنت سَوْرة اضطراب نذير راحل عبد الرحيم. انتظم نَفَسُه. وقف على قدميه ثانية.
تبخر السَّرير والوردة والنافذة والستارة الخضراء والصورة. حنين إلى زوجته كان يساوره في السنين الخمس الأخيرة التي قضاها وحيدًا بعد رحيلها عاد الآن يدب فيه. ريبة دخلت عينيه، صعدت إلى رأسه، ومثلَ خُذْرُوف دارت بأقصى سرعة وملأته رعبًا. قال في نفسه إن عليه ألا يثق في هؤلاء، يجب أن ينأى عن التفكير في زوجته وابنته وأولاده كي لا يعرفوا أفكاره ويصلوا إليهم! ظهرت منضدة سريره الجانبية وساعة يده التي وضعها هناك آخر مرة بعدما أطفأ مصباح الغرفة واستسلم للنوم الذي لم يستيقظ منه. إنه الآن يستيقظ منه! تبخرت المنضدة والساعة.
عاد صوت العملاق الصارم: نحن لا ننتهك خصوصيتك، فكر كما تشاء وفي من تشاء! لكنك تعرف أن أغلب الأفكار طاقة سالبة بذلُها لا جدوى منه!
غضبٌ تمكن من نذير راحل عبد الرحيم، صرخ في وجه الرجل العملاق: لماذا أعدتموني إلى جحيمكم هذه؟
هذه مشكلة تجربتنا الأخيرة. حدث خطأ بسيط في تجميد الذرات وحصرها لجعلها تتكثف وتعود إلى الحياة. دعني أشرح لك، هناك عددٌ لامتناهٍ من الخلايا والذرات إذا تداخل فإنه يعيد إلى الحياة إنسانًا آخر غير الإنسان المُراد ومن زمن ومكان آخرين ليسا هما المرادان، ومع ذلك فإن قاعدة بيانات معمل البشر عابر الزمان والمكان تحتوي معلومات لا أبالغ إن قلت إنها تشمل كل البشر، أو دعني أقل كل من وُجِد لهم أثر مادي بأي صيغة كانت، عظم، سن، خصلة شعر، تدوين من نوع ما، وهكذا فإن مجيئك غير المتوقع عالجته قاعدة البيانات على الفور بالتحول من الذبذبات التي رفضت الانصياع لعملية إعادة الخلق إلى عرض المعلومات المتصلة بك أنت بالذات. العملية تخضع لمعرفة دقيقة بكل المعلومات والأبعاد الزمنية، وفي الوقت نفسه تدمج عدة علوم تقيس نسب مسح الأجهزة وجس الفراغات وقدرتها شديدة الحساسية على جذب الذرات المبرمجة سلفًا، عملًا على نظرية مغنطة الروح التي تُعَدُّ إجراءً متفرِّعًا لسلسلة اكتشافات إدريس تكرار، وقد أحدثت قفزة هائلة في مسيرة علم الأحياء خصوصًا، وفسَّرتْ لماذا كان غيرَ ممكنٍ تجميعُ الذرات الفارَّة والذبذبات المتقطعة والمفقودة من محاولة الاحتواء، وأثبتت تجاربها العديدة كفاءة عالية لولا أنها باهظة الثمن. لقد نجحنا مرارًا في بعث شخصيات تاريخية عظيمة. ما أريد أن أؤكده لك أن الخطأ لا يشمل عمل الروح وأعضاء الإنسان فهذه بعد كل شيء تقوم بأدوارها كما ينبغي، بدقة وبلا أدنى قلق.
تلبَّد نذير راحل عبد الرحيم، وفي غضون ذلك سمع هدير أمواج البحر الذي كان قريبًا من بيته.
إنك الآن لا تقوى على شد ولا إرخاء. قُواك العقلية والبدنية تؤوب إليك تدريجًا وفي طيِّها ذكرياتك، أواصرك، عاداتك وكل ما كنت تفعله في حياتك الماضية، لكن بسبب اصطدامها بفراغ يملأ زمانها ومكانها المعهودين فإنها بمرور الأيام تتحول إلى خبرة تغذي تجربتك الجديدة في الألفية الرابعة.
حين استنشق نذير راحل عبد الرحيم رائحة ثياب زوجته تقوى أخذته وهلة، وتذكر دولاب السِّنديان في غرفة نومهما الذي بقيت فيه ملابسها إلى جوار ملابسه حتى يوم وفاته. انفجر يبكي. ولما أغمض عينيه وفتحهما مرَّةً ثانيةً هذا اليوم رأى فريق معمل البشر عابر الزمان والمكان، رأى الرجل الصارم يتفقده باهتمام أكبر فيه خليط من الانشراح والقلق! امرأة عملاقة هناك تطبع بلا توقف على آلة مفاتيح ضوئية، آخرون يراقبون عمل أعضائه الداخلية على شاشات. القريبون منه يحملون أجهزة تحكم عن بعد يضغطون أزرارها بين حين وآخر.
انقطع ظهور صور حياته الماضية.
أصبحتَ الآن في عام 3000 بشكل خالص. لقد أعدناك إلى الحياة كما كنت في الثاني من يناير عام 2015. عمرك الآن ثمانون عامًا كما كنت عند موتك. العملية في أحد أشد أجزائها تعقيدًا تستند إلى جريان الزمن، بتر النهاية ودفع النَّفَس الأخير ليعبر زمنه ويستمر في زمن مستقبلي مقارنة بزمنه الفيزيقي والميتافيزيقي الماضي، أيْ إجراء عملية رتْق، سلب وجذب للأثير الخامل لإزالة لحظة صعود الروح، سدِّ فجوتها واستئصالها نهائيًّا من بين الفراغين السابق واللاحق، وتكثيف أنفاس الحياة، أنفاس حياتك، إعادة لئم الذرات الفارَّة في الأثير، اكتشاف الروح مرة أخرى، محاصرتها، أسْرها، تحويل مسارها المشتت وتركيز طاقة نفخه في الجوف، كما كان، بعْثها من جديد، وأخيرًا ها أنت ذا ماثل بيننا.
في أواخر حياته الماضية كان نذير راحل عبد الرحيم يتعاطى بانتظام حبة خفض ضغط الدم. في ليلته الأخيرة تلك تناول عشاءه في المطبخ ثم بلعها. كل أعراض ماضيه الطبي انتقلت إليه الآن، قال الرجل الصارم. كانت أجهزة الفريق الطبي ترصد حالته الجسدية والذهنية. ماء، صاح عملاق آخر بصوتٍ لا يمكن من يسمعه مرَّة واحدةً أن ينساه، فجاء من فوره إنسان آلي وقدم كأس ماء لنذير راحل عبد الرحيم. ولأنه أدرك توًّا أنه ظمآن مد يده ورفع الماء إلى فمه، جرعه وطلب المزيد لكن العملاق الآخر الذي لمحه نذير راحل عبد الرحيم الآن صاح صيحة ثانية حاسمة بأن كأسًا واحدة تكفي الآن. كان الوحيد من بين ذلك العدد الهائل من أعضاء المعمل الذي يرتدي سترة حمراء، وكان الوحيد الجالس، وبدا أنه أطولهم جميعًا.
ولمَّا كانت الصدمة تفعل فعلها في نذير راحل عبد الرحيم وتجهده ففي هذه اللحظة فحسب فطن إلى الخدر الخفيف الذي يثقل يده اليسرى، وفي لا وعيه اعتقد أن ذلك قد يكون بسبب نومه عليها في ليلته الأخيرة على سرير نومه في حياته الدنيوية الأولى!
عاد الرجل ذو الملامح الصارمة: شيئًا فشيئًا تؤوب إلى جسدك. الصدمة الفيزيقية أضعف من الصدمة الروحية التي يمكن القول حسب مجاسِّ الأجهزة الدقيقة ذات الحساسية العالية إنها انتهت. بعد أربع ساعات أخرى سوف تشرب كأسي ماء. صوت العملاق ذي السترة الحمراء أضاف: كأسين اثنتين، 400 ملليلتر فقط، لا أكثر ولا أقل. وبعد أربع ساعات أخرى ثلاثة كؤوس، ثم كأسًا واحدة. تسلم الرجل الصارم دفة الحديث من جديد: بعد ست عشرة ساعة أنت حر في أن تشرب عندما تشاء. لا تقلق، سوف نتولى تذكيرك آليًّا. في ما يخص الضغط فإننا سنحقنك بدواء يجعله معتدلًا على مدار الساعة، وللأبد لن تكون في حاجة إلى تناول دواء ضغط مرة أخرى. منذ زمن بعيد انتهى قلق الطب من مرض سخيف كهذا كان يعقد حياة ملايين البشر في زمانك البدائي. أما خدر يدك اليسرى فأنت محق، ذلك فقط لأنك طويتها تحت جانبك ونمت فوقها عدة ساعات عندما كنت لا تزال حيًّا قبل 985 سنة، وحيث إنك استيقظت من رقدتك الآن فمن الطبيعي أن تشعر بالخدر! لا تقلق، إنه يتبدَّد.
جاء إنسان آلي آخر. انتبه نذير راحل عبد الرحيم إلى أن الأول، الذي ناوله كأس الماء، قد اختفى. كان طول الاثنين يوازي طوله لكن قاماتهم معًا قصيرة بشكل ملحوظ، أو قزمة، إزاء قامات فريق المعمل. كانت حركة الإنسان الآلي سريعة وبلا صوت تقريبًا. وبينما كان نذير راحل عبد الرحيم منشغلًا يفكر في أن هذا الإنسان الآلي قد يكون نفسه الأول سمعه يقول: استعدّ سيدي، ودار حوله كمن يتأكد من مقاسات زوايا حيِّزٍ ما، وقف خلفه، وبخفة حقنه بإبرة في عضل مؤخرته وانصرف. شعر نذير راحل عبد الرحيم بمحلول قوي ومُجهِد ينتشر في عروقه. دهمه استغراب: لماذا لم يستدعوا إحدى آلاتهم المتحركة هذه عندما ارتفع ضغط دمه وكاد يغمى عليه قبل قليل؟ كيف عادت إليه قواه حينها؟ بيد أنه بتر أسئلته الملحة وأدرك شيئًا آخر: لقد حقنته تلك الآلة المتحركة دون خلع ثيابه، ليس عليه أي ثوب يستره! إنه عارٍ!
كل ذلك الوقت كانوا ينظرون إلى هذا المخلوق العاري الغريب الذي أعادوه إلى الحياة الدنيا خطأ ورغمًا عنه! قال نذير راحل عبد الرحيم في نفسه، وغضبٌ وشعورٌ بالمهانة يتأججان داخله كونه مجرد مادة معروضة في معمل!
أنت فقط من يعود إلى الحياة من جديد، روحك وبدنك، أما عوالقك، بما فيها ملابسك وما كان بحوزتك، فإننا نستعين بإنجاز علمي آخر يسمى المغنطة العكسية يتولى التشويش على ذراتها كي لا تتجمَّع وتعود هي الأخرى. فضلًا عن التكلفة المادية الباهظة لإعادة خلق العوالق ونتائجها التدميرية المتوقعة فإننا في الحقيقة لسنا بحاجة إليها.
ازداد غضب نذير راحل عبد الرحيم.
لا تغضب، لا تشعر بالمهانة، إن حال إنسان عائد من الموت تختلف تمامًا عن حال أي إنسان آخر. ثم إنك لن تحتاج إلى وقت طويل لتكتشف أُبَّهة العري وأنه من أبرز علامات التحضر الإنساني التي لم تُقدَّر حق قدرها حيث كنت تعيش في حياتك الأولى!
هذا فوق ما يمكن احتماله، قال نذير راحل عبد الرحيم لنفسه. كان كل ما يقوله الرجل الصارم يؤذيه، يضايقه، يُسعِّر غضبه ويعده انتقاصًا لإنسانيته. من ناحية أخرى كان عدم التصديق يحيره، يبكيه، ورهبة الإدراك تجعل كل ما يحدث مأساة لا حيلة له إلا الإقرار بوقوعها.
أتى برد وخوف ودخلا قلبه وعظامه فاضطجع وانطوى على نفسه. رأى حذاء الرجل العملاق فوق رأسه ضخمًا كأنه سيسحقه ويُسوِّي به الأرض.
إنسان آلي آخر أتى وأنهضه، وفي لحظات ألبسه سروالًا داخليًّا، بنطالًا، قميصًا وسترة، كلها كانت زرقاء اللون على مقاسه تمامًا! وأنهى مهمته بإلباسه ربطة عنق! وشك نذير راحل عبد الرحيم في كل ما قاله الرجل الصارم، كيف يمكن أن يكونوا قد أعادوه إلى الحياة الدنيا دون قصد وهذه الملابس معدة له سلفًا؟ فكر في ذلك وراوده السؤال المتعلق بالرجل الآلي ثانية: أهو إنسان آلي آخر؟ أهم ثلاثة أم واحد؟ إن كانوا أعادوا خلقه عمدًا فمن أين عرفوا مقاسه؟ إنه أمر بعث على الجنون. شعر بأن هناك شيئًا ما غير قابل للتفسير فكل ما يقع الآن قد لا يكون واقعًا!
مرارًا ازدرد ريقه. عندما نام في ليلته الباردة النائية في حياته الدنيوية الأولى كان يرتدي ثوب نوم كتانيًّا فضفاضًا طويلًا ذا كمين طويلين. في ذلك الزمن لم يغادر بلده قط، وعدا ثوب نومه ذاك والإزار والقميص الداخلي الأبيض والدشداشة والمصر والكُمَّة لم يعرف أي زي آخر. لمس ربطة عنقه واستسلم لسطوة الأفكار المسترسلة.
أوجس في نفسه خيفة: الرجل الصارم وذو السترة الحمراء كلاهما يتحدث بلغته!
لا ليس كلانا يتحدث لغتك. كلٌّ يتحدث بلغته. أنت تتحدث بلغتك ونحن جميعًا نتحدث بلغات مختلفة وبعضنا يتحدث بلغتك، إنما يجب القول بحرص ووضوح وفخر بأن مواطن عام 3000 مواطن عالمي بلا شعارات زائفة كما كان الناس يتشدقون في زمنك، وأنت الآن مواطن عالمي أيضًا. توخيًا للحقيقة عليَّ أن أضيف فورًا أن هذا الاختراع يعود إلى ثمانية عقود خلت بفضل العالم مـ.
نوبة غضب أخرى استعمرت رأس نذير راحل عبد الرحيم. زفرة حنق عدائية صدرت منه قطعت حديث الرجل الصارم. مرجل غضب غلى في رأسه. في حياته الماضية لم يُحْشَ دماغه بمعلومات بهذا القدر المحتال السمج، ولا حتى من مسؤولية في البلدية، وكأن هذا الكائن العملاق يقرأ إرشاداتٍ من كتيب ثلاجة أو يتحدث عن اختراع نادر أو يصف ميزات سيارة سباق! بطريقة أو بأخرى سيصله التهكم دون الحاجة إلى الجهر به! إنه يتباهى بالمأساة التي سببوها له، يغافله ويملأ أذنيه بترهات لا يفهمها. اضطرمت شكوك عميقة في داخله. بات واضحًا له أن الرجل الصارم والآخر ذا السترة الحمراء الفاقعة يعرفان ما يفكر فيه، غير أن ذاك يصمت وهذا يجيب عما يريد فقط ويتعمد إهمال الإجابة عن أسئلته الأخرى، وأكثر إجاباته مبهم!
ضرب الرجل الصارم صفحًا عن تهكم نذير راحل عبد الرحيم الغاضب في سره، وكي يهدئ من روعه اقترب منه ورفع يده اليسرى وأشر على رسغه وأخيرًا أجابه عن سؤاله: قبل أن تعود إليك روحك بأجزاء من الثانية، في لحظة محسوبة بدقة متناهية، زرعنا شريحة رقيقة هنا تتضمن تقريبًا كل ما تحتاج إليه لتتأهل وتصبح مواطنًا صالحًا للعيش في القرن الحادي والثلاثين. بينما كنتم تتعلمون اللغات في قرنكم الحادي والعشرين المتخلف وتنفقون سنوات طوالًا لتتمكنوا من قهر القواعد العويصة فإن إنسان عام 3000 يستطيع التحدث بكل اللغات دونما حاجة إلى تعلم أي منها! التقدم التكنولوجي الفريد الذي بلغنا أوْجَ أوْجِه يمنحنا القدرة على التحدث بأي لغة حية وميتة لأننا فقط نزود المعجم بالمعلومات، معاجم بأكملها، مكتوبة، مصورة، منطوقة، كلها مربوطة عصبيًّا ليتمكن أي شخص من استخدامها في الحال دون تفكير وكأنه يتحدث لغته الأم. في الواقع، هاتان الكلمتان ـاللغة الأم ـ ما عادتا دارجتين في الألفية الرابعة كما كان شأنهما في زمنك الغابر، فلغتنا الأم لغة عالمية تحوي كل اللغات المعروفة.
حتى الآن ما زال نذير راحل عبد الرحيم يعبر نفق الصدمة. كلما مضى الوقت كان حس المأساة يفقده الانتباه. كان ذلك العدد الهائل من أعضاء المعمل بلا وجود أحيانًا. لا يفطن إلى تحلقهم حوله. غامت السماء، غاب القمر، انطفأت النجوم وخفت وهج الأضواء الملونة. لم يتبين إلا أساه، وعلى حين غرة تذكر مسجد حارة الساحل وبعض جيرانه المسنين في بلدة سداب، وحدثته نفسه بأن يذهب ليصلي الفجر هناك مثلما كان عليه الحال عمرًا كاملًا! ارتج الكلام والظلام والأفكار. عندما آب من فزعه ورأى ما هو فيه كنس الجميع بنظرة متفحصة. كالتماثيل كانوا واقفين حوله يخفي الظلام نهم إمعانهم. أهو ساحل سداب قبل أن تقيم عليه البلديةُ الكورنيشَ الذي ردم الرَّملَ وإطلالةَ المشهد البحري من أعماق الحارات؟ أم أنهم عند الناحية الأخرى خلف البيوت حيث تجثم الجبال الصخرية الشاهقة بسفوحها شديدة الانحدار وقممها الحادة التي تطعن السماء وتحجب الآفاق والحارات والبلدات الأخرى؟
أنت في عام 3000.
أين؟
في معمل البشر عابر الزمان والمكان.
أين؟!
في مدينة الخلق.
مدينة الخلق؟
المدينة العالمية التي تجمع عباقرة علماء الأحياء والكيمياء الحيوية والفيسيولوجيا والأطباء و...
ومن أنت؟
أنا مدير معمل البشر عابر الزمان والمكان.
ما اسمك؟
أكثرُ ممَّا تتخيَّل.
ماذا؟
نعم.
ما اسمك؟
اسمي أكثرُ ممَّا تتخيَّل.
أكثرُ ممَّا أتخيَّلُ ماذا؟
اسمي أكثرُ ممَّا تتخيَّل.
أهو اسمك واسم أبيك واسم جدك؟
كلا، إنه اسمي فقط. قبل قرنين ونصف قرن وُلِدْتُ.
ماذا تقول؟ ولدت قبل قرنين ونصف قرن؟
نعم، قبل قرنين ونصف قرن وُلِدْتُ من نطفة وبويضة وُضِعَتْ فيهما خلاصة جهود التحكم بالجينات ودُمِجَ فيهما أقواها وحُيِّد أدنى افتراض لنشوء أيِّ ضعف في إحداها حتى مع تقدم العمر، بل إن لمناعتي المحصنة قابلية ذاتية لأن تُدمِّر الخلايا المُجهَدة وتُعوِّضها بأخرى تتصاعد قوتها تدريجًا.
وهذا الذي يلبس رداء أحمر؟
إنه إدريس تكرار رئيس معمل البشر عابر الزمان والمكان ومخترع جهاز تكرار منذ أكثر من ثلاثة قرون؟
ثلاثة قرون؟
نعم، يبلغ عمره الآن زهاء 400 سنة، وهو من يقف خلف جميع عمليات إعادة الخلق الناجحة. إنه رئيس المعمل ويُعرَف في جميع أرجاء الكرة الأرضية وكواكب أخرى باسم أبي علم البعث الحديث.
وهؤلاء؟
علماء، مساعدو علماء، أطباء، مشرفو أجهزة، مبرمجون، متدربون وطلبة بعضهم ضيوف حضروا من إمبراطوريات ودول وأقاليم وولايات ومقاطعات ومدن أخرى، وأكثرهم يتمتع بعضوية دائمة في معمل البشر عابر الزمان والمكان.
كم عددهم؟
3795.
ولماذا؟
ليشهدوا هذا اليوم التاريخي لإعادة خلقك.
وأنا؟
صاح إدريس تكرار مقاطعًا إيَّاه:
أنت مجهد الآن. برغم أنف خطأ الاستدعاء الأثيري الموجي عملية خلقك أحرزت تفوقًا أثلج صدورنا.
أراد نذير راحل عبد الرحيم أن يعترض غاضبًا بيد أن إدريس تكرار نهض من مقعده رافعًا نحوه يدًا طويلة حسبها مجدافًا. أتى تكرار مهرولًا. كانت عيناه زجاجيتين، ودار في خلد نذير راحل عبد الرحيم أنه ربما كان يرتدي نظارة طبية بعدستين سميكتين، ثم لاحظ أنهما كانتا مجهرين! ولاحظ كيف كانت خطوته تعادل قفزة مقارنة بخطوته وخطى البشر الذين كانوا يعيشون في زمنه، وكيف اقترب مغطيًا من تركهم وراءه، وفرد مجدافيه، وبردائه الأحمر بدا كطائر خرافي يستعد للتحليق! نزع مجهريه فبانت عيناه كبيرتين جدًّا الواحدة منهما بحجم كرة مضرب تنس الطاولة! وهتف: يكفيك ما عانيته في تجربتك الاستثنائية هذا اليوم. بصفتي باعثك، وكوني رئيس معمل البشر عابر الزمان والمكان أعرض عليك الحقن بإكسير الخلود. لن يكلفك الأمر شيئًا، مجرد فحوص سريرية بين آونة وأخرى هي في المقام الأول لمصلحتك. اليوم السابع من يناير. فكر كما تشاء وأبلغنا بقرارك بعد ستة أشهر من الآن، في السادس من يونيو المقبل. خلافًا لذلك، لو رفضت العرض، سوف تعيش، في أفضل الأحوال، بضعة أشهر ستكون في أثنائها معرضًا للانهيار ولقائمة طويلة من الأمراض والعدوى ومما لا يجدر بإنسان أتيح له العيش في عام 3000 أن يرزح تحت وطأة أرزائه.
مثل قائد فرقة موسيقية رفع إدريس تكرار يده عاليًا وأبقاها لحظات قليلة هكذا، ودَهِشَ نذير راحل عبد الرحيم وابتأس وهَلِعَ وقنط وبكى وتذكر بيت الشعر الذي لم يستطع تذكره في ليلته الأخيرة في حياته الدنيوية المولية في الماضي السحيق. وعلى الفور صدرت أصوات إنذار وكُبِست أذرعة آلات، وبينما أخذ الـ3795 عملاقًا يضعون أجهزة التحكم والمراقبة عن بعد ويخلعون قفافيزهم وأرديتهم الطويلة على حوامل آلية متحركة، كانت صفائح متراكبة في الأعلى تتمدد من أقصى الجهات الأربع تجاه الداخل، وخلال دقائق امَّحى الظلام، وغطى سقف فولاذي معمل البشر عابر الزمان والمكان، وأُنيرتْ مصابيحُ سطوعُها القويُّ بدا غريبًا من نوعه لإنسان الألفية الثالثة المعاد خطأً إلى الحياة في الألفية الرابعة.
2
ما حدث في فندق المألوف الخارق
ريثما يُهيَّأ مأوى لاستقرار نذير راحل عبد الرحيم أُسكِن شقة فخمة في فندق قيل له إنه يعد من نفائس القرن الحادي والثلاثين وعجائبه التي تجاوزت سمعتها آفاق كوكب الأرض. يصنف ضمن فنادق الألف نجمة! وقيل له إنه واحد من بين أفضل ثلاث تحف معمارية شيدها الإنسان على وجه الأرض بأسرها عبر التاريخ المعروف وغير المعروف! عرض أساسه ثلاثون كيلو مترًا ويبلغ ارتفاعه سبعة وخمسين كيلو مترًا. وقيل له إنه يستقطب البشر من أصقاع المعمورة، ويقاوم كل الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية الممكنة وغير الممكنة الحدوث، وتتسع طوابقه الألف لثلاثة ملايين ومئتين وسبعين ألف نزيل وزائر خلال وقت واحد. وفيه تقام مؤتمرات، سباقات زوارق وخيول ومعارض طائرات حربية وغواصات وأنشطة لا حصر لها. أما سطحه فيستخدم منصة لإقلاع مراكب الفضاء والصواريخ. ويولِّد الطاقة النظيفة المتجددة عبر الشمس والريح والماء، وينتج الهيدروجين بطرق عديدة على نطاق يغطي حاجته وحاجة مؤسسات عملاقة أخرى وأحياء آهلة بالسكان. وبالإجمال، قيل له، في هذا الفندق ما فيه مما تعجز مدارك إنسان الألفية الثالثة عن الإحاطة به!
كلما رأى أو أصغى أو جلس أو قام أو مشى أو لمس أو استنشق اعترته ريبة وحالت بينه وبين حواسه غربة. انقبضت أساريره واستوحشت روحه. لم يأت من عام 2015 بل من وطن الأرواح، من أين لا يعلم إدريس تكرار ولا أكثر ممَّا تتخيَّل ولا حشود معملهما ولا كل هذا الزيف الإنساني الفظيع. كانت أفكاره لا تهدأ، تجول وتترجَّع داخله: ولا كل هذا الزيف الإنساني الفظيع المغرور، جحيم الحياة الدنيا، عالم الوساوس والأفكار والمصلحة والتنافس والقوة والضعف والغَيرة والحسد والتَّرصُّد والانتقام وأمراض النَّفس وعبادة المال.
في حياته الدنيوية الأولى كان يعمل ملاحظ عمال في البلدية. كان يقرأ ويكتب بقدر يكفي لأن يفهم عناوين الصحف ويمارس وظيفته كما يُطلب إليه، أرقام، أسماء عمال وبعض الملاحظات المكررة، من حضر، من غاب، من استأذن في أمر ما، من قدم عذرًا، من مرض، من استقال، من أُقِيل، ثم يذيل الصفحات بتوقيعه. وكان ذلك كل شيء، دفاتر كل بضعة أعوام تنتهي في مخازن البلدية. ما تغطرس على أحد، ما وشى ولا طمح إلى أي منصب حتى يوم تقاعده في عام 1995. يفضي بذكرى تلك الحياة إلى نفسه، يقول إن ذلك كان مصدر راحته، فما دام قد عاد إلى الحياة الدنيا مجبرًا فإن الشيء بالشيء يذكر، وعدا ذلك كان لا يستطيع معرفة ما يجب عليه أن يتذكر. إن أسوأ ما في الحياة، يقول في سره، هو خوض معركة القلق التي ما منها مفر، مجابهة لا تنتهي إلا بالموتِ، التَّاجِ الذي وحدهم الراحلون الناجون يضعونه على رؤوسهم. لم يكن هناك شيء في حياته الأولى تلك أحب إليه من قضاء يومه صحبة زوجته تقوى، أو زيارة أيٍّ من ابنيهما أو ابنتيهما وأحفادهما أو كلهم معًا حين يجتمعون في سداب أو بيت أحدهم أو يشوون اللحم على شاطئ بلدة السِّيفة، أو الخروج في مشاوير مشيه اليومي قرب البحر ثم، في زمان أبكر، مجالسة مجايليه من سكان بلدة سداب، ناهيك عن زيارته أخواته الثلاث الأكبر منه سنًّا اللواتي رحلن تباعًا قبل رحيل زوجته تقوى بسنوات.
باستثناء ناطحات السحاب التي شاهدها نذير راحل عبد الرحيم على شاشات القنوات التلفزيونية الفضائية في الألفية الثالثة كان فندق شيراتون و"بيت حطاط" أعلى عِمارتين رآهما رأي العين في حياته، وهما بنايتان عدد طوابق أطولهما لا يتجاوز 14 طابقًا. كان يحب البحر، والساحل، وحارة الساحل، والجبال المهيبة القاحلة العارية التي تشهق حتى توصد عنان السماء، ويحب المدى الممتد بلا نهاية في عمق السماء والبحر، ويمقت ناطحات السحاب وما يسميها البيوت المتراكبة التي انقضت حياته ناجيًا من رعبها وأُعيدت الآن ليسكن ما يعده خرافةَ خرافاتها.
بينما كان مستغرقًا في الذكرى سمع أحدًا يناديه: سيدي، لقد مرَّت أربع ساعات، حان الآن موعد شرب كأسي ماء. تلفت فرأى في عمق أحد جدران الغرفة أضواء صغيرة ملونة تشع وتنطفئ، وإذا بصوت يشبه صوت خلَّاط فواكه كهربائي ثم ثغرة تنفتح هناك وينقلع من جوفها إنسان آلي لو لم ير الهيئة التي اتخذها في ثوانٍ قليلة لحسبه إنسانًا من لحم ودم. إنه من نوع يختلف تمامًا عن الآليين الذين رآهم في معمل البشر عابر الزمان والمكان. فتح الإنسان الآلي ثلاجة ضخمة محفورة في أحد جدران الشقة ثم خطا ناحيته، مد إليه بكأس ماء تناولها من فوره، ومثلما فعل في المرة الأولى عقب بعثه في معمل البشر عابر الزمان والمكان عبَّ الماء عبًّا. وضع القدح على منضدة واطئة بجوار الأريكة الفخمة التي تجمد فوقها منذ أن أتى من المعمل مستسلمًا لذكرى حياته الدنيوية السابقة. ناوله الإنسان الآلي كأسًا أخرى جرعها دون إبطاء أيضًا. أصغى إلى صوت الصمت وصداه الصاخب في رأسه، وأورت الأفكار ثانية نار الحيرة والهلع والحنين في موقد أعماقه الخائفة.
سيدي، إنني هنا لأخدمكم. مهما كان ما تريدون يسعدني ممتنًّا أن ألبيه لكم. سيدي، أظنكم بحاجة ماسة إلى المرحاض.
حقًّا، شعر نذير راحل عبد الرحيم بالاحتقان!
سيدي باب المرحاض على يمين المدخل الرئيس. اسمي دليل، إن احتجتم إليّ نادوني وستجدونني طوع بنانكم في الحال. في أي حال، سيدي، ستجدون هناك كل ما يلزمكم.
أسرع نذير راحل عبد الرحيم نحو المرحاض. ما كاد يدفع بابه حتى انفتح تلقائيًّا، ولما خطا داخلًا انغلق خلفه. مشدوهًا رفع حاجبيه حين رأى اتساع غرفة الحمام الذي لا يقل عن الغرفة التي أتى منها. كان هناك حوض سباحة قدَّر أن طوله لا يقل عن 3 أمتار وعرضه متران، ومغطس يكفي لتمدُّد شخصين بطول قامة إنسان عام 3000، وجدران وأرض وسقف من المرايا. أوَّلَ مرَّةٍ منذ أعيد إلى الحياة الدنيا يرى نذير راحل عبد الرحيم صورته. كان لا يزال مرتديًا الحُلَّة الأنيقة وربطة العنق. رأى من هيئته ما لم يره قط في حياته الدنيوية الماضية، قمة رأسه، قَذَاله، ظهره. بدا لنفسه غريبًا جدًّا إلى درجة أنه لم يكن نفسه! خلع حذاءه وبنطاله وسرواله الداخلي على عجل ولبس خُفًّا كان موضوعًا هناك وجلس على المرحاض. بعدما انتهى لم يجد سوى مناديل ورقية. وقف تحت المِرَشّ وفوجئ حين تلقائيًّا، دون أن يفعل شيئًا، انصب فوقه ماء دافئ نشَّطه فورًا وأنساه حيرته. توضأ للصلاة. تنشَّف. تثاقل عن معاودة ارتداء البدلة الأنيقة. لبس دثار استحمام معلق مع دُثُر أخرى على مشاجب خزانة من الزجاج. طالع صورته في المرآة، قامته المنحنية بعض الشيء، غضون وجهه العجوز، الخطوط والانتفاخات حول عينيه، ترهل جفونه وطيات جلده، البقع الداكنة الظاهرة على وجهه وأنحاء متفرقة من جسده، لحيته البيضاء المتوسطة الطول، وحاجبيه الكثيفين الشديدي البياض، هما الآخران، اللذين بشكل أو بآخر، يوقعان في الناظر إليه أوَّل وهلةٍ وهمًا بأن عينيه بارزتان وحادتان على الرغم من أنهما مسكونتان بفزع مترقب وحنين ضالٍّ كأنه ينفصل عن صاحبه أو تقوى شكيمته عَنوةً دون علمه. تذكر أشرف، الحلاق الهندي الذي اعتاد الذهاب إلى محلِّه المطل على الشارع البحري في سداب ليشذب لحيته ويحلق شعر رأسه مرة واحدة في الشهر. في السنين الأخيرة في حياته الدنيوية الأولى كان ارتجاف يديه يمنعه من التحكم في المقص وشفرة الحلاقة، لذلك كان يقصد الحلاق أشرف بانتظام، أما في السنة الأخيرة قبل موته فقد استقر على زيارته مرة واحدة في الشهر بعد أن، ولأسباب لا يفهمها رجَّح أنها وثيقة الصلة بشؤون الشيخوخة، لاحظ أن شعر رأسه ولحيته لم يعد ينمو بالكثافة نفسها التي كان عليها، بل إنه لاحظ أن شعره كان آخذًا في التساقط باطِّراد بحيث إن زيارة الحلاق لم تكن لغرض الحلاقة بقدر ما كانت محافظةً على تقليد عريق يتشبث بالحياة المعتادة ويرفض الرضوخ للنشاط المتنامي للشيخوخة.
عندما خرج من الحمام انحنى دليل وقدم له ثوبًا بيتيًّا من قطعتين أراد أن يعود إلى الحمام ليلبسهما. قال دليل: سيدي يمكنكم ارتداؤهما في غرفتكم. خجل نذير راحل عبد الرحيم من أن يتعرى أمام إنسان آلي! الإنسان الآلي، كما يستطيع أن يرى ويحدس، يعرف، أليس كذلك؟ ويتذكر، وترسخ الصور في ذهنه! وأقنع نفسه بأن الغرفة في الواقع ليست غرفته وحده بل غرفتهما معًا هو ودليل. قال دليل مكررًا: سيدي، تستطيعون ارتداءهما في غرفتكم. سأله نذير راحل عبد الرحيم: وأنت؟ أجاب دليل: أنا أنتظركم هنا يا سيدي. دهم الضيق نذير راحل عبد الرحيم من جديد، وفكر: ما نهاية كل هذا؟ وماذا بعد؟ قال دليل: نحن الآن في البهو سيدي. غرفتكم هناك عند المنحنى.
حمل نذير راحل عبد الرحيم قطعتي الثوب، جرَّ خطواته إلى حيث أشار دليل، وهناك انفتح باب الغرفة آليًّا على فراش وثير وجدران من البَلُّور تسبح داخلها أسماك صغيرة وتزينها صخور وقواقع وأصداف وشعاب مرجانية ورواسب وأحياء بحرية. فوق السقف وتحت الأرضية أيضًا كانت أسماك أكبر تسبح بحرية كأنها في أعماق محيط. وكما في دورة المياه والبهو الذي ظنه الغرفة، كانت روائح عطرة تفوح ببذخ، أضواء بَيْنَ بَيْنَ لا قوية ولا خافتة تنير كل ناحية بسلاسة لولا ذلك الانفعال النَّكِد الذي يجرح طمأنينته لاستسلم لنعومتها! موسيقى خفيفة بالكاد يمكنه سماعها وأغلب الظن، دار في خلده، أنه يتوهَّمها!
كان ثوب النوم على مقاسه تمامًا. من الآن فصاعدًا سوف يكف عن التعجب. إنه حزين ومصدوم ويائس، وهذا العالم الفاني الذي أعيد إليه مجبرًا مأساة؛ يُحدِّث نفسه ويمنعها من أن تخوض في أحاديث أخرى!
والآن سوف يصلي لكن أي صلاة؟
صلاة الصبح؟ لقد صلى العشاء، كعادته، في مسجد الحارة ثم نام ومات إبَّان النوم قبل موعد صلاة الفجر. نعم، إنها صلاة الفجر إذًا. عليه أن يكمل دورة الزمن فحسب، قال في سره وارتبك. عندما أعادوا خلقه في معمل البشر عابر الزمان والمكان كان الوقت فجرًا، أليس كذلك؟ سأل نفسه لكن لم يستطع أن يؤكد الإجابة. مع ذلك استراح لقراره وفي الوقت نفسه بذل جهدًا ليتلافى التفكير في أن 985 عامًا قد مرت على آخر صلاة صلَّاها في الحياة الدنيا، وأنه مات، وأنهم أعادوه من الموت! إنها دائرة مهما يحاول الخروج منها فلن يستطيع. الصلاة ستساعده، قال لنفسه ثم اعترضه سؤال آخر: أين القِبلة؟ دليل ربما يكون عينًا لإدريس تكرار وأكثر مما تتخيَّل، لذلك يجب أن يحترس ولا يسأله أسئلة من هذا القبيل. لو أن هؤلاء يعرفون الله لما تجرأوا وأجرموا وتحدوا المشيئة الإلهية وفعلوا ما فعلوا به. تحسَّس موضع الشريحة المزروعة في معصمه التي أشار إليها الرجل الصارم لكنه لم يشعر بوجودها! أغمض عينيه كي لا يغرق في أعماق البحر. أخيرًا، وكيفما اتفق فيما يتعلق بجهة القِبلة، رفع يديه إلى أذنيه وكبَّر وطَفِق يصلي الفجر، مدركًا على حين غرة أن هناك شيئًا يغيم في أفكاره وفي ما يحاول تذكره، لاسيَّما إذا اتصل بالزمن القريب، فإن كانت 985 سنة تفصله عن حياته الدنيوية الأولى فماذا عن البارحة؟ ماذا عن الساعات القليلة السابقة لعملية إعادة خلقه؟
في البهو قدَّم له دليل قائمة طعام مدعمة بالصور ليختار وجبة غدائه منها.
ماذا قلت؟ غداء؟ كم الساعة الآن؟
إنها قرابة الثانية عشرة ظهرًا سيدي. هل تفضلون الخضراوات أم الأكلات البحرية أم الطيور؟
أدرك نذير راحل عبد الرحيم ألا مفر من كل هذا. فضلًا عن ذلك لا بد من التسليم بأنه أعيد إلى الحياة الدنيا حقًّا، بل، والحق يُقال، إنه يتضوَّر جوعًا. اختار حساء عدس، سمك هامور مشويًّا وشرائح جزر وخس وبصل وتغميسة زنجبيل.
سيدي، إن أحببتم يمكن فتح ستائر البهو. شقتكم تطل على أكثر من معلم خلاب يستحق أن ينال شرف اهتمامكم.
أي معالم تقصد؟
شقتكم، سيدي، في الطابق الـ866 وتشرف على البركة الأوليمبية للعُراة وجزء من مطعم الحيتان وجزء من حديقة السناجب.
افتح الستائر لكن أرجوك لا أريد رؤية أي عراة.
فهمتُ سيدي.
وتذكر نذير راحل عبد الرحيم انتباهه المتأخر لعريه في معمل البشر عابر الزمان والمكان بعدما حقنه الرجل الآلي بالإبرة، ثم ما قاله الرجل الصارم أكثر مما تتخيَّل، ماذا قال؟ أُبَّهة العري! العري علامة تحضر البشر! وسأل نفسه: هل لذلك معنى يجب سبر غوره؟ هل ثمة معنى لأي شيء إن لم نمنحه إيَّاه أو يجبرنا أحد على ذلك؟ واستطرد يفكر في سره بأن هذا تفلسفٌ في غير أوانه إذ يجب عليه أن يحذر جانب هؤلاء؟ مَنْ هؤلاء؟
دخلت أشعة الشمس. بزغت مناظر ساحرة وجوانب أخرى من فندق المألوف الخارق وحوتٌ ضخمٌ لا يقل طوله عن ثمانية أمتار مشكوكٌ بسَفود يدور في جوف فرن زجاجي يتوهج أسفله بالجمر. لاحظ نذير راحل عبد الرحيم أن ستائر عام 3000 بدورها تختلف تمامًا عن ستائر عام 2015. في الحقيقة لم تنفتح أي ستارة بل تغير لون الحائطين الزجاجيين فقط، كانا معتمين يحجبان كل ما هو خارج البهو ثم أصبحا مجرد حاجزين زجاجيين يشفان عمَّا خلفهما.
بعث ضوء الشمس نشاطًا وسكينة في روحه. مع ذلك لم يجد أدنى رغبة في مواصلة الوقوف ليرى أكثر مما تتيحه له الرؤية وهو جالس على الأريكة الفارهة. كان يتوق إلى الحديث إلى إنسان مثله. وبينما كان ينظر إلى دليل رن جرس خفيف استرعى انتباهه. تحرك دليل تجاه طاولة الطعام في زاوية يلتقي عندها حائطا البهو الآخران غير المطلين على الخارج حيث لمسة كلاسيكية تجعل صورًا ذات أحد عشر بُعْدًا هناك تبث إحساسًا بالاسترخاء وسط أشجار غابة ينعكس اخضرارها الشديد على بحيرة صافية من فرط قربها خال نذير راحل عبد الرحيم أن هبوب ريح مباغت سينثُّ ماءها عليه وعلى دليل. انفتحت كوة في الزاوية امتدت منها ذراع صُفَّتْ فوقها صحون وجبة الغداء وإناء الحساء، واستقرت كلها مرتَّبةً على الطاولة والبخارُ يفوح منها ويبدو مرئيًّا لنذير راحل عبد الرحيم الجالس على مبعدة هناك على الأريكة.
تفضلوا سيدي، غداؤكم في الانتظار.
نهض نذير راحل عبد الرحيم. ذهب إلى دورة المياه، غسل يديه ونشفهما بمنديل ورقي ثم جلس على أحد كراسي الطاولة. جاء دليل: لطفًا سيدي. وبعناية وتهذيب لف منديلًا حول عنقه، وناوله شوكة وسكينًا. سلوك دليل ترك أثرًا بالغًا في نفس نذير راحل عبد الرحيم. لا شك أنه يقدر الطاعنين في السن مثله. ولمَّا كان قد أمضى حياته الدنيوية الآفلة كلها يأكل بيده فقط فإنه، في البداية، لم يكترث بالشوكة والسكين إلا أن الغريب أنه وجد نفسه يتدبر أكله بهما!
شكرًا على لطفك يا دليل. إنه كرم منك خدمة عجوز مثلي.
العفو يا سيدي، هذا واجبي، ثم إنكم، سيدي، ما زلتم في مقتبل العمر.
مقتبل العمر؟
نعم سيدي. قياسًا بالعمر الافتراضي لإنسان هذا العصر، وهو أزهى عصور الحضارة البشرية على الإطلاق، فإن 80 عامًا لا تُقارَن بـ400 عام. ينقصكم بعض الترميم والصيانة سيدي وسوف تجنون ثمار التقدم الحضاري. إننا في إمبراطورية الأرض.
إمبراطورية الأرض؟
لماذا لم يخبره أكثر مما تتخيل باسم الدولة؟ أهي دولة أم ماذا؟ إمبراطورية؟ ألانه لم يسأله؟ عم يسأل وعم يصمت؟ هل زرعوا آفة أخرى في لحمه أو في عقله؟ كأنه يريد التفكير في شيءٍ ما ولا يستطيع ويفكر في شيء آخر! عام 3000، إمبراطورية!
تفضلوا، تناولوا غداءكم سيدي.
تفضل معي يا دليل!
شكرًا جزيلًا لكم سيدي. إنني أتغذى بطاقة الكهرباء.
تدارك نذير راحل عبد الرحيم خطأه متأخرًا. لام نفسه واعتقد أنه جرح دليلًا!
دليل.
نعم سيدي.
أنا آسف. إنها زلة لسان. لم أقصد السخرية منك.
لا موجب للأسف سيدي. إنكم محقون ونظرتكم مستقبلية فهناك تطور مذهل على صعيد صناعة الروبوت أيضًا، ثمة عدد محدود ممن اختُرعوا مؤخرًا يؤدون عدة وظائف بشرية كالنوم وأكل أنواع محددة من الطعام واستخدام المرحاض وممارسة الجنس. إنهم الجيل الثوري الأحدث سيدي، وإضافة إلى ما ذكرته لكم قبل قليل يجب الإشارة إلى أنهم، ذكورًا وإناثًا، اسُتحدثوا لأداء وظائف الحب والجنس في ظل ما تعرفونه منذ عهدكم العتيق ـوفي الحقيقة على مدى التاريخ البشري، سيدي ـ من افتقاد الوئام في علاقات الحب بين البشر التي ظلت دومًا معقَّدة وعلى شفا الانهيار، تبدأ متوهجة وتنتهي محترقة وعدوانية. تستطيعون القول باطمئنان بأنهم نصف بشر نصف آليين. بكلمات أخرى، إنهم بشر حقيقيون بمواصفات جينية آلية عالية الجودة تستطيع إقامة علاقات غرامية سويَّة، سيِّدي، تُرضي الطرفين، وتتصدى لعوامل الزمن ولا تُلوِّح بها عواصفه!
كل ذلك لا يدهش نذير راحل عبد الرحيم. يدهشه شيء واحد فقط ويعذبه: كيف أمكنهم إحياء شخص ميت؟ كيف أعادوه إلى الدنيا؟ ومثلما حدث قبل 985 سنة، في المساء الأخير لمشوار مشيه اليومي، حاول دون جدوى تذكر بيت الشعر الوحيد الذي كان يحفظه. لقد تذكره في اللحظات الأخيرة قبيل مغادرته معمل البشر عابر الزمان والمكان بيد أنه نسيه مرة أخرى. تذكر نغمة غامضة يرددها صوت فتاة لم يعرف من هي! أغمض عينيه كي يُعمِل ذهنه في الأمر بيد أن الأمر تلاشى!
أرجوكم تناولوا غداءكم سيدي، وفي هذه الأثناء لعلكم تودون مشاهدة القنوات الفضائية.
فكرة لا بأس بها يا دليل، ماذا تقترح؟
هل تفضلون التسلِّي والغناء والرياضة والأفلام أم نشرات الأخبار سيدي؟
نشرات الأخبار لو سمحت.
عبثًا حاول نذير راحل عبد الرحيم العثور على جهاز تلفاز في البهو. ضغط دليل زرًّا غير مرئي فانسدلت قبالتهما شاشة بَلُّورية غطت النصف الأعلى للحائط، وظهرت مذيعة عملاقة: حذَّرت الوكالة الدولية للدفاع عن مستقبل الوجود من أن سباق استنزاف المواد الخام لكوكبي عطارد وزحل والاستمرار في تصديرها بكميات تجارية إلى كوكب الأرض ينبئان بكارثة بيئية كونية في المستقبل المنظور.
فغر نذير راحل عبد الرحيم فاه، ثم ما لبث أن فقد الاهتمام. كان مذاق الطعام طيِّبًا والجوع يجعله أطيب. كان يأكل، وفي الوقت نفسه يستمع إلى نشرة الأخبار ويشاهد صور أرتال السفن الفضائية تجوب كوكبي عطارد وزحل، ومسابيرَ وآلاتٍ يُتحكَّم فيها من كوكب الأرض تحطم مساحات شاسعة من الصخور.
وأكد تقرير أصدره قسم قرْع ناقوس الخطر في الوكالة الدولية للدفاع عن مستقبل الوجود أن الشركات المتنافسة تمكنت من التغلب نهائيًّا على مقاومة الجاذبية الشديدة ودرجات الحرارة والضغط الفائقة في كوكب زحل بطريقة أفضت بها إلى انتهاج سلوك إجرامي غير مسبوق، إذ لم تكتف بتحطيم الصخور ومصادرة الهيدروجين المعدني وطبقات الغاز فحسب، بل إنها جعلت من أقمار زحل ساحة لجشعها أيضًا فصادرت البحيرات الكربونية وأحدثت خللًا بيئيًّا ما عاد مقبولًا بأي حال من الأحوال أن يقف المجتمع الدولي مكتوف الأيدي وصامتًا حياله. أما في ما يتعلق بكوكب عطارد فإن قسم قرع ناقوس الخطر رصد معلومات تفصيلية خطرة تؤكد ضلوع الشركات العالمية المتنافسة، ومنها شركتا فرصة وأسبق على وجه الخصوص، في تفريغ الكوكب من المعادن والصخور السيليكاتية والحديد وتعريض غلافه المغناطيسي لأخطار وشيكة.
أتى نذير راحل عبد الرحيم على حساء العدس وسمك الهامور وشرائح الجزر والخس والبصل وتغميسة الزنجبيل. حمد الله وشكره وتذكر صلاة الظهر، وفي اللحظة نفسها تشوش تفكيره، وفجأة رأى صورته على القناة الفضائية.
أعلن إدريس تكرار الرئيس التنفيذي لـمعمل البشر عابر الزمان والمكان ورئيس مجلس إدارة علوم أحياء كوكب الأرض فجر هذا اليوم نجاح عملية جديدة لبعث إنسان ميت وإعادته إلى الحياة، وذلك على مسرح المعمل الرئيس لـمدينة الخلق. وصرح أكثر مما تتخيَّل مدير المعمل بأن فريق عمل مكونًا من 3795 عضوًا شهد عملية الخلق وشارك في الحدث خطوة بخطوة.
بُهِت نذير راحل عبد الرحيم وعاودته حدة الشعور بالمهانة والغضب مثلما كانت قبل ساعات في المعمل. أخذ يمسح لحيته ويزفر ويشهق لاإراديًّا بصوت مسموع ممتعض.
جدير بالذكر أن الإنسان المبعوث رجل اسمه نذير راحل عبد الرحيم، وكان قد ولد في التاسع من أكتوبر عام 1935، وفارق الحياة إثر سكتة قلبية دهمته خلال نومه في عام 2015 في بلدة كان يطلق عليها سداب، وتقع في بقعة نائية تُسمَّى عُمان. وبعد التأكد من نجاح عملية الخلق وتأمينها بنسبة 99.9٪ غادر السيد نذير راحل عبد الرحيم مدينة الخلق وهو في صحة ممتازة على متن سيارة طائرة يقودها إنسان آلي نحو فندق المألوف الخارق وسط المحيط وطبقات الغلاف الجوي العليا في أرقى أحياء مدينة قبضة الحديد عاصمة إمبراطورية الأرض.
في نشرة الأخبار ظهر نذير راحل عبد الرحيم بالحُلَّة الأنيقة وربطة العنق الزرقاوين داخل المعمل، ثم خلال دخوله السيارة الطائرة وحتى لحظة إقلاعها به وهو يمسح لحيته ويبدو في حالة ذهول مطبق.
انتابه سأم قابض. إنه مقتلَع من مكان وزمان آخرين. إذا غض النظر مكرهًا عن الحياة الأخرى التي جاء منها ورضخ لحقيقة وجوده الآن في الحياة الدنيا فإنه في كل حال لن يستطيع أن يغض النظر عن مأساة حلوله المفاجئ في زمن ومكان مبهمين. لا بيت ليؤوب إليه، لا زمان ولا خيط ولو واهيًا يربطه بحياته الأولى، لا صديق ولا حتى من يبثه حزنه. نظر إلى معصمه! هل يعلم إدريس تكرار وأكثر ممَّا تتخيَّل ما يدور في خلده؟ خَزَرَ الإنسانَ الآلي فوجده ينظر إليه بحزن!
دليل، هل أنت حزين؟
حزين من أجلكم سيدي. أنتم إنسان نادر وخبر عودتكم إلى الحياة يُبث الآن بكل الوسائل ويعم أرجاء العالم ويشغل الناس، وهذا في حد ذاته سبب كفيل بإسعادكم سيدي.
دليل، أطفئ هذه القناة لو سمحت.
أمركم سيدي، هل تأمرون بشيء آخر؟
ماء لو سمحت.
ليس الآن سيدي. بعد ساعة ونصف يحين أوان تناولكم ثلاثة كؤوس، وبعدها بأربع ساعات تشربون كأسًا واحدة، ثم بعد أربع ساعات أخرى يمكنكم شرب أي مقدار تشاؤون يا سيدي.
لماذا يا دليل؟
لا علم لي يا سيدي. إنني أنفذ ما أُمِرت به فحسب.
ومن أمرك يا دليل؟
لقد بُرمِجتُ عن بعد سيدي.
بُرمِجتَ عن بعد؟
نعم سيدي.
لكنني أراك تحدثني مثل أي إنسان. لا أستطيع رؤية أي فرق بينك وبين الإنسان العادي. أقصد أنني لو لم أرك بعيني هاتين تخرج من الجدار لما شككت قط في أنك إنسان.
هذا بفضل التقنية العالية التي وصلت إليها صناعة الإنسان الآلي سيدي. أستطيع أن أخوض وإياكم في أي حديث تحبذون، وذلك لأنني أجمع تلقائيًّا، عبر الأقمار الصناعية، وعلى الفور، كل المعلومات المتعلقة بأي موضوع، من كل المصادر التكنولوجية المتاحة على ظهر الوجود.
وهل تشعر بما أشعر به؟
نعم سيدي، ويحزنني أن أراكم مستسلمين للأسى. عذرًا على لغتي سيدي، إنني فقط أجيب عن سؤالكم.
وكيف أخرج من هذا الأسى يا دليل؟
بالترفيه والاسترخاء يا سيدي.
ماذا تعني؟
وسائل الترفيه كثيرة سيدي. فندق المألوف الخارق يحوي مرافق ترفيه لا تحصى سأختصر ذكر بعضها لكم سواء تلك المسموح لكم بممارستها في هذا الوقت أو تلك التي سيسمح لكم بممارستها في المستقبل؛ على سبيل المثال، سيدي، حمامات البخار، التدليك، غرف الضحك، اختبارات الذكاء الفائق، أجساد المتعة، صالات الألعاب، وهذه وحدها تشمل قائمة طويلة يصعب حصرها، سباقات الخيول، سباقات الزوارق، سباقات التماسيح، متحف الثعابين، جولات الغواصات، السباحة مع الحيتان، جلسات الاسترخاء بغاز الأوزون، القفز من شرفة الطابق الألف لفندق المألوف الخارق، سيجار الماريوانا، الحانات، صالات السينما، شراب الإكسير...
قطع نذير راحل عبد الرحيم استرسال دليل. عنَّ له الذهاب للاغتسال والصلاة ثم أخذ قسط من النوم.
دليل، عذرًا على مقاطعتك. أحتاج إلى دخول المرحاض ثم سأدخل الغرفة لأقوم ببعض التمارين.
كما تشاء سيدي، خذ راحتك.
بعد المرحاض دخل نذير راحل عبد الرحيم الغرفة، صلى الظهر، دعا طويلًا كي ينقذه الله من محنته، ثم خرج ليبلغ دليلًا بأنه مجهد وبحاجة ماسة إلى غفوة.
لا يا سيدي، لا يمكن.
لماذا يا دليل؟
موعد كؤوس الماء الثلاثة اقترب سيدي.
أتعني أن الأفضل أن أغفو بعد شرب الماء؟
كلا سيدي، من الأفضل أن تنام بعد موعد شرب الكأس الأخيرة، أي بعد قرابة تسع ساعات سيدي.
تسع ساعات؟ لماذا يا دليل؟ كيف لي أن أتحمل كل هذا الإرهاق؟
التزم دليل الصمت.
جاب الشك أعماق نذير راحل عبد الرحيم المستوحشة. ارتاب في دليل، وتذكر صمت أكثر ممَّا تتخيَّل حيال بعض أسئلته، إنما هل يجب عليه أن يقيم وزنًا لاعتراض إنسان آلي؟ إنه يحس رغبة عارمة في النوم. نداء بعيد يتردد داخله، يدعوه إلى اقتفاء أثره الحميم الغامض، يقصيه عن قبضة الأسى ويغمره بالسلام والسكون والصمت. قال في نفسه إنها الصلاة، استجاب الله لدعائه وها هو يقوده إلى مخرج من مصيبته. وألح عليه شعور بأنه إذا نام فسوف يستريح من عناء هذا الكابوس! أخذ يتثاءب ويغمض عينيه من شدة التعب، وبغتة، وبلا سابق إنذار، انفجر البهو بالموسيقى والتأوهات، صريخ ولغط ومضاجعات وأضواء باهرة وعدد لا متناه من العراة في أوضاع جنسية شتَّى.
انظر يا سيدي، لقد بدأت جولتهم.
حال الضجيج دون أن يستطيع نذير راحل عبد الرحيم سماع صوت دليل، بيد أنه فطن لإشارة يده، والتفت إلى شاشة الكريستال؛ كانت هذه المرة تسيل على حائط البهو المقابل لطاولة الطعام برمته، من السقف حتى الأرضية، أشبه بشاشات السينما والإعلانات التي شاهدها تغطي هياكل ناطحات السحاب كاملة عندما كان على متن السيارة الطائرة. على الشاشة كان رجال ونساء عراة يملأون حوض سباحة في انفعاله الغاضب قدَّر نذير راحل عبد الرحيم أن طوله المسرف ليس أقل من نصف كيلو متر، تقريبًا بقدر المسافة بين بيته وبداية كورنيش سداب، حيث الموضع الذي كانت أعمال إنشاء مسجد جديد قد بدأت فيه قبيل مغادرته حياته الدنيوية السابقة؛ لا، البركة أطول! اضطرب، وبدت له المقارنة غير عادلة ومذنبة عندما وضع اعتبارًا للحشمة! كانت فرقة موسيقية عازفوها، ذكورًا وإناثًا، عراةٌ ومجانين ـكما بدر إلى ذهنه العكرـ تعزف ألحانًا وتُجلجِل كلماتٍ لا يبين منها سوى دوي وضجيج وألفاظ جنسية فاضحة.
اخترقت الشمس عتمة الحائط المقابل لحائط الشاشة السائلة. وجد نذير راحل عبد الرحيم نفسه يقتفي خطى دليل وينحني لينظر نحو الأسفل ليرى المشهد المعروض على الشاشة حيًّا.
بث مباشر يا سيدي.
أطفئ هذه الشاشة لو سمحت.
لم يكن أي منهما يسمع الآخر. على الحائط، وهناك في الأسفل، كان مدى البصر آلات موسيقية وموائد طعام وشراب ودخان ونهود ومؤخرات وأعضاء أنثوية وذكورية وأجساد تتداخل في بعضها بعضًا ورؤوس ترقص وتطفو على البركة الكبيرة، وقصف وضجيج عدواني يمزق طبلتي أذني نذير راحل عبد الرحيم. دنا من دليل، زَعَقَ به بكل ما أوتي من صوت: أرجوك أخرِس هذا الفجور. إما أن الإنسان الآلي تعمَّد ألا يسمعه وإما أنه ليس إنسانًا آليًّا ـأسرَّ نذير راحل عبد الرحيم لنفسه ـ وراقبه بكَمَد، وتنحَّى عنه وعن الشاشة وعن الحائط الزجاجي، وهُرِعَ إلى الغرفة، وانهار يبكي. جدران الغرفة هي الأخرى وأرضيتها وسقفها تحولت إلى شاشات تلفزيونية تبث حفلة بركة العراة وموسيقاها الانفجارية المسعورة. اختفت الأسماك والكائنات البحرية وأصبح جسده محاصرًا بالأجساد العارية إلى درجة أنه لم يستطع منع نفسه من الشعور بأنه عار هو الآخر يحتك بما لا يعد ولا يُحصى من أجساد الإناث والذكور!
في اللَّجَّة المتمادية أيقن نذير راحل عبد الرحيم أن الأمر على صلة مُحْكمة به وليس مصادفة. لا يمكنه تجاهل هذه الأصوات والصور والممارسات الحية. مع أنه أغمض عينيه ووضع أصابعه في أذنيه وبذل طاقته كي يتقي أذى الأصوات ومكبراتها التي تجعلها أكثر تطرفًا، كان ما يحدث فوق طاقة احتماله. لقد تعمدوا ذلك. أيُعقل أن جميع نزلاء فندق المألوف الخارق هذا مرغمون الآن على أن يكونوا تحت رحمة لعنة هذه الأفعال الماجنة وأصواتها الانفجارية؟ واجمًا جلس على طنفسة وبر، وأسند ظهره إلى السرير، وأطرق، وأذعن للمجهول.
بعد وقت كأنه دهر انقطع إرسال الضجيج والصور، لكن صداها استأنف أزيزه في رأسه. لمَّا فتح عينيه رأى أسماك قرش تحوم حول الغرفة وتسرع مقبلة نحوه فاغرة أفواهًا بأنياب وأضراس قواطع وزعانفها كالمناشير تكاد تشرخ الحيطان الزجاج وفي اللحظة الأخيرة قبل اصطدامها بها تعود من حيث أتت وتعاود الكرَّ المهدِّد! ارتعب وتصاعد خفقان قلبه. وعلى المنوال الدمث نفسه سمع نداء دليل: سيدي، هل أنت بخير؟ ترك الغرفة. تنفَّس الصعداء. في البهو لم يكن هناك أثر للصحون وبقايا الطعام.
سيدي، هل أنت بخير؟
لم يحر نذير راحل عبد الرحيم جوابًا.
سيدي، آن وقت كؤوس الماء الثلاث.
تناول الكؤوس واحدًا إثر الآخر وجرعها بصمت. دخل المرحاض، أفرغ معدته، توضأ، صلى العصر في الغرفة ودعا الله أن ينقذه من محنته حتى إن اقتضى الأمر أن تمزقه تلك القروش إربًا إربًا! لم يكن ثمة أثر الآن لأي قرش حتى إنه شك أنه رآها قبل قليل! كانت الغرفة كما رآها أول مرة، أسماك صغيرة، قواقع وكائنات بحرية تسبح وراء الحيطان وفوق السقف وتحت الأرضية، وكأن هذا أمر عادي! كيف يفعلون هذا؟ أدرك أن من الحكمة أن يدَّعي الامتثال ويجلس على الأريكة على مرأى من دليل تلافيًا لتصعيد متحدٍّ أشنع.
تمطَّت به ساعات النهار.
سيدي، هل من طعام بعينه تشتهون تناوله الآن؟
لزم الصمت. عقب وقت قصير، وكما حدث في وجبة الغداء، انفتحت كوة الزاوية وامتدت الذراع وفوقها صحون وفنجان يفوح منه بخار وضعها دليل على طاولة الطعام. مقودًا بشهوة الطعام، متثاقلًا، مغمومًا سار نذير راحل عبد الرحيم إلى مغسلة الأيدي في الحمام، وعند عودته جلس على أحد كراسي طاولة الطعام، وهاله المنظر: أرز أبيض، قطع قرش مقدَّدة مغمسة في ماء بالليمون والبصل! عشر تمرات! فنجان قهوة عربية بالهال والزعفران! إنه أشهى طعام كان يأكله في سداب، بالطريقة نفسها والمذاق نفسه اللذين كانت تعدهما له زوجته تقوى أيام عِزَّها القديم إنما بخلط عجيب وفي غير أوانهما!
أسدل الليل سدوله. توضأ نذير راحل عبد الرحيم وصلى المغرب، ودعا الله أن ينقذه من محنته.
زحف الوقت، وفي ساعةٍ ما دنا منه دليل: سيدي، إنه أوان كأس الماء الأخيرة.
احتسى الماء على مهل.
انقضت أربع ساعات أخرى. وأخيرًا أعلن دليل: سيدي، أنتم الآن أحرار في أن تشربوا وتأكلوا متى شئتم. سيدي، يمكنكم الآن أن تنالوا قسطًا وافرًا من النوم.
منذ وقت حادثة الأصوات الصاخبة ومشاهد العراة لم ينبس نذير راحل عبد الرحيم ببنت شفة. أدرك أن يومه الأول لإعادته القسرية إلى الحياة الدنيا غصَّ بالأعداء. كل محاولة بذلها دليل لجره إلى الحديث باءت بالفشل. دخل المرحاض، وعندما أوى إلى غرفته الوثيرة الغريبة المتبدلة صلى العشاء، متجاهلًا ما أمكنه عالم الأسماك المحيط به من الجهات الأربع، دعا ربه أن ينقذه من محنته حتى إن كان بهدِّ كل هذه العجائب المفزعة فوقه! تمدد على السرير المخمل وغاص في دعته، وفي احتضار النوم تذكر بيت الشعر الذي أخفق في تذكره في آخر مشوار قضاه في يومه الدنيوي الأخير في سداب: نبكي على الدُّنيا وما من مَعْشَرٍ، جَمَعَتْهُمُ الدُّنيا فلم يتفرَّقوا. وبدا له بيتًا متهدمًا بلا معنى، فلا دنيا يبكي عليها ولا معشر لا يشتهي فراقهم.
3
الصلاة ونضارة الثمانين والشرفة وسيجار الماريوانا والجوع والإكسير
ثلاثة أيام غابت الشمس فالتبست مواقيت الصلاة على نذير راحل عبد الرحيم. ولهذا السبب عاد يحادث الإنسان الآلي! ثم عرف منه أن هناك ثلاث ساعات رقمية في البهو والمرحاض وغرفة النوم! ثم رأى أن من السماجة مخاصمة آلة تُشحَن بالأوامر والكهرباء وليس لها من أمرها إلا تنفيذ بغية صانعها. وارتجف هنيهة حين انتهى إلى خاطره أنه هو الآخر صنيعة إدريس تكرار ومعمله. وبَّخ أفكاره. نحَّى غضبه جانبًا وآل على نفسه أن لا يمنح أعداءه أسبابًا أكثر لتدميره. أقنع نفسه بأن من الحكمة أن يعاملهم بدهاء كي يتقي شرهم. في النهاية تجمعت لديه جملة ذرائع موجبة للتبصر والمهاودة.
لاحظ أن إدراكه أبعد غورًا مما كان عليه شأنه في حياته الدنيوية الأولى في سداب. سداب؟ كيف هي سداب؟ أهي بعيدة جدًّا أم قريبة من إمبراطورية الأرض؟ أيمكنه طرح أسئلة من هذا القبيل على دليل؟ ألن يربط ذلك برغبته في الهرب؟
بعد خمسة أيام فطن لأمر أرعبه: إنه يستطيع أن يفكر، أن يتذكر حياته السابقة، لكن ليس كما يتوخى. كانت الأفكار تحتل وقتًا طويلًا من يومه، أفكار مختلطة، كثيرة، قديمة وجديدة، قليلها واضح وكثيرها غامض، تأتي وتذهب دون أن يدير دفتها، كأن أحدًا يضعها هناك، يمرجها في رأسه ولا يلبث أن يمحوها ويستبدل أخرى بها! نقيض ذلك كانت المعلومات التي يحشو بها دليل ذاكرته، فبينما كان يمقتها ويضيق بها ذرعًا كان يتذكرها بوضوح إذا ما ورد ذكرها في حديث آخر أو في نشرات الأخبار والبرامج الثقافية!
كل يوم كان يكتشف تغيُّرًا جديدًا. اختفت رعشة الشيخوخة التي عانى منها في آخر حياته الدنيوية الأولى. في الحقيقة إنها منذ اليوم الأول لبعثه في معمل البشر عابر الزمان والمكان لم تكن بقوة ما كانت عليه في حياته تلك لكنها الآن اختفت تمامًا. كان يشتاق إلى مشوار مشيه اليومي في سداب الذي، باستثناء ذهابه خمس مرات للصلاة في المسجد القريب من بيته وإضافة إلى زيارته الشهرية للحلاق أشرف، كان نشاطَه البدنيَّ مانحَ الطمأنينة بأنه ما زال يقاوم الشيخوخة بصلابة. وانتبه إلى أنه يحس الذكرى أكثر من قدرته على استعادة صورها أو تحديدها والاستغراق فيها، وفي أحسن الأحوال فبمجرد انتباهه يدرك على الفور أنه نسي ما كان يفكر فيه. على هذا النحو كان يجد نفسه جيئة وذهابًا يذرع البهو الطويل، يتنسَّم نسيم البحر الزاخر برائحة أسماك قوية تملأ أنفه، يتأمل سرب نوارس، ثم تختفي الصور والرائحة وأصوات البحارة والسيارات المارة قرب الطريق البحري، ويحل مكانها حنين ثقيل مُمزِّق لا يكاد يتبيَّن معناه. حنين إلى ماذا؟ ماذا كان يتذكر؟ على وجه الخصوص حين تأتي ذكرى زوجته تقوى كان يشخص في خميلة معتمة، يصغي لحفيف أشجار وخرير ماء! كان ذلك كل شيء، وقد لا يكون الأمر هكذا إطلاقًا! ولا يعود للأمر أي صلة بزوجته.
أبناؤه الأربعة وأخواته الثلاث ليسوا أوفر حظًّا في تذكره، وكذلك والداه! وفي لحظات صفاء ذهنه النادرة التي يتذكرهم فيها أخذ يشعر بأن هناك شيئًا مفقودًا ومتعمَّدًا وغير واضح في كل هذا!
في اليوم السادس لإقامته في فندق المألوف الخارق، بينما كان يتوضأ لصلاة الظهر، سأل نفسه: لماذا لا يصلي صلاة سفر؟ وسأل نفسه ثانية: أهو في سفر؟ من أين قدم؟ متى يعود؟ إلى أين؟ أين وطنه؟ وسأل نفسه مرارًا وتكرارًا، وأعمل ذهنه في الأسئلة، وبدا له الأمر غريبًا، فلماذا لم يسأل نفسه هذا السؤال عندما صلى أول مرة قبل أيام؟ ربما تكون شيخوخته مدعاة لهذه الأعراض. ثم رمق وجهه في المرآة، كانت لحيته أطول، لكن مهلًا! كانت لحيته سوداء، حاجباه أسودين ووجهه صافيًا خاليًا من غضون الشيخوخة وعلاماتها التي كانت شديدة الوضوح حتى البارحة! كان مكدودًا مرهقًا والآن شعلة نشاط توقد قُواه، وكأن دفعة غير محسوبة العواقب من يده قد تحطم الباب أو المنضدة أو المغسلة!
خلافًا لما كان عليه منذ اللحظات الأولى لإدراكه إعادة خلقه، أمسى التعجب يثير فيه غبطة يحرص على إفشائها، تعجُّب سلس، متواتر، يلمسه ويراه وينطق بفضله.
لم يعد يصلي!
أخذ يقضي وقتًا طويلًا أمام المرايا يتأمل نضارة وجهه! أي مجد! أي شكيمة! أي شأو بلغه إنسان عام 3000!
في اليوم السابع، دون أي آثار مرَضيَّة أو نوبات غضب، أدرك أن ذاكرته خوت عن آخرها من كل ماضيه، سواء كان حياته الدنيوية الأولى أو ما بعد موته، وأخذت تمتلئ بحياته الجديدة.
المغطس، حمام البخار والحليب، حوض السباحة، الدَّلَّاك الاصطناعي الملحق بأريكة البهو والموسيقى كانت عوامل استرخاء يقر لها بالفضل في غسل جسده وروحه من مكابدة التفكير وأهواله الشاقة. بات دليل صديقه الحميم، اعتبره بمنزلة مرشد بأناة وحكمة أخذ على عاتقه تلقينه مبادئ معارف القرن الحادي والثلاثين ومتعه السارة. ساعاتٍ طويلةً خاضا في أحاديث العصر، وفي ما بعد بعد بعد حداثة الاكتشافات والاختراعات والنظريات الخارقة ذات الطبيعة الواقعية الملموسة، حداثة الإنسان المتفوق الخالد، حسبما قال له دليل. آمن بأن نصائحه الذهبية كانت دائمًا في محلها إذ، أجَلْ، لا طائل من نشرات الأخبار والسياسة، اللهم إلا نشرة الأحوال الجوية التي تقدمها نساء عاريات إذا كان المناخ حارًّا أو معتدلًا، حسب المناطق، وتغطي أجواء إمبراطورية الأرض والإمبراطوريات الخمس الأخرى وأغلب توابعها من دول وأقاليم إضافة إلى ما لا يقل عن خمسة كواكب تُسيِّر إليها الشركات السياحية رحلات منتظمة وتقيم فيها مخيمات صناعية ورحلات مغامرة. شاهدا برامج اجتماعية تحلل قضايا إنسان عام 3000 وشؤون عصره. كان دليل ينتقي ويختار ويحدد، وكان نذير راحل عبد الرحيم لا يعارضه إن ارتأى بتر ما يشاهده والانتقال فجأة إلى برنامج آخر أو فلم سينمائي تدور أحداثه في المستقبل أو على سطح كوكب جديد ذي بيوت وفنادق وبحار وأنهار وعمران بشري خلَّاب، وعلى نحو أو آخر كانت حججه تدعم رأيه السديد فـ"الخيال أهم من المعرفة"، لأن المعرفة محدودة وخدَّاعة والخيال مطلق، وينبغي لإنسان الألفية الرابعة ألا يقف عند الحدود الضيقة لعصره! هنا كان الأمر يتشوش على نذير راحل عبد الرحيم ويقول لدليل إنه بالكاد عرف شيئًا من عالم عام 3000 الخارق للعادة، شيئًا حسبه والمستحيلَ سِيَّان، ولا يدري لماذا فأدوات الإدراك والمقارنة وأمثلتها التي بحوزته معدومة، ولولا أنه رآه بأم عينه، كما رآه يتخذ هيئة إنسان، لعده خيالًا محضًا ـأي هذا الشيءَ المتعلق بعالم عام 3000ـ فكيف إذن تعينه قُواه العقلية على تخيل ما هو أبعد من ذلك؟ في الواقع كانت عبارة كهذه توقظ في نذير راحل عبد الرحيم أفكارًا متضاربة تعود به إلى الماضي أكثر من تحريضها إياه على ارتياد آفاق المستقبل. مع أن الماضي بالنسبة إليه الآن ثمانية أيام فحسب، لا يوجد إطلاقًا ما يحول دون تقهقر خياله إلى الخلف، أي الأيام الثمانية الماضية، بدلًا من انطلاقه إلى الأمام، الزمن الآتي. عملية التخيل في الحالتين كلتيهما تعمل عملها الغامض، فعلى سبيل المثال، إذا استحضر حادثة الأصوات الحادة وبركة العراة وأسماك القرش ذات القواطع المنشارية يمكنه أن يتخيل عددًا غير قليل من الفروض، وهذا قطعًا وفقًا لوعيه الوليد المحدود. ولأنهما صديقان قدَّر دليل ما صارحه به نذير راحل عبد الرحيم، لم يعلق وقال له إن الخيال فعلًا أهم من المعرفة، إنه يخترق كل زمان ومكان.
في اليوم التاسع أدام نذير راحل عبد الرحيم النظر إلى البركة الأوليمبية للعراة، ودون أن يعي كان شيء من ذاكرته الأولى لا يزال يجعله يتوق إلى المشي. قال دليل إن أوان خروجه لم يئن بعد. استلقى على الأريكة وتذكر اليوم الأول، إدريس تكرار، أكثر ممَّا تتخيَّل وفريق معمل البشر عابر الزمان والمكان وهم يتبادلون التهنئة بنجاح عملية خلقهم الجديدة ويشيعونه إلى قاعة أُوقِفت داخلها سيارة فُتح بابها ودُعي إلى التفضل بالجلوس على مقعدها الخلفي ليحمله سائقها الآلي إلى فندق المألوف الخارق. تذكر لحظة طوَّقه حزام الأمان وانطلاق السيارة على عجلاتها حتى خروجها من القاعة المسقَّفة ثم وقوفها في ساحة مفتوحة وانتشار جناحيها ومحركيها النفَّاثين وارتفاعها عموديًّا وشعوره بدوار. دون أن يعي، وسواء في حياته الدنيوية الأولى التي امَّحت ذاكرتها أم في حياته الدنيوية الثانية هذه، كانت تلك أول مرة يركب فيها طائرة ويرى الأرض والسحاب حوله وتحته. تذكر شاشاتِ الإعلانات الهائلة التي تبلغ حدود السماء، والذُّعرَ الذي استبدَّ به حين كانت الطائرة تطير بين ناطحات السحاب، واللحظاتِ الأبديَّةَ المعذبةَ التي كادت تنزع روحه مرة أخرى حين حطت الطائرة على مهبط على حافةٍ ما في فندق المألوف الخارق، وانطواءَ محركيها وجناحيها ثم تحوُّلَها إلى سيارة من جديد وسيرَها على عجلات، وبلعه ريقه وتنفسه الصعداء بعد أن زال خطر السقوط، والأمرَ الصوتيَّ الآليَّ الصادرَ عقب ذلك بأن ينزل ويدخل المصعد رقم أربعة الذي أوصله في ثوان إلى الطابق الـ866 ولفظه في هذه الشقة.
في اليوم العاشر أصبح لديه ثلاثة أثواب بيتية. وفي هذا اليوم حلق لحيته وشاربه بالحلاق الآلي المزودة به ملاحق دورة المياه. ومصادفةً كبس زرًّا فانفتح باب قاده إلى قاعة آلات الرياضة الخاصة بشقته. ما عدا دليلًا، طوال الأيام العشرة لم يُحدِّث أحدًا. إعداد الطعام، جلب الملابس وغسلها ـ على قلَّتهاـ هذه العمليات كانت تُنجَز بوساطة الذراع الآلية الممتدة من الكوة. أما غرفة الاستحمام فكانت تحوي كل أدوات النظافة الشخصية بكمية تكفي ليستهلكها شخص واحد شهورًا عدة، وكانت القمامة تُكنس آليًّا، سواء أكانت بقايا طعام، أكياسًا، معاجين أم ماء، كل الأوساخ على الأسطح والأرضيات، بما في ذلك حيطان الغرفة الزجاج ومنضدة البهو وطاولة الطعام ومغسلة الحمام، كانت على الدوام نظيفة لامعة بفضل ما قال له دليل إن اسمها تقنية التنظيف الذاتي، ولم يعرف كيف يحدث ذلك ولا متى، ومع ذلك كان منبهرًا مسحورًا لأنه يحدث.
بمصادفةٍ محْضٍ أيضًا كان امتلاء مثانة نذير راحل عبد الرحيم قبل أيام قد أيقظه في وقت متأخر من الليل وكشف له ما لم يحدسه في الأيام الماضية: كان دليل يعود ليلتحم بجدار صور الغابة ذات الأبعاد الأحد عشر مثلما كان قبل أن يراه يخرج منه في اليوم الأول ويتخذ هيئة إنسان. عرف ذلك عبر الأضواء الحمراء والخضراء، وكأن دليلًا فتح عينيه وهو منصهر في الجدار، أو كأن مجاسَّه جسَّتْ مروره. لم يكن له وجود في أي بقعة في البهو، ولذا كان متأكدًا أنه مندمج بالجدار. في وقت آخر لم يجد دليل غضاضة في أن يشرح له الأمر، أخبره بأن ذلك لغرض الصيانة والشحن الكهربائي ويستغرق ساعة واحدة فقط ويمكن القيام به لاسلكيًّا لولا أنه، لمزيد من الفاعلية، يفضل أن يبقى هناك حتى موعد لقائهما في الصباح.
في اليوم الثاني عشر أخرجه دليل إلى الشرفة ليتنعم بالهواء الطلق!
طوال الأيام الأحد عشر الماضية لم تكن ثمة شرفة حسبما خَبَرَ نذير راحل عبد الرحيم الشقة، إلا أن زرًّا يشبه زرَّ صالة الرياضة أضاء عند زاوية الطعام أين يلتقي حائطا صور الغابة والبحيرة ذات الأحد عشر بعدًا، وطلب إليه دليل أن يكبسه، وحالما فعل انشقَّ مصراعا باب زجاجي وإذ بشرفة تترامى في الهواء تطل على بركة العراة وجانب من شقق المألوف الخارق وغرفه، أسرت هندستها نذير راحل عبد الرحيم. وعندما عاود النظر ورأى الشُّرَف المماثلة لشرفة شقته أخذ يرتعد؛ كانت في شكل غصن شجرة نابت بعيدًا عنها، وحيدًا، لا يمسكها سوى قضيب مغروس في طرف الشقة! في الأيام الماضية كان يرى تلك الشُّرَف أحيانًا فيسارع إلى إبعاد بصره عنها لكن لم يدر في خلده قط أن يكون في هذه الشقة شيء يماثل ذلك الرعب. النظر إلى الخطر من بعيد أسهل من الوقوع فيه ومواجهته! ارتعد وأصابته دوخة فتحسَّس مقعدًا ليجلس، وجلس فرأى أرضية الشرفة زجاجًا أسفله تمامًا كانت شرف أخرى وجزء من بركة العراة. كان رعبه من المشهد لا يوصف. أغمي عليه.
عقب بعض الوقت أنعشه دليل فألفى نفسه في مكانه وتحته كانت أرضية الشرفة مغطاة بسجاد أرجواني اللون! ووجد على المنضدة سيجارًا ضخمًا في البداية ظنه قلمًا مضاعف الحجم على شاكلة كل ما يستهلكه إنسان عام 3000، وتذكر الفاكهة التي طَعِم بعضها إبان الأيام الماضية، التفاح، الكمثرى، العنب، كلها كانت كبيرة جدًّا قياسًا بما استقر في وعيه المضطرب. كانت الفكرة تشغله، حقًّا، كل شيء في هذا الزمن أكبر مما هو عليه، ولا عجب أن يطال ذلك الأقلام أيضًا. إنه يقارن بين ما يراه الآن وما رآه سابقًا إنما على نحو مجرد من خبرته الشخصية، فقد اجتثت ذاكرته التي كانت تحفظ تجربتيه الماضيتين، ونتيجة لذلك فإن أي مقارنة يعقدها الآن تخضع لمنهج راسخ يدرك صورتين، صورة تحدث الآن في عام 3000 وأخرى حدثت في عام 2015، أو في ذلك العصر المتخلف إجمالًا، لكنَّ ـوهذا ما استطرد دليل في تفسيره له ـ المقارنة تتم على مستوى مجرد أيضًا، عام، كأنه أشبه بمقارنة يقوم بها وعي طفل ولد في عام 3000 فقط بسبب وجود إدراك ناقص، أي صورتي القلم والسيجار معًا إنما دون وعي وظيفة السيجار، فالطفل لم يخرج إلى العالم بعد، لم تتوطد صورة السيجار في ذهنه ولم تستتب وظيفة استخدامه. ويمكن النظر إلى الموضوع من زوايا عدة، فأنت يا سيدي لا بد أنك رأيت السيجار من قبل أو في الأقل، دعني أقل يا سيدي، شاهدت صورته في التلفاز أو على واجهة محل "بيت مدخنين" غير أن ـوهنا، مثلما كنتم تقولون في عصركم الغابر، هنا مربط الفرس ـ خبرتك الشخصية بشكل أو بآخر لا تألف هذا الشيء!
تنفس نذير راحل عبد الرحيم الصعداء: أكان ذلك تبسيطًا أم تعقيدًا أم كلامًا بلا معنى يا دليل؟ وبعد هنيهة فهم؛ لقد كان دليل يخرجه بطريقته من حالة الذعر من جلوسه على الشرفة! عاد خوفه أشد مما كان، تشبثت يداه بالمقعد.
سيدي، سيدي، انظروا إليَّ أرجوكم، إنه ليس قولًا جديدًا: إن خشيت شيئًا واجهه؛ ليس بمقدورك اكتشاف محيطات جديدة ما لم تكن لديك الشجاعة لتخسر منظر الشاطئ. أليس ذلك ما يُقال؟ انظروا الشُّرَف الأخرى أغلبها مليء بالنزلاء. مليونان وتسعمئة ألف وثلاثة عدد الأشخاص الذين يتمتعون بمرافق المألوف الخارق في هذه اللحظة، أي أكثر من عدد مواطنيكم وسكان عاصمتكم سيدي التي كانت تغرق بمجرد هطول مطر يستغرق نصف ساعة، وفي رواية أخرى عشرين دقيقة! هناك الآن من يجرون التمارين الرياضية أو يمارسون الجنس في طوابق الفندق الدنيا، أي في قعر المحيط على مرأى من الحيتان وأسماك القرش وأغرب كائنات البحر وأخطرها وأشدها لؤمًا، وآخرون في شرف طوابق أعلى من طابقنا هذا سيدي يشربون الكحول ويشوون اللحم ويرقصون، بل هناك عشاق الرياضة أيضًا الذين يقفزون بالمظلات والحبال من الطابق الألف! ناهيك عن الذين ينطلقون بسفن الفضاء من أسطح المألوف الخارق!
عاصمتكم التي تغرق في نصف ساعة؟ أعاد نذير راحل عبد الرحيم جملة دليل في سره إلا أن ذاكرته لم تسعفه في تذكر شيء! أي عاصمة يقصد وأي غرق؟ لقد مُحِيت ذاكرته في الآونة الأخيرة، وهذا أفضل، قال في نفسه، لولا أن ذعر هذا الارتفاع الأهوج لهذه الشرفة يسحقه ويهدد حياته في هذه اللحظات الحرجة!
كان دليل يغير خطابه من صيغة الجمع إلى المفرد إلى الجمع ويبنيه للمجهول ويعيد الكرة، وكانت هذه حيلة أخرى لتحطيم آخر روابط نذير راحل عبد الرحيم بحياته الماضية، حيلة تشد انتباهه على حين غفلة لتشغله وتحدث اختلالًا لما بقي في أعماقه السحيقة من فُتات الذكرى، ولتهبه شجاعة الجلوس على الشرفة!
سيدي، أرجوكم أن تفعلوا شيئًا واحدًا فقط، أمعنوا النظر في أي شرفة أخرى، تلك مثلًا، هناك، أمامنا، في طابق أعلى من طابقنا، التي يجلس حول طاولتها ستة أشخاص بطولكم وطولي مرتين، أي اثنا عشر شخصًا مثلنا سيدي. والآن سيدي، هل أنت جاد تريد الخلاص من هذه العقدة أم لا؟
وماذا تعتقد يا دليل؟ نعم إنني جاد وحازم.
نظر نذير راحل عبد الرحيم حوله فرأى أُصُص زهور تزين حافات الشرفة منعه خوفه من رؤيتها من قبل. فكر فورًا بأنها تُفاقِم الوضع سوءًا لأنها تثقل الوزن على الشرفة وتجعلها عرضة للسقوط.
سيدي، إن الخوف يُنْفَضُ كالغبار عن ياقة سترة من الجوخ النفيس يعرف لابسها كيف يُقدِّرها حق قدرها. لا تنظر إلى الأُصُص، انظروا هناك فوق. سيدي، لو سمحتم أشعلوا السيجار ودخنوا؟
ماذا؟
إذا لم تكونوا جادِّين فلننه هذا الأمر.
ما هذا على وجه التحديد؟
إنه سيجار الماريوانا الأجود في إمبراطورية الأرض.
وما معنى سيجار الماريوانا؟
الأسئلة لن تنتهي وكذلك الأجوبة سيدي، هيا أرجوك أشعله.
أشعل نذير راحل عبد الرحيم السيجار وسعل من أول نَفَس. متبعًا إرشاد دليل تحمَّل السُّعال والدموع ودخن جزءًا من السيجار السَّمين. بعد قليل تثاقلت أصابعه عن حمل السيجار، اعتراه نعاس. استرخت عظامه ومفاصله. سكن على مقعده وعلا شخيره.
ما حرَّك دليل ساكنًا، انسلَّ من الشرفة.
بعد نحو ساعة أفاق نذير راحل عبد الرحيم من نومته. كان رأسه ثقيلًا مصدعًا. نظر حوله، ولأنه لم ير صديقه حيث كان يجلس عاوده الذعر دفعة واحدة. ما دخنه من سيجار الماريوانا زاد خوفه شدة. تشبث بالطاولة والكرسي، وقف، دارت في رأسه الشرفة وبركة العراة والسماء فصرخ وسقط بين الطاولة والكرسي. خشية إثارة انتباه السكان الآخرين، وتحسبًا لتنصُّت منظمةٍ ما، سارع دليل إليه، حمله بين ذراعيه وأدخله البهو، مدَّده على الأريكة. كان لا يزال يصرخ ويرتجف. استولت عليه هُسَاهِسُ فأنشأ يهذي، ثم عبرت عروقه دُفْقة ماريوانا قوية أسلمته إلى حالة هستيريا. محاولة دليل تهدئتَه ذهبت سُدًى. أجلسه، رش على وجهه ماء، سقاه. سيدي، أتسمعني، سيدي، أفق أرجوك. تنبه نذير راحل عبد الرحيم وشرب كأسين أخريين. بناء على طلبه في الأيام السالفة كان دليل يضع على طاولة البهو الخفيضة المرفقة بالأريكة قارورة ماء كبيرة وقدحًا من الفخار. شرب مزيدًا من الماء ثم قال إنه يحس بجوع يُقطِّع مصارينه. جر نفسه نحو المرحاض، تبول، غسل وجهه، وفترت رغبته تمامًا في أن يرفع رأسه ويرنو بزهو وتعجب إلى نضارته، وأن يقف وقتًا أمام المرايا، كما كان يفعل كلما دخل الحمام منذ اسود شعره وأفَلَتْ علامات الشيب من وجهه وجسده. اتجه رأسًا نحو الغرفة. استلقى وغاص في السرير الوثير لكن الدوار عاوده وما لبث أن رأى الأسماك فوقه، تحته، من حوله فحسب نفسه في أعماق المحيط، وتذكر أنياب أسماك القرش المسننة ونظراتها العدوانية التي سددتها نحوه قبل أيام، ومرة أخرى بدأ يتشنَّج ويصرخ ويستغيث وينتحب.
طرق دليل باب الغرفة، ناداه، دخل وحمله بين ذراعيه وأجلسه على أحد كراسي طاولة الطعام. سقاه شرابًا أزرق اللون في قِحْف نارجيل، وفورًا هدأ نذير راحل عبد الرحيم وراح ينظر إليه بعينين حمراوين فارغتين، وحين نبهه إلى الطعام لم يتوان وأكل بنهم قطعة حلوى كبيرة أتى عليها بسرعة، ومد يده ثانية إلى طاولة الطعام ليأتي على كل ما هنالك، ثم طلب مزيدًا منه لم تتوان الذراع الآلية عن مدِّه وصفه على المنضدة، وأكل وأكل حتى انسدت منافذ الجوع العجيب، ثم أسند رأسه إلى الكرسي وزفر زفرة راحة.
في اليوم الثالث عشر استيقظ من نومه ليجد في انتظاره إفطارًا مما لذ وطاب من مائدة عام 3000 العامرة بالأنواع والأشكال الغريبة. لم يكن قد جرب أيًّا منها في الأيام الاثني عشر الماضية، ومع ذلك أقبل على الأكل بشَرَه. كان هناك أيضًا قِحْف نارجيل مملوءٌ بالشراب الأزرق الدافئ ترشَّفه متلذذًا، وسمع موسيقى صاخبة وغناء ضاجًّا طربت لهما أذناه! وحين انتهى تلفت باحثًا عن دليل فرآه واقفًا خلفه مستندًا إلى حافة حاجز الشرفة الزجاجي. كانت الشمس ساطعة والهواء منعش يميل إلى البرودة ويحرك زهور الأُصص وأشجار غابة السناجب ونبات الزينة على مرافق فندق المألوف الخارق وأدواره أينما أرسل نذير راحل عبد الرحيم عينيه وهو واقف داخل البهو على عتبة الشرفة.
سيدي، الخوف علة تعوق المرء عن جني متع الحياة.
إنك محق يا دليل، جاوبه نذير راحل عبد الرحيم، وخطا نحو الشرفة، ووقف إلى جواره وهتف: ياله من منظر! وهناك في طابق مقابل كان حوتٌ آخرُ عظيم الحجم يُشوَى في مطعم الحيتان. في الأسفل كانت بركة العراة ممتلئة عن آخرها. كانت البركة على بعد ثلاثة أدوار فقط، لذلك كان ممكنًا رؤية الكثير بخلاف غابة السناجب التي يظهر جزء منها في طابق أدنى بالكاد يجعل المرء يتبين ظلالًا تقفز على أغصان أشجارها. هتف نذير راحل عبد الرحيم مرة أخرى: ياله من عدد عراةٍ لم أر مثله في حياتي قطّ. وحَارَ لحظةً؛ إن حياته الآن ليست إلا ثلاثة عشر يومًا! كأن ذاكرته كانت تستجدي العثور على تاريخها الأبعد فتصطدم بباب مسدود أو بفراغ باردٍ ثلجٍ يُثبِّط عزيمة أدنى قلق يمكن أن ينشأ لتحطيمه واختراقه، ولذلك ما عاد التفكير العميق مهلكًا مثلما كان في الأيام الأولى لإعادة خلقه. هذا ما قاله له دليل في يوم سابق. حينئذٍ أدرك أنه يقف على الشرفة وينظر من خلال أرضيتها الزجاجية أيضًا ويتملكه العجب! لقد ذهب الخوف أدراج الرياح.
إنه يوم العُري العالمي سيدي. بركة العراة مأهولة هذا اليوم أكثر من أي يوم سواه. من نواحي الكرة الأرضية وأقاصيها يزور هواة العري وعشاقه ومنظماته العاصمة قبضة الحديد ويأتون ليحتفلوا بيومهم في البركة الأوليمبية للعراة هذه بخاصَّة، هنا في فندق المألوف الخارق. يأتي أيضًا بشر من كواكب أخرى!
ياللعجب! ياللعجب العُجاب ـ هزَّ نذير راحل عبد الرحيم رأسه مسرورًاـ نفسي تتحرَّق لقضاء ساعة هناك.
ليس بعد يا سيدي. لا تتعجلوا، أنتم إنسان تنالون حظوة كبرى من لدن علماء معمل البشر عابر الزمان والمكان، إضافة إلى أن القيادة السياسية لإمبراطورية الأرض نفسها تهتم بكم على أوسع نطاق وأعلى مستوى، وفي قابل الأيام ستحققون كل ما تصبون إليه، إنني أغبطكم يا سيدي، أنتم إنسان نادر بكل ما تحمل الكلمة من معنى!
ابتسم نذير راحل عبد الرحيم، وقهقه، وصفَّق، وفتح ذراعيه على وسعهما، كأنه يحضن الشمس والهواء البارد والموسيقى الصاخبة والأجساد العارية، وصاح: ياللنشوة! ياللانشراح! يحيا عام 3000، تحيا الألفية الرابعة، يحيا العري، تحيا الملابس غير المرتداة! تحيا النهود والحلمات والمؤخرات والأرداف والسُّرَر والعانات والأعضاء التناسلية! تحيا الخلاعة! يحيا يوم العري العالمي! يحيا الوجود العاري! وعاد بنظره نحو دليل: إليَّ بقحف آخر أدفأ وأكبر من ذلك الشراب الأزرق يا صديقي.
أتقصد الإكسير سيدي؟
اسمه هكذا إذن! آه ياله من اسم على مسمى، بلى، إنه هو يا صديقي.
سيكون بين يديكم خلال لحظات سيدي.
وذلك السيجار العجيب أيضًا يا صديقي، كل خلاياي تشتاقه!
أمركم مطاع يا سيدي!
راق مزاج نذير راحل عبد الرحيم وانتشى. جلس على أحد كراسي طاولة الشرفة قبالة دليل، وعند القِحْف الثالث من الإكسير سحب نَفَسًا طويلًا من سيجار الماريوانا وقال: صديقي دليل إنني سعيد جدًّا، ولا أخفيك أنني أشعر ببعض الحزن كونك لا تشرب ولا تأكل ولا تدخن! كل هذه الأطايب وأنت عنها بعيد!
ضحك دليل: إنني أشرب وآكل وأدخن بالكهرباء سيدي.
هكذا انقضى سائر اليوم الثالث عشر.
وعلى الشاكلة نفسها انقضت أيام أخرى.
وفي اليوم الحادي والعشرين، عقب تناول نذير راحل عبد الرحيم إفطاره، ودون سابق إنذار قال دليل: سيدي، لقد بلوتم بلاء حسنًا في الأيام السالفة. كانت هذه هي المرحلة الأولى من برنامج تأهيلكم وقد اجتزتموها بتفوق. أهنئكم سيدي. تشرفت برفقتكم سيدي. والآن حان افتراقنا سيدي، أرجو أن ترتدوا بدلتكم الرسمية وتضعوا مباذلكم في هذي الحقيبة. إنكم منذ الآن فصاعدًا تمتلكون أمتعة وحقائق ومواهب، وتؤسسون حياتكم في عام 3000.
ألن تأتي معي؟
كلا يا سيدي، أنا مخصص لخدمة نزلاء هذه الشقة الفندقية فقط. أُبرمَج عن بعد فأؤدي واجبي بالدقة المقتضاة.
ارتدى نذير راحل عبد الرحيم ملابسه، حمل حقيبته على كتفه، وعند الباب آلمه فراق صديقه فأجهش وعانقه ثم لم يحتمل تلك اللحظات فبكى.
سيدي، إنسان القرون السحيقة، كالقرن الذي أتيتم منه، كان يشتاق ويتعذب وتهزمه العاطفة، أما إنسان عام 3000، عصر الحضارة الماسيِّ، فهو إنسان متفوق، قوي.
بلع نذير راحل عبد الرحيم ريقه. مسح دموعه بأحد كمي بدلته. ضغط دليل بضعه أرقام على الحائط فانفتح باب الشقة على المصعد.
وداعًا سيدي.
وداعًا دليل.
4
جزيرة الهضاب
في الوقت الذي انفتح فيه باب المصعد شَافَ نذير راحل عبد الرحيم سيارة طائرة بانتظاره يقف قريبًا منها رجل عملاق عرف فورًا أنه من بشر عام 3000 وليس إنسانًا آليًّا. صافحه الرجل متبسِّمًا، وربما من باب المجاملة والطمأنة خاطبه مستفهمًا:
السيد نذير راحل عبد الرحيم؟
نعم.
أهلًا وسهلًا بك. ووضع يده على صدره مستطردًا:
في الوقت المناسب.
لم يفهم نذير راحل عبد الرحيم ماذا عنى الرجل بقوله في الوقت المناسب، فكل ما في الأمر أنه فور تلقيه أمر المغادرة من دليل لم يبطئ في الخروج، كما أن المصعد صعد به، أو نزل به (لم يتنبه لذلك)، نحو مهبط السيارة الطائرة في غمضة عين.
ماذا تعني بالوقت المناسب؟
هذا هو اسمي سيدي، في الوقت المناسب وليس بالوقت المناسب!
تلعثم نذير راحل عبد الرحيم، وتدارك ولم يسأله، كما سأل أكثر ممَّا تتخيَّل في اليوم الأول، إن كان ذلك اسمه واسمي أبيه وجده! في الواقع، إن ذاكرته القديمة منبتَّة الآن عن توجيه تفكيره تلك الوجهة غير أن شعوره الدفين، دون إدراك واضح، ظل يقوده نحو المسالك نفسها.
سعيد بلقائك يا في الوقت المناسب!
وأنا كذلك سيدي. لو سمحت إليَّ بحقيبتك.
تناول في الوقت المناسب حقيبة نذير راحل عبد الرحيم، وأفسح له الطريق كي يجلس على المقعد الخلفي للسيارة. وضع الحقيبة في مؤخرة السيارة، وجلس جواره، وأصدر أمره إلى السائق الآلي بالانطلاق. ومثلما حدث في اليوم الأول سارت السيارة مسافة ثم وقفت، نشرت جناحيها ومحركاتها وارتفعت عموديَّا. وخلافًا لتجربته الأولى المرعبة أحس نذير راحل عبد الرحيم بالإثارة حين كانت السيارة الطائرة تخترق الفضاء العالي بين المباني الشاهقة الملأى بشاشات الدعاية والإعلان لمنتوجات وأحداث كل منها أغرب من الآخر: انتقِ أقوى الصفات الجينية لطفلك المقبل. سارع بحجز مقعدك على متن المكوك الفاخر بساط الريح في أسرع رحلة فضائية على الإطلاق للدوران حول مجرَّة درب التَّبَّانة. التقط صور العمر في قلب المنظر الأسطوري: أربع ليال وخمسة أيام تخييم في ثلاثة كواكب. عرض حصري للراغبين في تغيير ألوانهم. وصول أحدث أجيال الأسود المدجنة المعدلة جينيا للتربية في المنازل. انطلاق اجتماعات المؤتمر الحادي عشر لمجلس حكماء الأرض. من أجل تدخين أمتع: رئتان بضمان مدته قرن! اشتر تذكرة واحصل على أخرى مجانًا: سبع ليال ووجبة إفطار في أفخم فنادق عاصمة كوكب العذراء. عرض الموسم: عدد التذاكر الإضافية محدود، احجز تذكرتك فورًا وإلا عضضت أصابع الندم على تفويت عرض ساحة هتلر المخلوق المنسوخ!
ارتجَّت الطائرة وهوت بسرعة هائلة وعاودت الارتفاع بسرعة أكبر فظن في الوقت المناسب أن نذير راحل عبد الرحيم سيصاب بنوبة هلع: لا تخش شيئًا يا سيدي، إنها مطبات هوائية مألوفة. هذه السيارة الطائرة تقهر الحوادث، مصممة للعمل عكس قانون الجاذبية لكنها عند الهبوط أو الضرورة أو الرياح العاتية تمتلك مرونة من طراز استثنائي، فتوظف قانون الجاذبية بدقة محسوبة بأجزاء أجزاء الثانية لتمنح راكبيها أقصى درجات الحماية والأمان.
رفع نذير راحل عبد الرحيم حاجبيه إعجابًا بمزايا السيارة الطائرة. لم يكن خائفًا، وتذكر حادثة الشرفة والإكسير فضحك في سره، ولم ينقطع استرسال تعجبه مما يرى ويسمع. وحين تركوا منطقة التجارة والمال خلفهم وحلقوا على ارتفاع أعلى أبصر عددًا هائلًا من السيارات الطائرة ينهب فضاء مدينة قبضة الحديد في الاتجاهات الأربعة. استحوذ المشهد عليه فأدنى رأسه من النافذة واستأنف تعجبه معتقدًا عند تركيزه الشديد أن الفضاء شاشة لعبة إلكترونية.
ألا تتصادم؟
كلا يا سيدي. كل السيارات الطائرة مزودة بنظام ملاحة أرضيٍّ جويٍّ دقيق. ملاحو جميع الطائرات آليون مبرمجون على القيادة وفق الخطوط الوهمية؛ كل شيء محسوب سلفًا، الاتجاهات، المسافات، الارتفاعات، الانخفاضات وهكذا دواليك. أعتقد أنه لن يمضي وقت طويل سيدي حتى تكون لديك سيارتك الطائرة الخاصة بك.
أتعتقد ذلك يا في الوقت المناسب؟
بل إنني متيقن، فطبيعة الحياة في العاصمة قبضة الحديد تحتم ذلك. في أي حال سيدي يجب أن أقول لك إننا الآن في طريقنا إلى جزيرة الهضاب حيث سيكون سكن إقامتك الدائم.
جزيرة الهضاب؟
نعم. إنها جزيرة تحوي كل سبل الراحة والترفيه، وليس بعيدًا عنها يقع ميناء سفن المهاجرين.
سفن المهاجرين؟
نعم سيدي، إنها مدن من نمط آخر، سكانها سئموا العيش على سطح الأرض، ولذلك فهم دائمو الارتحال، يمخرون عباب البحار بهذه السفن العظيمة التي يبلغ عدد أدوار أغلبها أكثر من خمسين دورًا تشتمل على أحياء ومدارس ومستشفيات وملاعب وحدائق وفرص استثمار ومصارف ومتاجر وبيوت وشقق وغرف، وفق حالة ساكنيها أفرادًا أو أسرًا. أعرف أشخاصًا لم يهبطوا إلى اليابسة منذ ثلاثين عامًا ويزيد، وثمة من ولدوا في البحر ولم يهبطوا اليابسة إلا بعد خمس عشرة سنة أو عشرين. ميناء سفن المهاجرين يبعد بضعة كيلو مترات فقط عن جزيرة الهضاب، والمهاجرون يفضلون يابسة الجزر، إن صح القول، ولا تروقهم النواحي الأخرى من العاصمة قبضة الحديد.
أخذهما الحديث. كان نذير راحل عبد الرحيم يصغي إلى في الوقت المناسب ويهز رأسه متابعًا شرحه المسهب باهتمام بالغ وتعجب متصل، ولم ينتبه إلا عندما شارفت السيارة الطائرة جزيرة الهضاب وبدأت هبوطها التدريجي.
سلب عقله منظر الهضاب الخضراء المطلة على السهول والينابيع. كان البحر يُسيِّج الجزيرة الشاسعة، والشمس تنشر أشعتها بسخاء بدا له روحانيًّا بعيد الغور ينعكس مثل الفضة أو وميض النجوم على صفحات البحر والينابيع والوديان. بهت وعصر ذهنه ليتذكر منظرًا شبيهًا بهذا كان يأنس بالرنو إليه! بيد أن ذاكرته خذلته، وسرعان ما غادره ذلك الشعور الخافي وخلَّف فيه لهفة غامضة بترها في الوقت المناسب فجأة: سيدي إننا على وشك الوصول. حامت الطائرة وشرعت في هبوطها العمودي. وكأن في الوقت المناسب يستكمل كلامًا سابقًا قال: بلا ريب، سيدي، كان يمكننا الهبوط حيث منزلكم الدائم في حي الصمت. بجهد جهيد أفلت نذير راحل عبد الرحيم من إسار محاولة تذكر الذكرى التي لم يتذكرها والتفت نحوه من جديد.
سيدي بدلًا من الهبوط هناك في هذا الوقت الباكر من النهار لعلك تود التنزه في بعض ربوع جزيرة الهضاب.
كما تشاء يا في الوقت المناسب.
هل أنت على ما يرام سيدي؟
نعم.
كأن تعبًا حل بك فجأة سيدي، هل تشكو شيئًا؟
لا يا في الوقت المناسب. أوافقك الرأي بشأن النزهة.
هبطت الطائرة على هضبة عالية بنيت فوقها بيوت متشابهة من ثلاثة أدوار وشُرَف وأسوار خشبية قصيرة وأفنية واسعة يكسوها عشب وأشجار ومداخل يصعد إليها بسلالم من الحجارة. ضمت الطائرة جناحيها ومحركاتها وصارت سيارة مرة أخرى، شقت طريقها منحدرة نحو السهل. زهور وأشجار وطبيعة خضراء تتدفق فوقها سحب خفيضة كالدخان حفت بالطريق المتلولب وأيقظت في نفس نذير راحل عبد الرحيم حنينًا إلى تلك الذكرى التي أنهكه عدم قدرته على تذكرها. كان في الوقت المناسب منهمكًا في الشرح، يرفع يديه، يؤشِّر، ومثل مرشد سياحي يورد سيلًا من المعلومات، أما نذير راحل عبد الرحيم فكان يهز رأسه موافقًا ولم يكن يصغي، لم يكن هنا ولا في أي مكان آخر، وكان يتابع ببصره ممشًى يتلولب هو الآخر مع الطريق حتى يستوي بإزاء السهل. كان ينظر أناسًا طوال القامة يعبرون الممشى فرادى وبعضهم يجلس على مقاعد يظللها قصب.
سيدي هل تسمعني؟
نعم.
إنك لا تبدو على ما يرام.
ربما.
ماذا تشكو؟
أشعر بأنني أضعت شيئًا لا أدري ما هو.
هل من ألم عضوي؟
لا.
لا تقلق سيدي، إنه هبوط نفسي عابر نتيجة رحلة الطيران.
فتح في الوقت المناسب غطاء على ظهر مسند رأس الكرسي الأمامي المجاور للسائق الآلي، فظهرت شاشة عليها خريطة وأحرف كبس بعضها كي يُبرمج قيادة السيارة نحو الجهة التي يريدها، ثم قال:
سنغير اتجاهنا ونذهب للغداء في مطعم كروم التين. هل هناك أكلة بعينها في خاطرك؟
أي شيء، أي شيء.
كانت الشمس مشرقة. وضع نذير راحل عبد الرحيم رأسه على رأس كرسيه، أغمض عينيه، وتخيَّل السحب التي رآها هناك فوق الهضبة تتدافع وتتدفق وتتكثف وتتجمع وتنخفض وتغطي سماء جزيرة الهضاب وتثقل وتسودّ، وأحس مطرًا غزيرًا ينهمر، ورأى بروقًا تمزق السماء وسمع رعودًا تدمدم ثم رأى قوس قزح وألوان الطيف. وعندما هزَّه في الوقت المناسب استفاق، فتح عينيه ورأى السماء مدلهمة بالغيوم! قَصَفَ رعد ولمع برق وومض واستطار وانصبَّ وابلُ مطرٍ أخذ يسقط كالحجارة فوق هيكل السيارة الطائرة!
ياله من مطر مفاجئ وغريب سيدي.
إنك محق يا في الوقت المناسب!
في أي حال، سيدي، لقد وصلنا مطعم كروم التين.
في أثناء تناولهما طعام الغداء في زاوية لها حائط زجاجي يشرف على كروم تين وجدول ماء وشلَّال وسماء ما زالت تمطر أشرقت الشمس، وظهر في الأفق قوس قزح كبير جدًّا رسم ألوان الطيف السبعة منحنيًا فوق البحر والهضاب. سكن وسواس نذير راحل عبد الرحيم ووقعت في روعه طمأنينة لم يجد لها تفسيرًا واضحًا.
إنك تبدو بحال أفضل سيدي. مع ذلك، في ما بعد، إن أحببت، سوف أُزوِّدك بمكافح عجيب.
في الوقت المناسب إن سمحت لي لا أريد سوى سيجار الماريوانا وشراب الإكسير.
هكذا إذن! كما تشاء سيدي، لدي بعض منها في السيارة.
مشيًا على الأقدام جال به في الوقت المناسب في حي جزيرة الهضاب القديم، حيث الطرق مرصوفة بالحجارة، ودخول السيارات محظور، ولا يقدم في الحانات الخمس عدا النبيذ ومَزَّة الزيتون ومخللات الخضروات والثوم واللحم والسمك المقددين. نبيذ الحي القديم أغلبه مصنوع من التين وقليل منه من العنب والبرقوق، ولا يقدم أي نبيذ عُتِّق أقل من خمسين سنة، فعدا ذلك ـقال في الوقت المناسب شارحًاـ يعد عيبًا وعدم احترام!
عادت سيماء التعجب تُجلِّل وجه نذير راحل عبد الرحيم.
سيدي، كلما ابتعدتَ عن مركز مدينة قبضة الحديد كان حظك من الطبيعة والاسترخاء والصحة أوفر.
في أزقة الحي القديم رأى نذير راحل عبد الرحيم أطفال عام 3000، وعرف أن الذين يوازي طولُ قاماتهم طولَ قامته مراهقون دون العشرين! وعرف من مرافقه أن نمو إنسان عام 3000 يتوقف عند بلوغه التسعين من العمر، وحينها يكون طوله ثلاثة أمتار؛ قد يزيد قليلًا أو ينقص قليلًا لكن هذا يحدث في حالات قليلة.
أراد نذير راحل عبد الرحيم تجربة النبيذ فأدخله في الوقت المناسب حانة صغيرة يقال لها حانة دوالي التين تتسع لأربع مناضد وثمانية أشخاص بنيت في جوف جذع شجرة عملاقة، إلا أن نادلة الحانة رفضت السماح بدخول نذير راحل عبد الرحيم، وخاطبت في الوقت المناسب بلهجة مؤنِّبة: سيدي، لا يمكنني اختراق النظام، أنتم تعلمون أن دخول المراهقين ممنوع.
لحظة لو سمحت يا آنسة، اسمي في الوقت المناسب، أعمل مديرًا لقسم العلاقات العامة في معمل البشر عابر الزمان والمكان، وأنا الآن في مهمة رسمية. أخرج من جيب سترته ما حسبه نذير راحل عبد الرحيم أول وهلة محفظة نقود معدنية. حرك شيئًا فانفتحت مطاوي المحفظة وانبسطت شاشة بَلُّور رهيف مددها ثم ضغطها فعرضت نشرة الأخبار نفسها التي شاهدها نذير راحل عبد الرحيم على الشاشة السائلة في شقته بفندق المألوف الخارق. أخذت الفتاة تقارن بين نذير راحل عبد الرحيم الواقف قبالتها ونذير راحل عبد الرحيم الذي على الشاشة.
عذرًا سيدي، أنا لا أفهم سوى في شؤون تقديم النبيذ. هذا الرجل القزم عجوز لحيته بيضاء ويبدو في غاية الإجهاد وبالكاد يستطيع الوقوف على قدميه بينما هذا الذي يقف هنا حليق اللحية والشارب وشعر رأسه أسود، ولن تستطيع أبدًا إقناعي بأنه ليس مراهقًا. لطفًا، أرني بطاقة هويتك.
فغر نذير راحل عبد الرحيم فمه. لماذا قال له الإنسان الآلي دليل إن الناس كلهم في جميع أرجاء الكرة الأرضية يعرفونه بينما هنا في العاصمة قبضة الحديد نفسها يُمنَع من دخول حانة؟
طلب في الوقت المناسب رؤية صاحب الحانة. بعد وقت قصير جاءت امرأة قالت إن عمرها 310 سنوات، وإنها امتلكت هذه الحانة في عام 2725، أي حين كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها، ومنذ ذلك الوقت لم تنتهك حانتها التقاليد العريقة المعمول بها في حانات الحي القديم بل وفي حانات إمبراطورية الأرض بأسرها ولا مرة واحدة، ولم تقدم نبيذًا قطّ لمن هم دون السن القانونية. لم يحسم الأمر إلا مهاتفة من القصر الإمبراطوري أقنعت المرأة بأن نذير راحل عبد الرحيم رجل بالغ وعمره ثمانون عامًا! ما لا يُعقَل ولا يُصدَّق يحدث في عام 3000، قالت المرأة البالغة النشاط وهي تقدم بنفسها مزة ذات مذاق خاص من أجل من سمَّته الإنسان العتيق! وعندما اختفت والنادلة في مطبخ الحانة لم تستطيعا كبح جماح الفجأة. أحقًّا بعث من الموت بعد ألف عام؟ لقد حسبتا الكلام الذائع بين الناس حكاية ملفقة لكن القصر الإمبراطوري نفسه أكَّد صحته. إنه آخر الزمان! وأخذتا تسترقان النظر إلى نذير راحل عبد الرحيم.
طالت الجولة في بعض أرجاء جزيرة الهضاب، ولم تنته إلا بعد وجبة عشاء في مطعم الخردل وشطائر السجق.
في التاسعة ليلًا أوصلتهما السَّيَّارة الطَّائرة إلى حي الصمت.
كانت نزهة ممتعة ومتعبة في الوقت نفسه لإنسان عاد من الموت وقضى واحدًا وعشرين يومًا داخل شقة ثم سار على قدميه عدة كيلو مترات دفعة واحدة.
كان منزل نذير راحل عبد الرحيم وسط صف منازل متشابهة في حيٍّ على قمة هضبة. في حُلَّته الرسمية شعر بالبرد والوهن، وبحاجة ماسة إلى نوم طويل. انشرحت نفسه لمرأى المنزل. أعطاه في الوقت المناسب هاتفًا محمولًا بحجم الإصبع شرح له طريقة استخدامه إذا استدعى الأمر، وعلَّمه كيف يدير مرافق المنزل آليًّا ويدويًّا. أخيرًا أمده في الوقت المناسب بأربع أصابع من سيجار الماريوانا وقدَّاحتين وخمس قوارير من شراب الإكسير وواحدًا من أقحاف جوز الهند، وقال إنه سيتركه يومين ليخلو إلى نفسه ويسترخي ويألف المنزل. هناك شرفة وحديقة وحوض سباحة، وثلاجة ودورة مياه. المنزل مزود بقدر كاف من كل ما يحتاج إليه، وفي دولاب الغرفة بناطيل وقمصان ومنامات وملابس بيتية من الصوف، ونظام التدفئة ممتاز وآلي يعمل حسب درجة حرارة الجسم. أخبره بألا يغادر المنزل، وألا يستجيب لدعوة أحد، وألا يهاتفه إلا "إن استدعى الأمر، وهذا مستبعد تمامًا سيدي، استمتع واسترخ. نلتقي بعد يومين". خرج وأقفل الباب الخارجي خلفه.
فور مغادرة في الوقت المناسب دخل نذير راحل عبد الرحيم غرفته، خلع ملابسه، اغتسل بماء دافئ، ارتدى منامة صوف، جلس في الشرفة، أشعل سيجار ماريوانا، وأرسل بصره المتعجب الحائر ناحية السهل المظلم وبقع الأضواء البعيدة الظاهرة على مرتفعات الهضاب ومنحدراتها.
نفث دخان السيجار في الهواء البارد. استرخت عظامه ومفاصله وأخذه النعاس غير أن رشفة من قِحْف الإكسير سكبت حيوية منعشة في دمه وأوقدت طاقته.
تذكر دليلًا. ما عاد في قلبه ذرة شوق إليه. تذكر في الوقت المناسب، وفكر في ما سيحدث غدًا وبعد غد وطوال الحياة. قال دليل إن الإكسير لا يُشرَب إلا في أقحاف جوز الهند وغير ذلك يفقد كثيرًا من سماته العجيبة، كما أن لمس الشارب للقِحف والسائل داخله يوطد أثره فيه. وقال دليل: إنسان القرن الحادي والثلاثين لا يموت! بلغ الإنسان أقاصي حدود العلم، قهر الأمراض وجعل عشبة الخلود حقيقة. تذكر نذير راحل عبد الرحيم الرجل ذا الرداء الأحمر، إدريس تكرار والرجل الصارم أكثر ممَّا تتخيَّل. تضاربت الذكريات في رأسه، وتذكر استغرابه من كل شيء، وجوابَ الرجل الآلي دليل: إعادة خلقكم أنتم يا سيدي الدليل والحجة والبرهان!
لماذا هو هنا وأين كان وإلى أين سيذهب؟ الشرب والأكل، الإكسير وسيجار الماريوانا، أهذه هي الحياة؟ ما الحياة؟ كيف تمضي؟ ولأي غرض؟
أول مرة منذ عاد من الموت يدرك أنه وحيد. لم تسعفه ذاكرته لتَبيُّن معنى. لم يُعلِّمه دليل ولا في الوقت المناسب ولا حشد معمل البشر عابر الزمان والمكان ما الحياة وماذا يفعل الإنسان فيها. هل أولئك العراة يذهبون كل يوم ليتعرَّوا في تلك البركة؟ هل كان دليل يتركه أحيانًا ليختبر مدى استعداده لمواجهة الوحدة؟
شرب كؤوس ماء، وعدة أقحاف من شراب الإكسير، ودخن نصف سيجار، وتذكر المطر والبرق والرعد وقوس قزح؛ لقد رأى كل ذلك قبل وقوعه! من المستحيل أن يكون لذلك أي رابط منطقي بإعادة خلقه بواسطة إدريس تكرار وأكثر ممَّا تتخيَّل وكل أولئك المتجمعين حول الفُرجة المستدعاة من الزمان القديم. إن ما رآه اليوم شيء آخر، أنيس وعابر لكنه يحمل في طياته رسالة ما!
تنبَّه لإخفاقه في أن يفهم بوضوح. ما معنى الرابط المنطقي؟ عن أي إجابة يبحث سؤاله؟ ما الرسالة؟ ممَّن؟
تلك الساعات الطويلة رفقة دليل طوال واحد وعشرين يومًا. أخذه التفكير بعيدًا، وعرف أنه الآن يتذكر ما ينشد إدريس تكرار أن يتذكره. أحاديث دليل كانت تتواتر حسب خطته، خطة الخالق! تذكر كيف كان أكثر ممَّا تتخيَّل يعرف على الفور كل ما يفكر فيه! هل كان دليل يستطيع ذلك أيضًا وتظاهر بالعكس؟ وماذا عن في الوقت المناسب؟ كيف أتى بالإكسير وسيجار الماريوانا؟ أهو الآخر كان يتظاهر ويعلم ما يدور في خلده؟ وماذا قصد بالمكافح العجيب؟
بقدر ما هدَّأت ذكرى المطر فزعه بلبله تذكر تلك الشريحة التي أتى على ذكرها أكثر ممَّا تتخيَّل في معمل البشر عابر الزمان والمكان، في اليوم الأول، وقال إنهم زرعوها في رسغه، أم أنه قال إنهم زرعوها في نظامه العصبي؟ ماذا قال؟ جهاز تكرار؟ هل يعلمون بما يفكر فيه الآن؟
استيقظ من تفكيره ليعود إليه من فوره. تذكر عرض إدريس تكرار، الحقن بإبرة الخلود، حقنة أم شراب؟ ألم يقل إدريس تكرار إكسير الخلود؟ واختلط الأمر عليه: هذا الشراب الأزرق إكسير وذاك إكسير! ما الفرق بين الإكسيرين؟ عليه أن ينبئهم بقراره في السادس من يونيو المقبل! وأحس فجأة بأنه مستيقظ تمامًا. هواء بارد هب جعله يترك الشرفة ويدخل البهو. قال في الوقت المناسب إن مناخ جزيرة الهضاب من ناحية هذه الضفة يتأثر كثيرًا باليابسة أكثر من تأثره بمناخ البحر كما هو حال الضفة المقابلة حيث لا يُلاحظ هناك سوى موسمين غالبًا، موسم ممطر وآخر جاف بدرجة حرارة معتدلة. إنه لا يرى البحر من شرفة المنزل. فتح الثلاجة وأخرج تفاحة من تفاح عام 3000، تفاحة تعادل خمسة أضعاف تفاح القرن الحادي والعشرين الذي قضى نحبه في حياته الدنيوية الأولى فيه، ولعلها تفاحة تكفي أسرة بأسرها من أسر ذلك الزمن. في أدراج المطبخ وجد سكينًا كبيرة مكتوبًا عليها سكين الفاكهة! كان تقطيع التفاحة يشبه تقطيع بطيخة، ونذير راحل عبد الرحيم يُقارن لاشعوريًّا لكن بمجرد أن ينتبه يصبح ما فكر فيه عصر ذهن مجهدًا! في شقة المألوف الخارق كان كل شيء يأتي جاهزًا، خدمة على مدار الساعة، فاكهة مقطعة على مقاس فم رجل من القرن الحادي والعشرين، صحون طعام بالجملة. كان يفكر في هذا وفي شيء آخر نسيه على الفور. وأدرك من جديد أنهم مسحوا ذاكرته الماضية لكن هناك شيئًا منها لم يُمسَح كاملًا وما يراه منه غير واضح وإن رآه سرعان ما يفقده.
مع ذلك، قال في نفسه، إنهم لا يتحكمون في أفكاره، لا يوجهونها؛ أكيد أنهم يحاولون أن يملأوا مجال إدراكه بما يريدون لكن وعيه الجديد يتشكل خلافًا لخطتهم. تلك الأفلام السينمائية التي شاهدها بمصاحبة دليل كانت غاصَّة بالخطط والحروب والانتصارات الساحقة والمكائد، وفكر أنها هي من أصَّل فيه الحذر والشك! في الأفلام كان هناك خير وشر إنما بدا له أن الحقيقة لم تكن هناك قط، فحتى المنتصر كان شريرًا هو الآخر، والمنتصر والمهزوم كانا سفَّاحين دمويين كل منهما يسعى إلى إبادة الآخر، وإذا فعل أحدهما ذلك غمره شعور بالزهو والانتصار! أهذه هي الحياة، سأل نفسه، ولماذا كل هذا؟ لماذا كان دليل يريه المزيد من تلك الأفلام وعندما كان يذعر من مشاهد القتل المتوحش بأغرب الأسلحة التكنولوجية والجينية التي كانت هناك دائمًا أطراف كثيرة تتنافس على التفوق فيها، عندما كانت تلك المشاهد تؤذيه كان دليل يقول له: استرخِ سيدي، إنه مجرد تمثيل، قلب إنسان عام 3000 قوي ومتفوق، استمتع سيدي! لماذا بدا له أن نشرات الأخبار أيضًا ليست إلا امتدادًا واقعيًّا لأفلام العنف والسيطرة؟
قضم شريحة من التفاحة.
أشعل التلفزيون فسالت شاشة كريستالية ملأت نصف الجدار، وبجهاز التحكم عن بعد أخذ يقلب محطات فضائية لا تنتهي، وبعد المحطة الألف توقف عند فلم وثائقيّ عنوانه "نذير راحل عبد الرحيم قفزة نوعية في مسيرة الإنسان المتفوق"! "عقودًا طويلة عانى علماء الاستنساخ من صعوبة استنساخ البشر، لأن الخلايا المأخوذة من الإنسان الكبير في العمر كانت تظهر بمرحلتها العمرية في الوليد المستنسخ، الأمر الذي نشأت عنه مصاعب وأمراض جمَّة. منذ ذلك التاريخ البعيد وحتى قرننا الماسي هذا حقق العلماء قفزات نوعية ليس فقط في استنساخ البشر والحيوانات بأنواعها المختلفة بل وفي خلق الإنسان أيضًا بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات والتضحيات في سبيل العلم والحضارة؛ هذا هو البيان الرسمي الصادر عن معمل البشر عابر الزمان والمكان".
كان نذير راحل عبد الرحيم يشاهد الصور المرعبة المرافقة للتعليق، أجنة تنفجر بطونها ورؤوسها، عاهات وأطفال مرضى يموتون خلال سنوات قليلة، ثم ظهر طفلان توأم يضحكان ويمسكان بخيوط طائرتين ورقيتين ويركضان فرحين في حقل أخضر قرب بحر هادئ وتحت سماء زرقاء! وظهر علماء في مؤتمر يتبادلون التهنئة بالإنجاز! "حس المغامرة الوثَّاب لا يهدأ وينشد أصحابه دومًا بلوغ أحلامهم التي طالما بدا تحقيقها مستحيلًا. إعادة خلق نذير راحل عبد الرحيم أثارت جدلًا عاصفًا كل يوم يزداد ضراوةً على مستوى العالم".
بعد ذلك ظهر إدريس تكرار: "عملية بعث نذير راحل عبد الرحيم كانت ناجحة بكل المقاييس. كانت متعبة بعض الشيء، لكننا تمكنا من السيطرة عليها معمليًّا بدقة متناهية حققت إنجازًا علميًّا عظيمًا في سجل التاريخ البشري وليس في عام 3000 وحده". هنا تدخل معد الفلم الوثائقي ومقدمه سائلًا إدريس تكرار عن "مبرر وصفه عملية خلق نذير راحل عبد الرحيم، أو بعثه، بالإنجاز بينما تعارضها الروابط الدينية، ورابطة الأطباء المستقلين، وحركة الدفاع عن حق الإنسان في الموت، والمدافعون عن حقوق طبيعة الإنسان، معارضة شديدة، ويصفونها بالوبال والهلاك والانحطاط الأخلاقي، وبأنها تسعى إلى حتف الجنس البشري". قال إدريس تكرار: "كما ترى، الكلمات النابية والمبالغة والتضليل ليست وسائل فعالة في مواجهة العلم. أنا أعلم حجة هذه الروابط المضللة: المعاناة. لكننا أكملنا العملية دون تسبيب معاناة لنذير راحل عبد الرحيم، كان من الممكن أن ينشأ خوف عليه نتيجة تمسكه بموته لكننا تلافينا الأمر سلفًا واستعددنا لجميع التوقعات الممكنة. إن نذير راحل عبد الرحيم يعيش كأي إنسان آخر صحيحًا وقويًّا ويستمتع بوقته ويشكرنا على بعثه".
تدخل المحاور ثانية: "أين هو الآن؟"
"من أجل حمايته وحماية الإنجاز الوطني يؤسفني ألا أتمكن من التصريح بمكان وجوده، غير أنه، كما أسلفت لك، في حالة صحية ممتازة، ويخضع لعملية تأهيل يستجيب لها على أكمل وجه". كان نذير راحل عبد الرحيم قد توقف عن قضم شريحة التفاح الكبيرة، وأولى انتباهه التام للفلم الوثائقي. سفح مزيدًا من الإكسير. اشتدت به الهواجس وحامت حول مربطها المستحكم؛ مسار الذبذبات، مدينة الخلق، معمل البشر عابر الزمان والمكان، إمبراطورية الأرض، قبضة الحديد، جزيرة الهضاب، تمسكه بموته!
مضى به الليل هكذا حتى وجد نفسه في الصباح نائمًا على أريكة البهو. وحين مدد أطرافه ليتخلص من خمول النوم فكر في أنه أخيرًا توصَّل إلى الطريقة المثلى لإحباط عمل مصدر قلقه الدائم، التجسس عليه بواسطة جهاز تكرار المزروع فيه: التشويش والتضليل! وانتبه حالًا إلى أنه وقع ضحية أفكاره، إذ لا شك أنهم الآن بالذات كشفوا ما يفكر فيه! فافتعل التمدد والتثاؤب كأنه يصحو في هذه اللحظة، وقال: ياله من حلم مزعج! هل كنت أتحدث فيه؟ لا أتذكر الآن شيئًا منه!
استوى جالسًا على الأريكة. ومثلما كان يبدأ يومه في فندق المألوف الخارق استحم ونظف أسنانه. لبس ثيابًا أدفأ مما كانت عليه. منذ أيام إقامته الأخيرة في شقة فندق المألوف الخارق كان قد كف عن النظر بزهو إلى صورته في المرايا، وكان يعتقد أن شعوره بالارتياب والخوف كل يوم يفرط في الزيادة على ما سبقه، وأنه لولا الماريوانا والإكسير لانفجر.
شرب ماء. أعد إفطاره وتناوله على طاولة الشرفة. كان قد وجد الصحون والكؤوس التي استخدمها أمس وتركها على حوض المغسلة مغسولة ومرتبة على أرفف ملحقة بها. أقلقه ذلك بعض الشيء، هل وضعوا له إنسانًا آليًّا هنا أيضًا؟ إنه متيقن أن لا أحد منهم هنا. هدأ. المغسلة تعمل تلقائيًّا كلما تُرك على حوضها شيء، صحن، ملعقة، كأس، أي شيء، أمَّا الصحون التي نسيها على طاولة الشرفة فما زالت في مكانها. اطمأن. أكل بيضًا مخفوقًا بالخضار والجبن. تعلم الوصفة من شاشة محطة فضائية. أشعل الربع المتبقي من سيجار أمس، رشف من قحف الإكسير، ورنا إلى الهضبة الخضراء. أينما ولَّى نظره في جوانب الشرفة الثلاثة تملأ عينيه خضرة الأشجار والمروج وزرقة السماء. أشجار كثيرة هنا وهناك يتبع انحدارها من الهضاب نحو السهول.
على تلك الوتيرة بدأ أول يوم يقضيه نذير راحل عبد الرحيم وحده.
في الظهيرة دخلت الشرفة شمس دافئة، وعَبَرَ الهضبة رجل وطفل وطفلة وامرأة. كان الرجل والمرأة طويلين لكن ليس بقدر طول الرجل الصارم أكثر مما تتخيَّل أو أستاذه إدريس تكرار، ولا حتى بطول في الوقت المناسب، ورجَّح أن يكونا في ستينيات عمريهما. أما الطفلان فخمَّن أنهما دون الثانية عشرة وكانا دون قامته بقليل. كانوا قادمين من جهة الجنوب، انحدروا فأصبحوا قبالته. كان واقفًا، متكئًا بساعديه على حافة سياج الشرفة الزجاج، الأمر الذي جعلهم في مرمى عينيه وجعله في مرمى عيونهم. لوح له الرجل مُحيِّيًا ثم لوحت الطفلة ثم الطفل ثم المرأة، وهبطوا نحو السهل. عندما أعطوه ظهورهم رأى فوقها أكياسًا كبيرة من خفة مشيهم وسرعة انحدارهم كان واضحًا أنها فارغة.
اختفى آخر أثر لهم هناك في ناحيةٍ ما أسفل الهضبة. أخذ نذير راحل عبد الرحيم نَفَسًا عميقًا من سيجار الماريوانا، ومجَّ دخانه الأزرق الغليظ في النقطة التي ابتلعتهم وأكياسهم الفارغة. محا الدخان النقطة. عَبَرَتْ نسمة كثيفة لاشت الدخان فعاد الصفاء إلى النقطة.
مر الوقت، وعبر آخرون قليلون جدًّا لم يحييه منهم أحد. كان الحي اسمًا على مسمى، غارقًا في يمِّ الصمت الثخين. دخن وشرب وأكل وحلق لحيته وشاربه وغسل أسنانه واستحم، ودخن وشرب وأكل متنقلًا بين الشرفة والبهو. وعند حلول المغرب، بينما كان آخر أشعة الشمس على وشك أن يميع في العتمة، رآهم عائدين، الرجل ثم الطفلة ثم الطفل ثم المرأة، وكانت الأكياس التي على ظهورهم ممتلئة بشيء ما لم يعرف ما هو، وخمن أنهم يعملون في الحقول.
عند بلوغهم المنحدر نفسه الذي يصعدونه الآن في طريق عودتهم لوَّحوا له تباعًا مثلما فعلوا في الظهيرة، ولوح لهم وسر وابتهج، وواصلوا مشيهم صاعدين نحو قمة الهضبة، وغمرت العتمةُ الهضبةَ وابتلعت أطيافهم.
وفي اليوم الثالث رآهم ذاهبين وعائدين.
وقبيل ظهيرة اليوم الرابع جاء في الوقت المناسب وزوَّده ببطاقة هُوِيَّة تحسبًا لأي موقف آخر شبيه بما جرى في حانة دوالي التين في الحي القديم. جلس معه في الشرفة ثم سأله لماذا لا يجرب متعة الجلوس على مقاعد الحديقة، وحينها فقط تذكَّر نذير راحل عبد الرحيم أنه لم يدخل الحديقة. أخذه في الوقت المناسب إلى البهو ثم المطبخ حيث فتح باب الحديقة، واستغرب نذير راحل عبد الرحيم كيف كان يرى الباب طيلة الأيام الثلاثة الماضية ولم يفكر قط في فتحه! وبينه وبين نفسه أرجع السبب إلى سيجار الماريوانا والإكسير. كان في الحديقة مقاعد ومنضدة ونافورة وأشجار وطيور وحوض سباحة. كان في الوقت المناسب يحمل حقيبة جلدية أخرج منها ظرفًا ووضعه على الطاولة: سيدي، البروفيسور إدريس تكرار يبلغك السلام، ويقول لك إنه يتابع حالتك الصحية عن كثب ويبدي حبوره بالنتائج الباهرة! ويقول إدريس تكرار، سيدي، إن الاستسلام للظنون والأوهام يُربِّي الشعور بالمكيدة والمؤامرة، كما كان عليه حال الناس في عصر حياتك الأولى، فقد كانت هناك دول ضعيفة يأكل بعضها بعضًا، وكل ما كانت تفعله هو اتهام الدول المتفوقة بمناصبتها العداء والكيد لها، والغريب أن صلتها بهذه الدول ذات طبيعة خاضعة وبخاصَّة في الخفاء، والأغرب أنها بعد هذا تواصل تدمير نفسها! وفي أي حال، سيدي، يضيف إدريس تكرار قائلًا إن كل خطأ قابل للإصلاح من أجل التفوق، ولهذا السبب، سيدي، يبعث إليك بعقد الخلود الذي ستوقعه بمشيئتك الحرة وإن ارتأيت غير ذلك فمن حقك الرفض.
أي عقد هذا؟
سيدي، إنه عقد الخلود، العقد الخاص بالعرض الذي قدمه لك إدريس تكرار في معمل البشر عابر الزمان والمكان في اليوم الأول لإعادة خلقك. كي تكون على بينة من كل موادِّه اقرأه على مهل يا سيدي. إنها مواد عادية جدًّا وتضمن لك أفضل مستقبل يمكن أن يحلم به شاب في مقتبل العمر في إمبراطورية الأرض في عام 3000. دعنا من هذا الآن، إنني أدعوك إلى حضور عرض ساحة هتلر المخلوق المنسوخ في الرابعة والنصف مساء اليوم.
عرض هتلر؟
نعم، هتلر المخلوق المنسوخ، ألا تعرف هتلر؟
وهل أجرؤ؟
كان نذير راحل عبد الرحيم يعرف شخصية هتلر من خلال المحطات الفضائية والإعلانات التي قرأها على ناطحات السحاب من نافذة السيارة الطائرة خلال قدومه من فندق المألوف الخارق إلى جزيرة الهضاب، فمعرفته القديمة به عندما كان في حياته الدنيوية الأولى ملغاة الآن من ذاكرته. على متن سيارة طائرة أخرى أمتن وأكثر فخامة من سابقتيها قال في الوقت المناسب لنذير راحل عبد الرحيم إن عرض ساحة هتلر المخلوق المنسوخ يقام كل ستة أشهر ويحظى بإقبال استثنائي أكثر حتى من أفلام السينما، وذلك منذ أعيد هتلر إلى الحياة قبل خمس سنين. عرض اليوم يحضره إمبراطور الأرض وإمبراطور الأراضي المتحدة وسبعة وستون رئيس دولة وإقليم. صاحب الجلالة عَظَمَةُ إمبراطور الأرض مريض وبرغم ذلك لم يستطع مقاومة إغراء حضور العرض!
بعد خمس عشرة دقيقة حطت بهم السيارة الطائرة على مهبط سطح ناطحة سحاب. بمصعد كهربائي نزلا من الطابق الثلاثمئة وخمسين إلى الطابق السفلي تحت الأرض. على لوحة إلكترونية محفورة على باب ضغط في الوقت المناسب بضعة أرقام فإذا بهما داخل ساحة العرض وهتلر في كل الساحة، نسخ كثيرة جدًّا من هتلر. جن جنون نذير راحل عبد الرحيم. أيُكذِّب عينيه؟ هؤلاء كلهم هتلر دون ريب، لكن كيف يكون هذا؟ لم يتمالك وصرخ بسؤاله في أذن في الوقت المناسب.
وسط ضوضاء ازدحام الجمهور الغفير الذي غطى مُدَرَّج الساحة صرخ في الوقت المناسب في أذن نذير راحل عبد الرحيم مجيبًا: قلت لك، سيدي، هتلر المخلوق المنسوخ، خلقوه أولًا وخلَّصوا عصرك الساذج من الجدل في مصيره، ثم نسخوا منه نسخًا كثيرة، لكن هتلر الحقيقي يعتد بنفسه وليس بالزائفين منه، لذلك يواجههم بشراسة واثقة حتى ينتصر عليهم كل مرة ويُسخِّرهم لخدمته. إنه نموذج العِصاميِّ المتفوِّق يا سيِّدي! بسبب حماسة الجمهور وانفعاله الصاخب لم يتمكن نذير راحل عبد الرحيم من سماع الجملة الأخيرة بوضوح. تلبَّس في الوقت المناسب مرح وانبساط واحمرَّ خداه من فرط السعادة، ومدهوشًا نظر إليه نذير راحل عبد الرحيم، وتضاعفت دهشته عندما رأى وجوه الرجال والنساء القريبين منهما أكثر انفعالًا وأشبه بعشاق حنَّت عليهم الأقدار أخيرًا بلقاء من تيَّموهم حبًّا! أكل هذا بسبب رؤية هتلر؟
كان منسوخو هتلر واقفين بالآلاف يغطون أكثر من نصف الساحة الكبيرة. على منصة مرتفعة تتراقص بأضواء ملونة باهرة وعلى شاشات تسور أعلى قفص الساحة ظهرت مقدمة العرض، امرأة عملاقة بالغة الجمال: "صاحب الجلالة إمبراطور الأرض العظيم، صاحب الجلالة إمبراطور الأراضي المتحدة العظيم، أصحاب الفخامة رؤساء الدول الصديقة، الجمهور الحبيب، يسعدنا في الجزء العاشر من عرض هتلر المخلوق المنسوخ أن نقدم لكم نبذة عن الأجزاء السابقة كي تحققوا أعلى درجات التفوق في الاستمتاع بالعرض. في النسخة الأولى كان عدد النسخ ثلاثة آلاف إضافة إلى هتلر الحقيقي، وقد تمكن من سحقهم جميعًا، ثم شدَّ انتباهنا ما حدث ابتداء من العرض الثاني فصاعدًا فقد شرع هتلر الحقيقي يشكل أتباعًا ويجندهم، وفي العرض التاسع، قبل ستة أشهر من هذا اليوم، بلغ عدد جنود هتلر ألفين ومئتي نسخة. اليوم نتشرف بافتتاح الجزء العاشر من العرض لنعرف ما يفاجئنا به أدولف هتلر هذه المرة".
نغمة بوق طويلة، ثم انحنى النسخ الثلاثة آلاف للجمهور ما عدا واحدًا يمسك بكرباج من جلد غليظ عرف فيه الجمهور هتلر الحقيقي.
حدثت جلبة في المنتصف حيث شوهد هتلر الحقيقي. كان قد شرع ينفذ خطته، يهوي بكرباجه على الجنود القريبين منه. من يتحدَّاه ولا يعود قادرًا على تحمل سعير كرباجه يتقهقر إلى حيث لا ينوشه الكرباج وهجوم الموالين، أما من يستسلم له ويطيعه فيرفع له يده بالتحية النازية الشهيرة ثم ينضم إلى أنصاره ويشكل معهم طوقًا حوله، يمشي خلفه أو إلى جواره ويبدأ في الدفاع عنه بضرب النسخ الآخرين بيديه، بقبضتيه، بكوعيه، بركبتيه، بقدميه، بأسنانه، كيفما اتفق، وبعنف متصاعد، مستقتلًا في إبعاد أي هجوم ممكن، ومتلقيًا عنه ضروبًا من أفانين القتال الوبيل الذي يشنه أعداؤه دون سلاح أيضًا عدا أجسادهم.
كلما تقدَّم هتلر الحقيقي ثارت ثائرة غضبه فينهال بكرباجه على الوجوه، الأعناق، الرؤوس، الظهور، رَبَلات السيقان. اقشعرَّ نذير راحل عبد الرحيم من صريخ المجلودين ومنظر سيل دمائهم، وحزن وخاف عندما رأى كثيرين ينحنون ويرفعون أيديهم مؤدين التحية النازية لقائدهم، هازِّين ساحة هتلر المخلوق المنسوخ بهتاف واحد: تحيا هتلر، آخذين دورهم في الذود عنه وضرب النسخ الأخرى أعنف مما قبل. وكانت حماسة الجمهور ملتهبة وهتافهم يصم الآذان وتصفيقهم يحفز عرض هتلر المخلوق المنسوخ على الإبهار حتى النهاية!
اكترب نذير راحل عبد الرحيم. أرهبه القتال المحتدم، ولم يفهم أي باعث لهذه التسلية الدموية.
وبعد ما يقارب ساعة أصبح جنود هتلر الحقيقي ألفين وستمئة انصبوا صبًّا على الأربعمئة الآخرين. عند هذا الحد سُلِّطتْ أضواءُ مصابيح كبيرة على هتلر الحقيقي شكَّلتْ هالة دموية حوله، فرفع يده عاسفًا بها كل من حوله، مناصرين كانوا أو معارضين، فابتعدوا مسافة عنه، وبقي واقفًا مكانه يغسله العرق والزَّهو ويقدح من نظرته شرارُ وعيدٍ ظامئٍ أرعب أولئك الذين شاهدوا عينيه المقرَّبتين الظاهرتين بوضوح على الشاشات.
اختفى وجه هتلر من الشاشات وظهرت عليها المرأة العملاقة بالغة الجمال ثانية: "عرض في قمة الإبهار، وهناك المزيد، جمهورنا الرائع، المزيد والمزيد ممَّا يحبس الأنفاس، ستشاهدونه بعد عشرين دقيقة حيث ستكون كرابيج الجلد في يد كل نسخ هتلر وفي يد هتلر الحقيقي كرباج وسكين"! أخذت الإثارة مداها، وتَعَجْرَفَ عجيجُ الجمهور وهاج تصفيقه. "استراحة قصيرة أعزاءنا ونعود إلى الاستمتاع بالفقرة الثانية من الجزء العاشر لعرض هتلر المخلوق المنسوخ".
ذهل نذير راحل عبد الرحيم، ورأى هتلر الحقيقي ونسخه في الاستراحة القصيرة يلهثون ويمسحون الدماء المختلطة بالعرق بمناديل تساقطت حُزَمًا من سقف الساحة المُسوَّرة.
خرج به في الوقت المناسب نحو مقهى ساحة العرض لكنه استوقفه راجيًا إيَّاه أن يخرجه من هنا على الفور. غير مصدق أبدى في الوقت المناسب استغرابه، فمن ذا الذي يفوت عرض هتلر المخلوق المنسوخ! ألح عليه نذير راحل عبد الرحيم فلم يملك إلا أن يذعن لرغبته، وقال له إن الأهم أن يكون مزاجه رائقًا. وفي طريق العودة قال له إن هتلر الحقيقي ونسخه الثلاثة آلاف، في الفقرة الثالثة من عرض اليوم، سيخوضون معركة بالمسدسات! في الحقيقة، سيدي، إن عرض ساحة هتلر مهما قيل عن إبهاره فلن يُوفَّى حقه! إنه مكلف جدًّا لأن القدرة على إنقاذ الثلاثة آلاف نسخة من الموت ليست أمرًا هينًا بعد القتال الضاري بالرَّصاص الحي وإلا لانتهت عروضك الأسطورية ولن تتكرر بإبهار إبداعي متصاعد كل ستة أشهر! بلا مِراء، الرَّصاص مصنَّع لساحة العرض فمداه لا يخترق حدودها المُسوَّرة التي تدور فيها معارك هتلر ونسخه. تخيَّل يا سيدي ما سيكون عليه العرض بعد سنوات من الآن: ساحة أوسع، أسلحة أعتى وحتى مدافع وطائرات! ميدان بسعة مدينة وسمائها! أعمل خيالك كيفما شئت! في ساحة هتلر المخلوق المنسوخ لا يوجد عرض أقل فتنةً من سابقه، لا عرض يتكرر مرتين.
مضى في الوقت المناسب في حديثه ذاك ونذير راحل عبد الرحيم صامت ضجر يزيح مشاهد الدم عن ذاكرته ويتوقَّى لَغَطَ الدَّفْر والخَبْط بالنظر إلى السحب ومعالم مدينة قبضة الحديد البادية من نافذة السيارة الطائرة.
سيدي، أرى أن نهبط على مهبط منزلك في حي الصمت.
هبطا من السيارة الطائرة، وقال في الوقت المناسب إن من الأفضل أن يتمشيا قليلًا على الهضبة. كانت الشمس قد غابت قبل دقائق. مشيا صاعدين. جلسا في مقهى الهداهد. كان في المقهى نافورةٌ خريرُ مائها أخذ نذير راحل عبد الرحيم من نفسه، لكنه لم يعرف قط إلى أين أخذه ولا لماذا. كانت هناك ربوة تشرف على المقهى لاحت فوقها أربعة ظلال تحمل على ظهورها أربعة ظلال، وعرفهم نذير راحل عبد الرحيم، الرجل والطفلة والطفل والمرأة بترتيبهم اليومي المعتاد، وكما ظن منذ رآهم أول مرة فكَّر في نفسه مكررًا بأنهم، لا بد، أب وأم وابناهما.
إنهم يعملون في قطف التين سيدي.
التين؟
أظن أنني أفهم مصدر استغرابك سيدي؛ في حياتكم السابقة لم يكن يناير في نطاق موسم التين سيدي. الآن لدينا وسائل وأساليب مبتكرة تجعله يُحصَد ثلاثة مواسم في العام، وموسم رابع لتهيئته لينتج بجودة أعلى في الفصول الثلاثة المقبلة. هؤلاء العمال الأربعة الذين عبروا الربوة أغلب الظن أنهم يعملون في حقل صغير، لأن الحقول الكبيرة، في مواسم القطاف، توفيرًا للجهد والمال والزمن، تستخدم تقنية الإنسان الآلي، أما هذه الأكياس فإنها كلام فارغ يا سيدي!
لم يقل نذير راحل عبد الرحيم شيئًا. احتسى قهوته وأكل من كعكة التين بالجوز. أصغى لخرير النافورة وراح وإياه إلى حيث لا يدري أين.
سيدي أرى أنك تميل إلى الوحدة أكثر. لا تقلق، إننا نولي أهمية كبيرة لهذا الجانب من شخصيتك، لذلك ستكون المرحلة الثالثة من برنامج إعادة تأهيلك حافلة بالأنشطة الاجتماعية.
خاطب نذير راحل عبد الرحيم في الوقت المناسب مستفهمًا طافحًا بالضجر: مرحلة ثالثة؟ أنشطة اجتماعية؟ عرض هتلر المخلوق المنسوخ! كيف تكون هناك مرحلة ثالثة وأنا لا أعرف شيئًا عن المرحلة الثانية التي أنا فيها الآن.
إنك في مرحلة التفكير سيدي. لا تقلق. أطلق العنان لأفكارك سيدي. إذا قررت توقيع العقد فسوف تنال حقوق الخلود، سوف تتحول حياتك على الفور إلى ما لم تحلم به قط في ذلك العصر الغابر الذي عشت فيه قبل 985 سنة وما لم تحلم به في حياتك التي تعيشها الآن. فور قبولك سيدي وحقنك بإكسير الخلود سوف يصبح عمرك خمسة وعشرين عامًا كعمر أي شاب في الخامسة والعشرين يعيش في عام 3000، سينمو طولك، وحجم كل أعضائك سيدي، هل لاحظت ما أقول؟ ليس فقط حجم قدميك ووجهك وأذنيك وعينيك، بل كل ما فيك! كل أعضائك سيدي، الخارجية والداخلية، العليا والسُّفلى! تخيَّل سيدي كلها ستنمو تدريجًا حتى تبلغ التسعين، ومثل عرض هتلر المخلوق المنسوخ كل مرَّة سوف تبهرك أكثر! ستكون لديك حصانة أبدية تقيك الأمراض والحوادث. لن يكون عليك أن تقلق بشأن وظيفة أو حاجة. ستتهافت عليك النساء ويفترسنك من شدة الغرام والولع يا سيدي! أنسيت من أنت؟
تبرَّم نذير راحل عبد الرحيم بحديث في الوقت المناسب واستسمجه. كان في دخيلته صدود لا يفهمه. سأل نفسه: لماذا غادرته الظرافة التي كان عليها في فندق المألوف الخارق بصحبة دليل؟ رأى في خياله دماء نسخ هتلر تختلط بعرقهم، اقشعر، جفل وبذل جهدًا كبيرًا ليطرد ما رآه ويسيطر على خوفه. نظر إلى أنحاء مقهى الهداهد، الندلة الآليين والزبائن الذين كان أكثرهم وحيدًا يحتسي شرابًا ملونًا، وما لا يدري ماذا، وشايًا أو قهوة، إن صحَّ تخمينه، وبعضهم كان عشاقًا يتبادلون القبل ويتلامسون بحرارة هائجة دون اكتراث بالآخرين أو اكتراث هؤلاء بهم، إلا أن سمات غريبة بدت له في كل ما يرى، ولم يستطع تحديد أوجه الغرابة، وكان غير ممكن تجاهل تلهي الأغلبية بأجهزتهم الإلكترونية، بمن في ذلك أولئك العشاق، فكأن عشقهم المشتعل طارئ قبالة انشغالهم بتلك الآلات والأجهزة التي كأنْ لا وجود لها إذا طووها وأخفوها في جيوبهم أو حقائبهم، وأحيانًا يظن الواحدَ منهم معتوهًا يُحدِّث نفسه لولا أن في الوقت المناسب، الذي لا يفوته أن يراقب كل حركاته وسكناته، يتبرَّع بالتفسير: إنه يحادث أحدًا ما يا سيدي، وبالصوت والصورة أيضًا! هذه التقنية تعمل على الذبذبات والقدرات الهندسية الشبيهة بالخطوط الوهمية المعتمدة في الطيران. كل ما في الأمر، يا سيدي، هو شريحة لا تكاد تُرى ولا أهمية لوضعها في الجيب أو على المنضدة فحساسيتها العالية تجعل الاتصال سهلًا وتصنع دائرة ذبذبات في مجال رؤية المتصل، تمامًا كأنك تنظر إلى شاشة لا يراها غيرك! أخرج في الوقت المناسب شريحة بحجم ظُفْر الإبهام واستطرد في شرح ما يقوم به مَنْ حسبه نذير راحل عبد الرحيم معتوهًا يحدث نفسه. ولا تخشَ فقدان الشريحة، يا سيدي، فهي مزودة بجهاز تنبيه يجعلها ملتصقة بك مثل سروالك الداخلي! قهقه في الوقت المناسب قهقهة خفيفة كتمها لمَّا رأى نذير راحل عبد الرحيم منصرفًا عنه، وظنه يستمع إليه وفي الآن ذاته ينشغل بالنظر إلى إحدى الفتيات. وتلك الفتاة، سيدي، الجالسة في أقصى زاوية المقهى وهي ترتدي نظارة كبيرة وتنفجر من الضحك، هناك سيدي، حيث طار الآن سرب هداهد أظنك رفعت رأسك وتابعته بنظرك، إنها تتابع فلمًا سينمائيًّا كوميديًّا دون شك وإلا لما كانت لتتفقَّع على هذا النحو من الضحك. هذه التقنية قديمة جدًّا يا سيدي، أقصد النَّظَّارة، قديمة إلى درجة أنها تعود إلى ما بعد عام 2015 بقليل فقط، لكن، كما ترى، ثمَّة عودة قوية لمواطني الإمبراطوريات في السنوات الأخيرة إلى استخدام الأجهزة البدائية، ولهذا فإنك ترى معظم الناس يفضلون الهواتف المحسوسة العاملة باللَّمس. إنها ظاهرة خلقتها شركات الدعاية والإعلان يا سيدي. لم يول نذير راحل عبد الرحيم حديث في الوقت المناسب أي اهتمام، لم يسمع كلمة ممَّا قاله ولم يكن ينظر إلى الفتاة مرتدية النظارة، فقد كان يعصر ذهنه ليتذكر بعض ما أحس أنه رأى شبيهًا له في وقت سابق، وكان هذا خصوصًا مرأى انشغال معظم روَّاد مقهى الهداهد بآلاتهم الإلكترونية ذات الأحجام والأشكال والألوان الغريبة، فحتى أولئك الذين يغلقون أجهزتهم أو يطوونها ويضعونها على المناضد أو داخل جيوبهم وحقائبهم لا يلبثون أن يخرجوها ويعودوا إلى الضغط عليها والنظر إليها، وكأن الأمر برمته وظيفة لا قبل لهم بالتحكم فيها ولا بد من أدائها أطول وقت ممكن أو طوال الوقت! نظر ونظر وخيِّل إليه لحظة أنه على وشك العثور على مصدر تذكُّره بيد أنه أخفق، وعندما رأى النافورة وسمع خرير الماء مرة أخرى استيقظ وأدرك أن هناك طاقة مصطنعة تمتص مبالاته وتصرفه عَنوةً وتجرُّه إلى أن يحفل بتُرَّهات في الوقت المناسب وينسى ما كان بصدده! سئمًا مشوشًا أولى بعض انتباهه إلى شرح مسهب عن أهمية مرحلة التفكير!
تعشيا في مقهى الهداهد.
في التاسعة ليلًا أوصله في الوقت المناسب إلى منزله القريب من المقهى، وجلب له من السيارة الطائرة صندوقًا مملوءًا بقوارير الإكسير وقحوفه، وعددًا كبيرًا من سيجار الماريوانا، وتركه وحده. كان في رأسه شيء واحد فقط: هتلر. عندما شرع يقتل الوقت، كعادته قريبة العهد، على الشرفة، صحبة سيجار الماريوانا والإكسير راوده الخوف فشرب عدة أقحاف واستعاد هدوءه. فتح ملف العقد: "يقر الطرف الثاني، السيد نذير راحل عبد الرحيم، للطرف الأول، معمل البشر عابر الزمان والمكان، بأن من حق المعمل أن يجري عليه تجارب حمائية احترازية من أجل صيانة جهازه المناعي بدقة لا تقبل الخطأ وبما يضمن له كرامته كإنسان".
ضحك نذير راحل عبد الرحيم مرددًا: بدقة لا تقبل الخطأ. كأنه عقد بين معمل وآلة، قال في نفسه ثم تذكر أنهم يقرأون أفكاره. وليكن، قال، فليقرأوا كل الأفكار ويصيغوا كل العقود. وبدأ جولة أخرى في تصفُّح المحطات الفضائية. وجد نفسه يضغط أزرار جهاز التحكم ويتنقل من قناة إلى أخرى.
سرعان ما سئم، ومضى يفكر في ما سيكون عليه حاله في الأيام المقبلة. لم يعد لشراب الإكسير وسيجار الماريوانا اللذة المخدرة نفسها التي كانا عليها في شقة فندق المألوف الخارق. إنها تبقيه متبلدًا خاملًا منتشيًا يطرح سؤالًا تلو آخر على نفسه، في نفسه، لنفسه، ويضحك من نفسه ومن كل أحد ومن كل شيء. أهي الوحدة نبَّاشة قبور الأحزان تسرق الطمأنينة والأوهام؟ شرب قِحفين آخرين من الإكسير ثم ذهب لينام، وفي النوم رأى ثلاثين ألف هتلر وهتلر الحقيقي يُحطِّمون بوابات ساحة عرض هتلر المخلوق المنسوخ وينتشرون في شوارع مدينة قبضة الحديد، ثم يبرزون على متون سياراتٍ طائرة تنفث سحبًا سوداء جسيمة وتصنع سحبًا صفيحية أينما تحركت في سماء قبضة الحديد، وياللأسف إنها تحط على هضبة حي الصمت! إنهم هنا بالأسلحة الرشاشة يحيطون بمنزله. منذ سكن منزل الصمت هذه هي المرة الوحيدة التي يُنتهَك فيها الصمت؛ ضجيج ودوي وصياح. حطموا الباب الخارجي، دخلوا متزاحمين، وحين أحاطوا بسريره مال فوقه هتلر الحقيقي بشاربه القصير وسحبه من ياقة منامته الصوف: أنت، يا من تُدعى نذير راحل عبد الرحيم. من أيِّ مصيبة أتيت أنت؟ أجئت تنافسني؟ أنا وأنت الوحيدان المبعوثان من الموت فهل هذا عدل؟ أن يساووا الفوهرر بواحد ضعيف نكرة؟! واستيقظ مذعورًا. أشعل الضوء الجانبي للسرير. كان قميص منامته مبتلًّا بالعرق. أشعل جميع الأضواء. دخل الشرفة. عاد إلى البهو. دخل الحديقة فأضاءت أنوارها الخافتة آليًّا. أخافه صرير الجداجد وظلال الأشجار والزوايا المظلمة التي كأن أشباح هتلر وأشباهه تندس فيها، خرج وأقفل باب الحديقة. غسل وجهه. المزيد من سيجار الماريوانا وشراب الإكسير. وما نام ليلته.
في الصباح قطع شريحة أخرى من التفاحة الكبيرة. بين قحفي إكسير، محاوِلًا طرد الرغبة اللا إرادية في النوم، شرب فنجان قهوة أكثر مرارة من كل فناجين قهوته في الأيام الماضية.
عند الظهيرة هبطوا التل، لوحوا له، لوح لهم، وواصلوا هبوطهم نحو السهل.
انزاح الضغط المُروِّع لكابوس هتلر ونسخه.
بعدما اختفى الأربعة في السهل وقعت عينا نذير راحل عبد الرحيم على العقد: "المادة الـ5. الأضرار المتوقع أن تصيب الطرف الثاني، السيد نذير راحل عبد الرحيم، بعد خمسة أشهر من تاريخ بعثه في السابع من يناير عام 3000، في حال رفض توقيع العقد. أ. قد تبدأ أعراض حياته الأولى بالظهور داخله وعلى بدنه وشكله. هذه الأعراض تشمل الأمراض التي كان يعانيها في حياته الماضية، وسوف تفصله عن عام 3000 فصلًا نفسيًّا وعضويًّا مستحيل الاحتمال. هذه الحالة ستؤدي إلى إصابته باكتئاب شديد الخطورة بعد أسبوع قد يؤدي إلى فقدانه قُواه العقلية، وفي الشهر السادس يرفض جسده نهائيًّا الاستجابة لأي نوع من الأدوية لأنه من طبيعة تخالف طبيعة بشر عام 3000 المتفوقة، ولن يمر وقت طويل حتى يبدأ جسده في التَّحلُّل وهو لا يزال على قيد الحياة". تجَّمدت عينا نذير راحل عبد الرحيم على الجملة الأخيرة. بسرعة مفرطة جرع ثلاثة قحوف ودخن ربع سيجار وأعاد قراءة الجملة.
وعند الغسق رأى الأربعة عائدين بأكياسهم الممتلئة، وانتبه مرة أخرى إلى أن مرآهم يمدُّه بطاقة غريبة. لوَّحوا له ولوَّح لهم.
كان يرتاح لمرورهم، ويحرص على انتظارهم عند ظهيرة كل يوم وعند زوال شمسه. وفكر لحظةً: هل يطلب منهم النَّجدة؟ هل سيجيبون طلبه؟ ونظرًا لتذكره أن أفكاره تحت المراقبة خشي أن ينالهم سوء بسببه، فمضى يلفق قصة طويلة غير مترابطة أنشأ يشحن بها ذهنه بكثافة، وإبَّان ذلك أخذ يشاهد قناةً فضائية ورَفَعَ صوتها، ومثل المجنون قام يؤدي حركات تمثيلية تحاكي الممثلين، وتنقل من قناة إلى أخرى مواصلًا التحدث بصوت عال ورفع صوته وخفضه بلا انتظام ولا منطق، وهكذا لما يزيد عن نصف ساعة، ثم ظن أنه فقد عقله فرقص وبكى وسقط على أريكة البهو مجهدًا، وكلمة "تحلُّل" عادت تجول في رأسه.
كل يومين أو ثلاثة يأتي في الوقت المناسب للحديث، وبطريقة أو بأخرى، وباقتضاب، لتأكيد رسائل إدريس تكرار. في هذه الأثناء يُخرِجه للمشي، يصعد به نحو مقهى الهداهد، أو يجلس وإياه في حديقة منزل الصمت أو في البهو، أو يشرح له طرق استخدام المغسلة ومكنسة النفايات الآلية وأضواء الحديقة وحوض السباحة. كان يعده للإقامة الطويلة في منزله. وكما في شقة فندق المألوف الخارق كان حوض السباحة والحديقة أيضًا لا يزالان فائضين عن حاجة نذير راحل عبد الرحيم.
سأل عن زمن المرحلة الثانية فعرف أنها ثمانية عشر يومًا.
في اليوم السابع من المرحلة الثانية هذه عرَّج عليه في الوقت المناسب، جلب مزيدًا من قحوف الإكسير وقواريره ومن سيجار الماريوانا. وقال إن أكثر ممَّا تتخيَّل انشق عن معمل البشر عابر الزمان والمكان واتصل بالمعارضة وغادر إمبراطورية الأرض إلى إمبراطورية معادية وصرح بشائعات مغرضة بشأنه.
بشأني أنا؟
نعم سيدي.
اقتضب في الوقت المناسب حديثه عن أكثر ممَّا تتخيَّل، ولم يُبِنْ أكثر من ذلك، وقال لنذير راحل عبد الرحيم إنه يُقدِّر ميله إلى العزلة وحاجته إلى الهدوء والاسترخاء، كي يركز في قراءة مواد العقد التي مهما بدا ظاهرها مجحفًا فجوهرها عميق وجوهري يوفر له شروط استقرار ورفاه يحلم بها أغلبية سكان إمبراطورية الأرض بل وإمبراطوريات الكرة الأرضية ودولها وأقاليمها قاطبة، لذا عليه أن يتأنى ويتخذ القرار الذي لن يندم عليه أبدًا!
لم يضع نذير راحل عبد الرحيم العقد في حسبانه، لم يكمل قراءة مواده. كان كأنه ينتظر حدوث أمر لا يعلم ما هو لكنه يتوق إليه بشدة. كانت الساعات تمر وحاصدو التين الأربعة يمرون كل ظهيرة وزوال، وعلى الشاكلة نفسها كانت الأيام تمر.
في اليوم الثاني عشر، عندما كان واقفًا على شرفة منزل حي الصمت، وآخر خيوط النهار على وشك أن يضمحل في عتمة الغروب، بأكياسهم الممتلئة رآهم عائدين. وقفوا قبالته، هناك أسفل التل. لم يلوِّحوا، لم يصعدوا التل كعادتهم، بل، وبحركة مسرحيَّة غير متوقعة، انحنوا له انحناءة توقير أدرك في الحال أنها إشارة طمأنة يقتضيها انعدام أي وسيلة اتصال أخرى متاحة، واستولى عليه أمل مباغت أشاع فيه سلامًا غريبًا، وبينما كان تحت تأثير ما تعاطاه من الإكسير والماريوانا طيلة نهار اليوم وفجره والليلة البارحة أخذ يفكر في كل هذا ودقات قلبه تتسارع، وما لبثوا أن رفعوا رؤوسهم، وسمع أولهم، الرجل الذي خمَّن أنه أبو الطفلين وزوج المرأة، يصيح به: لا تتحرَّك؛ وأخرج من كُمِّه نشَّابةً وأطلق نحوه سهمًا. وطاع نذير راحل عبد الرحيم الأمر فلم يتحرك، ورأى السهم يخترق بداية العتمة ويضيئها بنقطة نور لا يراها إلاه ويقبل تُجاهه مسرعًا، وحالما أصبح قريبًا منه انفجر ورذَّ رحيقًا فاحت منه رائحة حنين طاغية لا تقاوم ما أسرع ما تمكنت منه. كان يصغي لصوت الانفجار العذب الذي أحدث وقعًا يشبه تمامًا صوت انفقاء فُقَّاعة. عندئذٍ أخذه الحنين بأكمله، ورأى ماء يسقط من صخرة ويجري في ماء أغزر، وسمع خريرًا، ورأى قوس قزح كبيرًا ينشر ألوانه على مدى سماء رحبة، الأحمر من الخارج، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق فالأزرق الغامق وأخيرًا البنفسجي، وكان سعيدًا إلى درجة أنه توهَّم أنه مات!
5
منزل التأمل
وجد نذير راحل عبد الرحيم نفسه بين يدي شخص مقنَّع أطول منه بقليل.
أفق سيدي. لا بد أن نهرب في الحال.
من كيس كبير أخرج الرجل آلة جعل يمسحه بها عن بعد دون أن يلمسه. تعتيم فراغي يُحدِث هالة ذبذبات غير مرئية حولك ويعكس طبيعة المشهد المألوف وحده دون أي جسم بشري، وباختصار فإنه يمنع كاميرات المراقبة من تصويرك، قال المقنَّع لاهثًا، واستطرد فورًا: لا تقلق سيدي، إنه إجراء احترازي ليس إلا فقد عطلنا عمل الكاميرات سلفًا. اتبعني فقط، هيا بنا، الوقت يداهمنا.
قاد الرجل الذي يرتدي قناعًا ويحمل كيسًا كبيرًا ونشَّابة نذير راحل عبد الرحيم من يده، خارجًا به من الشرفة جهة البهو.
هيا بنا.
على عتبة منزل الصمت رأى نذير راحل عبد الرحيم في الوقت المناسب ساقطًا على وجهه وكان يبدو فاقد الوعي. وكان في نواح متفرقة من الفناء ما لا يقل عن خمسة حراس آليين، عرف بوجودهم الآن فقط، مكبوبين على وجوههم، معطلين عن الحركة تمامًا، تحت نافذتي الغرفة اللتين لم يفتحهما قط وعند زاويتي السور الخشبي المشرف على ممشى مقهى الهداهد. وكان هناك خمسة رجال وأربع نساء يرتدون زِيَّ عمال موحَّدًا وليس بينهم من اعتقد نذير راحل عبد الرحيم أنهم زوجة الرجل المقنَّع وابناه. فضلًا على ذلك كان هناك سور إضافي أعلى ارتفاعًا يحجب منزل التأمل عن الرصيف الذي يقود إلى أعلى الهضبة ومقهى الهداهد. انحنى الرجل المقنع على في الوقت المناسب، وبسرعة فتَّشه وصادر كل ما في جيوبه، وبحركة سريعة بواسطة جهاز عطل ما يعمل إلكترونيًّا، حمل كيسه على ظهره، ضم نشَّابته المطاط بقبضة إحدى يديه وصعد الهضبة بهدوء ونذير راحل عبد الرحيم في إثره.
انحرفا عن طريق مقهى الهداهد ميممين جهة البحر.
صعدا وانخفضا والبحر عن يسارهما وعن يمينهما منازل غارقة في العتمة والصمت، بعضها منار ومن بعضها تُسمَع موسيقى، وربما من حانة قريبة بلا نوافذ وأسوار يعلو لغط نقاش متحمِّس. صوت خطوات خلفهما لامس سمع نذير راحل عبد الرحيم. كانت عيناه على الرجل المُقنَّع الماشي أمامه، ولما كانت العتمة تشتد أخذ يحثُّ خطاه على تقصير المسافة بينهما كي لا يُضيع أثره.
إنهم حاصدو التين سيدي. كن هادئًا والعناية الإلهية تحرس دربنا.
ما تفوَّه به المقنع بدا متأخرًا لنذير راحل عبد الرحيم، ثم أدرك أن الموقف ليس سهلًا وأن صاحب النشابة يقصد الخطوات التي تتبعهما الآن.
اكفهرَّ الليل ومحا معالم الطريق المنحدرة نحو سفوح الهضاب.
عصفتْ ريحٌ وأزَّتِ الأشجارَ وأوعيةَ القمامة الآلية على جانبي الرصيف. أرعدت السماء وأبرقت وفي غمضة عين سحَّت وابلًا مباغتًا جعلهم يستحمون في ثيابهم. نهزة خفيفة على ظهر نذير راحل عبد الرحيم. التفت، ناولته الطفلة مظلة مفتوحة أمسك بها ثم رآها تفتح مظلتها. لم تكن ترتدي قناعًا وكذلك شبحا الولد والمرأة اللذان أضاء البرق وجهيهما وراءها. لقد ظهروا فجأة مثلما اختفوا فجأة بعد صرخة الأب وأمره بألا يتحرك، بيد أنه الآن أسلم أمره إلى حسن طويته وغرابة كل هذا؛ هل يريدون إجراء تجارب أخرى عليه أم ماذا؟ من هؤلاء؟ ليكن ما يكن؛ عندما يواجه المرء موقفًا حازمًا فإنه ينساق إلى قدره فحسب، قال في نفسه، راضيًا أو رافضًا، قابلًا أو مجبرًا سيلقى ما ينتظره، وماذا بإمكانه أن يفعل؟
أغذُّوا في سيرهم.
أنار البرق خُفّ نذير راحل عبد الرحيم المنزليَّ المطَّاط؛ كان يرتديه وسروالًا وقميصًا حريريين ثقيلين لاتقاء هواء الشرفة البارد فما الذي حدث؟ سأل نفسه، والمظلة فوق رأسه وووابل المطر ينصب فوقها بقوة. حنينٌ إلى زوجته تقوى مثلَ حَيَّةٍ كان يزحف داخله. كان قد استعاد ذاكرته الدنيوية الأولى.
توقَّف المطر.
هدأت الريح.
وبينما كانوا يوغلون في مسيرهم انسدَّ أفق البحر. رفع نذير راحل عبد الرحيم رأسه فسمع أصواتًا تأتي من أعلى! إنها واحدة من سفن المهاجرين، قال الرجل الماشي أمامه.
بعد مشي طويل انزاح هيكل سفينة المهاجرين، وتلاشت أصواتهم، وعاد الهواء يتسرَّب من صوب البحر.
انحدر بهم رصيف ضيق نحو سفح هضبة شديد الانخفاض. مشوا حتى أصبح موج البحر ينكسر تحت أقدامهم، ثم نزلوا درجات حجرية قادتهم إلى مرسى زورق صياد. كان مصدر الضوء الوحيد يأتي من قعر الزورق، وكان شحيحًا بقدر بالكاد يكفي لتبين أشباحهم.
تخافتوا ببضع كلمات. قال الرجل صاحب النَّشَّابة هامسًا: منزل التأمل. قال الصياد: خلال خمس عشرة ثانية سنصل الضفة المقابلة.
اقترب صاحب النشابة من نذير راحل عبد الرحيم. منذ زمن طويل كان قد أزال قناعه ووضعه داخل كيسه الكبير ووضع الكيس على ركبتيه غير أنه أبقى في يده النشابة المطاط المرنة القابلة للطي، وكان نذير راحل عبد الرحيم يحملق إلى ظلال حركته. كان رجلًا يقظًا، شديد الحذر، فيه شيء من الغِلظة وفي الوقت نفسه بدا له هادئًا. عند أذنيه همس بنبرة كافية لأن يسمعها: سيِّدي ردد في ذهنك كلمة واحدة فقط: هناك! كل ما يحدث في رأسك أطلق سراحه، دعه يأتي ويذهب كيفما شاء، وردد في داخلك بيقين: هناك، هناك، هناك. إنك في أمان.
الآن كلهم أصبحوا قربه أو قبالته يتحسَّسون لأرجلهم مواطئ مناسبة في بطن الزورق لكن الظلمة المطبقة حالت دون أن يتبيَّن وجوههم بوضوح. أطفأ الصَّيَّاد ضوء القعر الخافت، وبحنكة الخبرة وحدها شرع يقود زورقه تحت السماء المثقلة بالليل والغيوم.
فكر نذير راحل عبد الرحيم أن صوت محرك الزورق يكاد لا يُسمع خلافًا لقوارب الصيد التي كانت في بلدته سداب، وكان الصخب الصادر عن تكسُّر الأمواج على مقدمة الزورق وجانبيه وحده يصل واضحًا. حين بدأ الحنين إلى زوجته تقوى يجرفه من جديد ردَّد في نفسه: هناك، هناك، هناك!
وصل الزورق. ودَّعوا الصياد.
مسترشدين بمصباح يد يحمله الرجل صاحب النشابة بالكاد ينير معالم الطريق صعدوا مِرقاة خشب مثبتة بعُقَدٍ من الحبال وَضَعَتْ أقدامهم على جسر خشبي قصير أسلمهم إلى الضفة الأخرى. كان واضحًا لنذير راحل عبد الرحيم أن المرقاة والجسر مُعمَّيان عن أنظار من لا يطرق هذه النواحي. مشوا بموازاة أجمة يعلو فوقها صف من نخيل جوز الهند، ثم واصلوا مشيهم على رصيف مبلط ومنار وعن يمينهم أجمة من أشجار القُرْم حجبت عنهم البحر، بيد أنهم انعطفوا عن الرصيف المنار، ومتَّبعين ما يفعله الرجل صاحب النشابة بأيديهم فتحوا ثغرة في الأجمة، وببطء شديد توغَّلوا، صامتين، غارقين في كثافة الظلمة، مزيحين سيقان الأشجار وأوراقها، وأقدامهم تخوض في ماء المدِّ، ومصباح اليد بين لحظات متقطعة يرسم أمامهم موضع الخطوة الآتية، حتى نفذوا إلى شاطئ، وأصبحت الضِّفَّة التي جاؤوا منها قبالتهم تتوهج أنوارها الآن هناك في الطرف البعيد الذي يفصلهم البحر عنه، وانعطفوا يسارًا محاذين البحر، وبعد قليل من المشي انعطفوا يسارًا مرة أخرى داخلين معبرًا منارًا بمصابيح خافتة أغصانُ أشجاره العالية تُعرِّشه وتُعرِّش جانبًا من البحر، مشوا فيه خطوات. هناك، هناك، هناك. وأخيرًا جلسوا على مقعد شبه مستدير على مدخلِ ما ظنه نذير راحل عبد الرحيم نُزُلًا. كان هناك رجل بطول صاحب الرداء الأحمر إدريس تكرار والرجل الصارم أكثر ممَّا تتخيَّل يجلس على أحد طرفي المقعد بادره الرجل صاحب النُّشَّابة بالتحية والحديث قبل جلوسهم وبعده.
مرحبًا متأمل.
مرحبًا مهما يكن.
كما تعرف، من أجل إضعاف صدمة الحنين كان لا بد من المشي الطويل وتبديد شحنتها جسديًّا.
إنها تقارب العاشرة.
يبدو أن الأمر استغرق أكثر من ثلاث ساعات.
التقطوا أنفاسهم. كانت ثيابهم لا تزال مبللة بالمطر. أحاط نذير راحل عبد الرحيم المدخل والمعابر الحجريَّة وسواقي الفناء وظُلَلَهُ ومقاعد زواياه بنظرة مخمِّنة. لعله نُزُل. رائحةُ المطر ـالذي ما زالت بقاياه رطبة تنبعث من التراب والأشجارـ والضوءُ الخافت المنعكس على المكان، أكسباه حميمية أشعرت نذير راحل عبد الرحيم بأنه جاء إلى هنا من قبل، مع أنه واثق أن ذلك لم يحدث قط، لا في حياته الدنيوية السابقة ولا في حياته الأخرى ولا في حياته هذه ولا حتى في حلم. إنه شعور ينشأ الساعة داخله، وفي لا وعيه يعلم أنه سوف يتعلَّقُ هذا المكانَ. حرارة الفكرة أيقظت في أنفه رحيق الحنين. بغض النظر عن جلبة حديث هؤلاء الناس، وكما في منزل الصمت، بدا له هذا المكان أيضًا غارقًا في الصمت. ساقت الريح إليه رائحة ريحان خدَّرت ذاكرته. عند قدمي متأمل كان هناك كلب نائم باسط ذراعيه قربه مِيلَغٌ من الفَخَّار عليه بقايا طعام. هناك، هناك، هناك، ووجد نذير راحل عبد الرحيم نفسه في قبو، وكما حَدَسَ كانوا فعلًا يُسمُّونه قبوًا لكنه ليس قبوًا بالنظر إلى أن معظمه بُني على الجانب المنخفض للمنزل، الجانب الموازي للسِّياج الخلفي الخشب المغطى بالأشجار، بحيث إن الداخل إليه يُباغَت بسلالم تهوي به إلى مطبخ محصَّن من التأثر بالمطر وأشبه ما يكون بمَعْقِل اجتماع سري! على هذا النحو أخذته الأفكار وصورٌ من الأفلام التي طالما حشا الرجل الآلي دليل وقته بها في شقة فندق المألوف الخارق تتداخل في رأسه.
المُجفِّف، قال متأمل. دخلوا جميعًا غرفة زجاجية تحت سلالم القبو أذكت إحساس نذير راحل عبد الرحيم بغرض خفيٍّ أنشئ من جرائه هذا المكان، وما هي سوى لحظات حتى جفَّت ملابسهم وأجسادهم وتدفأوا وخرجوا.
قال الرجل صاحب النشابة: سيدي، إن حالك لا تسمح بالشرح والإسهاب إنَّما كي تكون على بيِّنة من أمرنا.
قال متأمل: سوف آتي بمعالج. وأخذ يصعد مراقي القبو.
قال الرجل صاحب النشابة: أين ذهب؟
قال متأمل: أظنه في إحدى الغرف أو على الشاطئ.
استطرد صاحب النشابة: سيدي، كي تكون على بينة من أمرنا دعني أُعرِّفك من نكون. اسمي مهما يكن. هذه زوجتي لا أثر. هذه ابنتي إبهام وهذا ابني تدبير. نحن الأربعة نملك شركة تحرير رهائن سرية غير ربحية. راقبناك منذ اليوم الأول لسكنك في حي الصمت سيدي. هدفنا من إنقاذك إنساني بحت. الرجال الخمسة والنساء الأربع الذين رأيتهم خارج منزل الصمت ينتمون إلى شركة تحرير رهائن أخرى، وكان دورهم التعتيم على المارِّين قرب منزلك، وإحباط أي إسعاف مناوئ من جانب إدريس تكرار، وذلك بالتظاهر بأنهم عمال صيانة. لم تكن عملية تحريرك سهلة سيدي لكنها تكلَّلت بالنجاح وانقضت في وقت قصير. الحكاية طويلة، دعنا منها الآن.
أين نحن الآن؟
في منزل التأمل سيدي.
صمت نذير راحل عبد الرحيم وكأنه يعرف منزل التأمل! كان مطمئنًا، وكان ذلك كافيًا له.
هبط متأمل سلالم القبو وخلفه شخص آخر عملاقٌ بدينٌ عندما نزل آخر درجة وقف، تهدَّلت شفته السُّفلى وتدلدل لُغْدُه وأخذ يلهث، نفخ، خطا نحو الثلاجة الكبيرة داخل القبو، أدخل يده فيها وملأ فمه بقبضة عنب، كَزَمَها، هرسها حتى سالت على زاويتي شفتيه، مسح البقايا بكمه الطويل ثم حدق إليهم سائلًا: أين المريض؟
ضحك مهما يكن ولا أثر وإبهام وتدبير ومتأمل ونذير راحل عبد الرحيم أيضًا.
آه، أنت المريض إذًا يا سيدي!
قال مهما يكن: معالج، ألم أناشدك ألا تسكر اليوم؟
لقد تأخرتم ومضى اليوم. في أيِّ حال دعنا نَرَ.
من جيبه أخرج معالج أداة ألبس أسلاكها معصم نذير راحل عبد الرحيم. انتظر وقتًا حتى أصدرت ضوءًا أخضر.
إنك على ما يرام سيدي. نبض قلبك أسرع بعض الشيء مما ينبغي لكن لا شيء يدعو إلى القلق.
مقارنة بما رآه نذير راحل عبد الرحيم في الأيام الماضية بدا له هذا الفحص الطبي بدائيًّا جدًّا كما كان الحال في مركز مسقط الصحي في حياته الدنيوية الأولى قبل 985 سنة. تذكر أحد بنود العقد، وكلمة التَّحَلُّل. تقلقل في جلسته على أحد المقاعد الخفيضة لطاولة الطعام المرتفعة. هناك، صاح في سره كي يتحاشى فُوارَ الحنين. مع ذلك فإنه منذ ثلاثة وثلاثين يومًا اليومَ فقط أنس بصحبة من حوله وذهب بعضُ وحشته. لم تذهب وحشته كلها، وإذا فعلت لحظةً عادت لتخبطه. تذكر الرجل الآلي دليلًا وبركة العراة وأسماك القرش ونظراتها العدوانية وهي تسبح مسرعة نحوه. تذكر في الوقت المناسب وسيجار الماريوانا وأقحاف الإكسير. لقد استأصلوا ذاكرته ومهما يكن وأسرته أعادوها! كان لا يفهم ما حدث بدقة، أأولئك أزالوا منه مرضًا وهؤلاء زرعوه فيه؟ كان يهذي وهو يستعيد عافيته المرهَقة. تنفس الرحيق مرة أخرى واستسلم لراحة مفاجئة غامضة، وتذكر فقاعة النشابة عندما انفقأت أمام عينيه. كان عَطِشًا، جائعًا، مكدودًا من عناء المشي والحنين.
جلس معالج ومهما يكن وتدبير على مقاعد ذات قوائم عالية بينما كانت مقاعد نذير راحل عبد الرحيم ومتأمل ولا أثر وإبهام واطئة على ارتفاعات مختلفة. الذين في الأعلى كانوا يضعون أيديهم على الطاولة الكبيرة، ولم يفهم نذير راحل عبد الرحيم كيف سيبلغ والجالسون قربه الطاولة العالية وهم على هذا المستوى المنخفض. قام متأمل ومهما يكن ولا أثر وفتحوا الثلاجة الكبيرة التي فكر نذير راحل عبد الرحيم في سره بأنها تحتل مساحة سبع ثلاجات من التي كانت في حياته الدنيوية الأولى وبقدر ثلاجتين ونصف ثلاجة من تينك اللتين كانتا في شقة فندق المألوف الخارق ومنزل الصمت، وشرعوا في تدوير آلات إعداد الطعام ووضعوا الصحون والأدوات على الطاولة، وحالما أصبح كل شيء جاهزًا جاء متأمل ووضع إحدى يديه على كتف نذير راحل عبد الرحيم وبالأخرى ضغط زرًّا على جانب مقعده فارتفع حتى مستوى سطح طاولة الطعام، وكذلك فعل أصحاب المقاعد المنخفضة ومدُّوا أيديهم إلى الطعام. شربوا قليلًا من النبيذ وقرعوا الكؤوس احتفالًا بإنقاذ نذير راحل عبد الرحيم.
قالت لا أثر: سيدي، إنك مدمن على تدخين سيجار الماريوانا وشرب أقحاف الإكسير. خَجِلًا نظر إليها نذير راحل عبد الرحيم. لقد كانوا يراقبونه طوال الأيام ألاثني عشر الماضية، لكن حقًّا كيف فعل كل ذلك؟
استطردت لا أثر: هل كنت تدخن وتشرب بهذا الشَّرَه في حياتك الدنيوية الأولى؟
نغز الحنين نذير راحل عبد الرحيم ورسم على وجهه ابتسامة شاحبة. تلعثم وأجاب: لا، لم أكن أدخن ولم أشرب سوى القهوة والشاي والحليب واللبن وعصير الفواكه وجوز الهند.
قال مهما يكن: كانت خطتهم الاحترازية أن يجعلوك مدمنًا.
قال معالج: ذاك ما يجب أن يسعى إليه بكل جوارحه.
قال متأمل: إنه يمزح سيدي.
ضحكوا. تذكر معالج شيئا، تحسَّس جيبه وأخرج قارورة بها خليط أعشاب: هاك سيدي، كدت أنسى، صب الخليط على طبق الحساء، وأرجوك اشربه في الحال قبل أن آتي على ما تبقَّى من نبيذ التين.
أنا أحبك سيدي، قالت إبهام. حين التفت إليها نذير راحل عبد الرحيم ابتسم، انشرح، وأحس بأنه نأى فعلًا عن خطر إدريس تكرار، مسح شعرها وسألها عن دورها في عملية إنقاذه.
الإبهام سيدي.
ماذا تعنين؟
قبل أن تمحو أمي أدنى أثر يدل على سلوكنا الطريق إلى هنا كنتُ قد أوهمتهم بآثار أخرى تسلك نواحي معاكسة.
ربما لهذا السبب لم أرك عندما أخرجني أبوك من منزل الصمت.
نعم سيدي، وكذلك أمي وأخي تدبير، كنا حول المنزل.
هل تدرسين؟
إنني وتدبير مهندسا كمبيوتر سيدي. في الصيف المقبل سأنهي الطور الثالث عشر من الخطة الدراسية الممهدة للتخصص الاستقصائي الإبداعي في علوم الكمبيوتر.
قال تدبير: إنها تسبق دراستها بسنوات سيدي.
وكذلك أنت، قال متأمل.
شيئًا فشيئًا كانت ألفةُ الحديث والطعامُ والرِّفقةُ الحميمة تُسكِّن غُلواءَ ذاكرة نذير راحل عبد الرحيم الدنيوية الأولى، وصدمةَ إعادة خلقه، وتَدَافُعَ الخوف والقلق اللذين يجوبان روحه. تذكر بنود العقد مرة أخرى، ودون سبب واضح أيقن أن مصيره قد تقرَّر بعيدًا عن ذلك الرُّعب. لقد نجا، قال في نفسه، مترددًا بين الشك واليقين، ففي نهاية المطاف فإن ما حدث منذ السابع من يناير وحتى اليوم أشبه بكابوس يُكرِّس كوابيس لا يستطيع الاستيقاظ من رعبها مع أنه، كما في هلع النائم، يعلم أنها تخنقه.
قبيل حلول منتصف الليل كان قد رأى منهم وسمع ما يكفي لأن يزداد اطمئنانًا إليهم.
انسحبوا من القبو.
في المدخل كان الكلب لا يزال نائمًا قرب المقعد الخشب ومِيلغه فارغ. توادعوا. انصرف مهما يكن ولا أثر وإبهام وتدبير نحو منزلهم الذي قالوا إنه في الجوار، وفي إثرهم مشى معالج متطوِّحًا صوب منزله القريب أيضًا. أخذ متأمل نذير راحل عبد الرحيم إلى صف غرف في طرف المنزل أبوابها ونوافذها الكبيرة تطل على دهليز أسفله حديقة صغيرة مزروعة بدالية عنب وشجرتي أناناس ورمان، وسيَّجت الإطلالةَ أجَمَةٌ فصلت منزل التأمل عن أحياء الضفة. أدخله متأمل غرفة صغيرة، وضع على سريره ملابس نوم نظيفة قال له إنها جديدة على قياس إبهام التي تُدانيه في الطول. أرشده إلى المرحاض وانتظره في الدهليز، وبعدما أعاده إلى الغرفة ثانية رجاه إن احتاج إلى شيء في أي وقت أن يكبس زرًّا أسفل المصباح الذي على جانب السرير.
خلع نذير راحل عبد الرحيم منامته الصوف المجففة من ماء المطر، وارتدى الجديدة، ودفن نفسه تحت الغطاء الدافئ، وسرعان ما فترت حواسُّه وغلبه النوم.
في العاشرة صباحًا طرق متأمل باب غرفته، ومباغتًا بمرآه قال: صباح التأمل! إنك في الثمانين سيدي! ناوله فرشاة أسنان ومعجونًا، وضع عند قدميه خُفًّا من المطاط أكثر سماكة من الخف الذي استهلكه مشي البارحة، وقاده ثانية إلى دورة المياه المشتركة. خذ راحتك سيدي. سوف أنتظرك على مقعد الفناء.
عندما وقف أمام مرآة المغسلة ورأى آثار شيخوخة الثمانين تغزو وجهه وحاجبيه ولحيته وشاربه اللذين بالكاد نبتا منذ حلقهما قبل أيام في منزل الصمت فهم ما عناه متأمل.
كان متأمل يحادث الكلب. بمشية العجوز الثمانيني مشى نذير راحل عبد الرحيم، محدثًا بخفه المطاط الجديد صوتًا بالكاد يسمع حين يرفع قدميه ويخفضهما على مسالك الحجر والخشب المتصلة ببعضها بعضًا في منزل التأمل، حتى جلس قرب متأمل على مقعد المدخل على مرمى نظرة من شاطئ جزيرة الهضاب من هذه الجهة التي سيقول له متأمل في حديث من أحاديثهما الطويلة إن سكانها صيادو أسماك، وعمالُ منتجعاتٍ سياحيةٍ ومالكوها، وأسرٌ منها أسرة مهما يكن، وبضعةُ أطباء كمعالج، وموظفون.
كانت الشمس مشرقة والهواء باردًا في يوم الأحد الثامن من فبراير، اليوم الثالث والثلاثين على بعث نذير راحل عبد الرحيم. تذكر مشواره اليومي على شاطئ بحر سداب، وسكك الحارة التي تقود إلى بيته، وأشرف، الحلاق الهندي الذي كان يهذب لحيته وشاربه كل شهر، ومسجد حارة الساحل الخاوي من رفاق عمره المسنين الذين مات أكثرهم أو أصبح طريح الفراش في بيته، وتذكر رغبته في الذهاب للصلاة في المسجد حينما كان بين يدي فريق معمل البشر عابر الزمان والمكان. لم يقاطع الحديث الخافت بين متأمل والكلب. كان متأمل يقول شيئًا ما للكلب، ويرفع يديه شارحًا كأن صورة مقصده ستتجلَّى للكلب! في هذه الأثناء رفع نذير راحل عبد الرحيم رجليه المتدليتين، وتربَّع على المقعد الكبير مثل متأمل، وشعر بألم عند ثنيه رجليه تحت فخذيه.
نظر الكلب نظرة شفقة نحو نذير راحل عبد الرحيم وطرف بعينيه.
قال متأمل: صباح التأمل أخي نذير. بالأمس كنتَ شابًّا في الثمانين واليوم أنت شيخ في الثمانين. وضحك. ضحك نذير راحل عبد الرحيم أيضًا، وصمت في أعماقه لحظةً، وخالَ هجْمةَ حنينٍ ساقتْ صوت أحدِ سكَّان حارته في سداب، فما من أحدٍ من بشر عام 3000 قال له يا أخي من قبل، ولا حتى متأمل نفسه، وتذكَّر الرجل الصارم أكثر ممَّا تتخيَّل. لو أنه هنا الآن لأجابه عن سؤاله دون أن يتفوه به! هل يعرف متأمل ومهما يكن ولا أثر وإبهام وتدبير والصَّيَّاد ومعالج ما يدور في رأسه ويتذكره؟
وأحسبُك، استطرد متأمل، وأنت في الثمانين يا أخي، نلت من الحكمة نصيبًا يكفي لتتأمَّل وتدرك. أعلم أن في نفسك كلامًا وأسئلة. أرى هذا في ملامح وجهك.
تعلم ذلك؟ تراه؟ ماذا تقصد يا أخي متأمل؟
إنك دائم التفكير. بالك مشغول.
قاطعه نذير راحل عبد الرحيم: إن سمحت لي ـقالَ وصَمَتَ لحظاتٍ كأنه صرف النظر عن قول ما أراد قوله ـ في نفسي سؤال لا أعرف كيف أسألك إيَّاه.
اسأل ما شئت أخي نذير. لا بد أن تعرف لتُبدِّد الغشاوة التي تحجب عنك إدراك وجودك في هذه اللحظة من الزمن. أرجوك لا تتردد في طرح أي سؤال. أنا هنا رفيق وأخ. أعددت لك برنامج تأمل أثق أنه سيجلب لنفسك السكينة والسلام والرضا، والآن اسأل عما تشاء وسوف أجيبك إن كان لديَّ ما يسعفني من معرفة.
عندما قلت إنني دائم التفكير هل قصدت أنك تعرف ما أفكر فيه؟
إطلاقًا لم أقصد ذلك لكنني أفهم سؤالك تمام الفهم. إنك تقصد جهاز تكرار الذي كان مزروعًا فيك ويعرف من خلاله معمل البشر عابر الزمان والمكان كل ما تفكر فيه. ذلك ما يسمونه هم التقدم والحضارة، وهناك أكثرية تعارضه وتفضحه وتحذر من الوبال الذي يقود البشرية إليه، فهو بإيجاز يساوي بين الإنسان والآلة ويُصادر حريتك. رحيق نشابة مهما يكن استأصل جهاز تكرار من خلايا دماغك، وما عادوا يعرفون أين أنت ولا ما تفكر فيه. لقد فقدوا أثرك نهائيًّا، ولهذا السبب عادت ذاكرة حياتك الأولى، ولعلها، حسبما فهمت من معالج ومهما يكن، تعود إليك تدريجًا وليس مرة واحدة، وأرهقك الحنين وسوف يستمرئ فيك. هنا تذكر نذير راحل عبد الرحيم زوجته تقوى، وصخبت في أذنه رقرقة ماء لحظةً خاطفةً وتوارت. وكان متأمل مستمرًا في حديثه: لكن التأمل سيأخذ بيدك قليلًا قليلًا نحو السلام والسكون والصمت العميق. بعد تفكيرِ أكثر ممَّا تتخيَّل ومهما يكن ومعالج وصديقته الطبيبة النفسية تريُّث قرروا أن لا علاج طبيًّا يجدي في حالتك، وأن التأمل هو الخيار العملي الوحيد عند النظر بعمق إلى كونك موجودًا في هذه اللحظة من الزمن على هذا النحو المرعب الباعث على الجنون. المسألة قبل كل شيء عَبَثٌ بعالم الأرواح.
كان نذير راحل عبد الرحيم يصيخ لمتأمل ويحدق إلى وجهه المسالم. برغم أن الجو يميل إلى البرودة كان متأمل يرتدي رداءً خفيفًا وسروالًا حتى منتصف ساقيه. كانت ضفة جزيرة الهضاب هذه تختلف عن الضفة الأخرى حيث منزل الصمت الذي عاش فيه نذير راحل عبد الرحيم ثلاثة عشر يومًا، فبينما تقترب تلك الضفة من اليابسة ويتأثر مناخها بالظروف الجوية في العاصمة قبضة الحديد يبدو مناخ هذه الضفة استوائيًّا ومعتدلًا إلى حد بعيد.
تلفَّت نذير راحل عبد الرحيم يمنة ويسرة وخلفه مقاطعًا متأملًا: هل قلت أكثر ممَّا تتخيَّل أيضًا؟
نعم. لا تخش شيئًا، أنت في أمان تام. عندما يأتي مهما يكن سوف يخبرك بقصة أكثر ممَّا تتخيَّل.
نسمة باردة لامست أنف نذير راحل عبد الرحيم أيقظت فيه من جديد رائحة رحيق الحنين التي انفجرت من نشابة مهما يكن.
وتلك الرائحة أخي متأمل؟
أي رائحة؟
التي انفجرت من نشابة مهما يكن عندما أطلقها عليَّ أمس.
إنها رحيق الحنين، وهي السلاح السلمي الأساس المعتمد في عمليات مهما يكن، مصنوعة من خليط نبات عطريٍّ مهدئ ومرخ للأعصاب؛ ريحان وياسمين ونعناع وخُزامى وأنواع وردٍ أخرى، وكذلك يتكون الرحيق من لُبان وزيوت متطايرة ومن صمغ الزانثان وجذور بعض الفواكه والفلفل الأسود، وكل هذا ممزوج بمادة مخدرة رطوبتُها تنشر ندًى على مساحة يبلغ محيطها عدة أمتار، وبسبب تصنيعه الدقيق ينجذب الندى آليًّا نحو الدوائر الكهربائية والأسلاك ويعطلها عن العمل.
ياله من رحيق! سؤال أخير لو سمحت أخي متأمل، إذا كانوا قد استأصلوا مني جهاز تكرار فلماذا ما زلت أفهم حديثكم جميعًا فرادى ومعًا وأحدثكم وتفهموني؟
إنك تخلط بين شيئين. لديك معلومات متضاربة ومضللة. أنت الآن إنسان طبيعي كما كنت في حياتك الأولى عام 2015، لكن كونك مخلوقًا في ذلك العالم الدنيوي الغابر يحد من قابليتك للحياة في عالم مستقبلي ظروفه مختلفة ومتقدمة، عالم وُجِدْتَ فيه قسرًا بفعل معقد ليس سهلًا شرحه ويجرمه مجلس حكماء الأرض وتُجرِّمه الأخلاق والنواميس والمواثيق والإنسان المدرك لإنسانيته. جهاز تكرار تدينه كل منظمات حقوق الإنسان ورابطة الأطباء المستقلين التي ينتمي إليها معالج وما يدخل في إطارها. إعادتك إلى الحياة بالإجبار يا أخي أصبحت قضية دافعت عن حقك في معارضتها أيضًا حركة حماية حق الإنسان في الموت التي قد يلتبس عليك فهمها، لكنها حركة حديثة العهد نشأت قبل مئة وعشرين سنة، مناهضة لتجارب معمل البشر عابر الزمان والمكان في ما يتعلق بالاستنساخ، حيث أصبح الواحد من السياسيين والعسكريين خصوصًا يستنسخ من نفسه شبيهين يذهب أغلبهم ضحية تصديه لخصومه، ناهيك عن أن الأمر في نهاية المطاف عبوديَّة مُقنَّعة. قبل خمس سنين بذلت هذه الحركة جهودًا جبارة في محاولة إنقاذ هتلر كلها باء بالفشل، واعتُقل عدد كبير من أعضائها إبَّان المحاولة وفي إثرها، مع أنها حركة نزيهة غير ربحية تعارض استخدام العنف. في الحقيقة إن التجريم لا يطال معمل البشر عابر الزمان والمكان وحده بل أيضًا إمبراطورية الأرض، وحلفاءها من الإمبراطوريات الأخرى، وكل دول هذا العالم التعس الذي، يا أخي نذير، منذ تركته قبل 985 عامًا وحتى الآن وهو يصول ويجول في اختراع الشر والحرب والاستبداد وآلات الأذى والبطش والقتل، ويسمون كل هذا حضارة! حرموا الناس متعة العيش بسلام وفرح وصنعوا الأمراض ووسائل الدمار وأبادوا البشر بها. عدد سكان العالم الآن يبلغ ثلاثة مليارات فقط وليس كما كان في حياتك الدنيوية الأولى. الحديث يتفرَّع ويتفصَّل يا أخي وأمامنا متسع من الصحبة والوقت. آه، كدت أنسى الإجابة عن سؤالك، هناك فرق بين المعجم وجهاز تكرار. أنت تفهمنا ونحن نفهمك مع أن كلًّا منا يتحدث بلغة مختلفة، والسبب في هذا هو المعجم. المعجم يُغذِّي مسارات التواصل بين عصبونات الذاكرة ولا يمحو شيئًا منها، بل كلما استخدمته أكثر أضاف خبرة إلى تجربة ذاكرتك المستخدَمة. يُحقَن به الإنسان أو يتناول حبوبًا أو يُزرع إشعاعيًّا، وهذه الطريقة الأخيرة مجرَّمة عالميًّا، وهي التي جُرِّبت عليك في معمل البشر عابر الزمان والمكان. بإيجاز يا أخي نذير فإن جهاز تكرار والمعجم كليهما زُرِعا فيك إشعاعيًّا. إمبراطورية الأرض زرعت جهاز تكرار إشعاعيًّا في عدد غير قليل من المعارضين وحولت حياتهم إلى جحيم. رحيق الحنين نزع منك جهاز تكرار وليس المعجم، والسبب أن الأول قابل للتفتت بواسطة بعض مواد الرحيق أما الثاني فلا، وفي كلتا الحالتين، للأسف الشديد يا أخي، لا يمكن التخلص من خطورة الإشعاع.
الرجل الصارم، أكثر ممَّا تتخيَّل، قال إنهم زرعوا المعجم هنا في معصمي.
هذا غير ممكن، إنه مجرد تضليل يا أخي. في أي حال، كما اتفقنا، السلام والحكمة والتأمل والصبر. الآن علينا أن نبدأ التأمل ببطون فارغة. حتى حديثنا من الغد فصاعدًا لن نتحدثه إلا بعد حصة التأمل يا أخي.
مبتسمًا قال متأمل جملته الأخيرة، ووقف، ومشى، ومشى إلى جواره نذير راحل عبد الرحيم، والكلب خلفهما. ومن ثغرة تقوم مقام باب بين أشجار معبر التعريشة خرجوا من منزل التأمل، ومشوا على رمل الشاطئ وقد انحسر عنه مد الليلة الفائتة، حيث كانت أطراف أغصان الأشجار تنحني فوق الماء عند وصول نذير راحل عبد الرحيم ومهما يكن وعائلته. كان الشاطئ صغيرًا، وعلى مسافةٍ جهة الشمال كان هناك مِقفَز لم يكن حينذاك يقفز منه أحد، وأبعد قليلًا بضعة رجال ونساء يسبحون أو يستلقون تحت مظلات منصوبة على الرمل. وهنا ظُلَّة مرتفعة عن سطح البحر تتَّسع لما لا يقل عن عشرة أشخاص، مصنوعة من خشب الصنوبر، مقاومة للرطوبة ودرجة الحرارة العالية، ولها سواتر جانبية تبقيها مفتوحة من ناحية البحر فقط، يُصعَد إليها بأربع مراق كبيرة، ومهيَّأة أيضًا لإطارات عربات الصيانة. جلسوا على بساط ليِّن وقابلوا البحر والضفة الأخرى لجزيرة الهضاب.
حين تربَّع نذير راحل عبد الرحيم في جلسته عاوده الألم ثانية، ألم قديم وخفيف كان قد ألفه في مشاوير مشيه اليومي في سداب وخلال الصلاة في مسجد الحارة.
كما أسلفت لك، الأفكار تشغلك، تقودك، تُعذِّبك وتُجدِّد وقع الصدمة الأول وتنسخه، وهكذا عوضًا عن أن توجه أفكارك تجدها هي التي توجهك. مدة تأمُّلنا ساعة واحدة. سأنبهك عندما تنقضي الساعة. كل ما عليك فعله هو أن تبقى متربعًا كما أنت، براحة تامة، وتغمض عينيك ساعة كاملة وتحدق إلى الظلام. ستأتي الأفكار وتذهب وتأخذك وتتحكم بحواسك وضغط دمك ومزاجك إن أنت أعرتها اهتمامًا كبيرًا. فقط دعها تمر، مهما كانت، وحاول أن تصل إلى حالة السكون بتفريغ عقلك من كل الأفكار، ومهما أخفقت تقبَّل ما أنت عليه بهدوء، ولا ترهق نفسك بمضاعفة التفكير وتمكينه أكثر من صنع تلك الغشاوة حول بصرك وسمعك ووعيك، ردِّد داخلك دائمًا كلمة هناك، وكلما طاشت بك الأفكار تذكر اللازمة وواصل ترديدها، هناك، هناك، هناك. كي تفصل نفسك عن الأفكار راقب تنفُّسك، شهيقك وزفيرك وكيف يعبران رئتيك وأنفك ويرتفعان وينخفضان ببطنك وكتفيك وصدرك، وأدرك لحظتك الحاضرة التي أنت فيها.
6
حكايتا متأمل ومعالج
ساعة تأمل نذير راحل عبد الرحيم الثانية انتهت عند شروق شمس اليوم الثالث لوصوله منزل التأمل. في المكان نفسه، قرب متأمل، على البساط اللين لظُلَّة الشاطئ، والكلب خلفهما صامتٌ مثل أمس وكأنه هو الآخر يغمض عينيه ويتأمل.
دقائق من الصمت أعقبت ساعة التأمل. عائدَين من كهوف الأفكار أو من مراتع لهوها أو من غيابها، من الوضوح والغموض، من الانتباه الكامل ومن كل ما دار في خَلَدَيهما خلال ساعة التأمل، فتحا عيونهما ببطء فامتلأت بصفرة الرمل الذهبية اللامعة تحت الشمس المشرقة توًّا وبزرقة البحر والأفق اللذين يفصل بينهما خط الضفة الأخرى. عَبَرَ البحرَ والسماءَ سِرْبُ نوارسَ وعاصفةٌ من زميم عصافير. مدَّد متأمل أطرافه كي يتحرَّر من خدر الجلسة الطويلة. تلقائيًّا جعل الألم نذير راحل عبد الرحيم يحذو حذوه. كان قد نسي الألم. كان في مكان والألم هامدًا في مكان آخر، ولما حرك ساقيه انتبه الألم.
رفع متأمل يده ومدَّها وأشار بسبَّابته: انظر، تلك الناحية التي تضيئها الشمس الآن وتبرق مثل حجر كريم، إنه مصنع الأصداف. ما أبهى جزيرة الهضاب! وكان مغتبطًا.
عادا صامتين. وفي القبو أعد متأمل إفطاره وإفطار نذير راحل عبد الرحيم، وقدم له كوبًا ساخنًا من خليط الأعشاب الذي وصفه له معالج، وملأ ميلغ الكلب. ثم وقتًا طويلًا جلسا يتحدَّثان على مقعد المدخل. وبعد ذلك أكملا حديثهما على أريكتين من أرائك واحدة من ظُلل زوايا الفناء، وجلب متأملٌ كوبًا ثانيًا ساخنًا من خليط الأعشاب. في الساعة الواحدة أكلا غداءهما، وأعاد متأمل ملء مِيلغ الكلب، ثم ذهب كلٌّ منهما ليقيل في غرفته. وفي السادسة مساء تعشيا، وشرب نذير راحل عبد الرحيم شراب أعشاب ساخنًا آخر، وتحدَّثا طويلًا.
في التاسعة أوى كل منهما إلى فراشه.
كانت غرفة متأمل في بداية صف الغرف التسع، وبجوارها غرفة ضيفه الجديد، وفوق الغرف، في الدور العلوي، قاعة تأمل واسعة.
سرعان ما اعتاد نذير راحل عبد الرحيم برنامج يومه الجديد؛ الاستيقاظ فجرًا، ساعة التأمل، إفطار البقول والخضراوات، وبعده بساعتين فاكهة وشراب أعشاب مخلوط بوصفة معالج الطبية، ثم الغداء وساعة القيلولة، ثم جلسة تأمل أخرى يؤديها كل منهما على انفراد، ثم تتمة الأحاديث الطويلة ودورة من الرمان، الأناناس أو خليط من الفاكهة ثم العشاء وكوب الأعشاب الأخير. ودون أن ينتبه كان يتعافى من التوتر والتوجُّس والقلق وأعراض الانسحاب من تعاطي سيجار الماريوانا وشراب الإكسير.
وعلى هذه الوتيرة مرَّت أيام.
في جلسات التأمل الأولى كان كثيرًا ما يفقد صوابه، وتساوره الهموم والهواجس والأفكار، ويظن أنه في معركة خاسرة يواجه فيها نفسه. يتذكر إدريس تكرار وأكثر ممَّا تتخيَّل ودليلًا وفي الوقت المناسب والعَقْدَ، يتميَّز غيظًا ويعصف به غضب، عدوانية، يأس أو ضغينة، وحين يتذكر اللازمة يعود إليها مرة أخرى، هناك، هناك، هناك، ويولي اهتمامَه تنفُّسَه المضطربَ، ويهدأ أو يصطنع الهدوء، ويستنشق هواء البحر ويحسه حوله، يملأ رئتيه وروحه التي لا يمكنه الإشارة إلى موضع محدد لها، وتكسو وجهه العجوز راحة غريبة. يداه على ركبتيه، عيناه مغمضتان وكل شيء يحدث في داخله. حتى وهو مغمض العينين صفحة البحر الزرقاء أمامه، يتخيلها لحظة حين يسمع هدير أمواجها، وعن يساره يجلس متأمل والكلب خلفهما، وعما قريب ستشرق الشمس ويبدأ يوم جديد.
كان الحنين إلى زوجته تقوى لا يخلف مواعيده اليومية غير الدقيقة، وكلما دهمه في ساعة تأمله كان الوقت يمضي ولا ينتبه إلا على نداء متأمل فيفتح عينيه لكن ذهنه يعود ببطء من حيث كان. في جلسات أخرى كان الوقت يمضي ثقيلًا لا يحدث فيه سوى انتظاره تنبيه متأمل ويحسبه قد فات. في بعض الأحيان كانت الأفكار ترهقه، ويراوده شعور حزين ومؤنب بأن الله غضب عليه وعاقبه بيد إدريس تكرار ليتعذَّب في حياة دنيويَّة ثانية. ومرَّة نام في منتصف جلسة، وعندما سمع شخيره استيقظ. قال في نفسه إنه من حسن الحظ أنه لم يسقط على متأمل. لم يفتح عينيه، أقام ظهره، حسبما شرح له متأمل من قبل، وأحكم يديه على ركبتيه، وردد المانترا، هناك، هناك، هناك، في صمت يَمُدُّهُ ويقصره شهيقٌ وزفير شديدا الانتظام والقصر يجعلان الهواء سلسًا وخفيفًا بالكاد يُلحَظ، وكأنه لا يتنفس. إنها الحالة التي يعي فيها المتأمِّل زمنه الحاضر، لحظته الراهنة حيث لا ماضي ولا مستقبل وكل زمن هو الآن فحسب، الماضي والمستقبل إن سيطرا على أفكار المرء فإنهما يفعلان ذلك في هذه اللحظة تحديدًا، وإذا فقدتَ التركيز، يقول له متأمل، عد إلى إدراكك ودائمًا ستجد نفسك في هذه اللحظة.
الغضب، الكراهية، الحقد، اللوم، تقريع الذات وصنوف الأفكار القاتلة والخيِّرة والنَّوم، يا أخي، وكل ما يَعُنُّ لك ذهنيًّا وجسديًّا خلال ساعة الجلسة يندرج في عملية التَّنقية التي يجريها التأمل. بعد ذلك، في سائر اليوم، سترى أثر التأمل في تهدئة روعك. إن الإنسان يرهق عقله بالتفكير، وإذا أراحه أراح نفسه، فهذه هي طبيعة العقل التي لا يدركها إلا قلة. الكره، الغضب، الحقد، الانشغال المُعطِّل بالتفكير في الآخرين وما صدر منهم وما لم يصدر، والضيق، والاستسلام للانفعال غير السوي والتُّرَّهات عوامل أذى لا تؤذي أحدًا بقدر ما تفعل بمن نبعت منه أوَّلًا وأخيرًا فقد لا يعلم الموجهةُ إليه البتَّة أيَّ شيءٍ عنها؛ إنها حقائقُ مفروغٌ منها، خِصالُ مَنْ لم يتعلَّم من دروس الحياة سوى ظُلمتها، خِصال من يحوم حول الدائرة نفسها ويفشل في رؤية جمال الحياة وفي أن يكون جديرًا بعبور هذا الجسر القصير بينها وبين ما بعدها، إنها فقط صفحات مكررة بلا معنى مضافة إلى كتاب وحيد وركيك وضحل ما استطعنا قراءة غيره وإن ادَّعينا، إنها أنفسُنا التي تختار الأسهل مع أنه الأكثر صعوبة وتدميرًا! أترى؟ الجدارة هنا، يا أخي، وأنت أجدر مني بمعرفتها كونك عدت من عالمٍ كلُّ البشر سيذهبون إليه، وإنني أخجل من قول هذا أمامك، لكنني أفعل لدواعي الأخوَّة الإنسانية وما يقتضيه سياق الحديث والصُّحبة، الجدارةُ. كما تعلمتها من المعلمين الكبار وكما تبدو لي، بعد مئة وعشرة أعوام من العيش في هذي الحياة الغامضة، يا أخي نذير، الجدارةُ هي أن لا تترك لحظة واحدة لعقلك لأن يفكر في غموض هذي الحياة إلا منعمًا النظر ببصيرتك. يختلف الأمر تمامًا عندما نتأمل حيث الصمت الداخلي مَعْبَرٌ إلى السُّكون. حسب خبرتي المتواضعة لا يتأتَّى لنا ذلك إلا بالحب والعمل ومد يد العون إلى الآخرين. ما دمت في هذي الحياة، ولن تستطيع أبدًا أن تتحجَّج وتقول إنك مرغم على وجودك فيها، فما من أحد قطُّ يمكنه قول هذا، ومع ذلك كم من البشر يقولونه كل يوم، وهو ليس إلا دليلًا على ارتكابهم أفعالًا حمقاء قد لا يعرفها أحدٌ سواهم ويعلمون أنها مجهدة لضمائرهم، والأكيد أنهم نتيجة لها يقومون بالشيء ذاته مرارًا وتكرارًا ويعتقدون بأنهم لا يستطيعون تغييره، ويستسلمون لهذا الاعتقاد الذي يدفعهم إلى مقت أنفسهم وإشغالها بما يرهقها. المهم، يا أخي نذير، ما دمتَ حيًّا اجعل الرِّضا غايتك، ولن يكون هذا إلا بالخير وغسل الروح من أدران الأفكار والأوهام. التأمُّل معروف منذ آلاف السنين، وحتى في عصرك الدنيوي الأول، وحصيلته لا تقدر بثمن، وهو مجد تمامًا لوضعك الاستثنائي. إن فيه سكونًا من خِلْقة الإنسان الأولى، من طبيعة الإله. الأفكار لن تتوقَّف ولا يمكن منعها فهي تتجدَّد وتتكاثر وتقوى وتنتشر لكن التأمل بمرور الوقت ينقيها ويسكن حدتها ثم لا تعود تسيطر عليك ولا تكون إلا راحةً محضًا.
في صباح اليوم الرابع جاءت امرأة عملاقة تقود درَّاجة هوائية كهربائية في مؤخرتها وعاءٌ كبير وعميق مصنوع من شقاق القصب مُوْثَقٌ بسيور مطاط مرن. نزعت الوعاء وأخرجت منه أكياسًا وضعتها على أرفف ثلاجة القبو الكبيرة. سمع نذير راحل عبد الرحيم متأملًا يخاطبها: في حُبٍّ ووئام، لا ترهقي نفسك. إنه من أجلكَ وأجل أصدقائك يا بنيّ. والتفتت نحو نذير راحل عبد الرحيم: منذ أربعة عقود يقول لي الكلام نفسه وأقول له الكلام نفسه. لاحظ نذير راحل عبد الرحيم أن شعره الأبيض وشيخوخته وانحناء ظهره حالت دون مناداة في حب ووئام إياه بـ بُنَيّ مع أنه أصغر من متأمل. ثم، مقتفيًا نصائح متأمل، شَهَقَ، من أنفه، نَفَسًا عميقًا. أغمض عينيه هنيهةً، وبهدوء زفر، من فمه، نَفَسًا أطول من الشهيق فذهبت الفكرة إلى حال سبيلها! في الأيام الأولى لنصائح متأمل درج على القيام بذلك، ظانًّا أن كل فكرة يجب مراقبتها وتنقية العقل منها، ويومًا بعد آخر سوف يأخذ عقله يتنقى من المبالغة أيضًا، وسوف يدرك تدريجًا نعمة الابتهاج بعيش لحظته ببساطة مثل بساطة التنفس وتلقائيته وسهولته حيث تَخِفُّ الأفكار وتَعْدَمُ وزنها وتتلاشى.
في السادسة من مساء اليوم نفسه جاء مهما يكن وحكى له ما حدث. قال له إن أكثر ممَّا تتخيَّل اتصل سرًّا بحركة حق الإنسان في الموت وبه أيضًا، وذلك منذ ما قبل عملية إعادة الخلق، إذ قال إن استدعاء أمواج الأثير الذي تم بواسطته الاتصال بروحك كان يواجه مقاومة شديدة، وهذا عائد إلى أن روحك كانت تتشبَّث بقوَّة بحياتك الأخرى وترفض مغادرتها. بناء على ملاحظته الصادمة التي كانت تؤيدها المؤشرات الحمراء الكثيرة الظاهرة على أجهزة المعمل والمعلومة جيِّدًا من جانب إدريس تكرار وأعضاء المعمل الآخرين الذين اكتشف أكثر ممَّا تتخيَّل أيضًا أن عددًا منهم يملك شركات استنساخ سِرِّيَّة، بعد أن وضع كل هذا في الحُسبان قدَّر أن إجراء عملية الخلق سيكون فيه جناية عليك، ففي هذه الحال إن الحل الأنجع الذي بيدهم دائمًا هو زرع جهاز تكرار إشعاعيًّا، كما فعلوا بهتلر، وإبقاؤك تحت المراقبة على مدار الساعة، ومدك بالمضادات الحيوية والنواقص آليًّا، أو حقنك بإكسير الخلود الذي لا يقل خطرًا، وخضوعُك مع ذلك لتعديل وتقويم وتجارب لا تنتهي وعقد مدته 250 سنة! في غضون ذلك، ونتيجة للتحديات المعملية التي لم يتغلب عليها إدريس تكرار وفريقه بعد، لم يكن باستطاعتهم السيطرة على رفض روحك إعادةَ خلقها. أبدى أكثر ممَّا تتخيَّل اعتراضه على توقيع اتفاقية عملية البعث، فقد كان الإنسان المطلوب بعثه خارج إطار النتائج الظاهرة على الأجهزة. لم يكن ثمة أثر يرشد إليه. ولما كانت المحاولات العديدة لا تسفر إلا عن ظهور المعطيات المجهولة، حتى ذلك الحين، المتعلقة بك، ولما كانت البيانات المتعلقة بك تؤكد مقاومة شديدة ونفورًا حادًّا واستجابة معدومة لمحفزات إعادة الخلق، كان رأي أكثر ممَّا تتخيَّل هو الإقلاع فورًا عن الاستمرار في العملية، إلا أن تسلُّط إدريس تكرار ورغبته الشيطانية ونفوذه الذي يؤازره صُنَّاع القرار في إمبراطورية الأرض، وصلته القوية بوكالة المخابرات وببعض الأعضاء المشبوهين في مجلس حكماء الأرض، جعلته يتراجع ظاهريًّا ويوهم إدريس تكرار ضمنيًّا بأن اعتراضه كان بسبب الغيرة العلمية. إدريس تكرار لم تنطل عليه الحيلة فورَّط أكثر ممَّا تتخيَّل بمواجهتك في اليوم الأول، وكان بيد الاثنين جهازا تحكم عن بعد استطاعا من خلالهما التحكم فيك تمامًا كما يتحكمان بإنسان آلي! صِحِّيًّا في الأقل، لأن موتك كان متوقعًا إلى حد بعيد نتيجة نفور روحك من نفخها ثانية بتلك الطريقة الإجرامية المعادية للطبيعة البشرية.
قاطع نذير راحل عبد الرحيم مهما يكن مبديًا استغرابه مما قال، فأكثر ممَّا تتخيَّل ناداه باسمه في معمل البشر عابر الزمان والمكان، وكل ما سمعه يومذاك كان يدل قطعًا على أن في حوزتهم كل تاريخ حياته الدنيوية الأولى، كما أنهم بعد ذلك ألبسوه ثيابًا على مقاسه! وكأن في السؤال شيئًا يدعو إلى الاستنكار لمح نذير راحل عبد الرحيم ظِلًّا من غِلظة على وجه مهما يكن، غير أنه كان ظلًا عابرًا إلى درجة أنه لام نفسه بالتفكير فيه وهو يسمع الإجابة المفعمة بالتوقير: ما إن دخلت عملية بعثك أطوارها العملية حتى طابقت أجهزة الحاسوب الرموز الجديدة والأخرى المخزنة، وعلى هذا الأساس ظهرت المعلومات الخاصة بك. أمر مفروغ منه ومؤكد أن بدلة ولباسًا داخليًّا بمقاس صحيح ليسا شيئًا أمام عملية البعث المعقدة، ويمكن الإتيان بهما من أقرب محل وفي وقت وجيز حتى في عصر حياتك الأولى فكيف في عام 3000 أخي نذير؟ تذكر نذير راحل عبد الرحيم شرحًا شبيهًا قدَّمه له أكثر ممَّا تتخيَّل في اليوم الأول لبعثه لكن أنَّى له أن يعلم صدق ما سمعه، قبل اختطافه، من كذبه بعدما أخبره متأمل بأنهم ملئوا رأسه بالأضاليل؟
كان مهما يكن يجلس على أحد مقاعد طاولة القبو، قبالة متأمل ونذير راحل عبد الرحيم، وكان أمامه كأس نبيذ وصحن عليه قطعة لحم وخضراوات مطهوة وفي يديه شوكة وسكين. قطع لحمة وجرع جرعة من كأس النبيذ، ومضغ قليلًا، وأكمل: إدريس تكرار شك في أكثر ممَّا تتخيَّل، وأراد التأكد مما إذا كان يقر بمواد النظام الأساسي لمعمل البشر عابر الزمان والمكان وبما يسميه وفاء العالم المتفوق. في الأيام الأولى كانوا يخشون موتك حقًّا، لذلك كانوا قساة وسلطوا عليك أصوات حفلة يوم العري العالمي وصور البركة الأوليمبية للعراة وأصواتها الانفجارية والحيتان والقروش بفندق المألوف الخارق كي يرعبوك ويسيطروا على رغبتك في النوم. لو نمت في ذلك اليوم لكنت فارقت الحياة وأحبطت خطتهم للأبد. عرفوا كيف يبقونك صاحيًا، وذلك أجبرهم على إحداث تغيير كبير في خطتهم. أخبرني أكثر ممَّا تتخيَّل بأن السبب في لجوئهم إلى إخافتك أيضًا هو ضرورة السيطرة على الجفاف، إذ بالنظر إلى بعض العمليات ذات الآثار الثانوية كان التحكم في الجفاف شبه معدوم في الساعات الثلاثين الأولى لبعثك، لذلك فرضوا عليك شرب الماء بتلك الصرامة. وقد اضطروا إلى دمج عدة نظريات دعت إليها المعطيات التي يمدهم بها جهاز تكرار المزروع إشعاعيًّا في دماغك، وزاولوا تجاربهم عليك على مدار الساعة، دون أن تدري، حتى وأنت نائم، وذلك بفضل علم الحاسوب الخارق لكل ما تستطيع تصوره مقارنة بما كان عليه الحال في عصر حياتك الدنيوية الأولى. وكان هناك فريق من الأطباء يتناوب على متابعة وضعك الصحي ليل نهار. بعد مرور ساعات تناولك كؤوس الماء المحددة واستقرار الدورة الدموية والأكسجين وعمل جميع أعضاء جسمك تنفس إدريس تكرار الصعداء وعاوده زهوه وخيلاؤه وأوى إلى فراشه، وكان مستيقظًا ليس منذ بعثك فقط بل قبله بما لا يقل عن يوم!
لم يقل نذير راحل عبد الرحيم كلمة واحدة. كان يصغي وكذلك متأمل. كان أمام كل منهما كوب من شراب أعشاب. كان الكوبان كبيرين يلائمان بشر عام 3000. كان متأمل يصب الشراب في كوب نذير راحل عبد الرحيم حتى منتصفه، ومع ذلك كان يكفيه ساعات. لم يكن مهما يكن قد أكل إلا قطعة اللحم الصغيرة تلك. قطع لحمة أخرى أتبعها ببعض الخضراوات ومضغها ببطء، وران عليهم الصمت، وحرك الكلب ذيله بجوار كرسي متأمل. وفكر نذير راحل عبد الرحيم، وتذكر، وعاوده شيء من حيرة اليوم الأول، وسأل نفسه: ما المغزى من كل ذلك؟
لولا أكثر ممَّا تتخيَّل لما استطعنا إنقاذك. المعلومات التي زودنا بها قبل وصولك جزيرة الهضاب مكنتنا من تنفيذ خطة الاختطاف بإتقان شديد، خصوصًا ما يتصل منها بإحداثيات الحراس الآليين ومواقع كاميرات المراقبة وأجهزة التنصت. عندما رأيتنا في أول يوم جلست فيه على شرفة منزل الصمت، ذلك اليوم الذي لوَّحنا لك فيه أنا وإبهام وتدبير ولا أثر، كنا قد سبقناك بأيام، وكنا ننتظرك ونقطع ذلك الطريق ذهابًا وإيابًا ونعرف أنهم سيسكنونك ذاك المنزل، وفي أسفل الهضبة، عند السهل، كان هناك حقل تين صغير استأجرته امرأة ذات صلة وثيقة بالمعارضة وإن بدت حقيقتها نقيض ذلك لوكالة التجسس التابعة لإمبراطورية الأرض، وكان ذلك جزءًا دقيقًا وممهدًا ولا غنى عنه كي لا يستريب بنا عدونا، وما يدريك فلعلهم استرابوا بنا وبحثوا وتأكدوا أننا لسنا أكثر من حاصدي تين!
بعد أن أكل مهما يكن قطعة اللحم والخضروات المطهوة رشف آخر قطرة نبيذ في كأسه وعاد إلى حديثه: يقول أكثر ممَّا تتخيَّل إنه تعذب كثيرًا. أيقن أن المضي في تنفيذ خطة إدريس تكرار سيحطمه أخلاقيًّا ونفسيًّا، وفي الوقت نفسه فإن مجاهرته بالرفض قد تؤدي إلى اعتقاله وعده معارضًا وتلفيق تهمة وسجنه. في التاسع والعشرين من يناير الماضي، عندما كنتَ لا تزال في منزل الصمت، هرَّبت المعارضة أكثر ممَّا تتخيَّل إلى إمبراطورية الأراضي المترامية. إذا بدا لك أننا واثقون من استحالة وصولهم إليك فهذا في الواقع يعود إلى تصريحات أكثر ممَّا تتخيَّل؛ قبل يومين أوهمهم بأن المعارضة هرَّبتك إلى إمبراطورية الأراضي المترامية. فضح بعض جرائم إدريس تكرار وشن عليه حملة عالمية أطلق عليها اسم "نذير راحل عبد الرحيم نذير من العالم الآخر".
في ظهيرة اليوم السادس جاءت في حُبٍّ ووئام على دراجتها الهوائية الكهربائية ثانية، وأحضرت طعامًا آخر ورداءين ومنامتين ربيعيتين وخفًّا لنذير راحل عبد الرحيم. كانت طويلة وقوية تحمل وعاء شقاق القصب من الدراجة وتفرغه في ثلاجة مطبخ القبو دون الاستعانة به أو بتأمل. كانت ساقاها صلبتين مشدودتين من أثر قيادة الدراجة، وبشرتها صافية نتيجة تعرضها للهواء الطلق والشمس بانتظام. كان في عينيها نظرة أمٍّ حانية، وكان شعرها الأبيض ينسدل على كتفيها ويمنحها إشراقة وقار. جمعت الصحون والأكواب والملاعق والسكاكين المستخدمة الموضوعة على طاولة الطعام ووضعتها داخل حوض المغسلة الآلية، كبست الزر الكهربائي فشرعت المغسلة تغسل الصحون وترتبها على الأرفف العلوية. مسحت في حُبٍّ ووئام رأس الكلب الصامت، وخاطبت نذير راحل عبد الرحيم ومتأمِّلًا: إذا كان هناك مخترع يجب ذكر فضائله أكثر من نظرائه فهو مخترع المغسلة الكهربائية. نعم إن هذا اختراع قديم لكن من لا يستطيع الإقرار بعظمة هذه البساطة المدهشة؟ وبعد حوالي ساعتين أو ثلاث ساعات غادرتهم عبر باب منزل التأمل القريب من القبو، ضغطت وعاء شقاق القصب فأحكمتْ سيور المطاط شدَّه آليًّا إلى رِدْفِ دراجتها، وحين أخذت مكانها على المقعد وأدارت المفتاح انطلقت الدراجة صاعدة، وغابت داخل الضفة حيث أرصفة الأزقة والنواحي التي لم يرها نذير راحل عبد الرحيم، ولن يراها أبدًا ولن يعرفها إلا من وصف متأمل وما يتخلل كلام في حُبٍّ ووئام والآخرين في مرات نادرة. قال له متأمل إن منزل في حُبٍّ ووئام ليس بعيدًا والدراجة الهوائية الكهربائية تقربه أكثر. وأخبره بأن الأشجار التي تظهر رؤوسها فوق السور الملاصق لمنزل التأمل أشجار نُزُل أراجيح النوم، بعده، صعودًا إلى أعلى الهضبة، بستان منتجع الشعاب المرجانية، ثم منتجع السلاحف العظيمة المعمَّرة، شاطئ ركوب الأمواج، وهكذا حتى تنحني في أعلى الهضبة وتبلغ مقبرةً كل خمسين سنة أو ثلاثمئة سنة يُدفَن فيها ساكنٌ من الأحياء القريبة.
دليل قال إن إنسان عام 3000 لا يموت!
ماذا؟ من دليل هذا؟ آه، نعم. حشوا رأسك بالأكاذيب يا أخي نذير عن طريق هذا الإنسان الآلي. مقارنةً بين عصرك الغابر وهذا العصر فإن الطب البشري الآن حقق معجزات عظيمة، لكن شركات الأنظمة الإمبراطورية سلَّعت كل شيء حتى الأعضاء البشرية، هذه تبيع أرخص وتلك تمنح ضمانًا أطول، متاجر قطع غيار الإنسان وعياداتها ومستشفياتها منتشرة في كل مكان، عين، أذن، كبد، قلب، لسان، ذراع، ساق، طحال، رئة، بلعوم، بنكرياس، جهاز تناسلي، ركبة، يد، ساق، عمود فقري، وما يخطر ببالك، وهناك شركات متخصصة في بيع رئات للمدخنين، وأنت مخير بين شراء عضو يُستنسَخ منك وبين، إن كنت عجولًا، شراء واحد آخر يوافق جسمك. صَرْعَة هذه الأيام الألوان، إنسان أزرق، إنسان أحمر، أخضر، ذهبي وهلمَّجرًّا. توصلوا إلى علاج أمراض كثيرة كان الشفاء منها مستحيلًا في عصر حياتك الأولى وبعده. في المقابل، كما رأيت، باسم الإنسان المتفوق يفعلون كل شيء، كل شيء شرير، ويقولون لك ماذا؟ إنسان عام 3000 لا يموت؟ إنهم في نهاية الأمر يموتون، كلنا سوف نموت. وأولئك الذين يموتون كل يوم في الإمبراطوريات الأخرى وتوابعها برصاص مصنوع في إمبراطورية الأرض وتوابعها؟ وأولئك الذين يموتون انتحارًا كل يوم في أصقاع إمبراطورية الأرض فاقدين أي معنى للحياة؟ والمعذبون في السجون؟ يخوضون حروب الجينات والتدمير الشامل للإنسان والحيوان والنبات، يفنون الحياة بالقنابل والصواريخ والأسلحة الأشد فتكًا ثم يتحدثون في السياسة والإنجازات الحضارية المشتركة ويتجادلون في الحدود الممكنة لمن يسمونه بالإنسان المتفوق. ولعلمك أخي نذير، صحيح أنهم قضوا على الأمراض المستعصية القديمة لكنهم خلقوا أمراضًا مستعصية جديدة، بما في ذلك التعقيد المخيف للأمراض النفسية التي أخذت تستبد بمواطني هذه الإمبراطوريات. أضف إلى ذلك الأمراض التي تنتجها مختبراتهم وبطرقها الخفية تجعلها تتفشَّى في بلدان بعينها وتشغل بها العالم وتجني من ورائها ثراء فاحشًا بالتواطؤ وشركات الأدوية العملاقة.
أي زمن تعني أخي متأمل؟
أعني الألفية الرابعة للميلاد أخي نذير. حيرتك في محلها. الفرق بين زمن حياتك الدنيوية الأولى وحياتك الدنيوية الثانية ليس شاسعًا إلا من حيث ما يسمونه بالتقدم الحضاري، أي درجة الإجرام، فجوهر الشر الإنساني بقي متوقدًا وما زال وهجه الخادع يُضلِّل الخليقة ويواكب معطيات العصور! سأخبرك بأمر، قبل قرنين من الزمان، قبل أن أُولَد بثمانين سنة، كانت تزرع عشبة في وادي هضبة الجبل لا يعرفها سوى المسنين الذين سئموا الحياة وتطويلها الفارغ الذي تجريه وسائل العصر الحديث، وأنت تعرف أن الناس عندما يقولون الحديث فإنهم يعنون زمنهم الذي هم فيه الذي هو دائمًا حديث بطبيعة الحال، المهم، كانوا يقطفون ثمار العشبة ويضيفون إليها سائلًا وأعشابًا أخرى وتحت ظروف مناخية دقيقة ومحسوبة يعتقونها عقودًا. كانوا بعد ذلك يسمونها إكسير الحكمة الذي لا يُحتسى إلا مرة واحدة في العمر ولا يتناوله إلا من عاش قرنين اثنين فأكثر، لذلك كان نادرًا، يحصل عليه المحتاج المضطر وحده فقط. والآن الشركات تبيعه في علب، تخيَّل! إكسير الحكمة يُباع في الصيدليات ويُصرَف برخصة طبية! وكما ترى، يتاجرون بكل شيء، ويوسعون دائرة الربح، شركات، صيدليات، علب، مرضى، أطباء، يحولون الأمر برمته إلى مصدر دخل اقتصادي، وهذا كل ما يملأ أدمغتهم.
وتعجب نذير راحل عبد الرحيم: على أي حياة دنيوية أخرى سيندم! ومن حديث إلى آخر، ومن جلسة تأمل إلى أخرى كانت أيامه تمضي في منزل التأمُّل. لحيته البيضاء طالت. أخذت الغشاوة تنزاح والصدمة تضمحل والرؤية تصفو.
يدرك الآن أنه يمشي الهوينى في طريق الموت ومع ذلك يبدو منتشيًا! عُصاب الأفكار ما عاد يهلك يومه. يومًا بعد آخر يتأمل داخله، ومنبسطًا يتأمل الحياة وينتظر مفارقتها الوشيكة. في التاسعة ليلًا ينام، وعلى ترنيم الطيور في الرابعة والنصف فجرًا يصحو، متشوقًا إلى جلسة التأمل تحت ظلة الشاطئ. لم يعد يخشى تلك المادة من العقد التي تتنبأ بتحلل جسده بعد أشهر إن رفض التوقيع. قال له متأمل إن كل ذلك هراء، وكان سيتم فقط لو كانوا يتحكمون فيه بجهاز تكرار، لأنهم حينها كانوا سيجربون عليه ما يعرفون وما لا يعرفون، وكان الأمر سيخرج عن سيطرتهم. كان نومه هادئًا وعميقًا، وكل يوم يرى فيه شلال ماء ويصيخ إلى وقع خريره أسفل صخرة حين يجري مختلطًا بماء أوسع، بحر أو نهر، لا يدري، وكان ذلك يُحيِّره. يستيقظ على شقشقة طيور ونعيق غربان كان دائمًا يسمع فيه نداءً بدائيًّا سحيقًا؛ في إثر ذلك يعرف أن موعد طَرْقة متأمل على باب غرفته قد أزِف، يتمطَّى ويعتدل في جلسته على السرير ويسمع الطرقة ويجيب متأملًا ويتبعه، وينتظره الكلب ثم يمشي خلفهما نحو الظلة التي يلفها الغَبَش. يثني ساقيه تحت فخذيه ولا يكترث بالألم. قال له متأمل: "الألم أمر لا مفر منه أما المعاناة فاختيار". إنه على حق، يقول في نفسه، وكم أنفق من الوقت والتفكير ليفهم ذلك، ثم يتذكر أنه يتأمل فيعود إلى اللازمة: هناك، هناك، هناك، هناك، هناك.
كان متأمل ينظف غرفته أحيانًا، وكذلك نذير راحل عبد الرحيم. كانا يكنسانهما، ينفضان الأفرشة أو يستبدلانها بأخرى جديدة يأتي بها متأمل من غرفة المخزن، الغرفة الأخيرة في صف الغرف التسع، أسفل السلالم الخشب المؤدية إلى غرفة التأمل الكبيرة في الطابق العلوي، ويغسلان الأفرشة في المغسلة قرب مدخل القبو. ما تأتي به في حُبٍّ ووئام كان يغنيهما عن التَّسوُّق. وأحيانًا كانا يكنسان دهليز الغرف ومعابر منزل التأمل الحجرية والخشبية وزوايا التأمل المفردة والمزدوجة وذات المجموعات المتفرقة في الفناء. كانت سواقي الماء تفصل بين معابر الفناء وكانت الطيور تحط لتشرب منها وتتريَّث هناك وتغرد وتطير ويحط غيرها. كان يستمتعان بالرفقة والحديث والطبخ والتأمل والصمت.
ذات يوم من أيام الشهر الثاني آبَ نذير راحل عبد الرحيم إلى الصلاة.
حدث ذلك عندما دخل أول مرة غرفة متأمل الذي لن يعي طبيعة صلاته تلك إلا متأخرًا. من أجل تيار الهواء النقي كانا يتركان بابي غرفتيهما ونافذتيهما مفتوحتين، لكن نذير راحل عبد الرحيم لم يكن قد رأى بعد لوحة البَلُّور وصورتي والديّ متأمل المعلقة على زاوية الجدار المنزوية عن تطفُّل عابري دهليز الغرف. قال نذير راحل عبد الرحيم إن متأملًا، دون ريب، لم يفكر في تطفل أحد بقدر ما أن للأمر صلة قوية بالرغبة في الشعور بخصوصية في هذا الحيِّز الصغير الذي هو كل شيء له في هذه الحياة. كانت رؤية اللوحة والصورتين غير ممكنة عندما يفتح متأمل نافذة غرفته وبابها في الصباح بعد وقت جلسة تأملهما وإفطارهما وشراب الأعشاب. كان الشبه بين متأمل ووالده صاعقًا، وحار نذير راحل عبد الرحيم وتعجَّب، فالابن ليس أطول من أبيه فحسب وإنما أكبر عمرًا أيضًا! متداركًا فكَّر بأن هذا قد ينطبق على كل من عاش عمرًا أطول من والده الميِّت غير أن أمر متأمل يبعث على حيرة أشد. كان كل من والدي متأمل في صورة منفصلة. قال متأمل إنه لم يعثر قط على صورة واحدة تجمعهما على الرغم من أن الأمر كان ممكنًا، لعلهما حسبا حساب العواقب الوخيمة لو كُشِفت صورتهما معًا فكيف سيواريان جريمتهما حينئذ؟ جريمة كونهما معًا في صورة واحدة! جريمة حبهما! كانا واقفين، وبدا طولهما لنذير راحل عبد الرحيم مثل طوله وزمنهما مثل زمنه، القرن الحادي والعشرين وليس القرن الحادي والثلاثين مثل متأمل. قال متأمل إن ذلك صحيح فقد وُلِد بعد موتهما بسبعة قرون!
ماذا؟ هتف نذير راحل عبد الرحيم متعجبًا. عاود النظر إلى الصورتين؛ كان الرجل والمرأة كبيرين، وقدَّر أنَّهما في خمسينيات أو ستينيات عمريهما، وبدت له المرأة أصغر ببضع سنين.
نعم يا أخي نذير، وُلِدت في واحد من ملاجئ الخصوبة المنتشرة في إمبراطورية الأرض، في الوقت الذي أبادت فيه حروب طاحنة إمبراطورية الأرض وإمبراطوريات أخرى. كانت الحرب بين أربع إمبراطوريات: إمبراطورية الأرض وإمبراطورية الأراضي المتحدة من جهة والإمبراطورية العظمى التي لا تُقهَر، الجار اللدود لإمبراطورية الأرض، وإمبراطورية الأراضي المترامية من جهة أخرى. وأججت إمبراطورية حدود النار توتر العلاقات بين الطرفين بينما وقفت إمبراطورية البلدان المحايدة موقف الحياد الإيجابي وبذلت جهودًا لا يمكن إنكارها في دعوة الطرفين إلى السلام. كانوا قد كفوا عن عدِّ الحروب العالمية بعدما أصبحت كثرة مناسبات الاحتفال والتذكر والتكريم والحزن مرهقة وتُعطِّل عجلة الإنتاج أيامًا كثيرة في السنة. فقدت إمبراطورية الأرض مئتي مليون من محاربيها ومدنييها. وهكذا، حسبما هو معروف في التاريخ، أُرغِموا على الاستعانة بملاجئ الخصوبة في كل إمبراطورية وإقليم ودولة صديقة.
متى حدث ذلك؟
في عام 2890، وعجَّل ولادتي الكسادُ المالي الذي أعقب الحرب، حيث عانت المصانع وكل مؤسسات الإمبراطورية من عجز في العمال والمواطنين، وتدنى الدخل الوطني، وانخفضت قيمة العملة، وتفاقمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وفر كثيرون من قبضة الحديد نحو المدن الأبعد والأقاليم أو إلى الإمبراطوريات الآمنة. كنت عندئذ مجرد حيوانات منوية وبويضات مجمدة من هذا الرجل وهذه المرأة. أما التخصيب المجهري ونقلي جنينًا إلى رحم صناعيَّةٍ فحدث يوم الثلاثين من أغسطس عام 2890. في هذا اليوم وبتلك الوسيلة وُلِدت في الملجأ، أرضعتني راضعة بأثداء آلية متقنة الصنع، نشأتُ مدركًا أنها أمي، وحزينًا وبائسًا كنت أكبُرُ، ثم فطنتُ أن أمومتها تُشحَن بالكهرباء بتلك الهيئة الفظَّة. ثم كانت هناك الحاضنات الآليَّات أيضًا. بعد ذلك المدرسة وتلقينُ الصِّبيان ذلك الغثاءَ الذي يخلط الطَّيِّب بالخبيث باسم الإنسان المتفوق. وعندما بلغت الثامنة عشرة أخرجوا أعدادًا هائلة منا للعمل في المصانع، وألفيت نفسي أعمل خمس عشرة ساعة في اليوم في مصانع قبضة الحديد، وأدَّخر المال لأتمكن من شراء حقنة إكسير الخلود. كانوا قد لقنونا في الحضانة وفي المدرسة أننا نعيش من أجل التفوق وإكسير الخلود، وأن حياتنا من دونهما خواء وفشل. عندما وُلِدْتُ أطلقوا عليَّ اسم متأمل، ولم أهتم بهذا الأمر إلى أن قابلت معالجًا.
الطبيب؟
نعم، صديقنا.
متى؟
عام 2917، عندما ذهبت إلى المركز الطبي لرابطة الأطباء المستقلين. كان هؤلاء بين حين وآخر يقدمون تطعيمات مجانية للعمال، فقد رافق طورَ إعادة الإعمار مسحٌ طبيٌّ شاملٌ لاستئصال الأمراض الوبائية الجينية التي كانت جزءًا من الحرب بين إمبراطورية الأرض وأعدائها المتكاثرين باستمرار. كنت في السابعة والعشرين من عمري، وكذلك معالج، وكان أيضًا من الذين ولدوا في ملجأ الخصوبة، وكان إنسانًا متواضعًا بخلاف أغلبية الأطباء، وأحدث تغييرًا عظيمًا في حياتي بمساعدته إياي ماليًّا على تحمل كُلفة حقنة المعجم الباهظة الثمن هي الأخرى لاسيَّما آنئذٍ، إلا أنه جعلني أصرف النظر تمامًا عن إنهاك عمري في العمل لادخار ثمن إكسير الخلود. في ذلك الحين، كما هو شأنه اليوم، كان يخترع أدوية من الأعشاب ويخلطها بمساحيق طبية يصنعها بنفسه. في واحدة من زياراتي للدكتور معالج أطلعني على ماضي أمي وأبي.
وهل يعرف معالج أمه وأباه؟
نعم، لكنه كان حزينًا لأنهما تبرَّعا بالنُّطَف والبويضات لملجأ الخصوبة بدافع خدمة الإمبراطورية والإمبراطور فحسب، وبعد ذلك وحتى اليوم لم يكترثا به ولم يسألا عنه قط، لذلك نشأ مدمنًا على الكحول. أطلعني على سيرتي والديه الذاتيتين وأراني صورهما التي جمعها بصعوبة بالغة، فالملجأ كان يحجب المعلومات عن كل المولودين فيه.
معالج إذن هو من أخبرك بتاريخ والديك وصورتيهما!
نعم، وقال لي إن أمي كانت تحلم بأن أُسمَّى متأملًا، وأن طبيبًا يعمل في مختبر الأجنة بملجأ الخصوبة كتب في شهادة ميلادي الاسم نفسه الذي كان مكتوبًا على عينة البويضات والحيوانات المنوية وخلفية المعلومات المرفقة بها، ولهذا يا أخي نذير أخيرًا وجدت نفسي ولم أشأ أن أخذل أمي، وأدركتُ أنها كانت ولا بد تتوق إلى أن يحمل ابنها جوهر الاسم.
كيف عرفت ذلك؟
من خلال قصة الحب.
قصة حب من؟
أمي وأبي. شرح لي معالج ظروف الأقدار الغريبة التي حفظت العينة تحت درجة تبريد فائقة على مدى سبعة قرون، ثم نقْلها من عيادة إلى أخرى حتى وصولها إلى ملجأ الخصوبة في إمبراطورية الأرض، والتعديل المُجرى عليها وفق مواصفات "الإنسان المتفوق"، بيد أن قصة حب أبي وأمي تركت في نفسي أثرًا سيرافقني حتى الموت. حتى الآن ما زلت أحتفظ بالملف الذي جمع معالج وثائقه من سجلات ملجأ الخصوبة والمعلومات الخاصة بوالديَّ وبحوثهما الطبية المنشورة على شبكة الإنترنت البدائية عندئذ. أخي نذير، أصبحتَ تعرف الآن أنهم منذ قرون يستطيعون جمع كل ما نشر إلكترونيًّا عبر التاريخ، بل حتى الاتصالات الهاتفية غير المسجلة يستطيعون استدعاءها بأثر رجعي، بما فيها تلك الخاصة بالأباطرة وزعماء العصابات ورؤساء الدول وقادة أجهزة المخابرات. لذلك فإن مهما يكن والمعارضين يتخذون احتياطات لا تخطر على بال. بعد لقائي مهما يكن ومعرفته قصتي عرفني إلى أحد أصدقائه، وكان خبيرًا لا يشق له غبار في تقنية الإنترنت، وبفضله حصلت على الكنز الثمين الحزين: رسائل أمي وأبي التي انتظم كل منهما في إرسالها إلى الآخر عبر البريد الإلكتروني منذ تحابَّا وحتى نهايتي عمريهما. المهم يا أخي نذير، في ذلك الزمن الغابر، زمنك ثم زمن والديَّ، التقى أبي وأمي في عشرينيات عمريهما في مؤتمر طبي في بلاد بعيدة عن بلادهما الصحراوية القاحلة الفظَّة الأخلاق ـحسبما وصفها أبي في إحدى رسائله ـ وهناك نما بينهما حب جارف. بعد ذلك خطب أبي أمي مرات كثيرة وقابل والدها غير أن هذا كان يرفض، وأبي، حيال هذا الرفض، لم يملك سوى إعادة المحاولة علَّ قلب أبيها يلين. مات والد أمي فانتقلت الوِصاية على أمي إلى أخيها الأكبر. أظنك تفهم هذا المصطلح، الوصاية، ومَرْجِعَ سياقه، أكثر مني ومن كل بشر هذا الزَّمان، فاستخدامه منذ قرون اقتصر على امتلاك حيوان أو إنسان آلي أو عقار أو سيارة طائرة وما شابه فقط، واعتُبِر تاريخُه لصيقًا بالاستعباد ومصادرة الحرية. في أي حال، كان أخو والدتي الأكبر أكثر غطرسة من أبيها فأبى أن يُقابِل أبي، وعندما بلغ والداي خمسينياتهما (كان أبي في الخامسة والخمسين وأمي في الحادية والخمسين)، وبمعونة طبيب كانا يلتقيانه في واحد من تلك المؤتمرات البعيدة عن موطنهما، قرَّرا اللجوء إلى عيادة خصوبة، اختارا نوع الجنين وحفظا العينة في العيادة، لأن أملًا راود أمي بأن أخاها الآخر الذي ستنتقل الوصاية عليها إليه تلقائيًّا بعد وفاة أخيها الأكبر الطاعن في السن سيوافق على زواجهما، وحينذاك سيكونان قد كبرا، ولا شك أن عليهما وقتها غض النظر عن الإنجاب في عمر متأخر لكنهما يستطيعان الاستعانة بالنطف المجمدة. مات الأخ الأكبر والذي بعده والذي بعده. وعند وفاة أمي في الثالثة والثمانين من عمرها كان أخوها الأصغر منها، الذي، مع ذلك، كان عجوزًا أيضًا، هو الوصي عليها، وكان قد رفض زواجها من أبي وقال لها عبر اتصال هاتفي: استحي، انظري إلى نفسك أيتها العروس، عجوز شمطاء، رِجْلٌ في الحياة ورجل في القبر وتريدين أن تتزوجي!
دمعت عينا نذير راحل عبد الرحيم. نَشَجَ متأمل، وتذكر نسخة يحتفظ بها من رسالة بعثت بها أمه إلى والده تنبئه فيها بنصِّ عبارة أخيها الأصغر تلك معنونة إياها بـ"افقد الأمل". متغلغلًا في أحراش الذكرى انحدرت دموع متأمل هو الآخر وقرأ في خياله ذلك السطر من رسالة أمه إلى أبيه: "لن يجمعنا بيت في هذي الحياة ولا حتى مقبرة، وليس بوسعنا إلا التَّشبُّث بالأمل في أن يحقق الله حلمنا بعد الموت". عبْر نافذة غرفته المفتوحة نظر متأمل إلى عشب الحديقة ودالية العنب وشجرتي الأناناس والرمان، وإلى الأجمة التي تحجب سور منزل التأمل عن أزقة جزيرة الهضاب. كان صُداح الطيور ونعيق الغربان يُحدِثان جلبة محيِّرة. وعندما ولَّى نذير راحل عبد الرحيم نظره عن الصورتين ومسح دموعه بظاهر يده رأى أرففًا ممتلئة بكتب، ثم جذبه منظر لوحة البَلُّور المعلقة على الزاوية المختبئة عن أعين المارَّ في دهليز الغرف، وقرأ الكلمات المحفورة عليها: "لا تُوقِف الكراهيةُ الكراهيةَ بل يُوقِفها الحُبُّ فقط. هذه هي القاعدة الخالدة". قال متأمل: كان أبي يعلقها على أحد جدران مكتبه في مستشفى أطفال عمل فيه طيلة حياته.
يومئذ عاد نذير راحل عبد الرحيم إلى الصَّلاة، تعمَّق تأمله وشغل ساعات أطول من يومه. كانت تمطر باطراد إلا أن ظُلَل الفناء كانت تحمي من يجلس تحتها وتُتْرِع سمعه ودخيلته بالوَقْع الآنِس لرَشَاش المطر. كان يجلس على أحد مقاعد التأمل في الفناء وينفق نهاره كله يتأمل ويصلي. بعد غدائهما كان متأمل يذهب لقضاء قيلولته في غرفته، أما هو فكف عن قيلولته ووثَّق ولعه بنسيم البحر وحفيف الأشجار وخرخرة الماء وفيضه حين تضطرب فوقه الريح فتقلب صفحاته أو تحط الطيور على سواقيه، يذهب ليجلس على أحد تلك المقاعد وبعد أن يملأ عينيه بمنظر الطبيعة المتدفق يغمضهما ويتأمل ويصلي ويبتهل، ويغيب في عالم الصمت والسكون. كان الكلب يأتي ويبسط ذراعيه قربه ويرافق صلاته وتأمله ولا يُحدِث نأمة. وبخلاف نعيق الغربان كان تغريد الطيور يشتبه عليه فيحسبه آتيًا من حياته الأخرى حيث ماء يسيل من صخرة ويجري في نهر أو بحر، وكان بعدما يرى الماء في الصلاة أو التأمل أو النوم يسأل نفسه لماذا لم يتحقَّق بعد إن كان نهرًا أم بحرًا؟ كان متأمل يتركه وعند العصر أو هبوط الظلام يأتي ويناديه. وذهبت أيام وجاءت أخرى أصبح فيها لا ينتبه من صلاته وتأمله إلا بعد أن يُربِّت متأمل على كتفه ويوقظه. عندئذٍ كان يعود من حيث كان، يفتح عينيه ببطء وحالما يرى متأمِّلًا يَبَشُّ وجهُه ويشتاق لأحاديثه الطويلة.
سوى ذلك ليس هناك ما ينتظره، لا شاغل دنيوي، لا عمل، لا مشوار ولا سنة مقبلة.
7
المُتأمِّلاتُ الثلاث
أوشك موسم الأمطار على مغادرة جزيرة الهضاب، وبشوقٍ متعجِّل تأهَّب موسم الجفاف ليلقي عصاه، ولنذير راحل عبد الرحيم جلبت في حُبٍّ ووئام رداءين خفيفين وملابس داخلية وسراويل سباحة وأخفافًا مريحة للمشي على مسالك فناء منزل التأمل وعلى رمل الشاطئ إذا كانت أشعة الشمس محرقة، أما إذا كانت محتملة فإنه لا يفرط في اتباع نصيحة معالج بالمشي على الرمل حافيًا للتخلص من الإجهاد والطاقة السلبية وتجديد الحيوية وتنشيط الدورة الدموية. مع أنه أخبر في حُبٍّ ووئام ممازحًا بأنه على وشك العودة إلى العالم الآخر، وأن ما تأتي به كثير عليه إلا أنها ما فتئت تقول إن علينا أن نقضي وقتًا ممتعًا هنا وهناك. نظر ملابسه الجديدة وفكر في أنه الإنسان الوحيد على وجه الأرض الذي لا يسعى إلى امتلاك شيء. في حُبٍّ ووئام على حق، يقول في نفسه، شاكرًا جميلها، واعيًا أن جسده العجوز بحاجة إلى ثياب، فما دام على قيد الحياة سيظل أسير مطالبها وإن كانت حاجاته ليست إلا حدودها الدنيا التي لا مفر منها. دارت الفكرة في رأسه ومكثت قليلًا وتذكر هتلر؛ هل يسعى إلى امتلاك شيء؟ أله غرفة وخزانة مثل غرفته وخزانته؟ تذكر عرض ساحة هتلر وكرباجه ونسخه ودماءهم. تذكر كابوس هتلر فتلفَّت وتنفس بعمق فانطمس أثر الكابوس. شعوره بالصدمة والذهول، الذي كان يرهقه ويبقيه في الأسفل الضَّيِّق لدُوَّامة الأفكار، تلاشى. تقبُّل مأساة وجوده في الحياة الدنيا ثانية، كما يقول متأمل، لا يسكن أعراض الصدمة فحسب بل يجتث أصلها.
كان يفكر في ذلك وهو جالس على مقعد منضدة غرفته. الباب والنافذة مفتوحان وهواءٌ خفيفٌ وأمْيَلُ إلى السخونة يهب من حين إلى آخر. أنعم النظر في الحديقة وشجرة الرُّمَّان وشجرة الأناناس ودالية العنب وسياج منزل التأمل الذي يفصله عن داخل الضفة؛ كان خشب السياج يكاد لا يُرى فكثافة الأشجار كانت تصنع ما يشبه دَغَلًا. كانت غرفته واسعة مثل غرفة متأمل، سرير وخزانة ومشاجب ومنضدة كتابة ومقعد دوَّار بإطارات، ورف كتب لم يوضع فوقه كتاب واحد عكس أرفف غرفة متأمل الممتلئة بكتب بلغات شتى بفضل المعجم يستطيع قراءتها جميعًا، وأعلمه بأنه يحصل عليها بشق الأنفس بعدما شح وجودها وأصبح نادرًا في عام 3000، خصوصًا الكتب القديمة، فتكنولوجيا حضارة الإنسان المتفوق، يقول متأمل، تلتهم كل ما كُتِب وقيل عبر تاريخ الوجود البشري وتحشره في رقاقة بِسُمْكِ قِطْمِير، وتعد الكتاب الورقي شكلًا بائدًا. مع ذلك فإن نذير راحل عبد الرحيم، إذا تجاوز أهمية القراءة التي لم يقدرها حق قدرها إلا في حياته الدنيوية الثانية هذه بعد لقائه متأمِّلًا، ما أسِف على خسارة شيء. تذكر عندما قال له في الوقت المناسب إنه سيملك سيارة طائرة! تذكر السيارة الطائرة الأولى التي حملته من معمل البشر عابر الزمان والمكان إلى فندق المألوف الخارق، وخوفه آنئذٍ من رهاب الأماكن المرتفعة وشرفة الشقة رقم 866. تذكر طفولته في بلدة مطرح ثم بعدها بسنين سقوطه من أحد جبالها الشاهقة والألم الهذياني الذي واجهه بطاقة احتمالٍ معجزةٍ حين جَبَّرَ مُجبِّر شعبي عظام ساقه اليسرى المكسورة دون تخدير ورأى روحه ترتجف بين يديه، وما حدث بعد ذلك حين بقي شهرًا طريح الفراش تطعمه أمه لحم الحمام والدجاج، وتذكر السَّمن في طعامه آناء ذلك الشهر الثقيل المندثر.
هل كان في الثالثة عشرة أم الرابعة عشرة وقتئذ، قبل بضع سنين من تحوُّلهم إلى سداب وشراء والده الصَّيَّاد قاربًا خشبيًّا جديدًا ومجاورتهم بيت أهل تقوى ثم زواجه بها؟
توقف لحظة وفكر ثانية في ذعره من الوقوف على شرفة شقة المألوف الخارق. في تلك الأثناء المرعبة، عندما كان يُخيَّل إليه أن الشرفة ستنهار به أو أنه بطريقة أو بأخرى في طريقه إلى السقوط، كان يُحِسُّ ذكرى جبل مطرح لكنه لا يستطيع تذكُّرها، لا يدركها! هكذا إذن كانوا يسدون منافذ ذاكرة حياته الأولى بجهاز تكرار! ولم يفهم كيف كانوا يفعلون ذلك، ولا لماذا يطلقون هذا الاسم على هذا الجهاز؟ يؤخذ بالحقن أو حبة أو إشعاعيًّا! والتبس عليه الأمر من جديد، إذ حتى بعد شرح متأمل لا يزال لا يعرف حقيقة هذا الجهاز ويخلط بينه وبين المعجم، ولا يفهم لماذا في اليوم الأول في معمل البشر عابر الزمان والمكان أوهمه أكثر ممَّا تتخيَّل بأنهم زرعوا المعجم في رسغه، ما الداعي إلى ذلك؟ واقشعرَّ حين تذكر إدريس تكرار، هل سماه والداه بهذا الاسم لإعداده لتكرار 3000 نسخة من هتلر وهتلر نفسه وتكرار حياته هو؟
هاجرت طيور وأتت أخرى لكن جزيرة الهضاب، كما يُقال، أرضٌ لا يطير غُرَابُها. وكما على السواحل الجبلية في حياته الدنيوية الأولى في القرن الحادي والعشرين، مشى نذير راحل عبد الرحيم حافيًا على رمل الشاطئ، واستأنف تذكر إدريس تكرار، وسأل نفسه: هل تكرار يعني نسخ؟ هل تكرار اسم عائلة إدريس أم هو نفسُه سمَّى نفسه بهذا الاسم؟ ثم تلاشى اهتمامه بالأمر، وطارد بنظره غرابًا وصل توًّا من الضفة المقابلة وحطَّ على إحدى أشجار التعريشة ونعق نعيقه البدائي العتيق. فوق ظُلَّة الصنوبر هدهدان لا يعرف إن كانا هما نفساهما اللذان يأتيان كل يوم، في البداية يأتي أحدهما ويحط على سطح الظلة ويقضي وقتًا واقفًا على إحدى الحافَّات أو يمشي حتى منتصف السطح ثم يعود إلى الحافة نفسها ويهدهد، وكانت هدهدته تأخذ نذير راحل عبد الرحيم وتصرفه عن أفكاره فيقف وينشغل بمراقبته، يخفض الهدهد رأسه كأنه ينقر الفضاء ثم يرفع منقاره ويفتحه ويُهدهد ويأتي ويروح، وأحيانًا يهدهد دون فتح منقاره، وبعد وقت يأتي هدهد آخر ويحط قربه، ويبدو الأمر كأنه كان ينتظره؛ أنثاه، قال متأمل. وتبدأ قصة الاستمالة والتَّمنُّع وانتفاخ الأوداج والصدر ونفش الريش والزهو بعُرف رأسه البني المرقط بالريش الأسود، وبعد وقت آخر يطيران كلٌّ في اتجاه. قال له متأمل إن الهدهد، صديق الفلاحين، لا يتغذى على شيء أطول من منقاره، ولتضليل عدوه يطير مفردًا ويستطيع أن يتوارى عن نظره ويحط على الرمل ويوهمه بأنه مخلوق بري. وإنه ـ على سبيل المثال ـ إذا دخل جحره الذي يحفره عادة في الأشجار أو الصخور، إذا دخل جحره ثعبان فإنه يخرج مهزومًا ويسقط مغشيًّا عليه، ولا يعود إلى التفكير في المخاطرة بحياته في هجوم يقلب الحقائق رأسًا على عقب ويجعله هو الفريسة! قدرة الهدهد هذه تمنحه إيَّاها غدة في قاعدة ذيله تجعله يرشُّ رذاذًا زيتيًّا أسود كريه الرائحة يبعد أعداءه بكفاءة خارقة! وقال متأمِّل إن جزيرة الهضاب تعج بالهداهد لأن تربة حقولها الخصبة توفر للهدهد غذاءه الأثير: الدود واليرقات.
متأمِّلًا ما يراه، متذكِّرًا أحاديث متأمل الطويلة، جَذِلًا سار نذير راحل عبد الرحيم تحت شمس الصباح الخفيفة. سخونة رمل الشاطئ تريح أخمصي قدميه. لم يكن يتخطَّى حدود منزل التأمل، وفي أي حال كان موقع المنزل يمنحه عزلة هادئة. ما وراء هذه الناحية، الأقرب إلى المرسى شبه السري الذي أوصلهم إليه زورق الصَّيَّاد قبل أشهر، مغطًّى بأيكة من أشجار القُرم تصنع سورًا جانبيًّا، أشبه بالأيكة التي تدفن السياج الخلفي لحديقة المنزل، يشهق فوقه صف من نخيل جوز الهند. نشوة غريبة تملَّكت نذير راحل عبد الرحيم. وقف وابتسم وتلا تضرُّعًا في سره، ومسح الأفق الأزرق بنظرة منشرحة، وأغمض عينيه ليتجنب شعاع الشمس المباشر، والتفت يسارًا، وعلى مبعدة رأى امرأة تصعد سُلَّم المِقْفَز، وتقفز في البحر وتغوص، وتخرج منه، وتعاود القفز. وليس بعيدًا عنها رأى رجالًا ونساء يسبحون وآخرين يستلقون تحت ظُلَلٍ كبيرة مكشوفة الجوانب. كان يرتدي سروال سباحة واسعًا يصل طوله إلى ركبتيه من تلك التي جلبتها له في حُبٍّ ووئام، وكان من حين إلى حين يسبح في أوائل ساعات شروق الشمس، ومتأمل كان يشاركه، والكلب الهادئ أيضًا في أحيان أقل.
أعطى منزلَ التأمل ظهرَه وغطس في البحر. تذكَّر الأسماك ثم الحيتان والقروش المفترسة ونظراتها العدوانية وزعانفها المنشارية التي حسبها ستخرق حيطان غرفة الشقة الـ866 في فندق المألوف الخارق وسقفها وأرضيتها. سأل نفسه: كيف تكون هناك حيتان وقروش وأسماك على ذلك الارتفاع؟ ثم قال إن كل ذلك مضى ولن يعود. متأمل ومهما يكن قالوا إنه لا خوف عليه من الذين يسبحون في تلك الناحية، فالمرء، من هذا البعد، لا يميز ملامح أحد هناك، والذين هناك لا يستطيعون ذلك أيضًا. وقف، خطا فوق تراب البحر، غطس أكثر حتى بلغ البحرُ عنقه، وتدفق فرح سِرِّيٌّ طريٌّ في دمه لمرأى الضِّفَّة الأخرى للجزيرة وكأنه رآها الآن فقط، الخضرة، الأشجار، المنتزهات، المقاهي، مراسي القوارب والمنازل البعيدة هناك تحت ضوء الشمس الوضَّاح. وظهرت في سماء الضفة الأخرى طائرة كبيرة جدًّا وشفَّافة، كأنها من زجاج، تكاد تخترقها أشعة الشمس، من تلك التي يقول متأمل إنها تحمل 5000 راكب، وتعمل بالهيدروجين، وتفوق سرعتها سرعة الصوت بأضعاف عديدة، وتحلق على ارتفاع خمسة وأربعين كيلو مترًا، وداخلها فيه من الأعاجيب وغير المعقول ما فيه مقارنة بزمنه الغابر، وتتحكم في جناحيها كالطائر. وقال متأمل إن تكنولوجيا الطائرات هذه قديمة تعود إلى ما بعد موته في حياته الأولى بعقود قليلة، وأضاف أنها صغيرة في كل حال تحط في مطار داخلي، أما الأضخم منها التي تطير في أسراب فتستوعبها المطارات الدولية العشرة للعاصمة قبضة الحديد وكلها بعيدة عن جزيرة الهضاب.
بسرعة صاروخ عبرت الطائرة، واختفت عن نظر نذير راحل عبد الرحيم رأسًا في أعالي السماء. تذكَّر بلدته سداب، بحرها، شاطئها، زوجته تقوى ورائحة ثيابها في دولاب السنديان العتيق وصورتها المعلقة على جدار غرفتهما، وفكَّر: هل يمكنه السفر إلى سداب وقضاء ما تبقى من عمره القصير هذا فيها؟ هل يمكن أن يكون لمخلوق بيت على الأرض يستطيع أن يعود إليه بعد 985 سنة؟ من يسكن بيته الآن؟ أبناؤه وأحفاده وأخواته ووالداه كلهم غادروا إلى الحياة الأخرى منذ قرون. إذا عاد هل تطلب منه السلطات هناك وثيقة تُثبِت صحة امتلاكه بيته؟
كيف أصبحت سداب الآن، وإلى أين يذهب فيها، ومن يعرفه من سكانها بعد كل هذا الزمن؟
وهل ما زال لبيته وجود؟
حين كان حيًّا في ذلك الزمن الغابر كان يسمع عن مطار جديد وكبير جدًّا في العاصمة يكلف مليارات الريالات انقضى أجله ولم ينقض إنشاؤه! هل هناك في بلاده الآن مطار يسع هذه الطائرات العملاقة؟ كم سعر التذكرة؟ من أين يأتي به؟ تذكَّر بحر سداب، شاطئها قبل مشروع البلدية بأمد بعيد، عندما كان المدُّ ينكسر على عتبة بيت أبيه، وبعد ذلك بكثير حين دمَّر إعصار غونو عام 2007 كاسر الأمواج وفلق شارع الأسفلت وقلعه من مكانه وحفر مجرى أوسع للبحر. مكث باله هناك، في ذلك الزمن المتغيِّر، وتذكَّر قبره في بلدة العامرات! ألا يزال جثمانه المتعفن تحت ذلك القبر؟ في أي جسد هو الآن إذن؟ كيف يكون له قبر وهو حيّ؟ وحَمَّتِ الشَّمسُ رأسَه فغطس تحت سطح البحر وعَامَ وعَامَ بقدر ما يسعفه جسده العجوز، وأخرج رأسه، وسال الماء من شعره ولحيته وحاجبيه وأنعشه، ورأى الكلب على الشاطئ. لقد أرسله متأمل. إنه موعد كوب الأعشاب.
انطوت أيام أخرى.
منزل التأمل، متأمل وكلبه، في حب ووئام، مهما يكن وعائلته، معالج، القبو، الغرفة، صورتا والديّ متأمل ولوحة البَلُّور، زوايا التأمل في الفناء، ظلة الصنوبر وظلل زوايا الفناء، البحر، الطيور، الحديقة، مشهد الضفة الأخرى والتأمل والصلاة كانوا عالم نذير راحل عبد الرحيم.
كل أسبوعين أو ثلاثة كان مهما يكن يأتي ويقضي معهما بضع ساعات. وتحرزًا، كما فهم نذير راحل عبد الرحيم، بسبب صلة مهما يكن القوية بالمعارضة وطبيعة عمل شركته في تحرير الرهائن وليس بسبب عملية اختطافه، دائمًا يجلسون في القبو، لأن حيطانه من الداخل مغطاة بمادة عازلة للصوت. يحتسي مهما يكن كأس نبيذ تين واحدًا فقط وقلَّما يشاركه متأمل الشرب، وكان يروي لهما أخبار المعارضين. عندئذٍ كان نذير راحل عبد الرحيم يرى فيه تلك الغلظة التي تذكره بأول مرة رأى وجهه فيها عن قرب، بواسطة الضوء الشحيح المنبعث من قاع زورق الصياد، في اليوم الذي اختطفه فيه من منزل الصمت. يُقلِّب الأمر بينه وبين نفسه: أكانت غلظة أم انفعالًا يشحنه به ضغط العمل؟ كأن غلظته تزداد كلما أسرف في أحاديث السياسة. أهي خِلْقة فيه وليست غلظة؟ برغم ذلك كان يحافظ على هدوئه المعتاد ولا يمكن للمرء إلا أن يحبه. انتهى نذير راحل عبد الرحيم إلى هذه النتيجة. إنه مِقدام مُخلِّص ولولاه لكان الآن منخرطًا حتى أقصى متاهات اليأس في سفح قوارير الإكسير وتدخين سيجار الماريوانا، ووحده الله يدري ماذا أيضًا كان إدريس تكرار يُحضِّر له. وتذكَّر في الوقت المناسب وما سمَّاه المكافح العجيب. في زيارة مهما يكن الأخيرة قبل أيام معتذرًا طرح عليه أسئلته، هل يمكنه السفر ليموت في بلدته سداب؟ أجابه دون أن يُفاجأ بسؤاله: فكرنا في هذه المسألة في وقت مبكِّر قبل عملية إنقاذك، وأشارت علينا الخبيرة النفسية تريُّثُ صديقةُ معالج باستبعادها نهائيًّا لأنها رأت أن صدمة عودتك إلى الحياة ثانية ستكون مهلكة نفسيًّا وبدنيًّا لو عدت إلى وطنك. من ناحية أخرى فإن تهريبك إلى بلادك محفوف بالخطر، فسلطات إمبراطورية الأرض تراقب الخارج والداخل ويصعب اختراقها إلا، كما يحدث في كل زمان ومكان، برشوة باهظة تُدفع لمسؤولين كبار يعملون في المطارات والمؤسسات الأمنية. إن دفع المال من جرَّاء عمل إنساني ليس أمرًا صعبًا، فهناك رجال أعمال نزيهون يقفون مواقف نبيلة عندما يستلزم الأمر ذلك. أصارحك أخي نذير، ثمة من اقترح تهريبك بسيارةٍ طائرة إلى خارج حدود قبضة الحديد، إلى مدينة رافقتكم السلامة التي تبعد عن الجزيرة خمس ساعات، ومنها بقطار المغنطيس المعلق الذي يقطع 2000 كيلو متر في الساعة في رحلة تستغرق سبع ساعات إلى حدود الإمبراطورية العظمى التي لا تُقهَر، ومنها عبر أنفاق سرية إلى مطار واحدة من مدن الإمبراطورية العظمى التي لا تُقهَر، ومنها بطائرة إلى مطارات بلدان أخرى، وهكذا حتى الوصول إلى وطنك، لكن، كما ترى، كانت القصة ستطول وتتعقَّد. كل ما تحتاج إليه يا صديقي هو الهدوء والاسترخاء وتقبُّل مأساتك، أو دعني أقل التسليم بأمرك الواقع بحكمة وإدراك عميق، وهذا، كما يقول متأمل ومعلمو التأمل، لا يأتي من الخارج أبدًا، لا من وطن ولا من إنسان آخر ولا من زمنٍ ما بل منك أنت، من داخلك.
معالج أصبح يأتي كل عشرة أيام بدلًا من كل أسبوعين كما كان يفعل سابقًا، يجرى الفحوص، يأخذ عينة دم أحيانًا، ويُزوِّد متأملًا بمساحيق الأعشاب الطبية، ويصف له وقت تقديمها لنذير راحل عبد الرحيم والمقدار اللازم، يغير بعضها ويضيف أخرى، ويمكث معهما ساعة، ونادرًا ساعتين لأنه، حسبما قال، أقلع عن الكحول ويتبع برنامجًا رياضيًّا ويعمل على كتابة بحث وتحضير مُركَّب طبي جديد بات على وشك إنجازه. كان أقل بدانة بكثير عما كان عليه في الشهور الأولى لمجيء نذير راحل عبد الرحيم، ولم يعد يلهث عند نزوله سلَّم القبو أو صعوده، ولا يلاحظ عليه المرء أول ما يلاحظ لُغْدَه المتهدِّل. كان لمعالج عيادة خاصة في هذه الضفة من جزيرة الهضاب، بيد أن أبحاثه وتجاربه كانت تقتضي قيامه برحلات منتظمة، على متن سيارته الطائرة، إلى مختبرات رابطة الأطباء المستقلين في قبضة الحديد، وكان ذلك يرهقه نفسيًّا، على حدِّ قوله، وعزا السبب إلى ما سمَّاه ارتكاز العاصمة على بنية الإبهار، بنايات شاهقة، أضواء صارخة، إعلانات، تكنولوجيا وطبيعة بشرية مجدبة من الصدق والعاطفة النبيلة ـقال مخاطبًا نذير راحل عبد الرحيم ـ ولهذا لم يزرها متأمل منذ أربعة عقود اللهم إلا عابرًا من أحد مطاراتها إلى بلدان أخرى. واستطرد: مؤكد أن الأمر ليس مطلقًا لكن ألا تُرَى الخلاصة؟ هذه هي الخلاصة! ولاحظ نذير راحل عبد الرحيم أن معالجًا كان، مثل متأمل ومهما يكن، يتميز بنبرة ثائرة وفي الوقت نفسه يتحلى بالهدوء، ولا يُعادي، ولا يُستفَز حتى عندما شرب حتى الثُّمالة في المرَّتين أو الثلاث مرات خلال الشهرين الأوَّلين لمجيئه. معالج يتأمل أيضًا. كلهم يتأملون، والتأمل على نحو أو آخر كان وشيجة تعارفهم. ربما بسبب قاماتهم الطويلة كان نذير راحل عبد الرحيم كثيرًا ما يراهم متشابهين. نشوة روحية وادعة تسكنه حين يجتمعون ويصعدون إلى قاعة التأمل فوق الغرف ويقضون ساعة تأمل معًا، متأمل ومعالج ومهما يكن ولا أثر وابناهما إبهام وتدبير، وفي حُبٍّ ووئام كذلك، كلهم يتأملون. وقد تأكد نذير راحل عبد الرحيم أن الكلب يغمض عينيه ويتأمل هو الآخر، فمرارًا طوال الأشهر الأربعة الماضية رآه يفعل ذلك: متأمل على مقعد الفناء والكلب عند قائمتي المقعد قربه، يرفع رأسه، يغمض عينيه، وبعد ساعة يفتحهما من تلقاء نفسه دون أن ينبهه متأمل! كان هذا ما يحدث في جلسة متأمل المسائية التي يؤديها في أي وقت بين الساعة الرابعة والنصف والسادسة، قبل العشاء وشراب الأعشاب، عقب أداء نذير راحل عبد الرحيم تأمله الإضافي وصلواته في إحدى زوايا الفناء أو في الأثناء نفسها إذا عاد من قيلولته ووجده مواصلًا جلسته.
قال له متأمل إن جدوى التأمل الروحية تُنال بالمداومة عليه. برنامج التأمل الذي وضعه له يختلف تمامًا عمَّا جرت عليه العادة. بصحبة الكلب الهادئ الصامت كانا يجدان وقتًا طويلًا للحديث والنقاش. استرسل متأمل شارحًا: فجلستا تأمل أولاهما بعد الاستيقاظ وقبل ممارسة أنشطة النهار، والثانية قبل تناول العشاء ومزاولة أنشطة المساء هما نموذج مثالي لأغلب المتأملين مُوصًى به من لدن معلمين كبار منذ زمنك الغابر وما قبله بقرون، وهو ما أمارسه منذ أربعة عقود، وأيضًا يمارسه أصدقائي الذين أصبحت تعرف عددًا منهم. أما الاستقرار على صيغةِ تأمُّلٍ توافق حالة إنسان جاء من عالم الغيب فكان أمرًا شديد التعقيد، وخصوصًا في طور إعدادك، أي بعد نشَّابة مهما يكن ورحيق الحنين ومشيكم الطويل المرهق الذي ربما أخبرتك بشأنه مرارًا، وربما معالج ومهما يكن أتيا على ذكره لك في الأشهر الماضية. في أي حال كان ذلك عاملًا جسديًّا مهمًّا جدًّا لإحباط الاحتجاج الذهني المستحكم فيك وتشتيت الصدمة النفسية لذاكرتك القديمة ووعيك بعثك وما يحدث لك لحظة بلحظة. ناقشنا هذه المعضلة في اجتماعات عدة هنا في منزل التأمل.
ناقشتم ذلك؟ أنت ومن؟
ومهما يكن وعائلته ومعالج. معالج بعد ذلك كان يستشير خبيرة نفسية زميلة له يثق فيها تُدعى تَريُّث تعمل في رابطة الأطباء المستقلين، ومهما يكن أيضًا كان قد تلقى إلكترونيًّا كل البيانات الخاصة بك سواء ذات الصلة بحياتك الأولى أم بإعادة خلقك وبعدها.
كيف حصل عليها؟
أعتقد أنك تعرف، أرسلها إليه أكثر ممَّا تتخيَّل.
آ، نعم. تذكرت. هل حدث ذلك مرارًا؟
في ذلك الوقت كان أكثر ممَّا تتخيَّل لا يزال يدير معمل البشر عابر الزمان والمكان، وكان المسؤولَ الثاني، كما تعرف، بعد إدريس تكرار، وهو ما مكَّنه من تزويد مهما يكن بمعلومات جديدة عنك عندما كنت تقيم في فندق المألوف الخارق. أظنك تذكر أن مهما يكن أخبرك بأنه وعائلته كانوا ينتظرونك قبل تحولك إلى منزل الصمت لأن أكثر ممَّا تتخيَّل أخبره بذلك. وكان المنقذون الرجال والنساء التسعة الآخرون الذين تنكروا في هيئة عمال صيانة يستطلعون الأحوال حول المنزل بطريقتهم أيضًا. الغريب في الأمر أن إدريس تكرار، كما يبدو، لم يحسب حساب إحباط خططه بشأنك فهو يعلم أن أكثر ممَّا تتخيَّل ـالذي تمرَّد عليه وفضحه ـ يعرف هذه المعلومات. لعلَّه بالغ في التعويل على حرَّاس منزل الصمت الآليين. من حسن حظك أنه مكابر ويعتد بنفسه على نحو مريض، لذلك لم يطلب حراسة مشددة من وكالة المخابرات. لا أدري. دعني أكمل لك ما أردت قوله، إن التأمل أولًا، وقبل أي شيء آخر، هو إدراكك لحظتك الراهنة. أمَّا التَّعويذة.
اللازمة؟
نعم، المَانْتْرَا، هناك، هناك، هناك... لا تُردِّدها لمعناها، وكل مانترا لا يجب أن يكون لها معنى أو لا يجب النظر إلى معناها، ولا هدف إلهائي لها، إنما تكررها كي تبقى حاضرًا دائمًا وفي حالة سكون منقطعة عن صخب الأفكار، ولتعود إليها كلما أدركت أنك ابتعدت عنها. بإيجاز: إن الأفكار تشتت الذهن، والمانترا تبقيه في حالة حضور ووعي بالآن، والشاهد، الذي هو أنت، الشخص المتأمل نفسه، يراقب ما يحدث عن كثب. درجة الترديد الصامت لكلمة هناك، أي تطويلها أو تقصيرها، ليس أمرًا مهمًا، فهي قبل كل شيء وسيلة لوعي زمنك الحاضر والتحرر من هيمنة الأفكار. مهما يكن كان ينقل إليَّ وإلى معالج كل المعلومات التي يرسلها أكثر ممَّا تتخيَّل. ومعالج، كما أخبرتك، ينقلها إلى صديقته الخبيرة النفسية تَريُّث وبعض معاونيها في رابطة الأطباء المستقلين. في حالتك أخي نذير اقترحت الخبيرة النفسية، وهي امرأة تبلغ مئة وعشر سنين، أي بعمرينا أنا ومعالج، وتزاول التأمل أيضًا، اقترحت أن نعكس المانترا تمامًا، لأنك إنسان أُعِيد من العالم الآخر دون إرادته، ودلَّ تاريخك الطبي الجديد منذ لحظة بعثك على أن روحك تُعارِض هذه العودة وتحن بقوة إلى الحياة الأخرى التي اجتثت سكينتها الأبدية منها. في الحقيقة كان اختيار مانترا مناسبة لوضعك الوجودي أمرًا صعبًا لم يواجه تاريخ التأمل قط، وفاقمت صعوبته التقارير شبه اليومية التي يرسلها أكثر ممَّا تتخيَّل، فقد كنت مستريبًا منهم في معمل البشر عابر الزمان والمكان وتشك في الإنسان الآلي دليل، إلى أن أرعبوك بصدمة من نوع آخر من خلالها أصبح دليل صديقك، وصرت تدخن سيجار الماريوانا وتشرب الإكسير، وما إلى ذلك من تحوُّلات طرأت عليك ليست من طبيعة روحك ولا تنتظم وسلوك شخصيتك في حياتك الدنيوية الأولى. على الرغم من ذلك خلص آخر تقارير أكثر ممَّا تتخيَّل قبيل لجوئه إلى المعارضة وهروبه إلى إمبراطورية الأراضي المترامية إلى أن شعورك بالعداء نحوهم ما زال يحتل حيزًا كبيرًا في أفكارك. وهكذا اضطررنا إلى تحييد المفهوم الكلاسيكي للمانترا، وانتقاء واحدة بدلًا من أن تواصل إرابتك ونزعك من نِشْدان حياتك الأخرى وإفزاعك باللامنطقي وغير المعقول والخارق والمستحيل، الواقع الآن وفي كل لحظة، من زاوية نظر إنسان ميت عاد إلى الحياة ثانية! بدلًا من ذلك على المانترا أن تعيدك لاشعوريًّا إلى حياتك الأخرى، ونحن الأحياء نقول أيضًا تعيدك إلى موتك، أي إلى طمأنينتك. على هذا النحو فإن كلمة هناك كانت وسيلة فعَّالة ترديدها هدَّأك وأضعف شكَّكَ في مهما يكن وعائلته، والأهم أنها سرَّبت فيك تسليمًا بما حدث لك منذ إعادة خلقك. إنها بمعنى أو بآخر تحسسك بأنك إن لم تكن هناك بعد فأنت حتمًا في الطريق إلى هناك، والغموض الذي يرافق كثرة ترديدك الكلمة غموض موازٍ لغموض وجودك المفاجئ في الحياة ثانية، أي أن سطوة الصدمة تتفرق إلى مستويات عدة ترهق قوة مصدرها الأساس، الأمر الذي يؤدي أخيرًا إلى تفتيت ترويعها في داخلك ويقود تدريجًا إلى السلام الداخلي، التقبُّل، السكينة، وفي نهاية المطاف، في أطوار أعمق، إلى ما يُعرِّفه معلِّمو التأمل الكبار بـِالنشوة الإلهية. المتأملون وحدهم، يا أخي نذير، يعلمون قدر التَّأمُّل.
كان متأمل يقول له إن الحياة ليست إلا عملية إصلاح أو تخريب ـذاتي أو جماعي ـ متصلة منذ ما قبل الوعي وحتى الموت. وكان يقول له إن الحديث عما يعود به التأمل على المتأمل المخلص المثابر لا ينتهي، وقال له: إن المداومة على ممارسة التأمل تُكسِب عقلًا وجسدًا خاليين من كل صنوف المرض وتصقل الحب الإلهي داخل المتأمل. كانت كلمات من هذا القبيل تذكي نشوته، وكان يعرف أن ذلك بسبب التأمل أيضًا! وكان متأمل يلفت نظره إلى ضرورة عدم الاستسلام للنشوة عندما تنقض عليه في أثناء جلسة التأمل، لأنها حينذاك سوف تشغله عمَّا هو بصدده وتجعله يرضخ للذتها، بينما التأمل في نهاية الأمر تأملٌ وحسب، يجب ألا تختلط به عناصره ومكافآته المترتبة عليه! ويكرر تنبيهه ليدرك أهميته فالنشوة ستأخذ مجراها في ما بعد في سائر يومه.
كثيرًا ما كان نذير راحل عبد الرحيم ينصت إلى متأمل ومهما يكن ومعالج. في حُبٍّ ووئام ولا أثر وإبهام وتدبير مقارنة بهم كانوا قليلي الكلام. بطريقة أو بأخرى كانوا جميعًا يُحيطونه علمًا بما يجهله، إذ أدرك أنه في غضون عبوره هذي الحياة الدنيوية الطارئة لن يستطيع أبدًا مغادرة منزل التأمل وإلا لانقلبت طمأنينته رأسًا على عقب. هكذا كانت أخبار ما يحدث خارج منزل التأمل تأتيه من زوَّاره. غدا وجوده الدنيوي ثانية حقيقة لا يمكنه الشك فيها من جهة ومن جهة أخرى حقيقة ما عادت صادمة، وأكثر من هذا ما أقصر الطريق إلى موته! تذكَّر مادَّة عقد معمل البشر عابر الزمان والمكان التي تنص على أن جسده سيتحلل ويموت بعد ستة أشهر. ستة أشهر؟ أكثر؟ أقل؟ ما البأس في ذلك؟ يحاور أفكاره ويبتهج، وبخُطى النشوة تخطو قدماه وبصفائها الزُّلال تَنْقَى سريرته. كان متأمل وزوَّار منزل التأمل قد أصبحوا أصدقاءه. وكان إذا ما خلا إلى نفسه وكدَّره ظنٌّ غامض يغمض عينيه، يؤدي تمرين تنفس عميق، ويقطع الطريق على اليأس، وتجعله هسهسة أنفاسه يحس بالظن المبهم يَخِفُّ وزنه ويَنْفُقُ في الزفير. إنه الآن يؤمن إيمانًا باتًّا بمغزًى فوقِ بشريٍّ مكَّن إدريس تكرار من إعادته ثانية إلى الأرض، وبأنه إن خفي عليه فسوف يعلمه عما قريب في هذه الرحلة العابرة أو بعدها، فلا شيء يوجد عبثًا، حتى العبثُ نفسُه لا يوجَد عبثًا! هناك الكثير ليتأمله من مأساة وجوده على الأرض: صحبة متأمل وكلبه وفي حُبٍّ ووئام ومعالج ومهما يكن وعائلته، هذا المنزل، هذا البحر وهذه السماء والطيور والأمطار والبروق والرعود والعواصف! كان يروح ويأتي ويقول في نفسه إن الإنسان لا يطمئن إلا عندما لا يفعل شيئًا يُندِمُه، لا يُسرِّي عنه إلا ضمير يغسله الخير والرضا.
لمتأمل كانت ساعات تأمل نذير راحل عبد الرحيم تتضاعف باطِّراد، وكذلك ساعات صلاته، وغالبًا كان لا يعرف هذه من ذاك، فبعد أن اشتد عليه ألم ثني ساقيه للصلاة وجلسة التأمل أصبح يجلس على كرسي. عدا ذلك كان يبدو في خفة ونشاط، مقبلًا على الحديث، يتذكر عاملًا من عمَّال البلدية الذين كان يُلاحظهم، ويبدي تندرًا مرحًا باسم الوظيفة الذي ارتبط جزؤه الأول "ملاحظ"، في حياته الدنيوية الماضية، بمسمًّى وظيفة كان كثير من مواطنيه يعدونها سُبَّة وانحطاطًا أخلاقيًّا وعارًا وسرقة، أو أوَّلَ مرَّةٍ في حياته الدنيوية الثانية هذه، وكان دائمًا يقول الدنيوية ويؤكد أنه لم يكن ميتًا بعد موته، أوَّلَ مرَّةٍ يتذكر سيارته الداتسون الذهبية الصغيرة التي توقف عن قيادتها في الثانية والسبعين من عمره، في أواخر القرن العشرين، ويسرد ما يتذكره لمتأمل، ومتأمل يفكر في ما قاله من أنه لم يكن ميتًا بعد موته لكنه لا يعقب، ويصيخ سمعه لذكراه المنتشية المهيبة، ويقول لنفسه إنه شيخ في روح طفل، إنسان جاء من الحياة الأخرى، مما بعد الموت، من تجربة لم يخبرها أحد قط من بشر عام 3000 بل من البشر طُرًّا منذ خلقوا ووجدوا على سطح الأرض، ثم، بدوره، يتذكر هتلر!
مساءَ ذات يوم، في غُرَّة موسم الجفاف، مضى متأمل لينبه نذير راحل عبد الرحيم من إحدى صلواته أو ـ لأنه لا يدري على وجه التحديد ـ من جلسة تأمل طويلة. كان متأمل جالسًا على مقعد المدخل، راقبه زمنًا طويلًا وهو غائب في عزلته تحت إحدى ظُلل الفناء؛ تارةً كان يرفع يديه، وحينًا يطبق كفَّيه أمام وجهه، ومرة يضعهما على ركبتيه، وتارة ينكس رأسه ويلوْح كأنه قد غلبه النوم، وأحيانًا أخرى يرفع رأسه ويبدو مندمجًا في تأمله، متجمدًا بلا حراك. عبْر الملاحظة اليومية المتصلة كان متأمل متيقظًا لذلك منذ أن كان نذير راحل عبد الرحيم لا يزال قادرًا على الوقوف الطويل، آنذاك كان يجثو على ركبتيه، يسجد ويؤدي ـلم يخامره شك في ذلك ـ طقوس ابتهالٍ بقدر ما حسبها خليطًا من أنظمة عبادة وشعائر مُورسَت طَوال التاريخ البشري أيقن أن إنسانًا لم يمت ولم يعد من الموت لن يمكنه القيام بها أبدًا، ففيها طاقة روحية مطْلَقة فوق بشرية لم تُتَلَقَ عبر وسيط بشري، طاقة تكتنف نذير راحل عبد الرحيم وتجعل النظر إليه ضربًا من وداعة سِرِّيَّةٍ تفوق غِبْطَتُها بصيرة التَّأمُّل وتذهب بها إلى غاية غائرة في لا وعي الإنسان. مُقِرًّا لنفسه بهذه الرؤية انقاد متأمل لحَدْسه وآثر ألا يخوض في هذا الشأن مع نذير راحل عبد الرحيم، إذ لم يكن طبعه الاندفاع، وكان يؤمن بأن ثمة ما يصون الصَّمتُ أثرَه الحميم في الأنفس إن لم تُفْشَ سيرتُه. أعمل ذهنه في هذه الخلاصة، وذرع معبرًا حصويًّا وقنطرة دون أن يبتعد بنظره عن نذير راحل عبد الرحيم الذي كان يصلي جالسًا وبدا كأنه يتأمل. لم يفتح عينيه منذ ساعات، ولحظتئذ، كما حدث كثيرًا من قبل، عاود الالتباس متأمِّلًا ولم يعرف إن كان يصلي أو يتأمل أو ماذا! هزَّ كتفه هزة خفيفة فانتبه، فتح عينيه ببطء فثوتا بالماء الجاري في الساقية. صامتًا جلس متأمل على كرسي آخر قريب وجلس الكلب قبالتهما. جرى الماء في عيني نذير راحل عبد الرحيم؛ كان صافيًا وعلى مرآته المؤطرة من القاع وحافتيه بطحالب صقيلة انعكس جانب شجرة من أشجار الفناء. غرد طائر وهبَّ نسيم من صوب البحر. العالم هنا دائمًا بيد أن المرء يفتح باب نفسه ويدخل، وعندما يخرج يرى العالم أنضر؛ ألأنه ترك باب نفسه مفتوحًا أم لأن نفسه خرجت من الباب وأصبحت طليقة في العالم؟ سأل نذير راحل عبد الرحيم روحه وعيناه ما زالتا ثاويتين في الماء. تراءت له قُماشةٌ قذرة غطَّستها يد في الماء الجاري، وما لبث الماء أن غسلها وصفا، وتَخيَّل القماشة غسلت حقد قلبِ واحدٍ من البشر! هَجَسَ ذلك في صدره وابتسم في سره: لو أن حضارة الإنسان المتفوق هذه اخترعت مسحوقًا لتنظيف القلوب من أدران الشر لاصطلحت أحوالها! ناحت حمامة ونعقت غربان فآب نذير راحل عبد الرحيم إلى نفسه؛ إنها، كما أخبره متأمل، اللحظات التي تعقب جلسة التأمل وفيها يستريح المتأمل بضع دقائق من تعب جلسته ويُطلِق آخر ما تبقى من الأفكار ويتركه يذهب إلى حال سبيله، ثم يمدد أطرافه ويتنشط ويمضي ليكمل ما تبقى من يومه. رفع نذير راحل عبد الرحيم نظره عن صفحة الساقية وكسر الصمت المخيم عليهما وعلى الكلب: اسمح لي يا أخي متأمل، يلح عليّ سؤال منذ زمن ولا أريد التطفل عليك به.
اسأل في أي وقت تشاء أخي نذير ولا تعتذر، وإن كنت أستطيع الإجابة فلن أتأخر.
في حب ووئام.
ماذا بشأنها؟
مرارًا سمعتك وسمعتها وسمعت معالجًا ومهما يكن ولا أثر يقولون أربعة عقود حين يتحدثون عنك وعنها، ولم أفهم ماذا تعني أربعة عقود ولا الصلة التي بينكما.
آها، هذا هو سؤالك إذًا، يا رجل، ظننتني ذكرت ذلك لك.
لا، لم تذكره لي.
في حُبٍّ ووئام أمي.
أمك؟!
وهكذا بدأ حديث آخر من أحاديثهما الطويلة.
نعم، أمي بالتبني. تبنتني قبل أربعة عقود. عليَّ أن أعود إلى الماضي قليلًا كي ترى الصورة أوضح. أخبرتك أن لقائي معالجًا في السابعة والعشرين من عمري أحدث انقلابًا في حياتي بعدما روى لي قصة أمي وأبي ومجيئي إلى الحياة. قلت في نفسي إن أمي لم تسمني متأملًا عبثًا، وعزمت على أن أكرس حياتي لشيء واحد: التأمل. وافقتُ معالجًا الرأي في أن إفناء العمر جمعًا للمال لشراء حقنة إكسير الخلود لا جدوى تُرجى منه. كنت قد ادخرت مبلغًا من عملي في المصانع، وفتحتْ حقنة المعجم، التي ساعدني معالج في دفع ثمنها، الآفاقَ أمامي، واجتازت بي حاجز اللغة في مدينة قبضة الحديد، وأخرجتني من مجتمع العُمَّال والعمل المرهق في المصانع. في ذلك الوقت، أي عام 2917، لم يكونوا قد بدأوا بعد يعتمدون اعتمادًا شبه كلي على الإنسان الآلي كما هو الحال اليوم. المهم يا أخي، حينها لم أكن أعرف شيئًا عن التأمل فبدأتُ خطة طويلة الأجل لتعلُّمه وممارسته يوميًّا وادِّخار ما أكسبه من العمل من أجل إنشاء منزلٍ للتأمل. كان ذلك شاقًّا لاسيما حين أُضطر للسفر إلى خارج إمبراطورية الأرض لتلقي دروس التأمل علي أيدي معلمين كبار وأكابد خسارة مصدر الدخل المؤقت. ذات يوم بعد ثلاث وأربعين سنة من العمل، أي في السبعين من عمري، هاتفني معالج من عيادته الجديدة، آنئذٍ، هنا في جزيرة الهضاب، ودعاني إلى زيارته على وجه السرعة، وهناك عرَّفني بـِ في حُبٍّ ووئام التي كانت مريضته، وكانت قد خرجت من حِدادٍ طويل على زوجها الثري، وتساعد الناس وتتبرع بجزء من دخلها الشهري لعلاج ذوي الأمراض المزمنة والقاهرة والأطفال الأيتام والمشردين. قالت في حُبٍّ ووئام إنها تحلم بأن تتبناني وتحقق حلمي ببناء منزل تأمل!
هكذا إذًا! فهمتك الآن، وماذا فعلت بما ادخرته؟
سلَّمته إلى في حُبٍّ ووئام، ومع أنها مانعت في البداية قنعت في النهاية بأني لم أعد أحتاج إليه فأخذته. في حُبٍّ ووئام روحُ أمومةٍ وعطف لا تنضب إنسانيتها. نُزُل الأراجيح هذا الملاصق لمنزل التأمل ملكها أيضًا، من أجلك أغلقتْه.
من أجلي أنا؟
كي لا ينتبه النزلاء إلى وجودك، إذ لم يكن عدم انتباههم مضمونًا، فمن يستطيع الحيلولة دون ارتيادهم البحر مثلًا والاختلاط بنا وإبداء تعجبهم منك؟
فهمتك. لن أنسى صنيعها وكل ما أسديتموه إليَّ، هل تسمح لي بسؤال آخر أيضًا؟ وهذا السؤال أعتقد أنني يجب أن أعتذر مقدمًا.
قاطعه متأمل ضاحكًا: لا عليك يا أخي، اسأل دون اللجوء إلى ديباجتك المهذبة.
ألم تتزوج؟
كلا.
ألا تفكر في الزواج؟
كلا.
لماذا؟
ولماذا أتزوج؟ إنني مستريح هكذا. لعلِّي في ريعان شبابي عانيتُ ما تسميه تَرَيُّث الخبيرة النفسية صديقة معالج عقدةَ أبناء ملاجئ الخصوبة، لكن التأمل حسم قراري ونقَّاه من كل شائبة. إنني، مثل ملايين غيري من أبناء الملاجئ، أدركت طور شبابي وأنا ضحية حنان آليّ. ذلك زمن مَرَّ يا أخي، ثم إن أغلبية مواطني ما يسمونها حضارة الإنسان المتفوق ترعرعوا في أحضان آلات، لا يعرفون آباء ولا أمهات، وهذا منذ عدة أجيال. من كل عشر نساء اليوم هناك اثنتان فقط تحملان حملًا طبيعيًّا، مثل لا أثر زوجة مهما يكن وجملة من معارفنا المتأملات، أما البقية الباقية فخطط إمبراطورية الأرض ونظيراتها بدَّلت طبيعتهن منذ أمدٍ بعيد.
أعماركم يا أخي في عصركم العجيب هذا أصبحتم تحسبونها بالقرون، هل تستطيع البقاء وحيدًا طوال 400 عام؟
ولم لا؟ أصدقك القول: لم أجد مؤنسًا كالوحدة ولا صاحبًا كنفْسي، وأثق بأنك تفهم ما أعنيه وبأنني أقدر الأوقات الثمينة صحبة الكتب ومعلمي التأمل الذين طالما تعنَّيتُ الوصولَ إلى أصقاع بعيدة لأستقي منهم أصول التأمل. وماذا أقول عن صحبة أصدقائي وصحبتك يا أخي نذير المتمناة من ملايين الخلق؟
أعي مقصدك يا أخي متأمل لكن ليس تمامًا. أرجوك أصدقني القول أهذا كل ما في الأمر؟
إنك تنبش ماضيًا مات يا أخي نذير. لا بأس، سأبوح لك بسر: في مطلع حياتي عرفت بعض النساء. الغريزة الجنسية كانت تجعلني عبدًا لشهوتي، وكنت أتحسس كثيرًا من بعضهن حين لا يكون ثمَّة مانع منطقي لعدم مشاركتي نفس الشعور. بمرور الوقت أصبح تحسسي مرضيًّا بغَّضني إلى نفسي وبغَّض نفسي إليَّ، وكانت صراحتي تولِّد انتقادًا واتهامًا وتجر كلينا إلى التذرع والتبرير والدفاع والهجوم وتزيد المشكلة سوءًا. لم أفهم كيف أن امرأة ترسل إلى هاتفي أغنية عن الهجر واللوم والوداع لا تعني ذلك وأنا أكاد أجن من برودها نحوي! كنت أعجز عن العثور على معنًى لأغنية أو تفسير لسلوك عاديٍّ في وقت عصيب. لا أدري لم فعل بعضهن ذلك ولم أرتح إلا بعد أن قطعتُ دابر الجنس من حياتي. نعم، المرأة تحتاج إلى الشعور بأن حبيبها يريدها ويرغبها لكن هو أيضًا ليس حجرًا. أليس كذلك؟ إلا إن كانت تقوده إلى التخلي عنها. كان ذلك أيام شبابي يا أخي. لقد عانيت وبكيت حتى تحررت للأبد من لوعة الحب.
النساء يختلفن أخي متأمل ولسن كلهن كمن وصفت.
إنك محق يا صديقي. الآن، بعد مرور عقود على هذه الذكرى، لا أستطيع القول بأني كنتُ مصيبًا وأن أولئك النساء كن على خطأ. قد يكون الأمر ببساطة أنني إنسان مُعقَّد لا يستطيع إقامة علاقة عاطفية سوية. ربما. دعني لا أجادل نهائيًّا في أمر أصبح وراء ظهري لكن هل أستطيع أن أصف لك غبطتي حين تقطَّعت الأوصال بيني وبين النساء؟ لقد تحرَّرت من التفكير الباعث على الجنون والانشغال بما قد يكون وما قد لا يكون، وربحت نفسي. إذا خذلك أحد فإنك تلوذ بنفسك لكن إن خذلتَ نفسك فبمن تلوذ؟ ألا يذهب المرء دومًا إلى نفسه وفيها حتى وهو وسط من يحبهم ويحبونه؟ حبيبان يتقاسمان سريرًا واحدًا ألا يفعلان الشيء نفسه؟ وهل هناك أمتع من أن تصاحب نفسك، تطبخ وجبة وتستمع وحدك إلى تلك الأغنية التي تعود إلى عصرك القديم: "تخيَّل أنه ليس هناك أوطان، ليس من الصعب أنْ تفعل، لا شيء لتقتل أو تموت من أجله، وليس هناك أديان أيضًا، تخيَّل الناس كلهم يعيشون الحياة في سلام، قد تقول إنني حالم، لكنني لست الوحيد"؟.
كلمات تترك أثرًا بليغًا في النفس أخي متأمل وتجعلني أرتعد وأرى 400 سنة سنوات موحشة إذا قضاها الإنسان وحده.
يا أخي نذير ألا تظن 400 سنة عمرًا مبالغًا فيه؟ وحسب خطة إمبراطورية الأرض ثلاثين ثلاثين فإن العمر الافتراضي للإنسان في سنة 3030 سيبلغ 600 سنة! وتشير تقارير التنبؤ بالمستقبل إلى أن حقنة إكسير الخلود قد يتدنَّى سعرها وتصبح برخص التراب! ياللكارثة! ماذا يفعل الإنسان طيلة عمر كهذا؟
نعم، إنك محق، ماذا يفعل المرء بعمر سبعة أشخاص معًا؟
لولا المضادات والعقاقير والصيانة وقطع الغيار المكلِّفة لما بلغوا مئة عام، ومع ذلك ينبغي الاعتراف بفضل التقدم الطبي النزيه.
لم تجبني عن سؤالي بعد، 400 سنة أو 600 تعيشها وحيدًا!
إنك تحوم حول نفس السؤال أخي نذير. لقد أجبتك. لستُ وحيدًا. من سنة لأخرى أسافر إلى بلدان أخرى لألتقي معلمي التأمل، وكما رأيت صلتي بِـ في حُبٍّ ووئام قوية، ويزورني أصدقائي من وقت إلى آخر وفي غيابهم مُخلِص دائمًا قريب مني.
مُخْلِص؟
حرَّك الكلب ذيله، ونبح، واقترب من متأمل، وجلس عند ساقه. فوجئ نذير راحل عبد الرحيم حيث إنه لم يعرف اسم الكلب ولم يسمع نباحه إلا الآن فقط! وتذكر أنه سمعهم يذكرونه أحيانًا لكنه لم يفطن إلى أنهم كانوا يعنون الكلب! في غمرة فجأته تلك اضطرب وسبقه لسانه:
400 سنة؟
ولماذا أعيش 400 سنة؟
ماذا تقصد؟
أقصد أنني حين أصبح مسنًا، بعد تسعين سنة من الآن، أي حين يبلغ عمري مئتي سنة يا صديقي وأضجر من هذي الحياة سوف أذهب إلى وادي هضبة الجبل، ولن أعدم العثور على إكسير الحكمة النقي غير المغشوش، غير المباع في صيدليات إمبراطورية الأرض!
وفي صباح الثامن من مايو وصلت منزل التأمل ثلاث نساء ملوَّنات فوارع الطول كمتأمل، يجررن خلفهن حقائب كبيرة على إطارات. صافحن نذير راحل عبد الرحيم ومتأملًا، وداعبت إحداهن مُخلِصًا. شَدَهَ مرآهُن نذير راحل عبد الرحيم؛ أول الأمر ظنهن دخلن منزل التأمل خطأً إلا أنهن صافحنه على مهل، وخاطبنه باسمه، ولم يقلن شيئًا آخر. التي وقفت قبالته بدت متوترة، كان لونها زمرُّديًّا، ترتدي بنطالًا وقميصًا زمرديين، حاجباها، عيناها وظفائرها الطويلة حتى منتصف ظهرها كانت زمردية أيضًا! الثانية زرقاء بذيل حصان وفستان أزرق يبلغ فخذيها الأزرقين وكل ما فيها أزرق، والثالثة ترتدي قميصًا فضفاضًا وسروالًا قصيرًا، حمراء من قمة رأسها ذي الشعر القصير حتى حذائها الرياضي. كن يتعرَّقن من المشي تحت أشعة شمس موسم الجفاف، ويلصفن كسطح معدن عاكس، وجلسن يلتقطن أنفاسهن على مقعد المدخل. مرت دقائق لم يقلن خلالها شيئًا، ومن جيب بنطالها أخرجت الزمردية فردة قُرْط فضة رأى نذير راحل عبد الرحيم كيف شكَّلته ومدَّدته فأصبح بحجم راحة يدها ونقرت فوقه فأضاء. وحدس نذير راحل عبد الرحيم أنه هاتف أو شاشة تلفزيون أو حاسوب، شيء يشبه ما رآه عند في الوقت المناسب عندما رفضت نادلة حانة دوالي التين في الحي القديم السماح له بالدخول، وتذكر الهاتف المحمول الشبيه بالإصبع الذي أعطاه إياه في الوقت المناسب ليهاتفه به عند الضرورة. قرأت الزمردية شيئًا على الشاشة المضيئة، ثم نفخت نفخة ارتياح وعلت محيَّاها ابتسامة عذبة، وضغطت الآلة في راحة يدها فتحوَّلت قرطًا أعادته مرة أخرى إلى جيب بنطالها! نهضت وفتحت حقيبة وأخرجت منها كيسًا بانت داخله أناناسة كبيرة جدًّا، ثم جاء متأمل وصافحهن وقال إن الأفضل أن ينزلوا إلى القبو ريثما يضع حقائبهن داخل الغرف.
كانت الساعة تزحف نحو العاشرة صباحًا. بالكاد فرغ نذير راحل عبد الرحيم من شرب كوب الأعشاب. منذ منتصف أبريل الآفل كانت السماء تمطر مرَّة في الأقل كل يوم، إلا أن درجة الحرارة مهما ارتفعت كانت في حدود الاحتمال، وهو ما لا يحول عادةً دون البقاء في الفناء طوال النهار لولا الرطوبة الثقيلة الكاتمة التي ترغم نذير راحل عبد الرحيم ومتأمِّلًا، في أحيان قليلة وفي غير أوقات القيلولة، على اللجوء إلى غرفتيهما أو غرفة أحدهما.
حول طاولة المطبخ في القبو جلسوا، وأقعى مخلص قرب باب المجفف. صافحت الزُّمُرُّديَّة نذير راحل عبد الرحيم ثانية، وعرَّفته بنفسها: نتشرف بلقائك أخي نذير، أنا تَريُّث خبيرة نفسية أعمل في رابطة الأطباء المستقلين وخطيبة معالج. دهش نذير راحل عبد الرحيم مرتين، مرَّةً لأنه فهم من مجيئهن أن أَجَلَهُ قد حان، فها هو الشهر الخامس لمأساته يتأهَّب للرَّحيل ومتأمل ومهما يكن أتيا على ذكر هذه الطبيبة مرارًا في الأشهر الماضية، ومرَّةً لأنه عرف توًّا أنها خطيبة معالج وليس صديقته كما أخبره متأمل. لمح أثر المفاجأة على وجه متأمل أيضًا. خطر كل هذا بباله غير أنه لم يعقب بكلمة. استطردت تريُّث حديثها: هذه ـمشيرةً إلى الزرقاءـ مَاعُون معاونتي، وهذه ـالحمراءـ مَنْ أنا مَنْ أنت معاونتي أيضًا وكلتاهما صديقتي. استغرب نذير راحل عبد الرحيم الاسم: من أنا من أنت! وراودته الرغبة في أن يقطع حديثها بالسؤال عما إن كان ذلك اسمًا واحدا فقط أم اسمين، ثلاثة، أربعة أسماء! لكن تريُّثًا بَهَتته ومتأملًا: نعتذر عن مجيئنا بهذه الهيئة الصبيانية. أُصِيب مهما يكن بطلقة نارية في ساقه.
بهدوء مترقب صاح فيها متأمل: ماذا؟
تفاديًا للرقابة الصارمة التي تفرضها وكالة المخابرات على المعارضين أصرَّ معالج على ذهابنا إلى عيادة تلوين الجلود، فهذه الظاهرة، أخي نذير، مستعرة بين عديمي الفكر فقط من شباب إمبراطورية الأرض. في الحقيقة، من وجهة نظري، لا تمس إليها حاجة خصوصًا أنني وماعون ومن أنا من أنت، درءًا للشكوك، نعمل في منازلنا، فلدينا مختبر خاص وقلما نزور مقر رابطة الأطباء المستقلين التي، مثلها مثل أي مؤسسة أخرى، فيها بعض العملاء السريين التابعين لإدريس تكرار أو وكالة التجسس. قبل عشرة أيام كنا ننوي المجيء بباخرة لكن معالجًا وسوس وجعلنا ننتظر، واليوم أرسل إلينا زميلة أقلتنا بسيارتها الطائرة إلى جزيرة الهضاب. السيارة الطائرة، تعرفان، يقودها إنسان آلي، وكل هذا الوسواس غريب. في أي حال لمعالج تعليلُه.
نافد الصبر قاطعها متأمل: وكيف حال مهما يكن الآن؟
لا تقلقا، إنه بخير. قبل قليل أرسل إليَّ معالج رسالة طمأنة. إنه في منزله.
سألها متأمل: ماذا حدث؟
كان مهما يكن يحاول إنقاذ مساعد أكثر ممَّا تتخيَّل في معمل البشر عابر الزمان والمكان الموضوع قيد الإقامة الجبرية في منزله منذ أشهر. في الآونة الأخيرة ألقوا القبض على عدد كبير من المعارضين أغلبهم علماء وسياسيون ونشطاء وكتاب وموظفون وطلبة.
سأل نذير راحل عبد الرحيم: ولا أثر وإبهام وتدبير؟
إنهم بخير. كان مهما يكن وحده.
وضع متأمل يده على كتف نذير راحل عبد الرحيم: مهما يكن دائمًا يقوم بعمليات تحرير الرهائن بمفرده أو مع فريق من شركات تحرير رهائن ذات صلة وثيقة بالمعارضة. المرة الوحيدة التي أشرك فيها عائلته كانت عملية إنقاذك.
قامت تريُّث وتناولت كيس الأناناسة الكبيرة وأخرجتها منه وضغطت زر وعاء زجاجي كبير نابٍ عن الجدار قرب المغسلة وأدخلت الأناناسة في بطنه، وعندما ضغطت الزر وانغلق الوعاء سال ماء كثيف وتعكَّر قليلًا وصفا، وقطعت أسنان الآلة تاج الثمرة ووبرها وابتلعتهما، وقَوَّرت الثمرةَ الكبيرة في لحظات. وضعت تَريُّث صحنًا تحت فم الآلة فامتلأ بدوائر الأناناس وقدمته لنذير راحل عبد الرحيم. قامت ماعون ومن أنا من أنت ومتأمل وأتوا بصحونهم.
هتف متأمل ضاحكًا: تريث لا تعترف بشجرة أناناس منزل التأمل. صمت ثم أكمل: إنهن المتأملات الثلاث يا أخي نذير، هذا اسمهن الحركي وفقًا لمعالج. وضحك نذير راحل عبد الرحيم وابتسم، وكان ممسكًا بشوكة وسكين. وعبق المطبخ برائحة الأناناس.
رأى نذير راحل عبد الرحيم أن مجيء المتأملات الثلاث أحدث تحوُّلًا ملحوظًا في منزل التأمل، حركة وصخبًا مقارنةً بالأشهر الماضية. تحت كل ظُلَل التَّأمُّل في الفناء وضعن أُصُصَ ريحان، وكذلك داخل ظُلَّة الصَّنوبر على الشاطئ، وحرصن على تبديل مواضعها في بعض ساعات النهار كي لا تواجه الشمس مباشرةً فتحترق، وتركن اثنتين على إفريز نافذة غرفة نذير راحل عبد الرحيم، وفاحت رائحة الرَّيحان الطَّيِّبة في منزل التأمل وفي ذكرياته الواضحة والغامضة. قال في نفسه إنهن متأملات أكثر من كونهن فريقًا طبيًّا أتى ليتابع حالته الصحية عن كثب. كن يشاركن متأملًا تنظيف معابر منزل التأمل، القبو، دورة المياه، الحديقة، الفناء، ظلة الشاطئ وظُلل الفناء وغرفة نذير راحل عبد الرحيم أيضًا. كان يخجل وينضم إليهم فيعترضون ويقولون له إنهم يعدون التنظيف شكلًا من التمارين الرياضية لأنهم لا يغادرون منزل التأمل كثيرًا وإلا فيمكنهم الاستعانة بالمنظف الآلي، إلا أن نذير راحل عبد الرحيم يستمر في إلحاحه المهذب، وإن رضخوا له ومدوا له بمكنسة كان بعد قليل من الوقت يشعر بالإعياء، ولا يستطيع الانحناء كفاية لدفع عصا المكنسة أسفل السرير والمنضدة، وكان قد بدأ يشكو دوارًا وخدرًا في ساقيه، كما أن يديه كانتا تنملان وترجُفان. مع ذلك لم يبد هذا الطارئ معكرًا لمزاجه المنتشي.
بسبب مجيئهن سألته تَريُّث ألا يُحدِث أيَّ تغيير في برنامج يومه المعتاد، وأن يواصل صلاته وتأمله على مقاعد ظلل الفناء كما كان من قبل، وكان ذلك يؤنسه فلا شيء كالهواء الطلق ورائحة البحر يهب روحه ذكرى سداب التي سيفارق الحياة هذه المرة دون أن يطأ أرضها.
الموسيقى أيضًا أتت مع المتأملات الثلاث، موسيقى يُنصَت لها طيلة ساعات النهار، في القبو، في معابر الفناء وزوايا التأمل المظللة ودورة المياه وظلة الشاطئ والغرف، صوتها خفيض ومتمهل وهادئٌ وناءٍ، يسكب في روح نذير راحل عبد الرحيم شعورًا بفناء وشيك وعذْب وحنينًا محمومًا إلى الحياة الأخرى، ويخال ريحًا تسوقه من جهة بعيدة المنال، من بلدة سداب، من بحرها وساحلها وسمائها وجبالها وأحيائها وبيته. كان حنينه نحو الحياة الأخرى وسداب يتنازعان، وكان يفهم هذا. ذكَّرته الموسيقى بشقة فندق المألوف الخارق إلا أن تلك، قال في سره، مهما كانت مرخية للأعصاب وهادئة، ارتبطت بالريبة والنِّيًّات الخبيثة. رائحة الريحان والموسيقى جنة تأمله؛ يغمض عينيه، ينسلخ من نشوة اليقظة ويذهب رويدًا إلى حيث لا فكرة تَعُنُّ وليس سوى الصمت والسكون هناك، هناك، هناك.
في الرابعة والنصف صباحًا كانوا يستيقظون، وفي الغبش يمشون تُجاه الشاطئ، ويتأملون معًا ساعة في ظلة الصنوبر. في الصف الأمامي كان يجلس نذير راحل عبد الرحيم ومتأمل ومخلص، وخلفهم المتأملات الثلاث اللاتي، بعد ذلك، كالمعادن كانت ألوانهن تلصف تحت الأضواء وأشعة الشمس. في بداية موسم الجفاف هذا كانت أذيال الموسم المطير لا تزال مثقلة بمطر غزير يجبرهم أحيانًا على التأمل في قاعة التأمل الكبيرة فوق الغرف غير أن صعود سلالمها الخشب تعسَّر على نذير راحل عبد الرحيم. كان متأمل قد علمه ممارسة تمرين تنفس للاسترخاء، شهيق طويل من الأنف وزفير أطول منه من الفم، مرتين، ثلاث مرات في اليوم أو كما يشاء، وتمرين تنفُّس ما قبل التأمل، شهيق من منخر واحد يعقبه زفير بعدَّاتٍ مضاعفة من المنخر الآخر والعكس دون إحداث صوت. كان هذا التمرين يجهده. علمته تريُّث تمارين تنفس عميق أخرى قالت إنها تهدئ الجهاز العصبي، تنظم الدورة الدموية، وتعين على إزالة الألم، جعلته يستطيع المشي حتى الشاطئ وهبوط سلالم القبو أما صعودها فأيامًا بعد أخرى كانت صعوبته تزيد ويتطلب منه وقتًا أطول وجهدًا عضليًّا أشقّ. وأخيرًا، في أوائل يونيو أتوه بعصا خيزران أصبح لا يغادر غرفته إلا بها. مع ذلك لم تذبل روحه، وكان تأملهم وحديثهم وتناولهم الطعام معًا يُثمِل امتنانه. حين تلم بعض الأيام شعثهم، متأمل ومعالج ولا أثر والمتأملات الثلاث وفي حُبٍّ ووئام، يتذكر ابنيه وابنتيه وزوجته تقوى وأخواته عند اجتماعهم في حياته الدنيوية الأولى في بلدة سداب أو على شاطئ السِّيفة أو بعض نواحي العاصمة حيث كان ابناه وابنتاه وأزواجهم وأبناؤهم يقطنون.
وفي السادس من يونيو، بُعَيْدَ وجبة الإفطار، حينما سجلت من أنا من أنت التاريخ جهرًا على شاشة حاسوب، ارتاع نذير راحل عبد الرحيم وتذكر، إنه اليوم الذي حدده له إدريس تكرار ليبلغه بقراره إن كان سيوقع العقد أم لا! كان يجلس على مقعد المدخل شبه المستدير وكانت من أنا من أنت، بناء على طلب تريُّث، منشغلة بتدوين ما يندرج تحته تطور علاجه. تسارع نبضه لحظة نطقت من أنا من أنت، دون انتباه، التاريخ، وتطلَّع إليها فأخذت في انشغالها تدندن شيئًا سهَّاه خوفه، ولمَّا حركت الريح أوراق الأشجار وبلغ أذنيه اصطخاب موج البحر سكن وانبسطت أساريره وشعر بالأمان.
مهما يكن يتعافى من إصابته. معالج وأحد أصدقائه الأطباء يعالجانه سرًّا في منزله، بوسائل غير معقدة ولا تثير ريبة وكالة التجسس. إبهام وتدبير يبقيان معه، ووحدها لا أثر زارت منزل التأمل مرتين في الأسابيع الثلاثة الماضية.
وفي فجر أحد الأيام استيقظ نذير راحل عبد الرحيم فوجد أمام غرفته ثلاث نساء، سوداء وخلساء وبيضاء!
8
أدولف هتلر يروي قصة حياته ويحل لغز انتحاره في الـ30 من أبريل عام 1945
السوداء تَريُّث وكانت عيناها خضراوين. الخَلساء من أنا من أنت زرقاء العينين. البيضاء ماعون بعيون سوداء. تحت أضواء دهليز الغرف بَدَوْنَ لنذير راحل عبد الرحيم نساء أخريات، بيد أنه ميزهن بسهولة فأصواتهن هي نفسها، وأرواحهن، قال لهن، هي نفسها أرواحهن الطيبة. شرحت له تريث: في عيادة تلوين الجلود دمَّر الطبيب الخلايا الملونة المسؤولة عن إنتاج مادة الميلانين في جلودنا وفي الأجزاء العصبية المركزية وحويصلات الشعر والعيون والشفاه، وزَرَعَ خلايا صبغية جديدة بالألوان التي رأيتنا بها. أجرى الطبيب هذه العملية التجارية في أقل من ساعة، أما نحن فكان لا مفر من الانتظار ثلاثة أسابيع كي نعيد ترميم خلايا صِبغة الميلانين دون التأثير سلبًا في أجهزة مناعتنا.
أعاجيب، هذا الزمن، ماذا يسمونه؟ عام 3000؟ أعاجيب، أسرَّ نذير راحل عبد الرحيم لنفسه. وَقَرَ في قلبه أنه محظوظ وأن الله ليس غاضبًا عليه وإلا لما أرسل إليه هؤلاء الإخوة والأخوات! إلامَ حالُه كانت ستؤول لو أنه لم يفلت من قبضة إدريس تكرار؟ مرة واحدة فقط أخذه في الوقت المناسب إلى مركز مدينة قبضة الحديد، وتلك نعمة، أكد لنفسه، فلم يكن هناك سوى ما يبعث النكد. وتذكر هتلر ونسخه.
في الغبش عبروا تعريشة الأشجار والشاطئ نحو ظلة الصنوبر، وكان يفكر في ما قالته تريث عن عملية التلوين قبل قليل، وقال في نفسه إنه يفهم لماذا يهجر متأمل العاصمة قبضة الحديد ويعيش منعزلًا عن التكنولوجيا، كأنه إنسان ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين. ليس في منزل التأمل هاتف أو شاشة تسيل على الجدار كتلك التي كانت في منزل الصمت وشقة الدور الـ866 في فندق المألوف الخارق. كان هذا الأمر يشغله بعض الشيء حين يتذكر ابنيه وابنتيه على وجه الخصوص، ففي ذلك الزمن الذي ينعتونه الآن بالغابر المدفون في صفحات الكتب كان استخدام الحواسيب والهواتف الذكية شائعًا إلى درجة أن رؤية الأجيال الأصغر من دونها كانت تدعو إلى التَّعجُّب، فكيف إذن بعد 985 عامًا؟ هل يتعمد متأمل إخفاء ذلك عنه؟ وكذلك معالج ومهما يكن وأسرته وفي حُبٍّ ووئام والمتأملات الثلاث؟ لقد رأى هاتفًا عند تريُّث في اليوم الأول لوصولها وماعون ومن أنا من أنت منزل التأمل، كما أنهن ثلاثهن كثيرًا ما يقمن بمتابعة علاجه على جداول ملونة تعرضها شاشات حاسوب صغير. في الواقع لم يكن يعرف الفرق بين حواسيب هذا الزمن وهواتفه، فغالبًا يكون هناك شيء يشبه خيطًا أو قلمًا له قابلية للتمدد واتخاذ أشكال شتَّى. كان يخطو ببطء تجبره عليه ساقاه الواهنتان ويخترق الغبشَ وسطهم ويفكر في ذلك، وقال لنفسه إن عليه ألا يسألهم فيما بعد عن هذا الأمر، فإن كان الإنسان حقيقًا بأن يبحث عن السكينة وإراحة العقل فلماذا يتَّصل بالكرة الأرضية جمعاء بتلك الأجهزة الإلكترونية الغريبة ويفقد الاتصال بنفسه؟ ألا يُدمِّر هذا وعيه ويشغله ويتلف أعصابه؟ وسأل نفسه عما جعله يفكر في كل هذا، ثم تذكر ألوان المتأملات الثلاث، أكانت هي مبعث تفكيره؟ وبينما كان يطأ بخفه رمل الشاطئ فكر: إنها الأفكار تنبثق من بعضها بعضًا بلا نهاية، والتأمل المداوم عليه ـ كما قال متأمل ـ يصفي العقل ويجلب السكون والصمت الداخلي العميق.
داخل الظلة بسط مخلص ذراعيه ورفع رأسه وانتظر انتهاءهم من أداء تمرين التنفس وإعلانَ متأمل إشارةَ إغماض العينين وبدء ساعة التأمل. كان تمرين التنفس هذا الذي يسبق التأمل يقوم على إغماض العينين وتخيُّل أنبوب رفيع أو خيط يصعد ببطء من المنطقة السفلى بين فتحة الشرج والعضو التناسلي حتى يصل إلى "العين الثالثة"، أي منتصف الجبهة، بين الحاجبين، ثم النزول إلى نقطة الانطلاق السابقة، وهكذا لمدة عشر دقائق. إنه تمرين النُّخاع الشَّوكي، وينبغي أن يكون بطيئًا وعميقًا مرافَقًا بتخيُّل الخيط يذرع الجوف هبوطًا وصعودًا. أصبح نذير راحل عبد الرحيم الآن، كما أخبره متأمل، يستشعر بانتشاءٍ برودةَ التَّنفُّس عند الشَّهيق وسخونته عند الزفير الذي يُحدِث هسيسًا بسبب دفع اللَّهاة لتضييق مجرى الهواء. كان متأمل متربعًا في الأمام، وعلى كرسي عن يمينه جلس نذير راحل عبد الرحيم ورمق مصابيح، هناك في الضفة الأخرى المقابلة، تُطفأ وتذوب في عتمة الفجر التي تنزف آخر قُواها المتبقية في مواجهة نور الشمس الوشيك. ودون أن يحرك رأسه طارد بنظره شبح سفينة بأضواء ملونة شاحبة يخرق غشاء الغَلَس ويمخر البحر في هدأة الفجر. وراءه تربَّعت ماعون وفي المنتصف من أنا من أنت وعن شمالها تَرَيُّث خلف مخلص. لنبدأ، همس متأمل، وفي الحال وضعوا أيديهم على ركبهم، أغمضوا عيونهم وانخرطوا في ما قال له متأمل منذ أشهر إنه سبيل "الحرية الشخصية الأبدية".
كان يقول لهم: كم هو اليوم أخَّاذ لولا إدباره العاجل. ويقول إنه بعد وقت ليس ببعيد لن يكون هنا بينهم، ويعلم أنهم بعد حين لن يحزنوا على رحيله وهو أيضًا لن يحزن على تركهم، وسوف ينتظرهم هناك! كان الصمت أحيانًا إجابة قاطعة، فما لا يُتفوَّه به يوصله الحدْس، أما المعنى فلا لزوم له إذا كان غموض الحياة مزدهرًا فينا. ما عاد يقلق على شيء. يتنفس بعمق، يستنشق هواء الحياة النقي، ويزفر بنات الأفكار، ويشفق على من ستهبه الدُّنيا عمرًا أطول!
في هذه الأيام كان متأمل يتركهم ليعتني بالحديقة، يُقلِّم دالية العنب وشجرتي الأناناس والرُّمان ويقطف ثمارها أو يخرج إبَّان ساعات النهار ليجلب فاكهة، خضراوات وأعشابًا وبقولًا ولحمًا تطلبه تريث أو من أنا من أنت أو ماعون، ويحضر أيَّ شيء آخر تَمُسُّ إليه حاجة. كان مخلص يرافقه أو يجلس قرب نذير راحل عبد الرحيم، بينما تذهب المتأملات الثلاث للسباحة في البحر. لولا سخاء في حُبٍّ ووئام وأريحيَّتُها لراح متأمل كل يوم إلى السوق أسفل الهضبة. كان بالإمكان شراء كل شيء إلكترونيًّا، وخلال ساعة أو أقل يوصله إنسان آليَّ طائرٌ مزود بإطارات وسلال بسعة الأمتعة المطلوبة، لكن نذير راحل عبد الرحيم بات موقنًا أنهم تلطُّفًا به لا يفعلون ذلك، ويحيطونه بقدر ما أمكن بطبيعة حياته الدنيوية الأولى وبشرها البسطاء.
في الأول من يونيو كانت تريث قد شرعت في حقنه بغاز الأوزون، وبعد أسبوع خف خدر ساقيه ورجفة يديه، واستعاد بعض قواه ومشى على الشاطئ وصعد سلالم القبو وقاعة التأمل. كان لديه الكثير ليفعله: تمارين التنفس، التأمل، الصلاة، تناول أكواب الأعشاب في مواقيتها، تشذيب لحيته وشاربه وشعر رأسه بمكنة الحلاقة الآلية الملحقة بدورة المياه، الأحاديث الطويلة صحبة متأمل والمتأملات الثلاث، ثم إبرة الأوزون ثلاث مرات في الأسبوع، أما طعامه فأغلبه خضراوات، وقليل من البقول والفاكهة، وأقل من السمك واللحم والطيور، وكثير من الماء.
كان يشتاق مهما يكن وإبهامًا وتدبيرًا.
رفعت الصَّداقة الكُلْفة بينهم ولذلك يقول لهم مُباسِطًا إنه يخشى الموت قبل توديع مهما يكن وإبهام وتدبير.
كانت المتأملات الثلاث يغسلن ثيابهن في الغسَّالة الآلية لكنهن، بخلافه ومتأمل، بعد الغسل لا يتركن العملية تكمل دورتها حتى الكيّ والتجفيف الآليين بل ينشرن غسيلهن على مناشر آلية ملحقة بحائط الغرف ويعرضنه لأشعة الشمس. تَرَيُّث تكتب ملاحظاتها على شاشة الآلة التي في شكل قُرْط أذن. قالت له إنه جهاز مزدوِج: كمبيوتر نسائي وهاتف، أما كمبيوترات الرجال فتصنع بأشكال أخرى، على سبيل المثال: قلم، قبعة، ربطة عنق. كن ثلاثهن يجلسن معه في زاوية من زوايا التأمل في الفناء وينكببن جميعًا أو إحداهن على ملء خانات جداول العلاج، وحين يعاوده ألم الساقين أو خدر اليدين كانت من أنا من أنت وماعون تدلكانه بزيت الصندل والليمون واللوز الحلو وجوز الهند. كانتا تدلكانه بلطف وهو متمدد على سريره، تحت واحدة من ظُلَلِ زوايا الفناء، أو تحت ظلة الشاطئ حين يكون مناخ البحر معتدلًا أو تلجآن إلى تشغيل مراوح الرذاذ. للتحرر من الالتهابات وآلام العضلات والتشنج والجراثيم والفطريات الضارة، تقولان له، والإجهاد العصبي. كل ثلاثة أيام كانتا تدلكان جسده كاملًا. عندئذٍ يرتدي أحد سراويل البحر القصيرة التي جلبتها في حُبٍّ ووئام، ويستسلم للمستهما الماهرة، وتأخذه رائحة الزيوت العطرية والرَّيحان وصوت الموسيقى الخافت النائي إلى ذرا نشوة مُنعِسة فينام. وفي إثر إيقاظهما إيَّاه كان وجهه يحمرُّ خجلًا منهما، يعرب لهما عن امتنانه وشكره بعبارة كتلك التي يسميها متأمل ديباجته المهذبة، ويستطرد بأنه مهما قال فلن يوفيهما حقهما ولن يوفيهم جميعًا حقهم من الشكر، وهو أقل القليل، يقول لهما ويفترُّ ضاحكًا، فلو لم يكن بينهم الآن في منزل التأمل فأين كان سيكون!
قياسًا بالبدانة التي كان عليها معالج حين التقاه نذير راحل عبد الرحيم في فبراير المنصرم أصبح الآن ناحلًا، لا يتدلى لُغْدُه ولا يخالط رقبته، ولا يلهث إذا ما ارتقى سلمًا أو قام بعمل سهل. طالما استولت هذه الملاحظة على نذير راحل عبد الرحيم، ولعلَّه قَرَنَها بليلة اختطافه من منزل الصمت ورؤيته معالجًا السَّمين الثَّمل وهو تحت تأثير رحيق الحنين وأعراض الساعات الأولى لاستعادته ذاكرة حياته الدنيوية الماضية، لعلَّه لهذا السبب أدمن التدقيق في هيئة معالج ووزنه كلما زار منزل التأمل حتى لو كان بين الزيارة والأخرى عشرة أيام أو أسبوع. كي يطمئن ويكون على بينة من مسار العلاج دعاه معالج وتَريُّث إلى الحديث في القبو. قال له معالج إن تريثًا على اطِّلاع واف بتاريخه الطبي منذ يناير الماضي. اللجوء إلى الطب الحديث لا يُعقَد عليه أي أمل في حالته، لأن مناعته لا تتقبل الأدوية الكيميائية ويمكن أن تتسارع في التلف، والسبب جهاز تكرار الذي زُرِع فيه إشعاعيًّا؛ صحيح أن رحيق الحنين استأصله لكن آثار الإشعاع متجذرة فيه، كما أن تعاطي سيجار الماريوانا وشراب الإكسير استهلك قُواه.
نكَّس نذير راحل عبد الرحيم رأسه. قال معالج: ليس ذنبك. كنت تحت عُتُوّ تجارب إدريس تكرار. مثلما قال مهما يكن، يبدو أنهم خططوا ليستعبدوك بجعلك مدمنًا، فسيجار الماريوانا وشراب الإكسير مكلفان، وحاجتك الماسة إليهما تعني خضوعك لهما، أي خضوعك لإدريس تكرار، فمن أين لك المال لتشتريهما؟ وبذلك المقدار؟ وكل يوم؟ كلُّ إدمانٍ ذلٌّ وعبوديَّة أخي نذير، والإنسان لا يكون حرًّا وهو مستعبد برغبة خسيسة. لا أقول هذا لأخيفك ـوفي أي حال أنت لم تعد تحت رحمة التدخين والشراب ـ وإنما لعلمي أنك بعد شهور التأمل هذه أصبحت مدركًا ليس وجودَك المأساوي وحده بل كذلك نِزاع نفسك إلى حياتك الأخرى. ممازحًا لَكَزَ معالج نذير راحل عبد الرحيم وأردف بالقول: إنك تبلو بلاءً حسنًا. تبسَّم نذير راحل عبد الرحيم وأسند عصاه الخيزران إلى كرسي آخر وبيديه الاثنتين أمسك إحدى يدي معالج: تريث قالت إنها خطيبتك. خبر سارٌ أخي معالج، أدعو الله أن تتزوجا قريبًا. قد لا أكون على قيد الحياة وقتها لكن أرجوكما تزوجا!
تدخلت تَرَيُّث: الفضل يعود إليك أنتَ أخي نذير.
إليَّ أنا؟
نعم، نحن صديقان منذ عقود طويلة. أحسب متأملًا ذكر لك ذلك. بسبب ملجأ الخصوبة عانى معالج أزمة نفسية عنيفة عطَّلت حياته، ومع أنه متيم بي كان يرفض زواجنا، ولم يكن يجرؤ على أن يفصح عن حبه لي لأي أحد، وكأن الحب كان جريمة بالنسبة إليه أو مجرد لذة حيوانية نرجسية سادية يتعجرف طرفاها في التملص من نتائجها أو يقومان بها من أجل مصلحة مادية.
صامتًا نهض معالج من كرسيه وخطا نحو الثلاجة وفتحها وأخرج عنقود عنب، ومبتسمةً لحظته تريث بعينيها الخضراوين، وابتسم نذير راحل عبد الرحيم أيضًا. قالت تريث: بعد إعادة خلقك التي هزَّت العالم، أقصد على مدى شهورها الخمسة الماضية، حدث تحول عميق في شخصية معالج، نبذ أفكاره المتطرفة، أصبح يحفل بنفسه وبي أكثر مما سبق، وقال إن مأساتك أبطلت قهر النُّوَب العصبية التي كانت تنشب فيه وتجعله ناقمًا على والديه وعلى نفسه وتُوتِّر علاقتنا. قال لي: هل من عِبْرَة أبلغ من أن يعود هذا المخلوق إلى الأرض بعد قرابة ألف سنة من الموت؟ هل يتمادى على غير بصيرة؟ كان الإدمان على الكحول يمنعه من المواظبة على التأمل، ينفق ساعات طويلة يرهق نفسه بالعمل في عيادته ثم يعود إلى منزله ليسكر وينام، ثم يذهب إلى عيادته ويحوم حول الهاوية نفسها وعقدة ولادته وخوفه من الإنجاب تفقده صوابه.
كان نذير راحل عبد الرحيم يولي تريث انتباهه. قال إنه يظن أن متأملًا يعاني العقدة نفسها.
قالت تريث: قد يكون ظنك في محله إنما ليس الآن. على الرغم من كل التقدم العلمي الذي بلغه الإنسان كان متأمل يخشى أن يشبه أبناؤه والدَ أمه وإخوتَها، لأنه عدَّ موقفهم من والده عنصريًّا لا يمكن أن يصدر حتى من حيوان.
قال معالج وكان لا يزال واقفًا قرب الثلاجة وعنقود العنب في يده: حتى إنه أجرى عملية جراحية استأصلت شهوته الجنسية للأبد.
فوجئ نذير راحل عبد الرحيم، وتذكر ما قاله متأمل عن عبودية الغريزة الجنسية. أكمل معالج شارحًا: نعم، متأمل لا صلة له بالجنس بأي شكل من الأشكال، لا طبيعةً ولا شذوذًا. يطلق على هذه العملية اسم قرار الزاهد، وقد لجأ إليها متأمل كي لا يعاني أي آثار جسدية أو نفسية بسبب نشأته في ملجأ خصوبة ومقته والد أمه وإخوتها من جهة ومن جهة أخرى بسبب شعوره بالذنب من خوفه المبكر من الارتباط بأي امرأة. لقد أراد أن يغلق باب الحب والإنجاب للأبد، وكرَّس حياته للتأمل.
قالت تريُّث: مضت ثلاثة عقود على هذا الحادث وما عادت هناك ذرة قلق من أي آثار خطرة، فالإنسان، كما تعرف، يعتاد كل شيء مهما بدا صعبًا في البداية.
لمَّا التفت نذير راحل عبد الرحيم إلى معالج وجده يكزم عنقود العنب، كما فعل في أول ليلة رآه فيها، ويمسح ما يسيل بظاهر كفه ويلحس شفتيه. خيَّم صمت مباغت، وبعد لحظات بدت أطول مما هو متوقع، وكأن ثلاثتهم أخفقوا في العثور على تتمة للحديث أو فتحوا أبواب نفوسهم وأوصدوها على حيرتهم، ودون سبب انفجر معالج ضاحكًا وتلبَّسته روح مرحة، وضحك نذير راحل عبد الرحيم وتَريُّث. كزم معالج حَبَّ عنب أخرى ولعق شفتيه، وعرف نذير راحل عبد الرحيم أنه يسرف في هرس العنب مداعبًا ليضحكه بغية تخفيف وطأة الحديث، ثم عاد وأضاف بأن متأملًا يؤمن بالله وبيوم الحساب والجنة والنار، وأنه قبل أربعة عقود، قبل إجرائه عملية العُنَّة الجراحية التي تسمى قرار الزاهد أو الخلاص، كان شديد الاضطراب والغضب، يرى في نومه والد أمه وإخوتها الخمسة يُساقون إلى الجحيم مكبوبي الوجوه مغلولي الأيدي والأرجل لأنهم عذبوا أمه وأباه وعذبوه هو أيضًا! فكيف لإنسان أن يولد بعد موت أبيه وأمه بقرون؟ فهو، كما أسلفتُ ولعلك لم تتوقع هذا قط ـقال معالج ـ يؤمن بأن العقاب الأخروي حقيقة مطلقة، لأن بشرًا على هذه الشاكلة، أي والد والدته وإخوتها، كيف لا يعاقبون على استعبادهم لأمِّه وتسلطهم عليها وتحكمهم في مصيرها وعواطفها وأحلامها وحبها لذلك الرجل الذي أفنت عمرها تنتظر موافقتهم على زواجه بها؟ علاوة على ذلك فالظلم في نظر متأمل كان مزدوجًا، فعذاب أبيه أيضًا لا بد أن يكون هناك إله، أو قوة من نوع ما تعاقب من تسبَّب فيه، ولم يكن يكترث قط بكل ما يسمى التأويلات العبثية والإله المُخترَع، فإدراكنا البشري المحدود عاجز عن الإحاطة بسر الحياة والظلم الواقع فيها، هذا ما يؤمن به متأمل لكنه بالتأكيد لا يؤمن بأي دين، بل إنه موقن أن لعنة الدين هي السبب في التسلط الهمجي الذي كان عليه والد أمه وإخوتها، فلو كان في الدين خير لوهب المرأة حريتها وجعل قرار زواجها بيدها. ولماذا لا يفعل؟ هذا ما كان يعتقده متأمل ويصرح بقوله في تلك الأيام البعيدة التي كنا نتداول فيها قصة والديه، وإنني، يا أخي نذير، أوافقه الرأي. الإله الحق يسعد الإنسان ولا يشقيه ولا يعاني عقدة تجاه المرأة، وإنما الإنسان هو من يعاني وينتقم ويكذب باسم الإله ويلصق به أفعاله البشرية الشريرة. ثم ما يدرينا، نحن البشر ذوي الإرادة الخائرة، ما الإله الحق؟ كان متأمل يقول إنه في أعماقنا وليس في الأديان. تدخلت تريث لتؤكد أن الأمر انتهى منذ زمن بعيد وأن متأملًا ما عاد يذكر والد أمه وإخوتها بخير ولا بشرّ. أضاف معالج بأن كل إنسان يعاني عقدة سبَّبها له إنسان آخر، وأن كل إنسان ينمو وعقدته تنمو فيه حتى إذا كبر وجد نفسه يفتش عن علاج لها وللأمراض والعلل التي خلقتها، والعلاج بدوره كثيرًا ما يكون مرضًا ووسيلة للدفاع أو الانتقام. قليلون، عقَّب نذير راحل عبد الرحيم، يعثرون على المعنى الخفي للحياة: إنه الحب من يهب هذه الحياة القصيرة معنى. إن الامتحان الحقيقي يكمن في التجربة، قالت تريث، والأغلبية الساحقة ترسب في الامتحان فتنقم على نفسها وعلى الحياة وعلى الآخرين، والسبب هم الآخرون! دائرة تواصل الدوران.
وأخيرًا في مساء السابع عشر من يونيو جاء مهما يكن وإبهام وتدبير ولا أثر واجتمعوا كلهم. في القبو شووا لحمًا على الشوَّاية الزجاج ذات المدخنة، وشربوا عصيرًا باردًا يُقال له عصيرُ السَّلامة من الأذى مُحلًّى بعسل الكينا، واحتفلوا حتى التاسعة ليلًا، وروى لهم مهما يكن قصة الرَّصاصة المسددة إلى ساقه مفصَّلة بعد رواية لا أثر المقتضبة في وقت سابق. حارس آليٌّ فعلها من مسافة عشرة أمتار. كان الخطأ خطأ أحد رفاقه المسؤولين عن تأمين محيط منزل الطبيب المساعد لأكثر ممَّا تتخيَّل، وخطأه أيضًا، لأنه اعتمد على ذلك. إنها أول مرة منذ أنشأ شركة تحرير الرهائن غير الربحية خاصَّته يقع في خطأ كهذا، لم يحمل معه آلة التعتيم الفراغي الذبذبية فرصدته آلات التصوير. اخترقت الطلقة ساقه من الخلف وأحدثت ثقبًا دائريًّا نفذت عبره من الأمام فحمله أحد أعضاء فريق الإنقاذ. لم يُلْقَ القبض على أحد من رفاقه الخمسة عشر ولم تُكشَف هوية أي منهم لكن عملية الإنقاذ فشلت واقتيد مساعد أكثر ممَّا تتخيَّل إلى سجن من يذهب لا يعود، وهو واحد من أخطر سجون الإمبراطوريات الست، نزلاؤه مجرمون عتاة يُدَسُّ وسطهم المغضوبُ عليهم من معارضي سياسة إمبراطورية الأرض، وتكثر فيه حوادث الإعدام والتعذيب الوحشي النفسي والجسدي والجنون والقتل والاغتصاب والأمراض المعدية والانتحار وبيع المخدِّرات والجوع، إلى درجة أن السجناء في كثير من الأحيان يأكل بعضهم بعضًا، وفي زنازينه الخمس والعشرين يكتظ أكثر من أربعين ألف سجين وسجينة تقدم لهم كل خمسين ساعة وجبة طعام واحدة فقط، ولا يُسمَح لهم بالزيارة إلا برخصةٍ إمبراطورية كل عشر سنين، ومنذ تأسيسه قبل ثمانية قرون لم يشهد سوى حالة هروب واحدة ألقي فيها القبض على السجين الهارب ورمي به حيًّا إلى عرين أسود جائعة مُخلَّقة جينيًّا يبلغ حجمها ـقال مهما يكن مخاطبًا نذير راحل عبد الرحيم ـ خمسة أضعاف حجم الأسود الكلاسيكية التي كانت تعيش في عصرك. كانت وكالة مخابرات إمبراطورية الأرض تنوي ترحيل مساعد أكثر ممَّا تتخيَّل إلى سجن من يذهب لا يعود بعد أيام من فشل العملية، وكنا نعرف ذلك وبذلنا قصارى جهدنا لكنْ. اكتسى وجه مهما يكن بالأسى، ولام نفسه على تخليه عن آلة التعتيم الفراغي الذبذبية، وآساه نذير راحل عبد الرحيم قائلًا إن ما حدث حدث ولا يمكن تفاديه لأنه بات في عِداد الماضي، ويكفي أنه خاطر بحياته وكاد يُقتل.
كان إبهام وتدبير يصغيان لحديث أبيهما، وهو ما أثار استغراب نذير راحل عبد الرحيم، إذ عدَّه خطرًا عليهما، إلا أن ذلك لم يبد شاذًّا للآخرين ولم يعلق عليه أحد، ثم تذكر أنهما كانا ضمن فريق إنقاذه قبل أشهر!
وبعد أيام أخرى عاد مهما يكن، وجاءت في حُبٍّ ووئام وجلبت مزيدًا من المؤونة، واجتمعوا في القبو. ولما كانت إبر الأوزون وأدوية الأعشاب والتدليك والتأمل وتمارين التنفس وسائر وسائل العلاج الأخرى تفقد تأثيرها تدريجًا وهنت قُوى نذير راحل عبد الرحيم، وخانته قدماه، فحمله متأمل بين يديه، ونزل به سلالم القبو، بيد أن حالته المعنوية كانت مرتفعة، وكان يتهلل وينتشي ويقهقه. وكأنه ذاهب إلى حفلة كان يقول لهم: إنه الشهر السادس، إنه الشهر السادس!
بلَّغه مهما يكن رسالة أكثر مما تتخيَّل، إنه يعتذر ويطلب الصفح عما فعله به في اليوم الأول في معمل البشر عابر الزمان والمكان. ويكرر أنه أُكرِه على أن يكون صارمًا خشية انكشافه من إدريس تكرار، فقد كان يدبر مسألة هروبه، فضلًا عن أن أوامر إدريس تكرار كانت تقضي بأن يبلبلك ويحيرك ويُراوِح في مخاطبتك بين القسوة واللين، ويتأخر عن إجابتك ويحشو رأسك بخليط من الحقائق والأكاذيب، بذريعة إحداث صدمة معاكسة، ففي نهاية الأمر إذا شارفتَ على الموت ـوهو إفساد تام لخطة تكرارـ يمكنهم التحكم فيك آليًّا، ومن ناحية أخرى قال أكثر ممَّا تتخيَّل إنهم لو تراخوا في محاورتك لجعلوك في مركز مأساة بعثك ولتمكنت الصدمة من تدميرك.
وسرد مهما يكن أصداء حدث إعادة خلق نذير راحل عبد الرحيم في أرجاء الإمبراطوريات الست، مشيرًا إلى أن حملة أكثر ممَّا تتخيَّل العالميَّة ـ"نذير راحل عبد الرحيم نذيرٌ من العالم الآخر"ـ حشدت حتى الآن أكثر من خمسين مليون مناصر لقضيته وقعوا عريضة تستنكر النشاط المريب لإدريس تكرار ومدينة الخلق ومعمل البشر عابر الزمان والمكان، وحذروا من العواقب الوخيمة التي يجرها التجرؤ غير الإنساني على مصير الإنسان وعلى ما وصفته العريضة بالقُوى الأزلية الأبدية الخفية التي تحفظ الأكوان، مطالبين بمحاكمة تكرار ومن نعتتهم العريضة بغاضِّي الطَّرْف والمتفرجين المستفيدين، من كبار سياسيي إمبراطورية الأرض ومسؤولي وكالة مخابراتها خصوصًا، على طبيعة عمل مدينة الخلق واستبداد إدريس تكرار وتفرُّده بصنع قرارها منذ أكثر من قرن.
أردف مهما يكن كلامه بالبرهنة مرة أخرى على أمان نذير راحل عبد الرحيم التام في منزل التأمل، حيث صرَّح أكثر ممَّا تتخيَّل مرارًا بأن المعارضة حررته من إدريس تكرار وهربته هو الآخر إلى إمبراطورية الأراضي المترامية، الأمر الذي أحدث أزمة سياسية بين الإمبراطوريتين، لاسيَّما أن المتحدث باسم القصر الإمبراطوري في إمبراطورية الأراضي المترامية لزم الصمت حيال الإجابة عن أسئلة الصحافيين في هذا الشأن ولم ينف، والمساعي الدبلوماسية باءت بالفشل، كما بثت وسائل إعلام إمبراطورية الأرض تصريحات وتعليقات معادية ومتوعِّدة، وأخرى بلغة أكثر رزانة طالبت بترحيل نذير راحل عبد الرحيم وإعادته فورًا إلى إمبراطورية الأرض! هذا ما حدث طيلة الأشهر الماضية وقبل أيام قليلة أيضًا.
متأمل كان يستقي الأخبار من مهما يكن، وكان يمقتها، فمن وجهة نظره هي تعبير مزمن عن جور الإنسان وتعطشه الضاري للشر، وهي أقصر الطرق لهدم رصانة الروح وميلها الطبيعي إلى فعل الخير، فـ"العيش بسعادة قوة من قوى الروح الكامنة"، ولن يُوقِف استشراء شر الإنسان إلا نهايته الكارثية المقبلة لا محالة! فماذا سيحدث بعد ذلك؟ هل ستسقط المعارضة حكومة إمبراطورية الأرض ثم تتولى الحكم؟ وبعد ذلك تأتي معارضة أخرى لتسقط هذه المعارضة؟ أليس سيناريو الخراب هو نفسه يتكرر منذ الأزل؟ في حُبٍّ ووئام قالت إنها مثل متأمل لا يعنيها تقصِّي الرعب، ولولا ما تسمعه في الأسواق واتحادات العمل الخيري لما عرفت ما يحدث حولها منذ عقود. وأضافت مازحة أن ما تقوله ليس إلا مبالغة ساخرة، ففي هذا الزمن حتى حيطان ناطحات السحاب ووسائل النقل أصبحت مصادر للأخبار الطاحنة. لا أثر وإبهام وتدبير لم يبدوا رأيهم، وخمَّن نذير راحل عبد الرحيم أن مهما يكن، لا شك، يصب في آذانهم كل يوم آخر أهوال الأخبار، فضلًا عن أن طبيعة عمل شركتهم لتحرير الرهائن تحتم ذلك، لارتباطها بشكل أو بآخر بالسياسة والتكنولوجيا والمعارضة ولمناهضتها وكالة التجسس. معالج والمتأملات الثلاث يشاطرون متأملًا الرأي ويرون أخبار السياسة والمخابرات والطب والتكنولوجيا المتطرفة، وكل فروع ما سموه تهكُّمًا حضارة الإنسان المتفوق ومؤسساتها، باعثًا على تشنج النفس والبدن، فضلًا على أن انكبابهم اليومي على العمل والتجارب والبحوث يستنزف وقتهم. مع ذلك لا يمكنهم غض النظر عن الأخبار المرعبة المتعلقة بمجالهم، فهم يقرأون تقارير شهرية تصدرها رابطة الأطباء المستقلين وبعض مؤسسات المعارضة، تحلل من زوايا صحية وأخلاقية الآثار المترتبة على إعادة خلق هتلر ونسخه الثلاثة آلاف وإعادة خلق نذير راحل عبد الرحيم. عندما أتوا على ذكر هتلر ونسخه أراد نذير راحل عبد الرحيم طرح سؤال إلا أنه سكت حين رأى مهما يكن يرتد إلى الموضوع نفسه: أصبح كل ما بيد إدريس تكرار هو محاولة بائسة لزعزعة ثقة أكثر ممَّا تتخيَّل وجرِّه إلى ملاسنة، اتهمه بأنه كان يستميت كي يزيحه عن رئاسة معمل البشر عابر الزمان والمكان ويحتل مكانه!
كان مهما يكن قد أتى بحقيبة ظهر تركها تحت قاعدة كرسيه المرتفع أول دخولهم القبو وجلوسهم حول الطاولة الكبيرة، خَفَضَ كرسيه وتناول الحقيبة ودنا من كرسي نذير راحل عبد الرحيم وصرف وجهه إليه: في حوزتنا أدلة، ولدى أكثر ممَّا تتخيَّل أدلة كثيرة من موقع الجريمة. أدخل يده في الحقيبة وأخرج منها رزمة وقال: انظروا، هذا هو العقد الذي أرادوا خداع نذير راحل عبد الرحيم ليُوقِّعه، مقابل ماذا؟ ابتزاز غرضه تحويل هذا الإنسان إلى حقل تجارب على مدى 250 سنة يوفرون له خلالها منازل فارهة، سيارات، رحلات مجانية إلى الإمبراطوريات الصديقة وبعض الكواكب، أطنان من سيجار الماريوانا وقوارير الإكسير وأقحافه، وما لا يحصى مادِّيًّا مما يتقاتل مواطنو إمبراطورية الأرض على الحصول على أقل من ربع ربعه عند بلوغهم العقد الثاني من أعمارهم.
فغر نذير راحل عبد الرحيم فمه: من أين أتيت بالعقد؟
من منزل الصمت. عندما أنقذناك. كان موضوعًا على منضدة البهو وعليه بقايا طعام ورماد وبقع زرقاء من شراب الإكسير.
أدخل مهما يكن يده في حقيبته وأخرجها قائلًا: خذ، هذه بطاقة هويتك، ووفقًا لها فإنك يجب أن تكون مولودًا في الـ7 من يناير عام 2975!
تناول نذير راحل عبد الرحيم بطاقته هويته. تذكر حين سلمها إليه في الوقت المناسب لكنه في هذه اللحظة اقشعر وهو يرى صورته صغيرًا بما لا يُقاس بشيخوخته التي أصبح عليها الآن. أَكُلُّ ذلك حدث خلال هذه الأشهر القليلة؟ سأل نفسه متعجبًا وأعاد قراءة بيانات البطاقة في سره: بطاقة هوية مواطني إمبراطورية الأرض. اسم حامل الهوية: نذير راحل عبد الرحيم. العمر 25 عامًا. العنوان: المنزل رقم 11، حي الصمت، جزيرة الهضاب...
كذلك قبل أن أنبهكَ من خدر رحيق الحنين فتشتُ غرفتك لكنني لم أجد إلا بعض الملابس على أرفف الخزانة الكبيرة. هل قرأتَ العقد؟
لم أقرأه كاملًا لكني أتذكر بعض مواده المفزعة.
هل قرأت المادة السابعة والثلاثين؟
أظنني قرأت الصفحتين الأوليين فقط.
تقول المادة السابعة والثلاثون: "إذا التزم الطرف الثاني المُعاد خلقه، السيد نذير راحل عبد الرحيم، بحضور الفحوص السريرية (انظر الملحق ك في هذا العقد الخاص بوصف الفحوص السريرية) التي يجريها عليه الطرف الأول، معمل البشر عابر الزمان والمكان، بانتظام، ولم يتصل بأي وسيلة كانت بأطراف معادية داخلية أو خارجية، وأظهر استعداده الكامل لمؤازرة تقدم حضارة الإنسان المتفوق، ولم تبدر منه إشارات تخل بأولويات البحث العلمي خلال الـ50 سنة الأولى لتوقيع هذا العقد، فإن الطرف الأول، معمل البشر عابر الزمان والمكان، يلتزم بإعادة خلق زوجته تقوى، وذلك لأسباب هدفها إنساني بحت هو لم الشمل العائلي. وبعد 200 سنة أخرى، إذا تقدم الطرف الثاني، السيد نذير راحل عبد الرحيم، بطلب رسمي مكتوب فحواه إعادة خلق ابنيه وابنتيه فإن الطرف الأول، معمل البشر عابر الزمان والمكان، يؤكد أنه سيمنح طلبه أولوية قصوى، ويأخذه بعين الاعتبار، ويلتزم بجعله قابلًا للتنفيذ قبل نهاية مدة العقد بخمسة أعوام".
ماذا؟ يريدون إعادة خلق زوجتي تقوى وأبنائي؟
وهذا الهاتف الإصبع كان على المنضدة نفسها أيضًا، وداخله اكتشف تدبير شريحة تجسس مرقمة مربوطة بالحراس الآليين وبهواتف منها هواتف إدريس تكرار وفي الوقت المناسب ووكالة التجسس. أكثر ممَّا تتخيَّل أكد لي صحة ما توصل إليه ابني تدبير. قبل اقتحامي منزل الصمت عطَّلتُ الهاتف برحيق الحنين، فالرحيق يخدر البشر، فيه مادة رذاذية رطبة تذوب في المسامات والجمجمة، وهي التي نزعت فاعلية جهاز تكرار داخل جهازك العصبي، كما أن رحيق الحنين يعوق عمل الأجهزة الكهربائية والإلكترونية. إذا نظرنا إلى ما كنت فيه أخي نذير ففي الحقيقة إن إدريس تكرار وأتباعه لم يكونوا بحاجة إلى وسيلة تجسس مثل الهاتف ونحوه، فبواسطة جهاز تكرار يستطيعون التجسس حتى على أفكارك ويسيطرون عليك سيطرة مباشرة ومستمرة، لكنهم كانوا يحسبون حساب المعارضة فيلجأون إلى الاستعانة بوسائل أكثر وأشمل. لديَّ كذلك هاتف في الوقت المناسب.
يالك من داهية أخي مهما يكن، لكنك أخفتني، قلبي ممتلئ رعبًا مما قد يفعلونه بزوجتي وأولادي.
لا عليك من هرائهم يا أخي. لقد تعمَّدت ألا أفصح لك عن هذا من قبل لأنك لم تكن نفسيًّا مستعدًّا لتقبُّله. أتعلم كم أنفقوا على عملية إعادة خلقك؟ ما يوازي ميزانية دولة أو حتى إقليم، وبعد ذلك خذلتَهم أيها الجاحد وهربتَ إلى إمبراطورية الأراضي المترامية!
إنني خائف حقًّا أخي مهما يكن، هذا الخبر كدَّرني، قال نذير راحل عبد الرحيم ذلك مقلِّبًا بطاقة هويته في يده، ملقيًا نظرة أخيرة عليها وعلى صورته التي يبدو فيها حليق اللحية والشارب، في الخامسة والعشرين من عمره! أعاد بطاقة الهوية إلى مهما يكن.
تدخَّل معالج: ما قاله مهما يكن صحيح. إعادة خلق زوجتك وأبنائك في كل الأحوال مستحيلة، قد يفعلون ذلك مقابل عائد مادي كبير، وهذا مستحيل كذلك فمن ذا الذي يمدهم بالمليارات لإعادة خلق بشر لا يعدونهم ذوي شأن؟ أنا آسف لقول هذا أخي نذير لكنه ضروري لتطمئن على سكينة عائلتك. مهما يكن يعرف وأنا نفسي قرأتُ عدة تقارير تحليلية كلها يذكر أن إدريس تكرار ومعمله ومدينة الخلق والقصر الإمبراطوري كانوا في السابع من يناير الماضي يتهيَّأون لإعادة خلق الإسكندر المقدوني، وذلك لمقاصد وغايات إمبراطورية توسعية قلقوا من الاعتماد فيها على هتلر، لكن أخطاء فادحة اعتورت مدخلات آلاتهم فجئت أنتَ وقلبتَ كل شيء رأسًا على عقب. قال أكثر ممَّا تتخيَّل إن إدريس تكرار خلال التجارب الأسبق كان يلاحظ، مثله ومثل أعضاء آخرين في معمل البشر عابر الزمان والمكان، أن روحك تتشبَّث بعالمها الأخروي وتستميت في التملص من أسرها والمحاولة المستمرة لإعادتها إلى الحياة الدنيا، وكانوا جميعًا ما زالوا يحسبون روحَك روحَ الإسكندر الأكبر لكنه ـأي إدريس تكرارـ بعد عدة محاولات كان مصرًّا على المضي في العمل مهما كانت النتائج. تيقَّنْ من شيء واحد فقط أخي نذير: إنهم لا يفعلون شيئًا بوازع إنساني أصيل بل للعوائد المادية المجزية! هذا يؤكد أنهم لن يعيدوا خلق أفراد عائلتك حتى لو قبلت بشروطهم ووقعت عقدهم! حالتك استثناء مرعب ودرس بليغ لهم.
هذه هي الحقيقة ـ عاد مهما يكن ليمسك بخيط الحديث مرة أخرى ـ ولذا فإن أكثر ممَّا تتخيَّل يطلب العفو منك كونه واحدًا ممن تلوثت أيديهم بجريمة بعثك. إنه، كما يقول، يريد التكفير عن آثامه، ولن يهدأ له بال حتى تصفح عنه. أضف إلى ذلك أنه يتمنى قبولك رفع دعوى قضائية دولية على إدريس تكرار، ومدينة الخلق، ومعمل البشر عابر الزمان والمكان، والمدير العام التنفيذي لمدينة الخلق، ورئيس وكالة المخابرات، تطالب فيها بإنصافك، وحقك الأخلاقي والإنساني بمحاكمتهم ومحاكمة المذنبين الآخرين، وكفالة حقك في الموت، والكف عن تعكير صفو أرواح البشر الميتين وسكينتهم الأبدية. بعد رحيلك عن عالمنا سوف تُرفَع دعواك إلى مجلس حكماء الأرض وعدة محاكم إمبراطورية ودولية ومحلية أولها المحكمة الدستورية العليا في إمبراطورية الأرض، فهذا العبث يعني وجود نقيصةٍ بيِّنة في دستور إمبراطورية الأرض.
واحدًا واحدًا حملق إليهم نذير راحل عبد الرحيم، واعتراه ذهول. وَجَمَ، ولما فتح فمه تلجلج؛ أيعقل ذلك؟ دعوى قضائية؟ كلام كهذا وحده كان كافيًا ليودي به في غياهب السجون في بلاده، إنه لا يفهم كل هذا، دعوى على الإمبراطورية ورئيس وكالة المخابرات والدستور و!
قاطعته تَريُّث مسهبة في تحليل شخصية إدريس تكرار، ليس من وجهة نظرها فحسب بل استنادًا إلى دراسات منشورة في مجلات عالمية مُحكَّمة كتبها علماء نفس وأخلاق وحكماء وفلاسفة وأطباء، وبالإجمال فإن دعواه ذات أثر مستقبلي، ومن شأنها إنقاذ البشر في عالمهم الأبدي. قالت له إن هذه التحليلات ستصدمه، فواحد من علماء النفس كان جار إدريس تكرار قبل 395 سنة، أي عندما كان عمر هذا خمس سنين، وكانا يعيشان في قرية تابعة لولاية نائية في الإقليم الشمالي لإمبراطورية الأرض، ثم بعد ذلك كان عالم النفس هذا زميلًا لتكرار في المدرسة العليا أيضًا. ومستفيدًا من تجربته الشخصية وسجلات مستشفى الولاية سلط هذا العالم الضوء على طفولة زميله وصباه، وقال إنه بسبب زوج أمه في ذلك الوقت عانى عقدة اضطهاد مؤلمة، إذ كان يعذبه ويحتقره ويسميه المُنفلِت. ويؤكد أنه بعد إكمال تكرار طور المدرسة العليا اختفى عدة سنوات من القرية والمدرسة والدولة والإقليم عمومًا. ثم عرف عالم النفس عن طريق أمه نقلًا عن جارتها أم إدريس تكرار أن زوجها يحبسه في المنزل ويمنعه من الخروج، وأنه بسبب المنصب الكبير لزوج الأم في حكومة الولاية التي كانوا يعيشون فيها ذهبت محاولتها اللجوءَ إلى السلطات الأمنية سُدًى، بحيث إنه بعد سنوات من وفاة زوج أمه أصبح شابًّا محطمًا، رخوًا، وحيدًا وخائفًا، لكنه وعلى نحو غير متوقع انتهى في منتصف عشرينيات عمره بعقدة مفاجئة مضادة تسعى إلى إفشال بغية زوج أمه الرَّاحل، وهو ما جعله يحقق تفوقًا منقطع النظير أذهل أساتذته وأقرانه في مختبرات علوم الأحياء في جامعات الولاية وجامعات الإقليم الشمالي برمتها. القصة طويلة وحافلة بشواهد كثيرة يسوقها بحث عالم النفس جارِ إدريس تكرار، وموجزها الأهم أن إدريس تكرار أقسم قبل قرنين من الزمان، أمام فوج من العلماء، وكان ثملًا، بأنه يومًا ما سيعيد خلق زوج أمه وسينتقم منه بطريقة ملائمة! وهذا يعني أنه قد يتسبب في وقوع كوارث أكبر في المستقبل. لهذا فإن شكوى ترفعها أنت باعتبارك ضحيته الأبرز ستدعم الحملة العالمية وتُحدِث أثرًا يؤلب عليه الرأي العام العالمي ويوقفه عند حده ويقطع الطريق على آخرين أمثاله ينزعون إلى اقتفاء أثره.
قال مهما يكن إن أكثر ممَّا تتخيَّل صرح قبل أيام بأن إدريس تكرار يعتبر نفسه الله، ويقول إنه لا يموت، وإنه يُحيي الموتى ويُبرِئ المرضى ويمنح الخلود، وأنه يذكر نصوص أساطير قديمة في هذا السياق، مدللًا على أن إنجازاته مشروعة ومتطلَّع إليها صميميًّا، وأنها تحقيق لحلم صَبَا إليه الإنسان منذ بدايات خلقه. إدريس تكرار يهزأ بنصوص معاهدات حقوق الإنسان وكل المواثيق والعهود ومبادئ الأخلاق ويعتبرها إهدارًا لطاقة الإنسان وحدًّا لقدرته الإبداعية غير المحدودة، على حد قوله.
بعد ذلك أكلوا مربى عجينة التين، وأعدت تريث كوبًا من أشربة الأعشاب الطبية لنذير راحل عبد الرحيم، وأنفقوا ساعات أخرى في الشرح حتى اقتنع وتلاشت الغشاوة التي نغصت يومه، وعاد إليه صفوه. ومن حقيبته أخرج مهما يكن النسخة الورقية للدعوى، ومطمئن البال وقعها نذير راحل عبد الرحيم، واثقًا، بلا ذرة شك، أن ذلك واجب يؤديه للإنسانية، كما أقنعوه، أحيائها وأمواتها السابقين واللاحقين على حد سواء. واعتراه حدس ثلجي له سطوةُ نعاسِ شخصٍ مجهدٍ بأن أجله قد يكون الآن كامنًا عند ظُلَّة الصَّنوبر، في الفناء، في غرفته، وربما هنا على كرسيه هذا في القبو، لا بد أن يكون أجلًا خاطفًا منقذًا مثل مهما يكن، طيبًا مثل متأمل ومعالج، شافيًا كلمسة أيدي ماعون ومن أنا من أنت، طفوليًّا كإبهام وتدبير، أموميًّا مثل لا أثر وفي حُبٍّ ووئام، عذبًا خفيف الظل غير عجول كتريُّث ومُخْلِصًا كمُخْلِص. هدَّأه خياله العاطفي، وانتشى! ومسح لحيته، وسأل مهما يكن إن كان يعرف ما آل إليه في الوقت المناسب، وفوجئ بأنه أُقيل من منصبه في معمل البشر عابر الزمان والمكان: بعدما كان مديرًا لقسم العلاقات العامة فيه أصبح مشردًا، طُرِد من منزله الفخم، وصُودِرت أملاكه، منتجع سياحي وسيارتان طائرتان، وجُمِّدت حساباته البنكية، وألقي به إلى شوارع قبضة الحديد، وذلك، بحسب إدريس تكرار، عقابًا له على كونه أحد عناصر تدمير الإنجازات الوطنية، وعليه في كل حال أن يبتهج ويُغنِّي ويرقص فمصيره البديل هو غياهب من يذهب لا يعود!
ياللهول! ياللطغيان! وماذا عن هتلر؟
كان في الوقت المناسب هو من ضلَّل نذير راحل عبد الرحيم بمعلومات خاطئة عن هتلر، أم أن ذلك كان بسبب خوفه الشديد في يوم عرض ساحة هتلر المخلوق المنسوخ؟ فقد كان في الوقت المناسب يتحدث كثيرًا، وكان قد بلغ من الضجر والحنق عليه وعلى وحشية العرض وإدريس تكرار وأكثر ممَّا تتخيَّل حدًّا صرفه إلى مأساته وأوغر صدره عليهم. رأى في ذاكرته هتلر الحقيقي ينهال بكرباجه على وجوه النسخ الثلاثة آلاف ورَبَلات سيقانهم، ورأى تطايُرَ الدماء، وضجت أذناه لحظات بصراخهم وأنينهم وخبط أحذيتهم على أرضية ساحة هتلر المخلوق المنسوخ. تذكَّر حماسة في الوقت المناسب للعرض، ثم لما أخذه عقب ذلك إلى مقهى الهداهد، وتذكر نافورة المقهى والرَّبوة المطلة عليه التي عبرها مهما يكن وإبهام وتدبير ولا أثر أحدهم في إثر الآخر عند الغروب حاملين أكياسهم المملوءة على ظهورهم، وكان حدسه صائبًا فدائمًا ظنهم عائلة. الأكياس مملوءة بتين حقيقي إذًا وفي الصباح خالية؛ كي لا تفشل الخطة، قالت لا أثر، وكي لا يُشَك في أمرهم. كانوا أسرة تعمل في بستان تين، وهذه هي القصة وما فيها! فرقع نذير راحل عبد الرحيم أصابعه، ضحك، وقال إن ذلك صحيح، حتى في الوقت المناسب قال إنهم أربعة من عمال حقول التين، بيد أنه قال كذلك إن أكياسهم كلام فارغ! انفجروا جميعًا في الضحك. إنها خطة الصغيرة إبهام استمدتها من إحدى ألعابها الإلكترونية!
في غمرة استمتاعهم بالحديث كانوا أحيانًا يعيدون كلامًا قالوه في ما مضى. قال نذير راحل عبد الرحيم في نفسه إن هذا دأب البشر، بيد أنه كل مرة كان يستمع إلى إضافة ما، خصوصًا أنه في الأشهر الأولى كان مستمعًا أكثر منه متحدثًا. ثم توغلوا في الحديث عن هتلر ونسخه، حديث طويل اقشعر منه بدن نذير راحل عبد الرحيم إنما ليس مثلما حدث من قبل، فالتأمل، كما أصبح يعرف ويَخْبَرُ، يمنحه حصانة روحية فائقة.
في عام 2937 استُنسخت 3000 نسخة من هتلر، بواسطة حمض نووي أخذ من عظام جمجمته، أما هتلر نفسه فأعيد خلقه عام 2995، مثلما حدث بعد ذلك بخمس سنوات ـ أي هذا العام ـ لنذير راحل عبد الرحيم. هذا يعني أن نُسخ هتلر أكبر منه بسنتين! مات وعمره ست وخمسون سنة، وعمره الآن إحدى وستون سنة، بينما عمر نسخه ثلاث وستون سنة! السبب في هذا هو فشل محاولات إدريس تكرار الأولى، وتأخر تمويل مشروع عملية الخلق من طرف إمبراطورية الأرض، وليس هناك أي عملية خلق أخرى، كما يشيع إدريس تكرار، وكما ضلَّلك ـوالكلام لمهما يكن ـ أكثر ممَّا تتخيَّل في اليوم الأول بقوله إنهم أعادوا خلق شخصيات مهمة، فسوى هاتين العمليتين (هتلر وأنت) كل التجارب الأخرى باءت بالفشل.
قال معالج إن إمبراطورية الأرض تستغل هتلر ونسخه في مشروع تجاري كبير يدر عليها دخلًا اقتصاديًّا مربحًا، فعنوان السياحة الأول لزوار الإمبراطورية هو ساحة هتلر المخلوق المنسوخ التي تشهد إقبالًا طوال العام وليس وقت العرض كل ستة أشهر فقط. في غير أوقات العرض يدفع الزوار رسومًا للتفرُّج على هتلر وجنوده وهم شبه مخدَّرين بسبب خوضهم معارك المسدسات وخضوعهم لعمليات جراحية إنقاذية بالكاد يستطيعون المشي عقبها ورفع أيديهم لتحية الجمهور الغفير الذي يكدر نقاهة التئام جروحهم، ويتزاحم حول قفص ساحتهم من أجل الصور التذكارية! الصور التذكارية وحدها تمثل عائدًا ماديًّا يفوق ما تجنيه شبابيك تذاكر أفلام السينما في إمبراطورية الأرض بأسرها، ولا تدانيه أجور أغلى الممثلين، ولا حتى دخول استوديوهات مدينة السينما إمبراطور ضود التابعة لإمبراطورية الأرض، وهي أضخم مركز سينما عالمي منذ سبعة قرون.
تريُّث استرعت انتباههم إلى شيئين اثنين يجمعان نذير راحل عبد الرحيم وأدولف هتلر ويفرقان بينهما؛ الأول أنهما، طوال التاريخ البشري، الوحيدان اللذان بُعِثا من الموت. أما الشيء الثاني فالعالم يعرف أن نذير راحل عبد الرحيم رفض منذ اللحظات الأولى لخلقه العودة إلى الحياة وقاسى، في وقت يذكر كثير من التقارير والدراسات العلمية أن هتلر استقبل عملية خلقه بسرور غريب، وبكى فرحًا، ومن شدة فرحه لم يُصدِّق وقبَّل أقدام إدريس تكرار وما يقارب الألفين وخمسمئة طبيب وعالم، الذين شهدوا عملية إعادة خلقه، واحدًا واحدًا، قائلًا إن المشيئة الإلهية سخَّرتهم لإنقاذ روحه من وحل العنصرية وإزهاق الأرواح! ثلاثة من أطباء معمل البشر عابر الزمان والمكان هربوا فورًا إلى إمبراطورية الأراضي المترامية التي ظلت على الدوام تستقبل معارضي إمبراطورية الأرض، ونشروا كتابًا ذكروا فيه ما جرى في أثناء عملية خلق هتلر والعقد الذي وقَّعه على مضض يوم عملية خلقه. قال هتلر لإدريس تكرار وفريق عملية الخلق إنه كان في حياته الأخرى يُعذَّب منذ لحظة موته عام 1945، وإنه، هناك، لم يمنح لحظة راحة واحدة، وإن ذلك العذاب كان لا يحتمل أبدًا. وقال لإدريس تكرار إنه الآن فقط شعر بالبَرْد، فعلى مدى ذلك العذاب الأبدي ذاق كل أشكال الحَرِّ والتنكيل. وبعد نوبة بكاء مرير قال إن أعماقه مستريحة الآن، ويشعر بأن المشيئة الإلهية وهبته حياة دنيوية أخرى ليكفر عن ذنوبه ويمحو السجل الإجرامي الجسيم لحياته الدنيوية الأولى. وتضرَّع كي يسمحوا له بصرف حياته في الخدمة العامة، ومساعدة الأطفال والمرضى والعجزة، ورسم البورتريهات ومناظر الطبيعة! ومن شدة فرحه أيضًا لم يتعجَّب، كما فعل نذير راحل عبد الرحيم، من طول قامات إدريس تكرار وفريق المعمل، والسبب، حسبما وضَّح لهم، أن الذين كانوا يعذبونه قاماتهم أطول، وهيئتهم مرعبة، وأدوات تعذيبهم نيران وجمر ورصاص وصخور وسكاكين وقضبان وأسلاك وسلاسل وسوائل تغلي. وابتهج إدريس تكرار، ووجدها سانحة، واشترط عليه فورًا عرض هتلر المخلوق المنسوخ، فتبدَّدت فرحة هتلر لكنه، كارهًا متألِّمًا، قَبِل، فمهما كانت قسوة العرض فإنه لا يُوازي لحظةَ عذابٍ واحدة من ذاك الذي أتى منه. منذ خمسة أعوام وإدريس تكرار يُغلِظ شروط العقد، ويضيف إليها ما يكفل إقبال مزيد من الجماهير ودعم ميزانية الإمبراطورية والمعمل ببذخ.
سرد الأطباء الثلاثة في كتابهم خلاصة ساعات طويلة قضوها مع هتلر. كان يتذكر حياته الماضية ووالده الذي كان يوبخه ويضربه كثيرًا، ويبكي، مع ذلك، لأنه رفض تحقيق رغبته في أن يحذو حذوه بالعمل في دائرة الجمارك النمساوية، زاعمًا أنه لو فعل لما آلَ إلى ما آل إليه بعد ذلك. في الوقت نفسه كان يبدو مترددًا في إلقاء اللوم كله على رفضه تحقيق رغبة والده بالانخراط في دائرة الجمارك، ويتذكر بحزن بعض لوحاته المائية، وحلمه بأن يصبح رسامًا، وفشله في امتحان أكاديمية فيينا مرَّتين، وقال إن ذلك أحبطه وأحدث التحول المعروف في مسيرة حياته، حيث اعتبرت الأكاديمية لوحاته خالية من الروح، وحطَّمت اعتقاده بأنه عبقري، وكان لا يشك أبدًا في اجتيازه الامتحان بسهولة ودخول عالم الفن من أوسع أبوابه. وقال إن وفاة والدته عام 1907 على يدي طبيب يهودي شخَّص إصابتها بسرطان الثدي كانت بداية انهياره الفعلي وإصابته بعد ذلك بلوثة جنون العبقرية، فبموتها تقطَّعت كل روابطه العائلية، وبقي وحيدًا، وعجز عن جني قوت يومه، ولم تلق لوحاته أي إقبال على الشراء عندما كان يحاول بيعها في الشوارع. وفي عامي 1909 و1910 على وجه التحديد عاش متشردًا لا مكان يأوي إليه أو ينام فيه عدا مقاعد ملاجئ فيينا العامة ومتنزهاتها، قذرًا إلى درجة الغثيان، لا يغتسل وتفوح من جلده ومن لحيته غير الحليقة ومعطفه الطويل المهلهل وقبعته السوداء رائحة عفونة خانقة كانت تجعل كثيرًا ممن يعبرون قربه يتأففون ويغلقون أنوفهم بأيديهم ويبصقون. وهكذا كان مصيره الدموي يدنو، ففي 1913 رحل إلى ميونخ، وبعدها بعام انفجرت الحرب العالمية الأولى، ووجد نفسه جنديًّا يقاتل جيوش الحلفاء، وكان يبدو لرفاقه الجنود غريب الأطوار، فبينما كانوا يقتلون الأوقات الطويلة بالدعابة كان هو يتركهم ويجلس ليرسم في ناحية من الخندق. وقال لإدريس تكرار وحاشيته إن علاقته بالفن تهتَّكتْ، وقد أرسلت المشيئة الإلهية إليه إشارات عديدة ليؤوب إلى رشده لم يعرها اهتمامًا، وكانت فقط تشحذ همَّته لنصرة فكرة العِرق النَّقي والانتقام من جنود الحلفاء وكل من يخالفه الرأي، فكم مرة نجا من عمليات هجوم مميتة، بل إنه في واحدة منها انفجر موقع كان قد غادره منذ لحظة، ثم عندما كان يوصل الرسائل بين الحاميات الألمانية أدت قذيفة مدفعية بريطانية إلى جرحه وإصابته بشظية في فخذه، وبعدها تعرض لهجوم عنيف بالغاز تسبب في تسمُّمه وإصابته بعمًى تطوَّر إلى عمًى كامل بعد علمه بانهيار ألمانيا في الحرب، ثم إن صدمة أعادت بصره وأجَّجت رغبته القاتلة في خوض غمار السياسة!
نذير راحل عبد الرحيم كله ترقُّبٌ وآذان مصغية، وكلٌّ يدعم القصة بذكر أحداث وتفاصيل لا تنتهي.
حيَّر أدولف هتلر البشر في حياتيه الأولى والثانية. وراء الحيرة الثانية، التي يقتضيها سوق المال العالمي وانحدار الأخلاق، كما علق متأمل ومهما يكن، كان الداهية إدريس تكرار وفريق من وكالة مخابرات إمبراطورية الأرض، فاستنساخ إنسان كهتلر وبعثه يجب أن يطير ذكرهما في الآفاق ويُغدِقا على الإمبراطورية دخلًا ما شهدته حضارة إنسان من قبل قط. انطلاقًا من هذه النظرية الرأسمالية عاد لغز نهاية هتلر مرة أخرى يشغل البشر في أرجاء المعمورة، وما عدا إدريس تكرار وفريق وكالة المخابرات لم يعرف الحقيقة أحد. حتى أكثر مما تتخيَّل (الذي كان مهمشًا آنذاك) وكبار موظفي معمل البشر عابر الزمان والمكان ضُلِّلوا بقصص متضاربة، وفطنوا متأخرين إلى أن إدريس تكرار يعرف الحقيقة منذ ما قبل عام 2937، فلا أحد منهم يدري من أين أتى برُفات هتلر لنسخ الثلاثة آلاف نسخة. وكما في الحياة الماضية فإن الناس كلما خُدِعوا برواية وصدقوها بُلبِلوا بإذاعة رواية أخرى مخالفة، تمامًا كما فعل ستالين في نهاية الحرب العالمية الثانية بعد استسلام برلين للجيش الأحمر واستسلام آخر حامية لهتلر، فعقب شهر من ذلك أرعب ستالين العالم بإعلان أنهم لم يجدوا أثرًا لهتلر، وعمَّ الذُّعر ألمانيا وأوروبا الغربية خصوصًا بل جميع أصقاع الأرض، فمن لا يخشى هتلر؟ لا وجود لجثته، وله خمسة أشباه عندما قتل أحدهم نشرت وسائل الإعلام صورته لكن سرعان ما أدرك الألمان أنه نسخة سيئة من أشباهه وليس هو؛ وحبست الشائعات أنفاس العالم: شوهد هتلر يرعى غنمًا في جبال الألب، أحد طياريه هرب به إلى الدنمارك، إنه سمسار في نادي قمار فرنسي، في إسبانيا في حماية نظيره الفاشي فرانسيسكو فرانكو، قبل استسلام برلين فرَّت به غواصة إلى اليابان، خبر هروبه إلى الأرجنتين مؤكد، لقد كان مريضًا جدًّا ولا يستطيع الهروب! كل ذلك وتَّر أعصاب العالم، وما زاد الطين بِلَّةً أن الجيش الأحمر كان يعرقل أي تحقيق يجريه الإنجليز وقوات التحالف. مات ستالين دون أن يحلَّ اللغز، وبعد مرور خمسين عامًا على موت هتلر كشفت المخابرات الروسية ما حدث، وظهرت جثة هتلر المتفحِّمة، وفُحِصت أسنانه، نُبِشت قبوره، وأُعِيد دفنه ثماني مرات، وقالوا بعد ذلك إنهم أحرقوه مرة أخرى ورموه في المجاري!
متأمل قال إنه لا يصدق كل هذا. من أنا من أنت تميل إلى تصديق الخبر المعلن بعد خمسين سنة من وفاة الزعيم النازي، ووافقها الرأيَ كل من تريث ومعالج وفي حُبٍّ ووئام. وعلَّق مهما يكن مرجِّحًا كفة ظنِّهم على الفروض المتعددة الأخرى، فبغض النظر عن المزاعم اللانهائية بأن قائد الرايخ الثالث هرب إلى البرازيل وعاش فيها ومات عام 1984، أو إلى الباراغواي حيث تضيف الشائعات أيضًا أنه تزوج فيها عشيقته إيفا براون وأنجبا طفلين ومات فيها عام 1973، بغض النظر عن هذا التشويش الذي قيل إن باحثين وعلماء راغبين في الشهرة لجأوا إليه مرارًا، ظلَّ روشوس ميش حارس هتلر الشخصي ومسؤول بريده يؤكد حتى آخر يوم في حياته في سبتمبر عام 2013، أي قبل وفاة نذير راحل عبد الرحيم في حياته الأولى بسنتين، وكان قد بلغ السادسة والتسعين من عمره، ظلَّ روشوس ميش يردد أن آخر مرة رأى فيها هتلر كانت بعد سماعه صوت الرَّصاصة التي انتحر بها ونفدت من رأسه، وكانت الساعة قرابة الثالثة والنصف عصر يوم الثلاثين من أبريل عام 1945. هذه الرواية في واقع الأمر ازدادت شيوعًا منذ خمس سنين، إذ يرويها هتلر بنفسه في ما يسمونه "أدولف هتلر يروي قصة حياته ويحل لغز موته"، وهو شبه حديث أو مؤتمر صحفي يستغرق ثلاث ساعات يستمع فيه جمهور غفير لهتلر يروي قصة انتحاره ثم يجيب عن أسئلتهم. ويُعَدُّ هذا عرضًا فرعيًّا مقارنة بعرض ساحة هتلر الدَّموي، لكنه لا يقل أهمية عنه، حسب معايير تصنيف وكالات الإحصاء والتقييم، وتذكرة دخوله مرتفعة الثمن كما هو شأن العرض تُحجَز قبل سبعة أشهر وأكثر، وإضافة إلى العامَّة والمعجبين معروف أنه قبلة للباحثين والعلماء، ويظهر فيه الفوهرر بشاربه القصير وزيه النَّازيِّ الرَّسميِّ وربطة عنق، جالسًا على أريكة فخمة وحائطٌ زجاجي يفصله عن الجمهور، ويأخذ في سرد قصته بالقول إنه أدرك أن بغية ستالين كانت إلقاء القبض عليه حيًّا، وحصد إعجاب العالم بإنجازه، وحينئذ يعذبه وينتقم منه شر انتقام. كانت رحى المعارك طاحنة، والروس يحرزون نصرًا تلو آخر ويزحفون صوب برلين حيث في عيد ميلاد هتلر يوم الـ20 من أبريل عام 1945 بدأوا يقصفونها بالمدفعية. وفي الـ22 من أبريل انهارت أعصاب هتلر خلال اجتماع عسكري، واعترف بخسارة ألمانيا الحرب، وأعلن أنه سينتحر، ورفض نصيحة مستشاريه بالهروب من برلين.
في شهر أبريل الفائت سرد هتلر حكايته هذه خامسَ مرَّة. ويُلفِت أغلب المحللين المختصين الذين شاهدوه واستمعوا إليه النظر إلى أنه يتلعثم في روايتها دائمًا، ويصمت حينًا من الوقت، ويشخص ببصره، ويرتجف، ويعرق، وتستمر شاشات الساحة العملاقة في بث صور عينيه المرعوبتين وصور خراب برلين، البنايات المدمرة، وملايين القتلى من الطرفين، وصور مخبأ هتلر السري تحت الأرض، والأريكة التي انتحر عليها وإيفا براون التي تزوجها قبل انتحارهما بساعات، بعد أربع عشرة سنة من علاقتهما الحميمة. ثم يدرك المحللون أن عودته إلى الحديث المتواتر في أعقاب صمته وتعرقه الغزير تعني تهدئة نبض قلبه عن بعد بتخفيض إفراز نسبة الأدرينالين في دمه، إذ إن مراقبة أدائه في العروض والمؤتمر الصحفي مسؤولية يقوم بها إدريس تكرار بنفسه. كانت خطط هتلر الحربية، إذًا، تثبت فشلها واحدة بعد أخرى ـيستطرد في سرد قصته ـ وجنوده يتساقطون أو يستسلمون، جيش الشعب، صبيان منظمة شباب هتلر، وقوات الشرطة. ووحدهم جنود وحدات النخبة النازية كانوا يقاتلون حتى آخر رمق في اشتباكات فرعية ما عادت تصمد بعد سقوط الغيستابو ومؤسسات الدولة ومواقعها الحيوية ونفاد الذخيرة. ويبدو أن تحكم إدريس تكرار الحثيث من حيث لا يظهر للمحللين والجمهور يواجه تحديًّا عسيرا لا يتمكن هتلر من الاستجابة له كما يجب، عندها ينطلق في الحديث فجأة ساردًا الأحداث على نحو متداخل دون ترتيب ويقطعه بشن هجوم عنيف من السباب على جنرالات حربه وتحميلهم ذنب خسارة الحرب.
منذ السادس عشر من يناير كنت أختبئ في قبوي السِّرِّيِّ على عمق عشرة أمتار تحت حديقة مستشاريَّة الرَّايخ القديمة في برلين. يوم الثامن والعشرين من أبريل اغتال الشيوعيون حليفي الإيطالي بونيتو موسوليني وأذلُّوه ثم حملوا جثته وجثة عشيقته وعلقوهما من الكعب على منصة محطة وقود. كان صعبًا على واحد مثلي مواجهة مصير كذاك. بناءً على طلبي زودتني وحدات النُّخبة النازية بكبسولات سُمِّ السّيانيد. كنت متوترًا وقلقًا للغاية من عدم فاعليتها، فطلبت من الدكتور هاسه أن يختبرها على كلبه بلوندي، فمات الكلب، واطمأننت بعض الشيء. اللعنة، دمروا كل ما بنيته بإرادة حديدية، هاينريش هيلمر الخائن على غفلة مني يريد مفاوضة جيش التَّحالف. كيف أعتمد على قادة جبناء كهذا الوغد؟ ماذا كان بيدي سوى إعدام هيرمان فيجلين ضابط الاتصال في الرَّايخ زوج جريتل شقيقة حبيبتي إيفا براون؟ الخائن كان ينوي الهرب إلى سويسرا أو السويد. جزاء الخائن القتل. إيفا براون أرادت أن تُسوِّي وضعها قانونيًّا فطلبت إعلان زواجنا. لقد رافقتني حتى النهاية، وكانت تستحق الاقتران بي عن جدارة. عند منتصف ليلة التاسع والعشرين من أبريل تزوَّجتها في المخبأ، قبل أكثر من يوم بقليل من لحظة انتحارنا. احتسينا أنخاب الاحتفال في غرفة الخرائط. كان هناك غوبلز أيضًا وزوجته وأبناؤهما الستة وبعض السكرتيرات والضباط المقربين، وتعشَّيت معكرونة خفيفة بالصَّلصة، ثم مشيتُ وإيفا في أنحاء المخبأ وتمنينا ليلة سعيدة لغوبلز وبورمان وباقي رفاقنا. وفي الصباح جاء اللواء هيلموت فايدلينغ قائد المنطقة الدفاعية، وأنبأني بأن الجيش الأحمر أصبح على بعد 500 متر فقط من المخبأ، وأن الذَّخيرة المتبقية ستنفد ليلة هذا اليوم، وطلب الإذن بالهرب فرفضتُ لكنَّني قبل الواحدة ظهرًا أوصلت إلى مقر القيادة خبرًا يبلغه بموافقتي. كان الوقت يمضي بسرعة جنونيَّة وقاتلة. وفي الساعة الثانية والنصف ظهرًا دخلتُ وإيفا غرفة مكتبي، وجلسنا على الأريكة، وتحدثنا قليلًا حديثًا هيمن عليه هلع إيفا من دنوِّ الموت، وكنتُ قد أعطيتُ الأوامر بتوفير عشرين جالونًا من البنزين لحرق جثتينا في حديقة المخبأ عقب انتحارنا مباشرة، بلا إبطاء، وإخفاء أيِّ دليل يوصل ستالين إليَّ. وعند قرابة الثالثة والنصف عصرًا أخرجت كبسولات السّيانيد. ناولت إيفا حصَّتها ويائسًا محطمًا ألقيت عليها نظرة الوداع، وابتلعنا الكبسولات معًا، وأحسست بإيفا تسقط على الجانب الآخر للأريكة، وبأن أحدًا يسحب أنفاسي سحبًا، ومع ذلك، وتبديدًا لما تبقَّى من الشَّكِّ في ضعف فاعلية السُّمِّ، وانتهازًا لما تبقى من قُواي، امتثلتُ لاقتراح الدكتور فارنر هاسه الاحتياطي، وأدخلتُ المسدس في فمي، وضغطتُ الزِّناد.
عند نهاية سرده هذه كان هتلر يرجف مرة أخرى، ويعرق، ويقف، ويجلس، ويبدو غريب الأطوار، ويفتعل أي شيء لينأى عن فظاعة نهاية قصته، فقد كانت، حسبما يؤكد محللون نفسيون، تقوده مباشرة إلى ما بعد موته: التعذيب اللانهائي غير المحتمل، فيهرب من مواجهة تلك المشاهد بصبِّ سيل من شتمٍ هستيري على ممتحنيه في أكاديمية فيينا، مثلًا، وحتى على الجمهور، ويهتزُّ جسدُه، ويلوح بيديه صارخًا: قتلوا حلمي ونصحوني بالتوجه إلى دراسة الهندسة المعمارية، وذهبتُ لكنهم في ذلك المعهد العفن رفضوني لأنني لا أحوز الشهادة الثانوية! الكلاب دفعوني دفعًا إلى الجيش وإلى ذلك المصير، وكنتُ قد تركت النِّمسا أصلًا هربًا من أداء الخدمة العسكرية! تخيَّلوا أيها المتفرجون الأنذال! لا تتخيَّلوا، إنها حقيقةٌ هذه المُفارقة القَدَرِيَّة البشعة. كيف لفنان أن يصبح عسكريًّا؟ أخبروني أيها المتفرجون المنحطون السَّفلة. ماذا جاء بكم؟ أتحسبوني قردًا في هذا القفص الكبير؟ عالم وغد يسوق المرء سوقًا إلى تلك النهاية! ويسهب في إلقاء اللوم على العالم، ويخرج عن طوره من جديد، وينتاب الجمهور الخوف ويعلو هتافه مطالبًا إياه بالحديث عن إيفا براون.
حين طرح نذير راحل عبد الرحيم سؤالًا يتصل بنُسَخ هتلر الثلاثة آلاف أجابته تريُّث بأن هتلر نفسه، في حياته الدنيوية الأولى، كان يسعى إلى تمكن ألمانيا من الاستنساخ حفاظًا على العِرق الآري النقي وتحسينًا للنسل! إنه الآن، كما يقول كثيرون، يحصد شرَّ أعماله. في مدينة الخلق عمارة من 10 طوابق تسمى قِسْم هتلر، تُستنسَخ فيها أجنَّة جديدة لغرض مضاعفة نُسَخ هتلر مستقبلًا، وكذلك لتوفير خلايا جذعية وأعضاء بديلة للنُّسخ ولهتلر نفسه كلما احتاجوا إلى قلب جديد، كُلى، بنكرياس، كبد، عين، مفصل، عظْمة أنف وكل ما يلزم عمليات التَّرميم بعد كل عرض دموي في الساحة.
قال مهما يكن: جنَّنوه، أقصد إدريس تكرار وأتباعه وأكثر ممَّا تتخيَّل في فترة سابقة بعدما أصبح مقربًا من تكرار، وهدَّدهم مرارًا بإلغاء العقد! فبعد كل عرض كان يكتشف أنه يقاتل نفسه! كل ما في نسخه هُوَ هُوَ بعينه، قاماتهم، أحجامهم، أزياؤهم، عيونهم، آذانهم وحتى شواربهم! كان يشتعل غضبًا في وجه إدريس تكرار فيصرخ بالقول إنهم إن كانوا يريدونه الاستمرار في القتال فعليهم تمكينه من حشد كل هؤلاء النسخ في جيش واحد، وليفتشوا لهم عن أعداء ليشنوا حربًا عليهم. ويقول إن هذه الوسائل البدائية، عصي، سكاكين، مسدسات، هذه الساحة القفص التافهة، وذلك المؤتمر الصحفي المرعب المؤذي نفسيًّا وبدنيًّا وعقليًّا، والجمهور الغفير السَّاذج المتعطِّش لمرأى الدم، هذه التُّرُّهات لا تليق بقائد عبقري عظيم تمرَّس على قيادة الرَّايخ الثالث أعظم جيوش العالم قاطبة. إنه ونسخه ليسوا مهرجين ولا قرودًا؛ أليس هذا ما كان يريده ستالين والروس: أن يحبسوني في قفص ويعرضوني كالقرد؟ ويُلوِّح بيديه ويهز جسده كأنه يلقي واحدًا من خطاباته المفوَّهة؛ إن كان تكرار وفريقه يريدون التعاون حقًّا فيجب عليهم على وجه السرعة إيقاف هذه التمثيلية المهزلة وتوفير أعداء حقيقيين وطائرات وصواريخ ومدافع وغواصات وأسلحة خفيفة وثقيلة حديثة ذات فاعلية مضمونة.
وضحكوا. شر البلية ما يضحك، قال نذير راحل عبد الرحيم، وسرعان ما شحبت ابتسامته، وأطرق من شدة الحزن؛ بعد كل هذا إنها قصة يسيل منها الدم والجشع والاستغلال والجنون. وفي الحال دعتهم تريُّث إلى أداء تمرين تنفُّس لإعادة الاتزان والشعور الطبيعي بالحياة، ثم تناولوا وجبة الغداء، واطمأن نذير راحل عبد الرحيم، إنه متيقن الآن أن إدريس تكرار لن يُقلِق سكينة تقوى وابنيه وابنتيه، فذلك لن يعود عليه وعلى إمبراطورية الأرض بأدنى مردود من المال. حقًّا، أكيد، في حياته الدنيوية الأولى كان مجرد عجوز وحيد، ملاحظ عمال متقاعد قد لا يعرفه كل سكان حيه فكيف بالعالم؟ وأي عالم؟ عالم عام 3000! لا، لا يريد أن يكون مثل هتلر. هتلر نفسه لا يريد أن يكون هتلر! المسكين كان يُعذَّب، أعانه الله على نفسه وعلى هذه المحنة! لماذا لم يتركوه يرسم؟ ربما كان اعتقاده صحيحًا وكفَّ شرَّه عن النَّاس!
9
ما رآه نذير راحل عبد الرحيم في الحياة الأخرى
في الرابع والعشرين من يونيو عاودوا اجتماعهم في منزل التأمل.
المتأملات الثلاث لم يغادرن.
لم يكن خافيًا على نذير راحل عبد الرحيم أنهم باتوا يكثرون الزيارة في الآونة الأخيرة.
أتوا بمزيد من الرَّيحان ووضعوا أُصُصَهُ في كل مكان. وكانت أنغام الموسيقى التي كأنها تأتي من مكان بعيد تنوس في أذنيه أينما سار، ويُخيَّل إليه أنَّها خفيَّة لا وجود لها إلا في رأسه، أو أن صداها يتذبذب في حلم، لكن تريثًا أرته آلة تدوير أقراص ذكرته بأغطية قناني المياه المعدنية في حياته الدنيوية الماضية، وقالت له إنها آلة تقليدية تشبه التي كانت في عصره موصلة لاسلكيًّا بمكبِّرات صوت في أنحاء منزل التأمل، أما الموسيقى نفسها فمصمَّمة للاستشفاء، وإزالة التَّوتُّر، وإراحة الذِّهن والعقلين الواعي واللا واعي، وشحذ الطاقة، والحث على التأمل والاسترخاء والهدوء والنوم العميق، تُنقِّي التَّفكير، وتُولِّد ازدهارًا وإحساسًا بالوفرة والجمال والفرح. وحسب الحاجة والوقت فهي أيضًا تُذهِب الخمول وتبعث النشاط؛ ذبذبة، أجراس، صدى، آلات موسيقية شتى بعضها بدائي من تراث السكان الأصليين لجزيرة الهضاب؛ جَخْجَخَةُ أمواج، رقرقةُ ماء، مطر يهطل على أشجار غابة ويَجِمُّ تحتها وحولها ويجري ومن أوراق أغصان فوقه يتساقط ندًى محدثًا تعبيرًا عميقًا يرسل رنينًا مُسكِّنًا متباعدًا، على سبيل المثال، أو يُرسِّخ فينا اندماج الطبيعة الحُرِّ والغامض الذي لا يمكننا أن نجد له تفسيرًا يا أخي بل ولا ينبغي لنا ذلك. على نحو أو آخر فإن الموسيقى يا أخي نذير علاج نفسي مضمون النتائج. بَشَّ نذير راحل عبد الرحيم في وجه تريُّث؛ يعتقد أن كل ما قالته صحيح. في شقة الدور الـ866 في فندق المألوف الخارق كانت هناك موسيقى خافتة وبعيدة كذلك لعلها شبيهة بهذه لكن الأيام ولت وطوت الشبه والفرق العسيرين.
عاوده الحنين إلى سداب وتقوى ورائحة ثيابها في دولاب خشب السنديان، وكان نومه أعمق يرى فيه شلال الماء واضحًا صافيًا ينحدر من الصخرة، ويسمع انصبابه وترقرقه مختلطًا بماء النَّهر الواسع. وبات ينظر هالات النور تنعكس على الصخرة والماء وأريكة العقيق. أصبح كل شيء واضحًا في ذاكرته، إنه نهر وليس بحرًا كما التبس عليه الحلم وإشاراته الغامضة في اليقظة ومقهى الهداهد في الأشهر المنصرمة. في موسيقى تريُّث سلاسة حميمة تجعل المشهد ماثلًا إذا استمع لها وأغمض عينيه. رائحة الرَّيحان كذلك يعلم مصدرها الآن. كانت ذاكرته تحن إلى حياتين، حياته الدنيوية الأولى في بلدة سداب وحياته الأخرى بعد الموت. يدرك أن حنينه إلى سداب لا مفر منه ما دام حيًّا على وجه الأرض، بالجِلْد والذكرى والإعياء والجسد الفاني. إنه ميل بشري يستعمر الحواسَّ لكن الرَّيحان والموسيقى يهدئان فزع المَيْل، يشدانه إلى حضنهما الرَّوحانيِّ المُشفِق الذي هو من رائحةٍ ونَغَم، ويُهدهدانه حتى ينام أو يذهب إلى حال سبيله طليقًا من أيِّ إسار.
كان جسده قد ازداد تهدُّمًا، ولم يعد قادرًا على تحمُّل المشي حتى ظُلل زوايا الفناء، ولا الوقوف الطويل، ولا حتى التوكؤ على عصا الخيزران، فجلبوا له كرسيًّا كهربائيًّا بإطارات كبيرة لا تسوخ في رمل الشَّاطئ. وبذلت المتأمِّلات الثلاث جهدًا خارقًا لثني وهن ساقيه ورُعاش يديه عن تكدير خاطره. ولم يَشْكُ من أيِّ ألم أو أنه تجلَّد ولم يفصح عن آلامه. وتذكَّر ما قاله له متأمل ذات يوم "الألم لا مفرَّ منه، أما المعاناة فاختيار"، وأدرك أن التأمل والموسيقى والصَّلاة والبحر والطبيعة والأخوَّة حرَّرته من قيد الأوجاع، وأن روحه تحمل جسده، وجسده بالكاد يحمل نفسه. غمره امتنانٌ وارف نحو إخوة منزل التأمل وأخواته، كما كان ينعتهم، فلولا رفقتُهم الطَّيِّبة ماذا يفعل عجوز وحيد وغريب ينتظر الموت في بلاد غريبة وزمن غريب؟
مع ذلك راح شوقه إلى سداب ينمو ويعلو مثل نخلة جوز الهند، وقال في نفسه إن عليه أن يتسلق النخلة العالية ويقطف ثمرتها ويكسرها نصفين ويذوق طعم الحنين العسليِّ السَّائغ. تذكَّر شاطئ بلدة السِّيفة، وسلسلة جبال الحَجَر التي تواصل امتدادها المهيب في تلك الناحية، والمرَّات القليلة التي اجتمع فيها وتقوى وأولادهما وأحفادهما وأزواج أولادهما هناك، وعبرت منخريه رائحة اللحم المشوي الناضج وأغمض عينيه ورأى أسياخه الساخنة المكومة على صحون يسيل عليها الهَامُوم ويبرق قبل أن يذوب طعمه الشهي في فمه، ورأى كتل الدخان تتبدد في نسيم ذلك البحر. تذكر الحلاقَ أشرف، والمطعمَ الهنديَّ، ومتجرَ حارة السَّاحل الذي كان باعتُه الذين من أبناء جلدته يتبدَّلون كل شهر، وبعضَ مجايليه والأكبر سنًّا منه الذين ماتوا قبله أو أقعدتهم الشَّيخوخة فلم يعودوا يظهرون في سكك الأحياء ولا في مسجد الحارة. وكان غافلًا عمَّا حوله يحمله نسيم بحر جزيرة الهضاب والموسيقى الخافتة إلى سداب، جالسًا على كرسيه الكهربائي وقدماه الحافيتان تتلذذان بحرارة أوائل شمس الصباح على رمل الشاطئ، وعندما يفيق من الذكرى يؤدي واحدًا من تمارين التنفس، ويطلق سراح الحنين لكن الحنين سرعان ما يعود ونذير راحل عبد الرحيم يستقبله ثانية، ويشخص بصرَه إلى أيكة أشجار القُرم التي تُسوِّر الناحية الأقرب إلى المرسى الذي أنزلهم فيه زورق الصياد في فبراير الماضي، وبنظراته المتأملة يصعد نخيل جوز الهند.
لا شيء يحدث أكثر مما يحدث كل يوم، والآن هذا الكرسي، وهذي الشمس، والمِقفَزُ هناك على الناحية اليسرى حيث يقف عليه تباعًا نساء ورجال يتصايحون مرحًا ويقفزون في البحر. حلَّق سرب طائرات ركَّاب عملاقة معًا، وثقب أعالي السماء الزرقاء الصَّافية، واختفى. وأغمض نذير راحل عبد الرحيم عينيه، ورأى سلسلة الجبال الشاهقة جاثمة في مكانها وراء بيوت حارة السَّاحل في سداب، وطفلين من أبناء الجيران يمتطيان دراجتين هوائيتين يعبران أمام بيته. وغامت السماء، واكفهرَّ السحاب، وهُرِعَ من كانوا يمشون في الأزقة إلى بيوتهم ونحو متجر حارة الساحل، وانفجر هزيم الرعد، ومزَّق البرقُ صفحة السماء المظلمة وشرخها شرخًا متواليًا، وأشعل قمم الجبال، وكشف المدى البعيدَ، وانسحَّ مطرٌ مدرار، وهزَّت ماعون كتف نذير راحل عبد الرحيم، وكان المطر ينهمر فوقهما ويغرق أقدامهما، وانتبه وفتح عينيه وضغط زر كرسيه الكهربائي ومُخلِص عن يمينه وماعون عن يساره تضع فوق رأسه مظلة وتحدثه صارخة من شدة المطر. كان متأمل وتريُّث ومن أنا من أنت يراقبونه وهم يمسكون مظلاتهم، واقفين تحت تعريشة الأشجار، وقال متأمل: أمر غريب، كأن نذير راحل عبد الرحيم يهجر جسده ويصير روحًا فحسب، إلا أن تريثًا ومن أنا من أنت لم تعقِّبا إذ كان نذير راحل عبد الرحيم قد اقترب منهم.
وتعاقبت أيام، وجاء مهما يكن ونقل إليهم خبر المظاهرة المليونيَّة التي دعت إليها المعارضة؛ مئات آلاف من مواطني قبضة الحديد نزلوا إلى الشوارع وقطعوا حركة السير ونصبوا خيامهم. وسأله نذير راحل عبد الرحيم عن السبب فأجاب مهما يكن بأنها الحروب التي تشعلها إمبراطورية الأرض في أراضي إمبراطوريات أخرى بعيدة، إنهم يُصرِّحون بشيء وفي السِّرِّ يمولون بأسلحتهم المدمرة أطرافًا متعادية ويشحنونها على بعضها بعضًا. في الواقع إنهم بطرق خبيثة وغير مباشرة يحاربون إمبراطوريات أخرى في تلك الإمبراطوريات، لكن المظاهرة ليست إدانة للحروب فقط، لأن عددًا كبيرًا من المتظاهرين يحملون صوركَ ويدينون بعثك، ونتيجة لهذا فإن بعث هتلر كذلك عاد ليتصدر عناوين الأخبار واهتمام المواطنين، وبإيجاز فإن لدى المتظاهرين من الأسباب ما يكفي لأن يتبرَّموا بكل شيء ويتظاهروا يوميًّا ويبدأوا اعتصامًا طويل المدى ربما يستمر عقدًا أو العمرَ كلَّه! فما عادوا يثقون حتَّى في الإمبراطور الخانع النَّائم في قصره والغارق في ملاذِّه وشهواته المريضة، ولا في مجلس حكماء الأرض، ولا في تلك الهيئات الأُمميَّة التي فقدت هيبتها منذ أن كنتَ على قيد حياتك السابقة.
أعني يا أخي ما سبب الحروب أساسًا؟ لست أفهم.
قال معالج: ومتى كان للحروب أسباب مفهومة يا أخي نذير؟ إنها الذَّرائع نفسُها: يقول الأقوياء إنها بسبب خرق القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات، وكل منهم يخرقها بطريقته، والوازعُ الحقيقي الفاسد المستور نفسُه يقودهم. مصالح رأسمالية، عجرفة توسعية، عقائد دينية، أيديولوجيا، تجربة أسلحة نووية وكيميائية وجينية أحدث وأفظع، وانحطاط أخلاقي يزداد انحطاطًا. عندما تبدأ حرب لا تنتهي، وإذا انتهت تقوم في إثرها حروب أخرى.
في ذاكرته رأى نذير راحل عبد الرحيم غرقى وقتلى ودماء وأنقاضًا، وسمع بعض ما كان يُقال ويُبثُّ في نشرات أخبار القنوات الفضائية في حياته الدنيوية الأولى على شاشة تلفاز بيته ببلدة سداب، واللَّغط الدَّائر في برامج تلك القنوات، ودونما تبصُّر قاطع معالجًا: أتقصد أن الاشتراكية أرأف حالًا؟ لكن مهما يكن تسلَّم زمام الحديث: ماذا؟ لا يا أخي نذير، معالج لم يقل ذلك، لا اشتراكية ولا شيوعية ولا رأسمالية، ولا أيًّا من هذه المهازل التي قد تخطر في ذهنك ذكر، كلهم في النهاية رأسماليون جشعون يتشدَّقون بالنَّظريَّات وينعتون أنظمتهم بالديمقراطية ويشعلون حربًا تلو أخرى بلا توقف، ولا يعنيهم إلا الاستحواذ على السلطة ومصادر الطاقة والاقتصاد. وَهِلًا، مشدوهًا نظر نذير راحل عبد الرحيم إلى مهما يكن، وعبرت لحظةٌ ثقيلة ظن في أثنائها أن من نطق قبل قليل كان أكثر ممَّا تتخيَّل في اليوم الأول لبعثه. لقد كان رد مهما يكن فظًّا متسرعًا. كان قد اعتاد رنَّة حديثه الغليظة هذه بين حين وآخر وخصوصًا في الآونة الأخيرة بعد نجاته من حادث الرصاصة غير أنها بدت له الآن أكثر حدة. ولأنه بات يعرف مهما يكن بما فيه الكفاية ويقينه لا يتزعزع بأن قلبه أجْرَدُ صافٍ ذهبٌ، ساورته الظنون في أنه يكابد أمرًا ما لا يستطيع لجْم تأثيره فيه. حين يتحدثون في شؤون السياسة أغلبهم يتشنج وكأن لا علاقة له بالتأمل! منذ الأسابيع الأولى لإقامته في منزل التأمل توصَّل إلى هذه النتيجة، ومع ذلك ما كان يلقي اللوم على أحد منهم، مُسَلِّمًا بأن أحاديثهم دائمًا تديرها دفة حماسة اللقاء والصوت المرتفع. وكي لا يقف طويلًا عند غلظة مهما يكن استحضر واحدة من نصائح متأمل: "أطلقْ سراح الأفكار التي لا تجعلك قويًّا". يروق له تخيَّل الأفكار قطيع ماشية يسرح في مرعى عقله! ولمَّا كان كلَّ يوم أكثرَ طيبة مما قبله ـ على حَسَبِ ما تداعبه ماعون ومن أنا من أنت حين تدلكانه ـ يخشى إن أطلقها أن تنتهي إلى أرضٍ مَحْلٍ فتموت! أحيانًا كان يفكر على هذا النحو الغريب وكأنه اقترف جريمة قتل الأفكار غير المجدية، ثم يفطن إلى أن خياله كان يأخذه بعيدًا ويريه قطيعًا من الخراف!
نظرة نذير راحل عبد الرحيم المستنكرة إلى مهما يكن لم تَخْفَ على تريُّث. ومَنْ مثلُ تريُّث متريِّثٌ حريصٌ على ملاحظة ما يقوله نذير راحل عبد الرحيم وما يفعله؟ وهذا الصمت الذي ران فجأة الآن إنما هو تعقيب تلقائي على تكدُّر نفسي انتاب مهما يكن وتريُّث تفهم أعراضه ولا تعرف حقيقته، وتصرف اكتراثهم جميعًا نحو الموسيقى، تُغمض عينيها وتمد ذراعها اليمنى نحو الأرض وتُلولِبها، كمن يُلوِّح بحصاةٍ يتجهَّز لرميها إلى أبعد مدًى ممكن، صاعدةً بها نحو سقف القبو، وكلهم يتبعون حركتها ويسمعون صوت الموسيقى يعلو عبر جهاز التحكم عن بعد المتلولب مع يدها، وحقًّا امتلئوا بالموسيقى وصعدوا هم أيضًا معها، أصبحوا تلك الحصاة غير المرئية المقذوفة في وجه الكدر، حصاة من موسيقى في نهاية المطاف تجعل من تصيبه عُرضةً للانتشاء. كل ذلك لم يدم أكثر من دقيقتين حيث خفضت تريُّث مستوى القطعة الموسيقية التَّأملية لتعيده كما كان في خانة ذلك البُعد ذي القدرة الخفية الجاذبة، فأنزلتهم جميعًا، نذير راحل عبد الرحيم ومهما يكن ومتأمل ومعالج وماعون ومن أنا من أنت وفي حُبٍّ ووئام، من سماء الموسيقى إلى مقاعدهم من جديد.
نَهِلوا من أشربتهم.
غمز متأمل مهما يكن بعينه مطمئنًا، واستكمل الحديث قائلًا "وحدهم الأموات شهدوا نهاية الحرب". هز نذير راحل عبد الرحيم رأسه مؤيدًا، إنه قول صائب، فقد قيل إنه إذا حسب المرء عدد الأيام التي لم تدنسها حروب البشر فلن يجد يومًا واحدًا لم يُقتل فيه بريء في بقعةٍ ما من هذا العالم العجيب. نعم، تنتهي الحرب بالنسبة إلى الأموات فلا تعود هذه التُّرَّهات شاغلهم أما الأحياء فيستمرون في دوامتها ولا ينتهون منها حتى ينقذهم الموت بدورهم. وقال إنه عندما فارق حياته الدنيوية الأولى كانت الحروب لا تزال مشتعلة، وكانت تترامى والناس يخشون وصولها إليهم، فقد كان الخراب يجتاح بلادًا ويقيم فيها ويعبرها ليجتاح أخرى، وفسدت القلوب، وتفشَّى القتل والخوف وسوء الأخلاق والأمراض والجوع والعاهات والتعذيب والاغتصاب، وهاجر من لم تقتله أخطار الطريق، وكان رؤساء الدول العظمى والصغرى على حد سواء قد بلغوا من العنجهية والخبث وانعدام الإنسانية وموت الضمائر مبلغًا لم يبالوا معه بالمساومة وعقد الصفقات وتأجيج القتال على الملأ والتنديد بعمليات القتل في آن معًا.
المأساة نفسها تتكرَّر، قال معالج، انحطاط بشري مرعب.
والقطيع المسكين نفسه، قال متأمل، يُقاد من كارثة إلى أخرى.
المسكين أم اللئيم؟ قالت من أنا من أنت هازئة.
أم الغبي؟ علَّقت ماعون.
أما في حُبٍّ ووئام فكانت صامتة طوال الوقت، وكان كل تعقيب يحمل تأويلًا ساخرًا ومؤنبًا يجرح رهافة حِسِّها، فالناس، كل الناس، في نظرها، طغاتهم وضحاياهم، كلهم ضحايا هذي الحياة الغامضة!
استطرد نذير راحل عبد الرحيم قائلًا إن نهاية الحرب التي يشهدها الأموات قد تعني أيضًا حرب النفس وطمعها وخساستها. وألحت عليه ذكرى سداب، وخشي أن يكون لحروب إمبراطورية الأرض شأن بها، وسألهم عما حل بوطنه.
نظر بعضهم إلى بعضهم الآخر ولم يتملَّصوا من السؤال باختلاق حديث آخر كما جرت عادتهم في الأشهر الماضية عندما فاجأ نذير راحل عبد الرحيم بعضهم مرات عدة بأسئلة من هذا القبيل. تشاوروا أمامه. وارتأت تريُّث أنْ ليس هناك ما يحول دون معرفته أخبار وطنه بل إن الوقت حان، فحالته مستقرة ويستجيب لبرنامج علاجه كما يُرام، وقد عبر طور التقهقر النفسي الذي يُخشَى عليه منه.
كان مهما يكن صامتًا. طلبوا منه أن يجيب عن السؤال، لأن أكثر ممَّا تتخيَّل زوَّده بجميع الملفات المتعلقة بنذير راحل عبد الرحيم، كما أنه هو نفسه جمع معلومات كثيرة. كان الإعياء باديًا على مهما يكن، وقال إنه جاء من فوره من اعتصام المتظاهرين أمام مبنى برلمان العاصمة قبضة الحديد، وإنه لم يمر على لا أثر وإبهام وتدبير. ولما أبطأ قال له متأمل مداعبًا إن من الحكمة ألا يتحجَّج وأن يجيب عن أسئلة نذير راحل عبد الرحيم، فتخلَّى عن اعتراضه. تذكَّر حديثهم الطويل عن هتلر واستوضح: لكن يا أخي نذير كيف أوجز لك تاريخَ ما يقارب ألف سنة؟ أتته الإجابة بأنه لا يعرف أي شيء عن بلاده بعد وفاته في الثاني من يناير عام 2015 ولا ما هي عليه الآن.
لعلك تذكر أن بلادك في تلك السنة السَّحيقة وقبلها بكثير لم تكن في أحسن أحوالها. ذهبتَ ولسانُ حال دهرك يقول: "من يزرع الريح يحصد العاصفة". كلُّ شيء حل فجأة وانهار دفعة واحدة وأخذ يشهد وضعًا مأساويًا لا تلوح نهايته؛ كنتَ ومواطنوك ترون هذا في النواحي الأخرى من عالمكم العربي لكنكم، منذ البداية، كنتم منقسمين على أنفسكم وتدَّعون النقيض، وكان هذا لأنكم لم تعيشوا أحرارًا، فالجهلة والخائفون ليسوا أحرارًا. ربتكم أيدي من يحكمونكم ومَنْ يُثبِّتون أركان حكمهم، وهذي الأيدي هي التي فرقتكم واستخدمتكم لمخطَّطاتها الشُّمولية. تؤكد المراجع وتبين الوثائق أن كل هؤلاء حرفيًّا لم يكونوا إلا لصوصًا وجواسيس وعملاء ومرتشين وقمعيين وانتهازيين ومنتفِعين ومستنفِعين مشغولين بتنظيم ندوات عن الأديان والدور الحضاري للأسلاف، وأشياء مُسِفَّة مضحكة مثل "تنشئة المواطن المسؤول المعتز بهويته ووطنه" و"الإشهار والثقافة"، بل وحتى الاحتفال برفاهية الحيوان واليوم العالمي لغسل اليدين! وإذا نطق منكم أحد وقال للصوص أنتم لصوص شكاه اللصوص وغضبوا عليه واعتقلوه وسجنوه وعذبوه وحكموا عليه وسجنوه مرة أخرى، وقتلوه إن رأوا ذلك ضروريًّا، فاللصوص هم الحاكم ورئيس الشرطة والنائب العام ورئيس وكالة المخابرات والقاضي وهلمَّجرًّا؛ وياللعجب، هم سَفَلتُكم وأنذالُكم، وتوارثوكم وأشباهُهم كقطعان الماشية، وأنتم رضيتم بذلك، وهلَّلتم له، ودافعتم عنه، ودمرتم بعضكم بعضًا من أجله. ثم جاء زمن انقلبت فيه الأحوال: أصبح أباطرتكم مذلولين وأغنياؤكم متسولين وحماة أمنكم مطاردين وقضاتكم حوكموا في المحاكم نفسها التي حكموا فيها ظلمًا على المعارضين. سبب هذا كله ـكما يقول متأمل والمتأملون ـ الأفكار الشريرة التي خرجت من الرؤوس وصارت واقعًا، ولذلك آلتْ بكم الأقدار.
أحداث بعينها عن بلد نذير راحل عبد الرحيم عنَّت لمهما يكن فقطع حديثه. تذكَّر عنوانات بعض المصادر: "قبائل ومساجد ودار أوبرا!"، "عقود الفساد وسنون التبذير والقمع"، "تكشُّفُ الأوهام والحقائق الصادمة"، وبذل جهدًا في مداراة استيائه من نفسه إذ ـبغض النظر عن تعجبه الشديد مما تُسمِّيه مصادر الوثائق السِّرِّيَّة للدول العظمى، في ذلك الحين، التاريخ المهلهل لبلاد نذير راحل عبد الرحيم والتَّماسك المزيَّف الذي استمر عقودًا رافقه طوال حياته واستمرَّ زمنًا بعدهاـ اتضح له أن ما قاله كلام صبياني فارغ ومكرر نذير راحل عبد الرحيم ليس بحاجة إلى سماعه. كان مقودًا بسطوة الأحداث المتسارعة في عاصمة إمبراطورية الأرض وامتداد تأثيرها ليشمل أقاليمها وعواصم الدول المنضوية تحت قيادتها. وعنَّ له أمر آخر سرَّع نبض قلبه فتجاهله! تدارك خطأه فمضى يُعمِّم الحديث بحيث إن ما حدث في بلد نذير راحل عبد الرحيم أصبح مموهًا بانتقاده الانفعالي. كان يتحدث بشيء وفي نيته قول شيء آخر، ثم وجد ما يقوله على نحو أو آخر صيغة شبيهة بخطب اعتصامات قبضة الحديد وحماسة الذين طفح بهم الكيل، فتوقَّف. أكثر ما أقلقه هو إثارة حفيظة نذير راحل عبد الرحيم لكن هذا ناشئ عما يجبر نفسه على تجاهله! لم يتأكد بعد! كان يريد أن يقول إن ما آلتْ إليه الأقدار نهاية طبيعية للتماسك المزيف لكنه، في لحظات الصمت هذه، يدرك نعمة بتر الحديث. كذلك لا فائدة من تمجيد حقب لاحقة ازدهر فيها تاريخ تلك البلاد بعدما كشفوا خرافة الدِّين وأكاذيب من رسَّخوا أثره الوهمي وجعلوه حقيقة يقتلون بها بعضهم بعضًا بعمًى مطلق، فهذا لا يعني شيئًا لإنسان لم يعش في تلك الحقب، لاسيَّما أن احترام الذات والانخراط في الحداثة والحرية والديمقراطية وقيمها جاء متأخرًا جدًّا، أما التقدم في الصناعة والعمران فيكفي نذير راحل عبد الرحيم ما رآه في إمبراطورية الأرض منذ لحظة إعادة خلقه. ماذا سيقول إذن؟
حل الصمت مرة أخرى، وخيِّل إلى مهما يكن أنه لن يستطيع قول شيء آخر.
متأمل ومعالج وتريُّث التزموا الصمت أيضًا، وكأن هناك سِرًّا يوجب الصمت يُقاسمونه مهما يكن، وكان ذلك صحيحًا قياسًا بحالة نذير راحل عبد الرحيم، فقد عرفوا الكثير عن بلده، وأدركوا سبب الانقطاع المفاجئ لحديث مهما يكن، وشعروا بأن لسانه كاد يزل بقول ما لا خير في أن تؤذى به روح إنسان يدنو من الموت. أصبح كل ذلك في الماضي المحفوظ في الكتب، وفي سلسلة "الحقائق والأكاذيب في تاريخ البلدان" الإلكترونية الفائضة بالشواهد المكتوبة والمسموعة والمرئية التي شكلت لهم صورة كاملة ومفصلة عن الظروف التي عاش فيها نذير راحل عبد الرحيم وما وقع في بلاده وحولها في زمنه وبعد رحيله الأول عن عالم الأحياء. كل أولئك "المذلون المهانون" والطغاة ماتوا. حدث ذلك قبل أكثر من تسعة قرون.
مصدر خوف مهما يكن ذو صلة ليس بنذير راحل عبد الرحيم فحسب بل به هو نفسُه. تريُّث تستريب، وتخمن فقط، ولا تعرف الحقيقة، ولم تجد مدخلًا لتستوضح لا أثر أو ـتقول بينها وبين نفسهاـ إن لا أثر تعمَّدت إقصاءها عن معرفة أي شيء وبشكل أو آخر أشعرتها بأنها تعد الأمر الغامض شأنًا أسريًّا خاصًّا، بينما متأمل، عند خروجه للتسوق أكثر من مرة، قابل مهما يكن في بيته واستمع إليه طويلًا ورجَّح أن يكون ما نُقِل إليه مجرد شكوك عارية من الصِّحة، وبناء على طلب مهما يكن لم يناقش أحدًا في الأمر، حتى إنه ليس واثقًا إن كانت لا أثر على علم بشكوك زوجها وقلقه فقد كان يقطع حديثه ويخوض في مسائل أخرى حين تدخل عليهم مكتبه. هل يعرف معالج؟ ربما، لكن لو أنه يعرف أكان يترك خطيبته تريُّث في حيرتها؟ خبيرة نفسية كتريُّث ترى في سلوك مهما يكن في الأيام الأخيرة إشارات إلى أمر سيئ، وفي حين ترى الحيرة التي يتركهم مهما يكن يتخبطون فيها ينغص عليها التفكير في أنه وزوجته قد يعدون أسئلتها تطفُّلًا نسائيًّا مزعجًا. ما الذي يحدث؟
محاولًا العودة إلى إكمال حديثه دون إرابة نذير راحل عبد الرحيم، ودون الوقوع في حبائل وساوسه المجهولة لأغلبهم، قال مهما يكن: لقد كان مجرد هطول مطر غزير يستغرق عشرين دقيقة دليلًا جليًّا على الفساد الذي نخر بلادك.
نكَّس نذير راحل عبد الرحيم رأسه لحظةً متذكرًا في سره كلامًا شبيهًا وصف به الرجلُ الآليُّ دليل عاصمة بلاده، ولَحَظَ تردُّدًا عابرًا في عيني مهما يكن، ولم يَخْفَ عليه استياؤه. نسي الجملة التي قطع بها مهما يكن حديثه السابق فجأة وأثارت فيه بعض الخوف، وربط عودة نبرته الهجومية بحماسة ملايين المعارضين المحتدمة في شوارع قبضة الحديد. مع ذلك بدا له أن مهما يكن يعود أيضًا إلى الحوم حول الصيغة المتهكِّمة نفسها ففقد صبره وقاطعه: أرجوك يا مهما يكن أجبني حالًا دون الخوض في أمور أخرى، ماذا حدث في بلادي بعد موتي في ذلك الزمن؟
خَزَرَتْ تريُّث مهما يكن ففهم أن عليه، كما ناقشوا الأمر سرًّا منذ أشهر، أن يخبر نذير راحل عبد الرحيم بالحقيقة، لكن دون تفصيل بعينه. إنه يعرف ذلك وبسببه لا يدري ما يقول على وجه الدقة. ألم يكن من الأجدى أن تُوكل هذه المهمة إلى متأمل؟ فالمسألة ليست مقيَّدة بالملفات التي زوَّده بها أكثر ممَّا تتخيَّل، فمتأمل ومعالج وتريُّث يعرفون الكثير عن تاريخ بلاد نذير راحل عبد الرحيم. دار هذا الحديث في نفس مهما يكن، وبينما هو كذلك تخلَّص من ضغط هواجسه المعذبة وجعلته مقاطعة نذير راحل عبد الرحيم إيَّاه يهتدي إلى مدخل آخر مهما وجده صعبًا رأى أنه يتعيَّن عليه قوله، ففي نهاية الأمر فإن لسانَه لم يزلَّ بقول الحقائق الأخطر غير أنه لا يمكن السكوت عن قول بعض الحقائق الفاجعة لإنسان عاد من الموت ولن يلبث طويلًا حتى يعود إليه. وهكذا هتف مهما يكن طالبًا عصير عنب يمنحه الطاقة بعد تعب المظاهرات واعتصام البرلمان.
من كوب كبير شرب نذير راحل عبد الرحيم ماء باردًا، وخشي أن يُغافِله مهما يكن ويتنصَّل من الإجابة. قام متأمل ووضع طعامًا في مِيلغ مخلص الجالس قرب غرفة المجفف، وغسل يديه، وفتح الثلاجة، وملأ مِعْصَرة العنب بعناقيد طازجة قطفها من دالية حديقة منزل التأمل صبيحة ذلك اليوم. ربت مهما يكن على كتف نذير راحل عبد الرحيم: أتعرف ماذا حدث في بلادك عام 2050م؟
ماذا حدث؟
ليس في بلادك فقط، في الحقيقة، بل في أرجاء العالم، والواقع أنه حدث في بلادك قبل هذا العام بأعوام طويلة.
ماذا حدث؟
نضب النفط والغاز والديزل واللَّدائن، وأصبح من يملك حمارًا أو حصانًا أو جملًا أو دراجة هوائية مَلِكًا مُعرَّضًا للقتل! أُغلِقتِ المصانعُ والمطارات والمرافئ ومحطات القطارات، وتعطلت السيارات، وارتفعت نسبة البطالة، وعمَّ السلب والنهب، وتفشت الجريمة والأمراض وروائح القمامة، وانهار النظام والقانون والاقتصاد، وقلَّ الطعام، وانعزلت البلدان، ونفقت الحيوانات، ومات ما يقرب من 30 مليون إنسان جوعًا، وخوت الشوارع والمدن وناطحات السحاب، وأظلم العالم، وبدأت هجرات جماعية نحو الأرياف، وانقطع الاتصال بين الدول، وانتهى ما يسمى بالتجارة العالمية.
يا إلهي، أكل هذا حدث حقيقة أم أنك تمزح يا أخي مهما يكن؟
لا يا أخي نذير، كل هذا مدون بأشكال لا تحصى في سجلات التاريخ البشري وأنا أنقله لك بحذافيره. لا شيء من رأسي. بلدان مثل البرازيل وبوليفيا كانت أوفر حظًّا، لأن وقود السيارات فيها كان يعتمد على الإيثانول المُصنَّع من قصب السكر، وأخرى كانت تصنع إيثانول الملح. وهكذا أخذت دول العالم تحذو حذوها بيد أن هذا لم يكن على نطاق واسع. بعد عقود من ذلك عادت المجتمعات الزراعية بقوة، وتنقَّى الجو من الملوثات السامة، وقلَّت الأمراض لكن مساحات شاسعة أصبحت تزرع بفول الصويا والذُّرَة والطحالب لتحويلها إلى وقود وبطاريات كهربائية للسيارات والمنازل.
أولم يتكهنوا بهذا من قبل؟ ألم يستطيعوا تداركه؟
هنا وهناك كانت توجد مشاريع طاقة نظيفة قِوامُها الريح والشمس والماء مثلًا. الدول الكبرى كانت تستعد منذ زمن بعيد لإيجاد مصادر بديلة للطاقة، لكنها انشغلت بالحروب وتفتيت قدرة خصومها أكثر من أي شيء آخر، ولم يصغ صناع القرار فيها كثيرًا للعلماء. بعد ذلك انهمك العالم في البحث بكل الطرق والأشكال عن سبل توفير الليثيوم والإيثانول ومواد تصنيع الوقود الحيوي، ولزم الأمر عقودًا أخرى حتى تعافت الدُّول وازدهرت من جديد وعثرت على مصادر طاقة جديدة، وعادت إلى شرِّها المستطير بهمَّة أشرس، وتفتقت عقولها العبقرية عن أشكال مبتكرة لتفريغ الروح الإنسانية من إنسانيتها!
تذكر نذير راحل عبد الرحيم فندق المألوف الخارق، وقال إنه وحده يكاد يكون دولة، وإن طوابقه الألف تسع جميع سكان بلده.
هذا صحيح، قالت في حُبٍّ ووئام، قاصدة خصوصًا الإجابة عن الشق الأول من تعليق نذير راحل عبد الرحيم، مومئةً إلى الجهود التي تبذلها منظمات البيئة للحيلولة دون إنشاء مشاريع عمرانية شبيهة، فالبنايات الشاهقة، وخزانات الماء، والسدود، والمناجم، وآبار التنقيب، طالما أفضت إلى حوادث مميتة، إذ إنها تسبب ضغطًا هائلًا يُقلقِل النِّظام الطَّبيعيَّ ويُحرِّك الصُّدوع الأرضية، الأمر الذي تنشأ عنه براكين وزلازل وكوارث إنسانية.
رشف مهما يكن خُثارَة عصير العنب، وخاطب نذير راحل عبد الرحيم: كل شبر في هذا العالم ما عاد كالعالم الذي عشت فيه. 985 عامًا يا أخي حدث في أثنائها ما لا يخطر ببالك أبدًا. الكوارث دائمًا أكثر من العد والإحصاء، طبيعيَّةً كانت أم بتدخل الإنسان في البيئة وتأثير نشاطه في المناخ ودرجة الحرارة. على سبيل المثال، عندما كنتَ حيًّا كان الاحتباس الحراري يُغرِق جُزرًا تُسمَّى المالديف، وإلى ما قبل وفاتك بعام كانت 14 جزيرة من جزر المالديف الـ1200 قد غرقت تمامًا، وفي عام 2050، وقت حدوث الانهيار العالمي لمصادر الطاقة، غرقت الجزر عن بكرة أبيها وأصبحت أثرًا بعد عين، وكأنها ما كانت هناك ذات يوم. دعنا لا نذهب بعيدًا، كانت هناك بلادٌ قريبة من بلادك تُسمَّى البحرين.
زَرَقَ نذير راحل عبد الرحيم مهما يكن بعينيه، سَرَطَ ريقه: نعم، البحرين، ما بها؟
في عام 2120 ابتلعها البحر أيضًا ومحاها من الوجود، وبعد ذلك سنينَ طويلةً ظلت ناطحات السحاب طافية على سطح البحر إلى أن قَعَرَ الماء أساسها وابتلعها هي الأخرى في جوفه كما ابتلع جزرًا في بلادك.
ابتلع جزرًا في بلادي؟
نعم.
وسداب؟
آه، بلدتك الساحليَّة! لا يخفى عليك أن الأعاصير نحتت طريقها إليها منذ أن كنتَ حيًّا وقبل ذلك الزمن بكثير، ولعلَّك أنت نفسُك شهدت أكثر من إعصار دمَّر أجزاء منها، أما الآن يا أخي نذير. قال مهما يكن ذلك، وصمت، ومسحهم جميعًا بنظرة سريعة واجمة، وعاد إلى نذير راحل عبد الرحيم ووضع يده على كتفه قائلًا بهدوء: أمَّا الآن فما عاد لحارتك ولا لبيتك وجود يُذكَر. لقد بلغ ماءُ البحرِ سلسلةَ الجبال التي كما تعرف كانت تُطوِّق البلدة من ثلاث جهات.
كالطفل انفجر نذير راحل عبد الرحيم باكيًا، ورجف، وغمغم. وضع كأس عصير العنب على منضدة القبو، وغسلت الدموع وجهه، وأَخْضَلَتْ لحيته البيضاء. علا نحيبه، وفي ذاكرته عبرت الصور القديمة ودروب الطفولة والصِّبا ومسالكُ الكهولةِ والشيخوخةُ ومشاويرُها المكابرة المُودِّعة، وتلاطمت مثل أمواج بحر سداب في ذلك الزمن الضائع، وتركته في ملاعب الجِنّ.
وضع بكاء نذير راحل عبد الرحيم نهاية للحديث في ما جرى في بلاده وما آلت إليه بلدته سداب. قضت تَريُّث سائر ما تبقى من ذلك اليوم في تبديد شحنة الجزع والرهبة التي رجرجت أعماقه دون سابق إنذار، إلا أنها لم تجد باعثًا على القلق، فبعد كل شيء كانوا يتوقعون ذلك منذ أشهر؛ إنه امتثال لطبيعة الإنسان عند شعوره بوقوع مصيبة، كما أن البكاء ضَعْضَعَ ضغطة المفاجأة وهشَّم صلابتها من الوهلة الأولى لمواجهته إيَّاها. ما كان نذير راحل عبد الرحيم ليرحل دون أن يعرف ما حلَّ ببلاده، وهو إلى جوار ذلك يدرك أن المبالاة المضنية التي لم يتمكن من دفع شراستها زائلة لا محالة عمَّا قريب. إنها حياة فانية ديدنها فقدٌ متواتر يحطم القلوب؛ هذا ما استقر في خلده. خَضْخَضَتْ أعماقَه صورُ دنياه الأولى، ونَزَعَهُ من بين رفاق دنياه الثانية حنينٌ وخيمٌ إلى الموت والعيش الأبدي قرب تقوى.
بناءً على طلبه حمله مهما يكن على يديه، وصعد به سلالم القبو نحو كرسيه المتحرك الموضوع عند المدخل، وتركه يوجهه من تلقاء نفسه نحو الشاطئ.
كانت الغيوم تحجب الشمس، وذاكرته تغصُّ برائحة البحر ـبحر سداب وليس بحر جزيرة الهضاب ـ ومرأى أكداسِ السَّمك الذي ما زال بعضُه يلفظ أنفاسه الأخيرة على الرمل ويَحُتُّ من ثُلَمِ شِباك الصَّيَّادين. أوقف كرسيه الكهربائي على مقربة من ظُلَّة الصَّنوبر، قبالة الضفة الأخرى، لكنه رأى شاطئ سداب وبحرَها في خمسينيَّات القرن العشرين، قبل ألف وسبع وأربعين سنة، عندما كان في مقتبل عمره، على وشك الاقتران بتقوى، وقبل ذلك العهد وبعده، حيث كانت قوارب الصيادين على مرمى حجر من عتبات البيوت لا يفصل بينها شارع الأسفلت الرَّابط بين منطقتي البستان ومطرح، المُنْشَأُ بعد ذلك بسبعة عشر عامًا ومن أجله هُدمت البيوت ونُحِّيت بعيدًا لتُبنى تحت سفوح الجبال ورُدِم جانبٌ من البحر. تذكَّر عَقَبَة سداب ومنافذها التي تقود إلى البلدات والحارات الأخرى المحاطة بسلاسل جبال الحَجَر الشَّاهقة والوديان واليابسة الوعرة ومهاويها المنذرة بالهلاك. تذكَّر أكْلات السَّردين والأرز والقرش المقدَّد والسَّمك المُملَّح المحفوظ في صفائح السَّمن المعدنية. واعترضت تذكُّرَه مزَّة سمك مجفَّف أكلها في حانة دوالي التِّين في الحي القديم ووجبة قرش قدمها له الرَّجل الآلي دليل في شقة فندق المألوف الخارق، ويعلم في هذه اللحظة أن سمك القرش ذاك جُفِّف بطريقة آلية وليس بأشعة الشمس. وعادت ذاكرته تذرع دروب سداب المتربة بُعَيْدَ انتقالهم من مطرح في أعْصُر الشِّتاء المعتدلة ذات الرُّطوبة والحرِّ المُحْتَمَلَين، حيث النساء والرجال يفرشون بُسُطًا أمام بيوتهم ويُديرون الأحاديث وفناجين القهوة والتَّمر حتى وقت عودة قوارب الصَّيَّادين، وكان وأمُّه وأخواتُه ينتظرون عودة أبيه الذي يذهب للصيد مع أحد أقاربه. وكان جيرانهم، تقوى وأمها وأخواتها الأربع، ينتظرون عودة الأب والأخوين بقاربهم أيضًا. لم يكن أبوه يأخذه معه للصَّيد لاسيما إذا ذهب في الفجر إذ كان الرَّجلَ الوحيد في غياب أبيه، وكان يُكلَّف بجلب الماء، وإذا لم يكن هناك ما يقوم به كان يلتحق بالصِّبيان ويُزجي الوقت معهم باللعب.
في ليل سداب المنقرض كان مدُّ البحر يغسل عتبات البيوت.
وطاف نذير راحل عبد الرحيم أنحاء حارات سداب، وراح فيها، ودخل المسجد والمتجر والمطعم ومخبز التنور ومحل الحلاق أشرف المطل على الشارع البحري، وتقهقر في الزمن، وذهب، وأتى، وغازل تقوى، وخطبها، وتزوجها، وأصبح يصيد مع والده ويبيع السمك، وقضى والدُه نحبَه ودُفِن في مقبرة من مقابر سداب السَّبع، ثم تلته والدتُه. وأنجبت تقوى ابنة وابنًا، وعمل هو ملاحظ عمال في البلدية، وبنى بيتًا، وأنجبت تقوى ابنًا وابنة آخرين كبرا وأخواهما السابقان، وتزوجوا، وتركوا البيت، وأُحيل نذير راحل عبد الرحيم إلى التقاعد، وشاخت أخواته، وفارقن الحياة تباعًا، وفي إثرهن رحلت تقوى، وكانت مقابر سداب كلها قد امتلأت فدفنوها في مقبرة بلدة المتهدِّمات النائية عن سداب، المقبرة التي أنشأتها البلدية لتستوعب أموات سكان العاصمة المقام أغلب تجمعاتها السكنية عشوائيًّا في الوديان ومستنقعات السيول، وأُطْلِق عليها منذ ذلك الحين فصاعدًا اسم العامرات! وبقي نذير راحل عبد الرحيم وحده يعد الأيام لملاقاة تقوى، ويستنشق رائحة ثيابها في خزانة ثيابهما، ويفكر مستوحشًا بأن الإنسان يأتي إلى هذه الحياة ليموت، ولحقها بعد خمس سنين.
تنهَّد مسترسلًا في استدعاء ذلك الزمن البائد الذي أصبح في ذاكرته الآن كأنه وهم، ولمَّا بدأ يؤوب منه وجد مهما يكن ينتظره جالسًا على واحدة من مراقي ظُلَّة الصَّنوبر. أتى ليعتذر إليه عن غِلظته. قال إنه مجهد من عمل شركته ومن نشاطه اليومي في مظاهرات العاصمة قبضة الحديد واعتصاماتها الآخذة في الاستشراء. كل صباح يذهب بسيارته الطائرة ويعود مساء أو في وقت متأخر من الليل حيث يكون تدبير وإبهام ولا أثر قد أخلدوا إلى النوم. الأمور تزداد سوءًا. دون أن يقصد تحامل عليه في أثناء سرده ما وقع في بلاده بعد موته. كان يلح عليه تذكر حوادث غريبة ومغيظة وغير معقولة حتى في زمنها حدثت في بلده ولم يستطع الفكاك من إدانتها بالسخرية. إنه يعتذر فما كان ينبغي حدوث ما حدث منه. بذهن بعضه حاضر وبعضه ما زال يطوف في زمن سداب أصاخ إليه نذير راحل عبد الرحيم، ولما انحنى عليه مهما يكن بقامته العملاقة ليُعانقه جثا على رمل الشاطئ، ومن هذا القرب الشديد، بعدما أبعد يديه المضمومتين حوله وحول الكرسي المتحرك معًا، أنعم النظر في عينيه العسليَّتين الكبيرتين ورأى فيهما حزنًا مَشُوبًا بفزع ورأى نفسه جالسًا على كرسيه كأنَّما في مرآة. إلى اللقاء يا أخي نذير، قال مهما يكن، ووقف نافضًا الرمل العالق ببنطاله، وذهب. روحٌ ثوريَّةٌ وطيِّبةٌ وحزينة تسكن مهما يكن ـقال نذير راحل عبد الرحيم في باله ـ لكن غلظة حديثه والحزن والخوف غير الخفيين اللذين يلطخان نظرته مبعث قلق لا يمكن تجاهله!
جاءت تَريُّث وفي يدها غصن ريحان ناولته نذير راحل عبد الرحيم فأخذه، وانقطع حبل تفكيره في اعتذار مهما يكن وحزنه وخوفه الغريبين، وقرَّب الغصن من أنفه وأغمض عينيه وتشمَّمه كمن يهتدي في الظلام بعود ثقاب أخير لن يلبث أن ينطفئ. جاء مُخلِص ومسح رأسَه وظهره بساقيه العاريتين وقدميه اللتين تُلامسان رمل الشَّاطئ. ثاب إلى نفسه وعلى مهل أخذ حِسُّ الامتنان يميط كَمَدَه. تمرينُ تنفُّسٍ فآخرُ، وأخيرًا تبدَّدتِ الغيوم، وبزغت الشمس، وغدا بكامل وعيه في جزيرة الهضاب. تحت ظلة الشاطئ، بمزيج من الزيوت العطرية، دلَّكته ماعون ومن أنا من أنت، وعلى سرير الموسيقى والرَّيحان لان لحَدَبِ أيديهما وغفا. ولما أيقظتاه فكر في صمتهما الطويل وشبه غيابهما برغم أنهما كانتا وسطهم دائمًا. لم يعرف عنهما إلا القليل، وبدتا له وحيدتين بلا زوجين أو حبيبين أو أطفال أو أهل أو من يسأل عنهما بين حين وحين، وفكر بأن كثيرًا من الناس مثلهما، وبالأخص في حُبٍّ ووئام، فثلاثتهن لا يتحدثن إلا لِمامًا. وبعد ذلك صامتًا مضغ طعامه على طاولة القبو، صحني خضروات وبقول صغيرين يلائمان طفلًا من زمن حياته الأولى أتبعهما بكوب أعشاب. كان معالج ومهما يكن وفي حُبٍّ ووئام قد غادروا. ولما انتهى من غدائه أصرَّ على ألا يحمله متأمل، واستند إلى كتفه، وصعد سلالم القبو ببطء وصبر، ثم ذهب متأمل والمتأملات الثلاث إلى غرفهم لأخذ قسط من القيلولة، وتركوه على كرسيه الكهربائي يصلي ويتأمَّل تحت واحدة من ظُلل زوايا الفناء، ونام مخلص عند قدميه.
صلَّى صلاة عالمه الآخر، صلاة الحُبِّ والامتنان، التي داوم عليها منذ أيقظتها في روحه أوَّل مرة رؤيته صورتي والدي متأمل ولوحة البلُّور. تأمَّل، وغفا، وأفاق، ورفع يديه وابتهل، وغلبه النُّعاس مرَّةً أخرى.
في الصباح الباكر لليوم الحادي عشر من يوليو، بعدما صلى نذير راحل عبد الرحيم صلاة حبٍّ وامتنان قصيرة في سرِّه، وأنهى ومتأمل والمتأملات الثلاث جلسة التأمل في ظلة الشاطئ، جاء معالج وفي حُبٍّ ووئام ومهما يكن ولا أثر وإبهام وتدبير، ونزلوا إلى القبو، وأنفقوا سحابة يومهم في الأحاديث، وتخلَّى متأمل والمتأملات الثلاث عن حصتهم المعتادة من القيلولة، بيد أنهم لبوا توق نذير راحل عبد الرحيم، وحملوه إلى زاوية في الفناء ليصلي، ثم حملوه مرة ثانية وثالثة لأنه كان قد أخذ يضيق بالبقاء الطويل في الأماكن المغلقة. اعتذر لهم كثيرًا عن إرهاقهم بتلك المشاوير، وقال إنه يبتهل إلى الله كل يوم أن يجمعهم في الدار الأخرى، وألحق كلامه بجملة "بعد عمر طويل"، مشيرًا إلى سياق استخدامها في حياته الدنيوية الأولى، ومؤكدًا أنهم هناك سوف يكنهون أنها مجاملة في غير محلها، إذ لا توجد حياة أجمل وأعظم من الحياة هناك، وأيُّ فرحة ستستولي عليه وعلى زوجته تقوى برؤيتهم! ثم بين الأحاديث، بعد غروب الشمس، صعدوا جميعًا إلى قاعة التأمل أعلى الغرف التسع، وحمله مهما يكن، وتأملوا معًا ساعتين كاملتين.
في ذلك اليوم ناشد مهما يكن متأملًا وتريُّث، سِرًّا في غرفة متأمل، أن يعلماه فورًا وفي أي وقت إذا فارق نذير راحل عبد الرحيم الحياة. ومع أن هواتفهم مزودة بأقوى برامج التخفِّي ومربوطة على مدار السَّاعة بشركة اتصال معارضة مشهود لها بحصانة تاريخها في مجال الحماية من الاختراق، اتفق مهما يكن ومتأمِّل على كلمات بعينها يقولانها عند حلول ذلك الوقت العصيب الآتي، دون ريب، تحسُّبًا لتنصُّت وكالة مخابرات إمبراطورية الأرض عليهم. سأل متأمل مهما يكن أين سيدفنونه. قال مهما يكن إنه لن يخبره بذلك الآن، وبعد أن يدفنوه يجب عليهم جميعًا التزام الصمت والاحتفاظ بهذا السر للأبد، ثم ناول تَريُّث غِلافًا كبيرًا كانت قد طلبت منه جلبه، فحملته في الحال إلى غرفة نذير راحل عبد الرحيم. وقبيل التاسعة ليلًا انصرف مهما يكن وعائلته ومعالج وفي حُبٍّ ووئام، وأوى سكان منزل التأمل إلى غرفهم. عندما ولج نذير راحل عبد الرحيم غرفته فاجأته صورة زوجته تقوى معلقة على الجدار قبالة سريره؛ إنها الصورة نفسها التي بروزها وعلقها على جدار غرفتهما في بيت سداب، صورةٌ ملوَّنةٌ طِبْقُ الأصل من صورتها على جواز سفرها الذي، كما هو شأنه أيضًا، لم تسافر به قط، حيث حالت الظروف والأمراض دون استطاعتها الذهاب للحج، وأوجس هو في نفسه خيفة من السفر من دونها.
دهمته مشاعر مختلطة سكَّنتها رائحة الرَّيحان المقبلة من أُصُص إفريز النافذة المفتوحة. كانت أجهزة التبريد في منزل التأمل، كما هو الحال في شقة فندق المألوف الخارق ومنزل الصمت، تعمل آليًّا وفق درجة حرارة بدن الإنسان، بيد أن متأملًا أو المتأملات الثلاث، بناء على طلب نذير راحل عبد الرحيم، كانوا يعطلون هذه الخاصية كلما كانت درجة الحرارة معتدلة، لاسيما في موسم الأمطار. وحتى في موسم الجفاف في الأشهر الأخيرة فإن درجة الحرارة كثيرًا ما كانت تنخفض في الليل. وهكذا كان ينام ونافذة غرفته مفتوحة لا يحجب ما هو داخلها سوى الشُبَّاك الشَّفَّاف المطل على الدهليز والحديقة والسياج الخلفي. أغلق باب الغرفة خلفه ولم يطفئ المصباح. نهض من جلسته على الكرسي الكهربائي المتحرك، خطا نحو صورة تقوى ووقف أمامها يتأملها إلى أن نَمِلَتْ إحدى قدميه فعاد يمشي ببطء وصعوبة مستندًا إلى الجدار ثم استلقى على سريره، وكي يتمكن من رؤية الصورة رصف الوسادة تحت رأسه، وبعد حين من الوقت نعس، ورأى الصَّخرة وماءَ الشَّلَّال ينصبُّ على ماء النهر، وتقوى تميل نحوه فتنبعث من صدرها رائحة عطر تدير رأسه، وفي لحظة الاحتضار الفاصلة بين تملُّص اليقظة واستحكام النوم فتح عينيه وأغمضهما شاهقًا نفسًا طويلًا ببطء وكأن عطر تقوى يتسرَّب في خياشيمه وأعصابه، ومدَّ يده إلى منضدة السَّرير، ظانًّا أن تقوى هي من يفعل ذلك، وأطفأ المصباح، ونام قرير العين.
كان جسده يزداد وهنًا وروحه تزداد سكونًا.
في الأسابيع الثلاثة الأخيرة كانت تريث قد أدخلت في برنامج علاجه الاستحمام بالماء البارد، في السادسة صباحًا، بعد جلسة التأمل في ظلة الصنوبر وقبل الإفطار؛ من أجل تسكين ألم الساقين والتهابهما، ثم في الثامنة ليلًا، قبل نومه بساعة، الاستحمام بالماء الحار؛ لتقليل تشنج العضلات وللنوم العميق. وكذلك الحال لماء الشرب، كان يبدأ يومه بشرب كأس على الرِّيق بعد جلسة التأمل وقبل غسل أسنانه وإفطاره بنصف ساعة. كان يسر بالحديث إلى تريث ويستفهمها عن دقائق الخُّطَّة التي وضعتها ومعالج، وكانت من آن لآخر تحدث تغييرًا في الترتيب لتتوافق عناصر العلاج الطبيعي: التأمل، الصلاة، التدليك، الاستحمام، شرب الماء، أكواب الأعشاب، إبر غاز الأوزون، الأكل...
وَهَنَ جسدُه وما عاد قادرًا على أداء وظائف يومه كما سلف في الأشهر الستة الماضية. كان تهذيب لحيته وشاربه لا يتطلب أكثر من إدخال رأسه في وعاء آلة الحلاقة الزجاجي، الملحق بدورة المياه، وضغط المفتاح الكهربائي، لكن هذا أصبح يرهقه أيضًا ويحتاج إلى مدِّ يد المساعدة من مَنْ أنا مَنْ أنت وماعون. بدت روحه نقيض أعراض تهدُّم بدنه فقد كانت تزداد بُرْءًا!
في الثالث عشر من يوليو اجتمعوا في القبو من جديد.
ما عاد لدى نذير راحل عبد الرحيم سؤال يسأله، وإن خطر له الاستفسار عن أمر مما حدث في الأشهر الماضية كان لا يجد حماسة كافية ليفعل. أصبح كل ما يفكر فيه هو الرحيل عن هذي الحياة، وكان التأمل يمده بطاقة روحية منقذة. في هذه اللحظات قرابة ثمانية ملايين معتصم يملأون شوارع قبضة الحديد، قال متأمل، وبحلول أغسطس المقبل يُتوقَّع أن تبلغ أعدادهم خمسة عشر مليونًا. صورك في كل مكان، على ناطحات السحاب، على السيارات الطائرة، ومبنى البرلمان، وناطحة السحاب التي تقع فيها ساحة هتلر المخلوق المنسوخ، وعلى لوافت المعتصمين ولوحاتهم، ووسائل الإعلام تتحدَّث عنك ليل نهار وتبث التقارير وتعيد بث صورك في معمل البشر عابر الزمان والمكان. لم يعلق نذير راحل عبد الرحيم، وفي الوقت نفسه لم يفقد مرحه، وبدت له ملاعبة إبهام وتدبير أكثر إغراء.
قال متأمل: أخي نذير. إن سمحت لي، في نفسي أُمنيَّة دفينة منذ عرفتك في فبراير الماضي آن الأوان لأفصح لك عنها، وكم أتوق إلى أن تحققها لي.
مبعث سعادتي وغاية سروري أن أرد لكم ولو بعضَ بعضِ جميلكم وعطفكم أخي متأمل.
ماذا رأيت بعد موتك في حياتك الدنيوية الأولى عام 2015؟
لعل نذير راحل عبد الرحيم توقع طلبًا أو سؤالًا آخر إذ إنه توقف عن مشاركة تدبير وإبهام لعبتهما الإلكترونية وبدا كمن أخذ بغتة إلى مكان وزمن آخرين.
قال معالج: إنها أُمنيَّتي كذلك.
وأنا أيضًا، أردفت في حُبٍّ ووئام. ودون أن يعرب الآخرون عما في صدورهم كانت عيونهم تردد القول نفسه.
أقلع تدبير وإبهام عن اللعب. وأحدثت إزاحة المقاعد ذات القوائم الطويلة على بلاط القبو صريرًا وكأنهم قرَّبوها من مسافات بعيدة، وكأن نذير راحل عبد الرحيم كان بعيدًا عنهم، وكأن حديثه كان سيفوتهم.
أضافت تريُّث: إن لم يكن لديك مانع أخي نذير فإننا جميعًا نترقب سماع هذه القصة، ماذا جرى بعد لحظة موتك؟
نَظَرَهم نذير راحل عبد الرحيم في صمت، ثم نظر الكلب مخلصًا عند باب غرفة التجفيف وقد رفع رأسه عن ميلغه المليء بخليط من الأرز والخضراوات وقِطَع البطاطا الحلوة، وبدا متأهبًا هو الآخر للإصغاء.
في فجر السابع من يناير عام 2015 قُبِضَتْ روحي بينما كنت نائمًا في بيتي في سْدَابْ، إلا أنني لم أنسلخ فورًا من إهاب هذي الحياة، ربما بسبب ما عانيته من الوحدة في السنين الخمس الأخيرة بعد رحيل زوجتي تقوى، حيث لم يكن يطرق بابي أحد وأبنائي ـبسبب أسرهم وأعمالهم ومشاغل حياتهم ـ يزورونني في الأحايين، ويهاتفونني مرَّةً كل أسبوع وآخر، لذلك لم يعلم بموتي أحد، وبرغم فيض السعادة المفاجئ الذي غمرني تشوَّش عليَّ ما صرتُ عليه بعد مفارقة جسدي الدنيوي، فقد كان جسدي الأثيريُّ يطفو فوق فضاء غرفة نومي، وأصبحتُ أرى بوضوح لم أر بمثل شدَّته وصفائه من قبل، وملأني شعور متصاعد من الحب والفرح والسَّلام، وتبيَّن لي أنني أسبح في فضاء غرفتي بذلك الجسم الشَّفَّاف، وسمعتُ نداءً مؤنِسًا يناديني رجوته في سِرِّي أن ينتظر، وظللتُ ساكنًا في الفراغ أرنو إلى صورة تقوى وإلى جثتي على السَّرير. وفي البهو رأيتُ ساعة الحائط تشير إلى الرابعة صباحًا، وعدت إلى غرفة النوم، ومن ذلك العلو رأيت سطح دولاب ثيابنا العالي القديم الذي يكاد يلامس سقف الغرفة، حيث كان واسعًا جدًّا وعلى أرففه العليا أغطية النوم؛ كان الدولاب فريدًا من نوعه مصنوعًا من خشب السِّنديان، وكان قد قاوم الاندثار خمسة عقود، ودون مبالغة كان يعد تحفة دهره ومصدر حسد سكان حارة السَّاحل والحارات المجاورة، وكان قد حمله ثمانية عشر بحَّارًا حين حالف الحظ أبي واشتراه من تاجر هندي جلبه خصيصًا لمعبد شيفا الهندوسي في بلدة مسقط المجاورة وأنزله خطأً على شاطئ سداب، ثم واجه مصاعب جمة في إعادة نقله إلى مسقط، وخشي أن يتحطَّم. وقيل إن خلافًا نشب بينه وبين بعض بني جلدته جعله يقدم على بيعه. في أي حال، على سطح الدولاب برزت لي أشياء صغيرة فقدَتْها تقوى ونسيتها منذ سنوات بعيدة قبل رحيلها، بينها خاتم فضة يثبته علك يابس ويخفيه عن الأنظار، وفصوص ياقوت وخَرَزات سُبحة، وفردة جورب، ونقودٌ معدنية أغلب الظن أن أبناءنا وأحفادنا عندما كانوا لا يزالون أطفالًا، في غفلة مني ومن تقوى، قذفوا بها إلى سطح الدولاب. في اليوم الثاني بدأت جثتي تتفسَّخ، ولم يستطع برد الشتاء تأجيل انبعاث الرائحة أكثر من أربعة أيام. وعلى منضدة المطبخ حال لون خبز التنور ووجد النمل منفذًا إليه، واحتشد الدود والذباب وغزا البيت. وفي اليوم الخامس دخل البيت أربعة من شرطة المباحث والتحقيقات الجنائية وابناي وابنتاي، وكانوا يضعون كمَّامات على أنوفهم ويرتدون قفافيز، ومُنِع أبنائي من لمس جثماني المتحلِّل، ووُضِعتُ في كيس نايلون، وحُمِلتُ على سيَّارة نقل الموتى.
بعد ذلك بقيت ابنتاي يتنقلن بين غرف البيت ويبكين، وجاء بعض الجيران بعمال تنظيف ومواد تعقيم وتطهير، ثم اضمحل انشغالي بذلك الشأن الدنيوي الأخير، ولبَّيت النداء الخفي الذي سألني مرافقته عند لحظة موتي قبل خمسة أيام، وانمحت معالم غرفتي وبيتي وسطع ضوء هائل صنع نفقًا من نور مشع سبحتُ فيه ووجدت كتلته الكثيفة تجذبني إلى جوفها، وما لبث التيار الشديد الإشعاع أن أسلمني إلى حقل أخضر تترامى حدوده بعيدًا وراء حدود البصر، وهناك وجدت في انتظاري ملاكًا طلق المحيا له هيئة إنسان وينبعث النور منه ومن جناحيه، ومع أنني لم أره من قبل عرفت في الحال أنه هو من كان يُناديني بُعَيْدَ قَبْضِ روحي وانسلَّ عجلًا. ناداني باسمي، وعانقني، ومشيت إلى جواره على المرج الأخضر اللامتناهي، وشممت شذا ريحان وروائح عطرية إن كان فيها بعض ما في عطور الدنيا إلا أنها آسرة لا تقاوم ولا توصف، وشعرت بطاقة غريبة وقوة لا تُقاس حتى بقوتي عندما كنت شابًّا في حياتي الدنيا. ما رأيته وما سمعته وما أحسسته لا يمكن أن تصفه اللغة البشرية المحدودة هذه وإدراكي المحدود هذا. ما فرحتُ فرحًا قط كفرحي ذاك، وكأن الحقيقة أصبحت حقيقة عندئذٍ فحسب وليس قبل ذلك، دون شكوك أو تناقض أو حيرة. كل ما رأيته كان خارقًا وجديدًا غير أنه كان أليفًا، أنيسًا. وانفسح الحقل الشاسع، وغمرت جوانبه ألوانُ مبهجةٌ من الزهور والأشجار يتخلَّلها نور يتدفق ويتدافع مثل ركام من السحاب من كل الجهات. وكلما قطعنا مرحلة شرح لي الملاك ما أراه بترفُّقِ صاحبٍ قديم حظي بقدومه بعد انتظار طويل. هناك في البعيد جبال خضراء ينعكس ألقها وينتشر، ثم أخذت تظهر بيوت وقلاع معلقة في السماء أُسُسُها تغيب في السحاب والنور، وعلى قممها وقبابها تلمع أحجار من ماس ملوَّن تكاد قوة بريقه تخطف الأبصار.
قاطعت إبهام نذير راحل عبد الرحيم: ربما بسبب انعكاس أشعة الشمس.
لا يا صغيرتي إبهام، إنني أقول هذا مشبِّهًا فقط بقدر ما تسعفني لغتي الدنيوية العاجزة هذه، فما من منظر هناك إلا ويبعث النور والراحة والانبساط والطمأنينة، ويُجدِّد نشاط النفس ويُوبِّد الغبطة والسرور. ليست هناك شمس ولا قمر ولا نجوم ولا ظلام، نور فحسب يتوهَّج، ينبثُّ ويتدفق من كل مكان وفي كل مكان. ومشينا، ومشينا، وظهرت عيون ماء، وتضوَّعت روائح مسك وطيب، ودخلنا حقولًا أخرى امتدت كأنها بلا نهاية ترتع فيها قطعان غنم وظباء وغزلان وأيائل وأراعيل خيول، وتطير فوقها أسراب طيور ملونة كأنها تنهمل من خلل أشعة النور، وتشدو، ومن حلاوة شدوها لا تملك إلا التمهل والوقوف والإنصات لها ورفع عقيرتك بتضرُّع شكر وحب وامتنان. واجتزنا بساتين ممتلئة بأطفال يلعبون، أطفال من كل الأعمار يرتدون ثيابًا من سندس وإستبرق وحرير، تحف بهم الملائكة ويطيرون بأجنحتهم النورانيَّة فوقهم وحولهم، ويغمرهم النور، ويشع من وجوههم الفرح. وكنت سعيدًا إلى حدِّ أنني أدركت أنني لم أعرف السعادة قط من قبل. ومررنا بساحة كبيرة جدًّا رأيت فيها رجالًا ونساءً في ثياب بيض كأنها نور كثيف وملونة بألوان الزَّهَر ومن حرير وسندس وإستبرق، كثياب الأطفال، وممَّا لا يعلم اسمه إلا من سكن هناك، وحول معاصمهم وأعناقهم أساور من ذهب ولؤلؤ وفضة، يرفعون أكفهم ويصلون ويُعظِّمون مجد الملكوت. ورفعت يديَّ، وصلَّيت معهم، والملاكُ الذي يرافقني والملائكةُ بأجسامهم اللطيفة النورانية كذلك كانوا يفعلون. وأكملنا طريقنا، وفي كل منظر كانت تنبلج قصور حيطانها من فضة وذهب وعقيق ولؤلؤ وياقوت، وبحيرات يستحم فيها أطفال قال لي الملاك إنهم، في الحياة الدنيا، ماتوا بأعمارهم تلك، وكانوا يعومون في الماء ولا يغرقون، وعندما يخرجون تنشف ثيابهم من فورها. وما رأيت شيخًا، ولا مريضًا، ولا مغمومًا، ولا كئيبًا، ولا من يشكو مللًا. وقال الملاك إننا هناك لا نهرم، ونعيش جميعًا في شباب خالد ونعيم لا يزول وفرح أبدي، لا ننام، ولا نموت، ولا نتعب. وأينما مضت بنا الطريق رأينا الناس فرحين يُصلُّون ويتعانقون ويلعبون وينغمسون في ما لا ينتهي من صنوف المتع، وقال لي الملاك إن الغِلَّ والشَّرَه والغرور وكل طبع فاسد انتُزِعت منا، وإننا نعيش في حب دائم ونعيم متصل.
وفي حقل فاكهة مددت يدي إلى دالية عنب ومن عنقود بَرَّاق قطفت ثمرة سالت في فمي عسلًا تُذهِب حلاوته العقل، وبينما أنا هائم منساب في لذة طعمها رأيت ثمرة أخرى تنبت مكانها. ومررنا بنهر أبيض كالثلج شربت من مائه العذب حتى ارتويت وأحسست نفسي أنتشي وأضحك. وانعطف بي الملاك إلى طريق من الزَّبرجد تصطف على جانبيه منازل منشأة من اللؤلؤ والذهب والياقوت أيضًا ومما لا تحويه الأوصاف، كل منها يسنو في بريق الأحجار الكريمة، والنورُ وضَّاحٌ من فوقها ومن تحتها ومن حولها ومن خلالها، وإذ بالملاك يقرع باب واحد من تلك المنازل. كان للقرع وقع موسيقى من الماء الخالص تثمل الآذان، وعلى الفور فتح الباب فخرج أبي وأمي يَنْعِمان بأثواب الصِّحَّة والدِّمَقْس، وتعانقنا، ورحبا بي، وقالا إنهما كانا في انتظاري، وضيَّفاني تمرًا ولبنًا لم أذق كطعمهما قط في الدنيا، ثم تركناهما، وذهب بي الملاك إلى منازل أخواتي الثلاث وأزواجهن! فاحتفوا بي وضيفوني، ومع أني أعرف بلا ريب أن أيًّا من أخواتي لم يتزوج في الحياة الدنيا لم أفاجأ ولم أجد أزواجهن غرباء عني، وكانوا جميعا، حتى أمي وأبي وأنا، شبابًا في مقتبل العمر مشرقين جميلين تفيض العافية من كل شيء فينا. وطار بي الملاك فوق نهر من العسل، وآخر من النبيذ، وآخر من الجعة، وآخر من اللبن، قرب كل منها يتكئ العشاق على نمارق لينة كلٌّ يُقبِّل حبيبته، وتصطخب أحاديثهم المرحة وهم يصبون الشراب من صنابير تتدلَّى من الهواء. ولأن ذلك العالم السَّرمديَّ النَّقيَّ غير هذا العالم الفاني الملوَّث فلا حبيب يخون حبيبته ولا حبيبة تخون حبيبها، ولا يخالج الشك ولا الخوف ولا البغض روحًا في ذلك العالم، ولكل رجل امرأة واحدة فحسب هي من أحبَّته وأحبَّها، كما في أسطورة آدم وحواء الأزلية في حياتكم الدنيا هذه، وعدا ذلك فالوفرة في كل شيء لا تُقاس ولا يحكمها احتكار الأسواق وأرباب المال والبنوك والاستغلال والجشع، فالإله الخالق يمنح أحباءه الطيبين كل ما تشتهي أنفسهم، وهؤلاء ما عادوا جشعين وقد امتلأت أعينهم بالرِّضا ونالت أرواحهم صفاته الخالدة. وبينما كنا نقطع ذلك الطريق مررنا بعشاق يُسرِّحون شعور حبيباتهم ويتضاحكون، مقرفصين على غمائم من نور. وقال لي الملاكُ إن ذلك مرأًى يسير لمِحفلٍ نهايته غير منظورة يُدعى ملتقى الصَّابرين. ثم هبط بي إلى صروح هائلة متداخلة تعلو طبقاتٍ في السماء وتمتد أميالًا بعيدة على السطح الغاطس في النور، لها أرفف ملأى بالكتب، وأعداد لا تُحصى من الملائكة منكبِّين على مناضدها يكتبون؛ وطاف بي الملاك على جناحيه حول الصُّروح، ولم ندخل، وقال لي إنها دار أعمال الإنسان حيث يكتب الملائكة ما يفعله البشر الأحياء، وإن من لا يقتل ولا يظلم ولا يعتدي يجد نفسه بعد الموت في المكان الذي قادني إليه. وقال لي إن كتابك هناك أيضًا لكنه لم يكتمل بعد، فعجبت من قوله، وسألته: أما مُتُّ ودُوِّنت أعمالي الدنيوية، فلم أنا هنا إذًا؟ لكنه ابتسم، وعانقني، وقال إن دار أعمال الإنسان تُنظَر من الخارج فقط، وإن الملائكة يُدوِّنون كل شيء ليوم الحساب، وإنه سيحملني الآن إلى بيتي!
آسف على مقاطعتك أخي نذير، تدخَّل متأمل، هل أدركتَ ماذا عنى صمت الملاك؟
نعم أخي متأمل، أدركت ذلك هنا في منزل التأمل قبل أيام فحسب؛ صمته كان إيماء إلى عملية إدريس تكرار، لكن في أي حال من الأحوال ليس واردًا أبدًا الشعور بنكد أو غم في ذلك المكان، كما لا يمكن أيضًا إخطاري بما سوف يقع في الغيب، ومن لذة ما كنت أرى وأحس وأسمع لم يكن ليدر في خلدي البتَّة شيء آخر.
أخرجت تريث قرطها، ومطَّت جوانبه، وأخذت تكتب على الشاشة وتُصوِّر نذير راحل عبد الرحيم. وكذلك فعل مهما يكن بآلته الشبيهة بالقلم. كلهم نظروا إلى نذير راحل عبد الرحيم مدهوشين. وقال معالج مزدريًا: وإدريس تكرار يعتقد بأنه الله الذي يُحيي الأموات! وسأل تدبيرُ: بعد كل ما أكلت وشربت لم تذكر إن كنت قد استخدمت مرحاض منزل والديك أم أن هناك مراحيض عامة؟ ضحك نذير راحل عبد الرحيم ماسحًا رأس تدبير: ليست هناك مراحيض عامة ولا خاصة. البشر هناك لا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوَّطون. إنهم، بعد الأكل والشراب، يتجشؤون مسكًا. إن السبب في ذلك أننا في الحياة الدنيا أجسادٌ فاسدة تَلْبَسُ أرواحًا محبوسة أما هناك فنحن أرواحٌ وأجسادنا من طبيعة روحانية، لذلك لا نفنى ولا نفسد ولا تعترينا مثالب إنسان هذي الحياة الفانية.
شُدِهوا، وأراد تدبير أن يُعقِّب غير أن لا أثر لم تنتبه وطلبت من نذير راحل عبد الرحيم إكمال القصة، مذكرة إياه بأنه توقف عند اللحظة التي أراد فيها الملاك أن يحمله إلى بيته.
آه، نعم، ما أجمل بيتي! من فضة وذهب ولؤلؤ وياقوت، منيرٌ كأنه كوكب دُرِّيٌّ، يحيط به بستان من طيوب وفاكهة على حافته يجري نهر واسع يمتد أميالًا لا يُحصى عددها على ضفتيه أُقِيمتْ بيوتٌ أحسنُ ما يمكن وصفُها به بلغتي العاجزة هذه أنها مثل حلم أو لوحة رسمها فنان أو أجمل بكثير ممَّا صَبا سُكَّانها أن تُبنى. للنهر فرع يمتد إلى وسط البستان عبر مجرًى ينتهي بصخرة كبيرة لا يمل الناظر بهاء الضوء النَّاصع من ألوانها. ينحدر الماء من الصَّخرة ليصب في حوض ويشق طريقه عائدًا من هذه الجهة نحو النهر الواسع. وهناك قنطرة نعبر فوقها فيصبح ماء النهر تحتنا. عندما أوصلني الملاك إلى بيتي وجدت تقوى تنتظرني عند الباب، وكانت أصغر وأجمل ألف مرة عما كانت عليه حين تزوجتها في حياتي الدنيوية الأولى، وتعانقنا، ومن شدة الشوق وحرارة القبل أحسستُنا كتلتا نور تنصهران في بعضهما بعضًا، وسألتني عن أخبار أبنائنا في العالم الفاني، وكان كل ما نقوله هناك أخبارًا طيبة أمَّا الأخبار السيئة فلا تخطر لنا على بال. ورفعنا أيدينا متضرِّعَين، ثم ابتسم الملاك وودَّعنا وانصرف. وطفقتُ وتقوى في الحديث والطعام والشَّراب والملاذِّ العظيمة، ثم أخذتني في جولة خارج البيت، ومررنا ببعض ما أرانيه الملاك، وقالت إن ثمَّة أمرًا ينبغي أن ننجزه، فبلغنا ملتقى الصَّابرين وامتطينا غمامة نور، وسرَّحتُ شعرها، وشربنا كؤوس العسل والزنجبيل من صنبور يتدلَّى من الهواء ويتدنَّى نحونا كلما مددنا أيدينا، وضحكنا من شدة الانتشاء، وعندئذ علمت منها أن ذاك الملتقى يزوره كل حبيبين يجتمعان أوَّل مرَّة في الحياة الأخرى.
عند هذا الحد سكت نذير راحل عبد الرحيم، وأغمض عينيه، وشد نَفَسًا عميقًا نفخ رئتيه ثم أطلقه ببطء حتى فرغ جوفه من الهواء، وعاود الكرَّة ثم فتح عينيه ونفحةٌ من زمن تقوى الأُخرويِّ تَشُعُّ في وجهه وتُشيع داخله الحنين إلى الرجوع.
قال متأمل: ما قلته يذكرني بعبارة قديمة تعود إلى 2500 سنة مضت تقول "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".
عقبت من أنا من أنت: كم بائسٌ وغامضٌ هو الإنسان، الأحياء ينامون والأموات خالدون في اليقظة! إنهم ليسوا موتى أساسًا؛ شيء ما مثل الخدعة، يتركون أجسادهم لتتعفَّن في التُّراب ويذهبون لاستبدالها بأخرى أينع وأنضر.
أينع قلبًا وقالبًا، أضافت ماعون. وعلى غير عادتها عَمِيَ المقصود على في حُبٍّ ووئام فعلَّقت بالقول: ليس أنضر دائمًا، هل نسيتم هتلر؟
قالت تريُّث: أظنكِ على حق يا في حُبٍّ ووئام لكنْ أخي نذير ألا تكمل لنا القصة؟ لقد وصلت بيتك، وأخيرًا التقيت زوجتك تقوى وأخذتك إلى ملتقى الصابرين.
صُنِعَتِ القنطرة من لؤلؤ صلب لمَّاع ومستدير، وعلى بقعة في البستان مُتَّكآت وأرائك ومناضد قواعدها من العقيق والفيروز والزَّبرجد، بُسُطُها ووسائدها وأثاثها مُنجَّدة بالإستبرق والحرير، ومنسوجة بخيوط الذهب، وكنتُ وتقوى نتكئ على أريكة من عقيق تعكس حمرتُه النورَ الآتي من جهة النهر، وعلى المنضدة أطايبُ الشَّراب والطعام، متنعِّمَين بالرُّنُوِّ إلى الصخرة الكبيرة ذات الألوان والبريق، ينحدر من أعلاها شلَّال يَنْصَبُّ في الحوض ليجري عائدًا نحو النهر سالبًا السَّمع والنظر من فرط ما يُحدِثه إيقاعُ رقرقتِه وخريره وأَلَقُ نوره من الدَّعة والجَذَل. منذ أن فعل إدريس تكرار فعلته وأنا أبذل جهدًا خارقًا لأتذكر ذلك، وغالبًا كنت أرى في المنام منظر الشَّلَّال والصخرة ناقصًا متحيِّرًا بين أن يكون لنهر أو لبحر. أظن ذاكرتي امَّحت حقًّا وأخذت تعود ببطء، أما الآن فإنني أرى كل شيء واضحًا سواء ما اتصل بحياتي الدنيوية الأولى أو بحياتي الأخرى.
سأله معالج: قبل إعادة خلقك، ألم يحدث لك شيء غريب ينبئك بذلك، علامة، صوت، رائحة، أو أي شيء غير معتاد؟
كيف لي معرفة ذلك وكل ما كنت فيه نعيم مطلق؟
شيء صلته وثيقة بحياتك الدنيوية الأولى أو بما هو خارج نطاق حياتك الأخروية التي كنت تحياها؟
لا أدري ماذا أقول لك. كان الملائكة يبشرونني وتقوى بأخبار من قبيل قدوم صديق أو جار عزيز أو ابنٍ من أبنائنا حتى لحقوا بنا وأبناؤهم جميعًا. وكان هناك الكثير، مثلًا: غابة النُّور، ألعابُ الحُبّ، أراجيحُ السَّحاب، الزيارات، كشف حُجُب الأسرار، معابر الموسيقى، الاحتفال باجتماع آباء الأطفال المفقودين والمختطفين في الحياة الدنيا وأمهاتهم، والذين حالت عوائق الحياة الأولى دون أن يتمكنوا من الزواج يقصدون ملتقى الحب السَّرمدي ويجدون بعضهم بعضًا هناك فيذهب كل حبيبين إلى بيت واحد، ومن أحبوا وكُسِرت قلوبهم أو لم يحبوا ولم يتزوجوا يقصدون الملتقى ليختاروا من تهفوا قلوبهم له وينتقلوا وإيَّاه للسكن في بيت واحد. وكيف يمكن أن أنسى مَحْشَر منابع الأنهار؟ في أوقات بعينها لا نسبر كنهها ولا نعلم متى تحل، نجد أنفسنا في نزوح جماعي، أطفالًا ونساء ورجالًا، نحو منابع الأنهار. بالرغم من أنهم يسمونها منابع إلا أننا في الحقيقة نرى منبعًا واحدًا فقط ينحدر من علوٍّ مهما شخصت إليه أبصارنا فإنها لا تبلغه، ونرفع رؤوسنا فينتابنا دوار فنخفضها ونتماسك بأيدي بعضنا بعضًا، وكأن المنبع يأتي من فوقنا ومن تحتنا ومن حولنا. ذاك، كما قيل لنا، هو المصدر الأول، الحب الأزلي القديم الذي لا يفنى، ومن حظي برؤيته نال صفته الخالدة. يندفق الماء واللبن والعسل والنبيذ والجعة اندفاقًا، وينصع نور مزيجها الكثيف الشَّفاف الغزير، وعند نقطة تزدهر في عيون الناظرين الشاخصين يذهب كلٌّ في مجرى يغذي أرواحنا وأجسامنا الأثيرية ويهبنا ديمومة الغبطة وغبطة الديمومة. وهناك، يا إخوتي، من المتع والبهائج والمشاوير ما يستحيل إحصاؤه. كل ما تحياه ويسري في عروقك حب ونضارة وروح جوهرها راسخ في روح الله، لذلك لا تعبث بها أهواء ولا ينالها نصب ولا تشغلها أفكار. ولأنني الآن خارج ذلك العالم النوراني فدعوني أعرب لكم عن شعور يحكمه وجودي الآن بينكم في هذا العالم الفاني أكثر مما هو مكينٌ في ذلك العالم الذي أُصلِّي لله ليلَ نهارَ كي يُعيدني إليه. هذا الشعور ينبني على معرفة أن العالم الذي جئتُ منه إنَّما هو مكانُ إقامةٍ يسبق مكان إقامة آخر أو أماكن إقامة أخرى، وربما لهذا فإن بشرًا مثلكم استطاعوا معرفة وصف هذا المكان من خلالي، بينما الأماكن الأخرى، الأكثر جمالًا بلا شك، يستحيل عليكم معرفتها، كما يستحيل على تجارب إدريس تكرار وأمثاله اختراقها. لكن انتظر أخي معالج، لعلك محق، فذات يوم طرقتْ بابَ بيتنا فتاةٌ ناولتني باقة ورد لها شذًى خلَّاب وسألتني قائلة: ألا تعرفني؟ أجبتها نافيًا، وكان ذلك غريبًا فعلًا إذ كانت الألفة ديدننا جميعًا في ذلك العالم الأبدي حتى إذا التقينا شخصًا أول وهلة، إنما طبيعة سرورنا الخالد أعتقد أنها حالت دون انشغالي بما بدر مني عندئذ. ثم قالت الفتاة: أتتذكر ذلك اليوم الذي عدت فيه من مشوار مشيك اليومي على شاطئ بحر سداب ورأيت طفلة في سيارة تحمل وردة ثم على عجالة ودون تبصُّر دخلتَ متجر حارة السَّاحل حيث تقطن وابتعتَ وردة حمراء زائفة لأنك لم تجد غيرها ووضعتها في قنينة على حافة نافذة غرفة نومك قرب صورة زوجتك تقوى المعلقة على الجدار؟ بلى، أجبتها، أنتِ تلك الطفلة إذًا! لكن كيف رأيتِني؟ في لحظة خاطفة رأيتُ نصفَ وجهكِ فقط، وأنتِ لم تريني قط، كيف عرفتِني الآن؟ قالت: أخبرني واحدٌ من الملائكة، وأرسلني لأشكرك على حسن طويَّتِك وتذكرك زوجتك حتى في آخر يوم في حياتك الدنيوية. وذهبتْ، وحملتُ باقة الورد المتضوعة برائحة لا يمكنني أن أصفها بلغتي الدنيوية الناقصة هذه إلا بأن لها شذًى خلَّابًا، وجلستُ على متكأ قرب النَّهر أحكي لتقوى ما جرى، ولم يخالجها هي الأخرى أدنى شك، فليس ذلك من سجيتنا هناك كما أسلفت لكم.
سأله مهما يكن: متى حدث ذلك؟
ياله من سؤال يا أخي مهما يكن! وما يدريني وأنا بهذه الهيئة الدنيوية الفانية؟ لقد كان يومنا هناك كألف سنة من أيامكم.
10
موت نذير راحل عبد الرحيم
دهشوا وتحيَّروا مما قاله نذير راحل عبد الرحيم، أيعقل ذلك؟ يوم كألف سنة؟
قال متأمل إنَّه يصدق ذلك، وفي الوقت ذاته يعي دافع حيرتهم، فهم لا يزالون يعيشون في الحياة الدنيا وبصائرهم لا تدرك عالم الغيب الذي جاء منه نذير راحل عبد الرحيم وَوَصَفَ بعضَ عجائب ما رآه فيه. وليبرهن ذلك ضرب مثلًا بكوكب الزُّهَرَة قائلًا إنه يُقرِّب فهم هذه المسألة ويكشف غرابةً ذات اتِّجاهين متناقضين، إذ إن طول اليوم في كوكب الزُّهَرَة، وهو الزمن الذي يستغرقه دورانه حول محوره، يبلغ 243 يومًا أرضيًّا غير أن طول سنته، وهو زمن دورانه حول الشمس، يبلغ قرابة 224,7 يوم، أي أن زمن يوم الكوكب أطول من سنته! إنها حقيقة علمية، ولمَنْ يتأمَّل فهي أبعد من ذلك بكثير.
تعليق متأمل على ذلك النحو عدَّه نذير راحل عبد الرحيم دفاعًا رصينًا، وأيقظ داخله ما اعتبره فضولًا دنيويًّا محضًا أسرَّه في نفسه طيلة الأشهر الماضية، ومع أن معالجًا وتريث أتيا على ذكره حين انفردا به قبل مدَّة في القبو إلا أن ما قالاه لم يرو غليله بعد، وهكذا انشرحت نفسه أكثر للحديث بعدما روى لهم ما رآه في الحياة الأخرى ولقاءه زوجته تقوى، وزال ضجر الشيخوخة الذي تمكن منه في الآونة الأخيرة، وألقى سؤاله دون إبطاء: أخي متأمل هل تؤمن بالله؟
نعم لكن ليس بالأديان.
لماذا؟
لأنها نسخت أساطير بشرية قديمة حاولت فهم غموض الحياة والمصير وحرَّفتها زاعمة أنها من عند الله وسخَّرتها للسيطرة على وعي البشر. لا أصدق أنك لا تعرف لماذا أخي نذير.
تذكر نذير راحل عبد الرحيم صلاته الدنيوية الأولى التي لجأ إليها في فندق المألوف الخارق عندما كانت ذاكرته الأخروية ممسوحة.
إنما أردت سماع رأيك أخي متأمل لأنني في حياتي الدنيوية الأولى نشأت منذ نعومة أظفاري أؤمن بالأديان والأنبياء.
لقد قلتها بنفسك: منذ نعومة أظفارك. هذه مشكلة معظم الذين يُربَّون على الدين من الصغر. الأفكار تترسخ عميقًا في الوعي والزَّمنُ يجعل المؤمن بها متعصبًا لها. الخوف والاضطهاد ـسواء تعلَّقا بشخص أم بمجموعةـ كانا عاملين رئيسين في نشوء الأديان. معارضة الأوضاع القائمة حينها كانت باعثًا على الإيمان بقيم العدالة التي ينادي بها شخص ما ومحرضًا على اتباعه. بدايات بعض الأديان انطوت على تغيير ثوري حقًّا، لأنها نشدت استئصال الظلم الاجتماعي والطبقي وتوحيد الناس والمساواة بينهم، لكن قادة الأديان بعد أن كثر أتباعهم انقلبوا على أفكارهم التقدمية ـتقدمية مقارنةً بزمنهاـ وصارت منطلقاتهم هي نفسَها التي حاربوها، واتَّخذ دأْبهم صبغة سياسية ودنيوية بحتة هدفها السيطرة والإخضاع واحتكار الموارد الاقتصادية واضطهاد من لا ينضوي تحت لوائهم وقتله أو استعباده.
دون أن ينتبه أحد غمز مهما يكن معالجًا.
قال متأمل: كل دين نسخ ممَّا قبله وحذف وأضاف بما يلائم أغراض بيئته وأتباعه، ومعظم الأديان نسخت أساطير البشر الأوائل الذين سبقوها وعبروا عن خوفهم من الظواهر الكونية وأسئلة الوجود وما بعده.
تململ مهما يكن وكان معالج منتبهًا له غير أن كليهما تظاهر بالإصغاء التام لمتأمل.
واصل متأمل: هذه الحقائق كانت معروفة لمعاصري من سمَّوا أنفسهم، أو سُمُّوا، أنبياء، ولهذا تجد أن من آمن بهم فعل ذلك إما بسبب وضع اجتماعي واقتصادي مزر وإما لطموح سياسي، لكن كلما مر الزمن وابتعدت حقبة النبي، ولسبب أو لآخر، جاء مؤرخون ورواة أكسبوا تلك التعاليم قداسة سماوية ومعجزات أنشأت مؤمنين أكثر تطرفًا وكراهية لغيرهم.
نهض مهما يكن من كرسيه: اعذروني، أحتاج إلى دخول المرحاض.
قال معالج: وأنا أيضًا. وتبعه.
تنحنح متأمل، رافق بنظره صعودهما سلالم القبو، واستطرد: دعني أوجز لك رأيي ـوهو رأي كثيرين منذ زمنك الأول ـ إن الله الذي تبتهل له أنت كل يوم وأدركه أنا بقلبي لا يحتاج إلى وسيط بشري يُرهِب ويقتل ويثير الذعر والشكك والتناقض. إله الكون لو خاطب البشر لما عجز عن أن يشملهم جميعًا، ولما اختص بذلك أمَّة دون غيرها أو لغة دون أخرى، ولحسم كل ريبة وجعل الناس يتحابون. في عام 3000، كل هذا كلام بدائي يا أخي نذير فما عاد إيمان الكتب المقدسة يستطيع التصدِّي لبديهيَّات كانت غيبًا لأغلبية ساحقة من البشر الذين عاشوا في زمن حياتك الدنيوية الأولى، لكن دائمًا هناك تربة خصبة لزرع بذور الانقسام الدموي وحشو رؤوس القطيع بالخرافات.
أفهمك يا أخي متأمل. أجبني، أرجوك، ماذا عن لوحة البَلُّور التي تعلقها في غرفتك، ألا تؤمن بما جاء فيها؟
بلى، إنني أؤمن بها حتى النخاع!
وبرغم ذلك ما زلتَ حاقدًا عليهم وتتمنَّى لهم العذاب في الحياة الأخرى؟
صاح متأمل: ماذا؟ ـ متفطِّنًا إلى أن من نعتهم نذير راحل عبد الرحيم بصيغة الغائب هم والد أمه وإخوتهاـ ياللذعر، من أنبأك بأنني حقدت على أحد؟ إنني متأكد أنه ليس أنا! ونظر إلى تريُّث وفي حُبٍّ ووئام ومن أنا من أنت وماعون مع أنهما لا تعلمان بالقصة، وتطلَّع إلى مخلص النائم قرب المجفِّف ثم إلى السُّلَّم الفارغ، وقال ممازحًا إن مهما يكن ومعالجًا خرجا معًا لأنهما حسب ما يبدو هما من أثارا موضوع الحقد هذا أمام نذير راحل عبد الرحيم. ومضى في حديثه: سوف أجيبك عن سؤالك وأخبرك لماذا لم أعد حاقدًا على أي أحد ولا أتمنى العذاب لأي أحد حتى لهؤلاء الذين يثور الناس عليهم الآن في شوارع قبضة الحديد. قلت في نفسي إذا كان أبي، الذي وقع عليه الضيم وأنفق عمره في جحيم انتظار رافقه حتى الموت، أحبَّ من تسبب في مأساته فكيف بي أنا بعد قرون على انقضاء ذلك العهد؟ إنه حب نادر الوجود. كان أبي وأمي، في الحقيقة، أعظم معلميَّ على الإطلاق. لقد شُفيت من كراهية جدِّي وأخوالي بترديد عبارة بوذا تلك التي كان أبي يعلقها على جدار مكتبه بمستشفى الأطفال الذي عمل فيه. كل يوم كنت أرددها، وإلى الآن، إن شئتَ الحق، فهي قبالة عيني في غرفتي وراسخة في وعيي ولاوعيي. في البداية بدا لي تصديقها عبثيًّا ومستحيلًا، وبمضي الوقت، ومع التأمل اليومي، تحول الترديد المجهور والمهموس والصامت إلى إيمان لا يتزعزع. ليتكم تعلمون أي خلاص روحي عظيم في هذا.
ائتلقتْ عينا متأمل، وخيِّل إلى ماعون أن دمعته جرت فقالت: "وسيمسح اللهُ كلَّ دمعةٍ من عيونهم، والموتُ لا يكونُ في ما بعدُ، ولا يكونُ حزنٌ ولا صراخٌ ولا وجعٌ في ما بعدُ، لأنَّ الأمورَ الأولى قد مضتْ".
وردد متأمل وراءها: "لأن الأمور الأولى قد مضت".
على كرسيين في إحدى زوايا الفناء كان مهما يكن يهمس لمعالج بالخَطْب الذي ما عاد يطيق كتمانه عنه. متأمل يعرف بعضه. لا أثر لا تعرف بعد. صديق لي ينتمي في الخفاء إلى المعارضة ويعمل ضابط تحرٍّ في وكالة التجسس أبلغني سرًّا بأنهم عرفوا أني أحد منفذي عملية اختطاف مساعد أكثر ممَّا تتخيَّل الفاشلة. تمكَّنوا من ذلك بواسطة دمي وبقايا لحمي وعظامي التي حفرتها الرصاصة وتناثرت في مكان الحادث. تخيَّل كم رشوة ورشوة دفعت. صديقي في وضع قد يكلفه الكثير. الضابطان العاملان معه كل عدة أيام يطلبان المزيد من المال ويهددان بتقديم الأدلة الجنائية ويلمحان إلى أن مصيري سيكون سجن من يذهب لا يعود. إنني أحتاط في ذهابي وإيابي، أتخفَّى بقدر ما أستطيع ولا أحمل هاتفي معي. توقفت عن قبول أي عقد عمل جديد. قريبًا سأكون على حافة الإفلاس. كي لا أثير ريبة لا أثر وإبهام وتدبير فإنني لا أستطيع بيع سيارتينا الطائرتين ولا أيًّا من أملاكنا وأمتعتنا ولا البيت في هذا الوقت. لا حل أمامي سوى الهروب بأسرتي إلى إمبراطورية الأراضي المترامية لكنني لا أستطيع ذلك إلا بعد موت نذير راحل عبد الرحيم. أتعرف يا معالج، أصدقك القول، على الرغم من توتري الشديد شعرت اليوم بهدوء وراحة نفسية عميقة بعدما روى نذير قصة ما رآه في الحياة الأخرى. لو أنهم يقتلون المعارضين ولا يعرضونهم للتعذيب في ذلك السجن الذي لا يعود منه أحد! أنذهب الآن؟ كي لا يستبطئوننا.
أبدى معالج استعداده لمد مهما يكن بالمال لرشوة ضابطي وكالة المخابرات. أي عمل يمكن القيام به في ظروف كهذه؟ أعرب عن هلعه من سماع الخبر. صحة نذير راحل عبد الرحيم البدنية تتدهور على نحو مرعب والتأمل والصلاة وحالته الروحية فقط هي ما يبقيه حيًّا حتى الآن. الفحوص التي تقوم بها تريُّث تثبت أن جهازه المناعي لا يحتمل المزيد. باختصار إن حياته حتى اللحظة معجزة. وافق معالج مهما يكن في أن تأجيل هروبه قرار صائب، فنذير راحل عبد الرحيم يحبه كثيرًا ولا ينسى أنه أنقذه من إدريس تكرار وجدد أمله في العودة إلى زوجته تقوى، ولو اختفى الآن لربما مات ميتة محزنة.
عند نزولهما سلم القبو عرفا فورًا أن رفاقهم المتحلقين حول منضدة الطعام يخوضون في حديث يخص زمن نذير راحل عبد الرحيم الأول وليس عام 3000. كانت تريُّث، بحسب ما تكهنا، تجيب عن سؤال سابق طرحه أحدهم. كانت بدورها تطرح سؤالًا أيضًا: لماذا يرتبط التخلف والجهل والظلم بالمجتمعات المتدينة أكثر من غيرها؟ لأنها تؤمن بالخرافات. إنها لا تتطور لأن الدين حسم لها الماضي والمستقبل وسَدَّ فراغ حاضرها بالغيبيات والخرافات فلم يبق إلا أن تستميت في تبرير التناقضات. ولما كان الانغلاق التام مستحيلًا فإن التطور يأتي بكل الأشكال والمضامين من مجتمعات متقدمة فيخلق انفصامًا حادًّا، فكل شيء مربوط بالدين والإله. المتدين لا يفكر في الشيء في حد ذاته بل في الإيمان والكفر، وعلى مدى الوقت يعجز الإيمان عن التكيف وكثرة الأفكار الجديدة فينفجر. لماذا ينفجر؟ لأنه يبحث عن تفسير لظاهرة جديدة في نص قديم يسوده التناقض والغموض، ومع أنه لا يجد فيه أي تفسير فإنه يوجده عَنوة ويجادل بأن ذلك النص حوى كل شيء وكل ما اخترعته البشرية وكل ما ستخترعه وكل ما سيظهر على وجه الأرض حتى بعد آلاف السنين!
ربما من كثرة همومه انفجر مهما يكن في الضحك: لكن كيف يرى ما لا وجود له؟
عَزْفُ نايٍ كان يأتي من المكان القصي الذي خلَّتْه فيه تريُّث مَخَرَ طريقًا متراميًا في روح نذير راحل عبد الرحيم، وسمع فيه نداءً أخذ يتبعه. كانوا يتحدثون بينما راح النداء يستلُّه من بينهم، وعاده ثانية ذلك الحدْس بأن الموت يكمن له هنا في القبو، على السلم، في غرفته، أو أينما خطا في منزل التأمل الذي دون أن يدري كيف أشرع حدوده والتأم بالمدى الرَّحب في نداء الناي. ولمَّا دخلت آلات موسيقية أخرى وحاورت الناي بتؤدةٍ ووجْد انهمرت فيه نشوة غريبة أبصرها مهما يكن تكسو وجهه فارتجف وخجل من نفسه حيث لاح له لحظةً أنه معافى لا يشكو مرضًا وأنب نفسه على ما قاله له عن بلاده بتأثير من هواجسه المتعلقة بوكالة المخابرات.
مصغيًا للنداء البعيد الخافت ضيَّع نذير راحل عبد الرحيم خيط الحديث، وغدا ما يصله نتفًا متقطعة بلا رابط. سمع تريُّث تقول: إذا نظرتَ بعيني روحك فليس هناك إنسان قبيح، وهناك إنسان جميل يجعله تكبُّره وخساسته قبيحًا. فِراسة الروح لا تنخدع بفتنة العينين. وبعد ذلك أغرقته النشوة وأخذته الموسيقى، وأفاق ليجدهم يتحدثون في الدين والسياسة. شعر بأنهم جميعًا محبَطون، وبأنه لا يفهم أكثر ما يقولونه إلا بربطه بزمنه الدنيوي الماضي وليس بزمنهم الحاضر! فبالنسبة إليه فإن عملية إعادة خلقه في حد ذاتها تنفي أي ارتباط لإمبراطورية الأرض بالدِّين. ألم يقولوا هذا بأنفسهم، فلماذا إذًا ينشغلون بالدين؟ وحَارَ، فكيف بعد قرابة ألف سنة، وبعد كل ما تسنَّى له رؤيته في هذه الإمبراطورية المتطوِّرة الجبَّارة، يكاد لا يكون ثمَّة فرق بين زمنه وبين عام 3000؟ غير أنه لم يشأ أن يفتح بابًا آخر للحديث وقد فاته معظمه، ثم إنه حبيس منزل التأمل ولم يخبر عالمهم هذا بما فيه الكفاية. حياةٌ أكبر من أن يفهم الأحياء لغزها المعقد. إنسان يقابل الإساءة بإساءة أكبر. تقطَّع الكلام مرة أخرى واتصلت عوالم الموسيقى وغيَّبته عنهم. معضلة الدين سببها الأساس السياسة. وجه الشبه بين الدين والسياسة هو الخداع وحشد الأتباع وإبقاؤهم جهلة للتمكن من تنفيذ الخطط وجمع الأصوات. الانفصام صفة مرتبطة بالأنظمة السياسية أيضًا. النظريات السياسية والأحزاب والأنظمة أديان أيضًا أحد أهم أهدافها القضاء على الخصوم. الأنبياء والحكام صورتان لعملة واحدة، انظر تاريخ الحاكم قبل الانتخابات وبعدها، وبالمثل انظر تاريخ النبي قبل ادعائه النبوة وبعده. من قال ذلك؟ سأل نذير راحل عبد الرحيم نفسه. لا شك أن مظهره يوحي بانشغاله بالإصغاء إليهم وإلا لنبَّهوه. قدرة في حُبٍّ ووئام على التزام الصَّمت تحسد عليها لكن كيف تحتمل سماع أحاديث من هذا القبيل؟ ثم إن الأمر، بعد كل شيء، لا صلة له بالدِّين! همس في سره. لو قُدِّر له أن يكون مواطنًا في إمبراطورية الأرض لاختار العيش في منزل التأمل والقيام بأعمال البستنة. وهل هناك عمل أمتع وأحسن صنيعًا من تقليم أغصان شجرة وجعلها أبهى وأقوى؟ للأسف لم تسعفه قوته ليشارك متأملًا العناية بأشجار الحديقة. وأخيرًا عاد من حديث نفسه وألفى حديثهم لم يتغير فألقى سؤالًا: أليس هنالك حل؟
أجاب مهما يكن: الحلول تُطرَح باستمرار لكن متأمِّلًا على حق فذلك الزواج الأزلي المزمن بين رجال الدين ورجال السياسة يحبط المساعي باستمرار. هناك بقع في العالم ما زالت متخلفة قرونًا طويلة عن زمننا، وهذه تعتبر أُتُونًا مزمنًا لإشعال حروب التاريخ القديم. أخي نذير، نحن جميعًا أعضاء في الاتحاد العالمي لتحرير الأديان من العُقَد، وهذا الاتحاد في الواقع يسهم إلى حد كبير في دعم جهود تنقية جميع الأديان من الأحادية والتطرف. ولغايات مماثلة وأكثر فاعلية فإن مملكة الإنسان السعيد أدخلت على مناهجها المدرسية مقرَّرًا أطلقت عليه اسم الحُبّ أضحى أثره عظيمًا في تنشئة أجيال متسامحة من مواطنيها، ونتج عن ذلك انخفاض كبير في نسبة الجريمة والكراهية، وارتفاع في نسبة تكافل أفراد المجتمع، خصوصًا أن تجربة مملكة الإنسان السعيد، في هذا السياق، شملت جميع أرجائها، وقد بلغ عمرها الآن قرنًا وخمسة عقود. من هذا المنطلق نجحت مدنها النموذجية أيضًا في تعزيز استتباب الأمن، وحماية الحقوق، ومنح المواطنين خِيار العيش وفق ميولهم، كما هو الحال في مدنها الرئيسة: مدينة الطيِّبين، مدينة المخترعين، مدينة الشَّواذّ، مدينة الذين يستيقظون باكرًا، مدينة عندما التي يسكنها فترةً قصيرةً من يعانون صدمة نفسية مفاجئة أو ظرفًا ما كالطلاق والمرض وما إلى ذلك، ومدينة الحرية التي يحق لمن يعيش فيها ممارسة كل ما يعن له شريطة ألا يعتدي على حقوق أحد؛ في هذه المدينة على سبيل المثال يرى الناس شخصًا عاريًا يمشي على يديه رافعًا رجليه وهو يُصفِّر ويغني وخصيتاه تتهدَّلان مسافة ميل، امرأة تحلق عانتها على رصيف، ونحو ذلك مما يعد غريبًا، مستهجنًا أو ممنوعًا في مدن أخرى. مملكة الإنسان السعيد تمنع تأسيس الأحزاب العنصرية وتوقف السياسيين العنصريين. كل سياسييها يقسمون اليمين على حب جميع المواطنين وجميع الشعوب دون تمييز من أي نوع كان. ولمواجهة تطور الكراهية في من يصدر منهم سلوك عنصري، تحكم محاكم مملكة الإنسان السعيد على المدانين منهم بالسفر؟
سأل نذير راحل عبد الرحيم متعجبًا: بالسفر؟
نعم، ويتولى برنامج مسافر المدعوم من وزارة حقوق الإنسان في المملكة تمويل رحلة المدان حسب حالته سواء استدعت سفره إلى بلد واحد أو أكثر، مدة شهر أو سنة. إنهم يؤمنون بأن السفر والاختلاط بالشعوب يحرر العنصري من رؤاه الضيقة وتعصُّبه لجنسه أو أصله.
قال معالج: الغريب في الأمر أن الإمبراطوريات القوية وما يسمونها حضارة الإنسان المتفوق تزعم أنها تقوم على مبادئ الديمقراطية، وترفع شعارات حرية ممارسة الأديان والعقائد، وفي الوقت نفسه تمول في الخفاء أقليات وأغلبيات دينية متعارضة لإحداث قلاقل في بلدان أخرى، وتحاول إفشال جهود مملكة الإنسان السعيد بإثارة نعرات واختلاق أزمات في بعض مدنها. الليبراليون والديمقراطيون والعلمانيون ودعاة الحرية ومن شئت أن تدخله في هذه القائمة، أو من ينعتون أنفسهم بهذه النعوت، يفشلون حين يُضطرُّون إلى مغادرة أطرهم النظرية وممارستها على أرض الواقع فيصبحون قمعيين ومتخلفين ـإلا قلة قليلةـ لاسيما إذا تعلق الأمر بالمرأة والرأي الآخر، ومثيلوهم الأوفر حظًّا الذين يعيشون في الإمبراطوريات والمدن ذات الصلة العريقة بالديمقراطية ديمقراطيون في فضائهم الخاص فقط، أما خارجه، وفي ما يتصل بما يمكن اعتبارها دائمًا المناطق البعيدة ذات الطبيعة الضعيفة الخاضعة، فإن أغلبهم يعاني عقدة كراهية مزمنة ويؤازر توجه زعمائه السياسيين ويعتقد أن الآخرين متخلفون.
قال مهما يكن: لقد سمعتك مرارًا تردد هذا يا معالج لكنني أخالفك الرأي في بعض ما قلت في الأقل. لا تنس أن النظريات المبنية على قيم الحرية والعدالة هي التي حفظت لنا حقوقنا الأساسية، ولا تنس أنها لم توجد على أرض واقعنا إلا بعد كفاح عظيم. إنني أفهمك إذا عنيت أجزاء أخرى في العالم لم تخض غمار خلق هذه النظريات ولم تكن هذه القيم جزءًا من كفاح مجتمعاتها وتطورها ولم ترد ذلك واكتفت باستيراد قشورها فقط. وسط كل هذا تخيَّل حالنا من دونها! ناهيك عن أن ردة فعل هؤلاء الذين نعتَّهم بالقمعيِّين إنما هي ردة فعل على قمع أولئك الذين يرون أنفسهم يملكون الحقيقة المطلقة ويطبقون عدالة الله على الأرض!
قالت تريُّث: إن الثابت دائمًا أن الحقائق تُخفَى، وهناك من يتهم أطرافًا، وهناك من ينفي، وهناك من يَصِمُ أخرى بالمبالغة وعدم العقلانية، والمفارقة في كثير من الأحيان أن الضعفاء وحكامهم الذين تسببوا في ضعفهم يلجأون إلى التبرير نفسه، بينما الأقوياء ومن أصابهم الضجر، حتى لو كانوا من الضعفاء، يردون بحجتهم الأزلية الزاعمة بأن الشعوب المسحوقة ترتكب الأخطاء المدمرة ثم تبحث عمن تلقي عليه اللوم.
قال نذير راحل عبد الرحيم: بعد ألف سنة، بعد كل هذا التطور العمراني والصناعي، بعد السيارة الطائرة، وفندق المألوف الخارق، وبركة العراة، ومدينة الخلق، ومعمل البشر عابر الزمان والمكان، وعرض هتلر المخلوق المنسوخ، ما زال المظهر والجوهر فاسدين، كأن شيئًا لم يتغير.
قال مهما يكن: سقطت دول، ونهض غيرها، واختفت أخرى من الوجود، وإيمانًا بقوَّة التَّحالف والسيطرة نشأت إمبراطوريات، لكن ذاكرة الانتقام لم تَمَّحِ، وكل من له ذاكرة استعماريَّة وجد مسرح العمليات في انتظاره كي يجرب عليه ما يشاء كما كان الحال دائمًا.
قال نذير راحل عبد الرحيم: ألستم سعداء؟
قالت من أنا من أنت: سلَّعوا كل شيء. لو استطاعوا لباعونا الهواء بالتقسيط الشهري مدى الحياة، يريدوننا آلاتٍ نُسدِّد الضَّرائب والديون حتى الموت، وكي ندفع لهم إلى الأبد لا يريدوننا أن نموت، يمدون أعمارنا كي يمتصوا دماءنا قطرةً قطرةً وبالكاد يستطيع أحدنا امتلاك غرفة.
قالت ماعون: المرأة كما في الخبرة البشرية المعهودة ليست سوى سلعة وموضوع جنسي للمتخلِّف والمتحضِّر معًا، وقد أفلحوا عبر قرون من الدعاية والإعلان في جعلها تُرسِّخ هذه الصورة من تلقاء نفسها.
قالت في حُبٍّ ووئام: أيها المتأملون تأمَّلوا. جاءكم إنسان من العالم الآخر وسيعود بسمعة سيئة عنكم.
قالت تريُّث: كنا في عالم النور والأرواح والبساتين والأنهار والقُبَل والألعاب والفرح والملائكة، وانتهينا إلى عالم الحسرة واللوم والأفكار المارقة، يا نذير راحل عبد الرحيم خذنا معك.
وضحكوا، وأقرّوا بأن أسماعهم تَمُجُّ كلامهم. وكي يرفعوا مزاجهم المنخفض ويُنقّوا سرائرهم بأقصى سرعة ممكنة أدوا تمرين تنفس النخاع الشوكي، وشربوا عصير ليمونٍ بالعسل، وتركوا القبو، وصعدوا إلى قاعة التأمل، وتربعوا على الطنافس، وأقاموا ظهورهم، ووضعوا أيديهم على ركبهم، وأغمضوا عيونهم وأطلقوا سراح الأفكار المارقة ودون غضب ولا إقسار تركوها كما يحلو لها، تذهب أو تتريَّث. وعلى أريكة قربهم جلس نذير راحل عبد الرحيم، وكانت قاماتهم وهم متربعون أطول من قامته، وفكر في أنهم بعد أيام لن يضطروا إلى حمله، وجعلت رائحة الرَّيحان والموسيقى التي كأنها تأتي من مكان بعيد هذه الفكرة تنأى، وانتظم تنفُّسُه وخفَّ وأغذَّ السير في طريق السكون، هناك، هناك، هناك، وكان هناك نورٌ غزيرٌ أبيضُ يرتق فراغ الزمن.
في موسم الجفاف هذا طوال ساعات النهار تغمر الشمس منزل التأمل، وقلَّما تمطر، وتبقى درجات الحرارة معتدلة إلا أن الرطوبة في بعض الأيام ترتفع فوق طاقة الاحتمال، فيلجأون إلى تدوير مراوح الرَّذاذ الآلية كي يتمكنوا من أداء ساعة التأمل الأولى في ظلة الصنوبر على الشاطئ والجلوس على مقعد المدخل، وخصوصًا ليَنْعَمَ بالُ نذير راحل عبد الرحيم بالصلاة والتأمل في إحدى زوايا الفناء وقت الظهيرة وما تبقى من ساعات النهار. كانت المراوح الآلية غير مرئية، مُركَّبةً على امتداد الأعمدة والسقوف المجوَّفة. وبغض النظر عن تقلب المناخ كان نذير راحل عبد الرحيم يؤثر الفناء والشاطئ على القبو والغرفة، ولا يني في هذه الأيام يجهر بشعوره بالاختناق في الأماكن المغلقة.
تفاقم نَمَلُ ساقيه ورعاش يديه، وما عاد يمكنه الاغتسال ولا استخدام المرحاض دون الاستعانة بماعون ومن أنا من أنت اللتين أصبحتا تُمرِّضانه كما ينبغي لعجوز من زمن منقرض ناهز الثمانين، وفي تلك الأثناء كانتا تداعبانه بالقول بأنهم سيحتفلون بيوم مولده الحادي والثمانين في التاسع من أكتوبر المقبل، وفي البخار الحار كان يلهث ولا يحير جوابًا! وكانتا بعد ذلك تدلكان ساقيه ويديه وجسده بالزيوت العطرية دون إحراز تقدم يستحق الذكر، اللَّهم إلا فضيلة لمستهما الصبور وحنوها الذي يُفتِر ألمه وأفكاره في كل مرة ويسلمه على جناح السرعة إلى أحضان نوم يفيق بعده كمن يستعيد وعيه من مخدِّر عملية جراحية. مع ذلك بقدر ما كانت قُواه الجسدية تنهار كانت روحه صامدة لا تفقد إشراقتها. في غير أوقات الحاجة إلى استخدام المرحاض أو الحمام كان لا يفارق كرسيه الكهربائي المتحرك. وعندما يذهبون إلى غفوة القيلولة في غرفهم كان يقود كرسيه الكهربائي نحو غرفته ويقضي بعض الوقت ينظر صورة تقوى ثم يعود ليكمل صلاته وتأمله في واحدة من ظُلل الفناء. ودون أن يدري كان هو الآخر، دون أن يدري، يذهب إلى القيلولة ويعود منها، فيختلط عليه التأمل والصلاة والنوم والهذيان بفعل جلسته المتيبسة ساعات طويلة على الكرسي الكهربائي المتحرك. وأخذ عناد الشيخوخة يتمكن منه طيلة النهار، إذ أصبح قعيد كرسيه المتحرك، حتى عند تناول طعامه وأكواب الأعشاب وإبر الأوزون، إلى درجة أنهم رضخوا لرغبته ولم يعد متأمل ولا معالج ولا مهما يكن يحملونه بين أذرعتهم وينزلون به سلالم القبو، أو يصعدون به لجلسة التأمل الجماعي في القاعة العلوية، وهو ما فرض نظامًا جديدًا في منزل التأمل ألغى اجتماعهم المعتاد في القبو عند كل وجبة طعام، وجعلهم في حِلٍّ من حذرهم الدارج من أن يتنصَّت على حديثهم عملاء إدريس تكرار أو وكالة التجسس. وفي هذا الصَّدد اقترح معالج جلب صفائح عازلة أو ألواح كاتمة للصوت، لكن مهما يكن، متناسيًا وساوسه والتكهنات الغامضة المحدقة بمصيره، رأى أن حذرهم في الأشهر الماضية كان على سبيل الاحتياط ليس إلا، وأن لا مدعاة إلى ذلك الآن ما دامت رقعة ثورة المعارضين قد اتَّسعت، حيث إنهم خيَّبوا توقعات الحكومة، وتجاوز عددهم اثني عشر مليونًا سدوا منافذ الشوارع الرئيسة لقبضة الحديد، ونصبوا خيامهم في كل مكان، حتى على المداخل القريبة من قصر الإمبراطور، وأسقطوا أعضاء البرلمان الموالين لوكالة التجسس، في حين إن الأنباء المسربة من القصر الإمبراطوري تؤكد أن الإمبراطور ـالذي يصفونه بالدِّكتاتور وبأنه طوال حكمه الذي يوشك على بلوغ نصف قرن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وبخلاف ما هو معلن يتولى وحده ما يربو على خمسة عشر منصبًا، ويغرق في مستنقع شهواته، ويقود الإمبراطورية إلى التهلكة، كما يقولون ـ يعاني الآن خرف الشيخوخة، وينام في النهار، ويقضي الليل ساهرًا مؤرقًا بمزاج كئيب وأعصاب تالفة، ويحكم بنصف عقل، ويأمر بسجن كل من يمر أمامه حتى زجَّ بنصف وزرائه وحاشيته في السجون! وباختصار فإن الظروف السياسية والأمنية الراهنة، إضافة إلى الاطمئنان السابق بسبب تصريحات أكثر ممَّا تتخيَّل، تضمن راحة نذير راحل عبد الرحيم في أيامه الأخيرة في منزل التأمل، وليس ذلك فقط بل إن الهزيمة الساحقة التي مُنِي بها إدريس تكرار في الانتخابات الدورية الأخيرة لمجلس إدارة معمل البشر عابر الزمان والمكان تنذر بتفكيك التحالف الأزلي بينه وبين أذرعته السرية في وكالة المخابرات ووسط صفوف صانعي القرار، وأبعد من ذلك، على مستوى عالمي، في مجلس حكماء الأرض. مرة أخرى يعود الفضل في ذلك إلى نجاح الحملة العالمية "نذير راحل عبد الرحيم نذيرٌ من العالم الآخر"، وإلى التصريحات والوثائق التي نشرها أكثر ممَّا تتخيَّل مؤخرًا، والتي ألَّبت المجتمع الدولي والرأي العام العالمي على سياسة إمبراطورية الأرض بكشفها مخططًا سريًّا لاستغلال هتلر ونسخه لأغراض استعمارية توسعية لصالح إمبراطورية الأرض وإمبراطورية الأراضي المتحدة، إذ إن هناك جيشًا كاملًا يتكون من عشرات الآلاف من نسخ هتلر يجري إعداده في أقبية مدينة الخلق ومعمل البشر عابر الزمان والمكان، لغزو إمبراطورية الأراضي المترامية عام 3010 بقيادة هتلر الحقيقي! ناهيك عن كشف أقاليم ودول أخرى خلايا تجسس تابعة لإمبراطورية الأرض كانت سببًا في زعزعة أمنها والقيام بانقلابات في عدد منها. كانت حماسة مهما يكن وهو يروي هذه الأخبار تبدد مخاوفه وتمده بأمل في الخلاص من تهديد ضابطي وكالة المخابرات.
تبدُّل الأحوال على ذلك النحو المتسارع وغير المتوقع كان محور حديثهم بيد أن نذير راحل عبد الرحيم فقد شغف مشاركتهم كما كان يفعل من قبل، وعوضًا عن ذلك كان يصمت أو ينخرط في اللعب مع إبهام وتدبير اللذين كانا يشرحان له باهتمام قوانين ألعاب الذكاء الإلكترونية التي لم يتقن لعبها قطُّ وإنَّما كانت الصور والأصوات الصادرة عنها تشد انتباهه وتتملك فضوله. بتحريض من تريُّث كان الصَّغيران يأخذانه إلى الشَّاطئ كلَّما سمحت درجة الحرارة، وكان مخلص يتبعهم دائمًا، وكان نذير راحل عبد الرحيم يسر بمشاهدة الضفة الأخرى والطيور القليلة والسفن والزوارق الأقل عددًا التي تعبر جزيرة الهضاب من هذه الناحية، فمعبرها الرئيس كان يحيط بالضفتين من ناحية التقائهما البعيدة غير المرئية من منزل التأمل.
كان نذير راحل عبد الرحيم يخلع خفه الصيفي، ويضع قدميه على الرمل، ويتذكر كل شيء، يتذكر منزل الصمت، ويبدو له أنه عاش فيه منذ زمن بعيد، وأنه لولا الرحمة الإلهية لكان الآن مدمنًا على سيجار الماريوانا وشراب الإكسير وخاضعًا لتجارب إدريس تكرار. يتذكر شاطئ سداب، ويقشع غمامة حزن تغطي ذاكرة حياته الدنيوية الأولى، ويرى بأم عيني خياله مياه البحر تغمر ما كان ذات يوم قبل 985 سنة بيته وحارته والشطر الأكبر من حياته. ويمعن نظره ويرى أمواج البحر تتلاطم على سلسلة الجبال الشاهقة. ويختلج في صدره عزاء يائس لا تلبث أن تمحوه مشاعر باتَّة واضحة بأنه إنسان طارئ على هذا الزمن وأنه على وشك الرحيل عنه. ويرسل بصره في الأرجاء فيتعلَّق بسرب من الطائرات العملاقة يهتك سر السماء الزرقاء. وفي خلفية ما يتذكره يشع النور الغزير، وبريق العقيق، والصخرة، وخرير الشلال، والنهر، والمتكآت، حيث تميل عليه تقوى وتُخدِّره برائحة عطرها وتُسكِره بقُبْلة الحياة والموت في ذلك المشهد الخارج عن سيطرة الفناء، فيُقْبِل طلق الوجه على إبهام وتدبير، ويتحدَّثون حتَّى تلسعهم حرارة الشمس أو تُعرِقهم الرطوبة أو يحين ميعاد وجبة أو تمرين تنفس أو جلسة استشفاء تحت إشراف تريُّث، أو يعودون ليكملوا حديثهم تحت واحدة من زوايا الفناء بمعزل عن جدال السياسة وحملة "نذير راحل عبد الرحيم نذير من العالم الآخر" وانفجار الأوضاع في العاصمة قبضة الحديد، إلا أن حديث إبهام وتدبير يتطرَّق إلى أحوال شبيهة حين يشرحان له الخطط التي شاركا والديهما في رسمها من أجل تحرير رهائن، وما يكابدانه حتى تأتي أمهما وتضع لمستها الأخيرة وتبدد المخاوف المتوقعة وتطمس كل أثر مُعرَّض لأن يكشفه العدو.
وعلى عجل كان قطار الزَّمن يَلُمُّ شعث مسافرِه العجوز.
في صباح التاسع والعشرين من يوليو جاء معالج ثم في حُبٍّ ووئام ولا أثر وإبهام وتدبير.
وعند حلول الظهيرة وصل مهما يكن. لم يَشْكُ من مشقة المجيء اليومي مع أنه، من الصباح الباكر حتى الظهيرة، كان يلتحق بثورة المعارضة، وبحسب ما يسرده أصبح يمكن القول بأن الشعب والمعارضة الرسمية الآن متكاتفو الأيدي كما لم يكونوا من قبل ويحبطون معًا اختراقًا تلو آخر تحاول وكالة التجسس إحداثه بين قادتهم ويفضحونه علنًا على منابر الاعتصامات ويلصقونه بما يسمونها الثورة المضادة. لم يسترسل مهما يكن كثيرًا في حديثه المعتاد، فلم يكن هناك جديد ليذكره عدا أن الظروف أصبحت قاب قوسين أو أدنى من أن تُدخلها سلطات إمبراطورية الأرض مسارها الأعنف، فأعداد الملايين الذين تركوا منازلهم وقطنوا الشوارع بدت لها غير كافية لإجراء الإصلاحات وعزل الإمبراطور ومحاكمته ومحاكمة باقي المتهمين بالفساد، لكن الحقيقة أن هؤلاء يمثلون أعلى سلطات إمبراطورية الأرض، وكانت كل الآفاق مسدودة وكل الأبواب موصدة.
في هذا اليوم أدَّوا آخر جلسة تأمُّل مع نذير راحل عبد الرحيم، وكانت على مدخل منزل التأمل، وهي الجلسة الوحيدة التي أدوها معًا هنا. ومن فرط وداعتها تذكر نذير راحل عبد الرحيم الليلة التي وصل فيها ومهما يكن ولا أثر وتدبير وإبهام، قبل أشهر، بعدما اختطفوه، وكان متأمِّل ينتظرهم هنا ومُخْلِص نائمًا بجواره وفي ميلغه الفخار بعض طعام، وكان هو واقعًا تحت سطوة رحيق الحنين يظن منزل التأمل نُزُلًا زاره من قبل، وكانت ثيابه مبللة بالمطر، وكان معالج وقتئذ بدينًا وسكران.
في ما بعد، عندما تمضي الأيام والسِّنون، ويكبر تدبير وإبهام، وتشيخ في حُبٍّ ووئام، وفي إثرها متأمل ابنها بالتَّبنِّي، ومعالج، وتريُّث، ومهما يكن، ولا أثر، ومن أنا من أنت، وماعون، ومُخْلِص المُخْلِص الصامت قبلهم بكثير، وحتى آخر يوم في حياتهم، سوف يتذكرون معًا، وكلٌّ على حِدَة، هذا العجوز الودود المسالم، وبشاشته المشعة، وتأمُّل الوداع. جلبوا مقاعد من القبو وصفّوها قبالة المقعد شبه المستدير، وعلى هذا النحو طوقهم رذاذ المراوح الآلية، وجلسوا بأريحية، واحتفلوا حتى التاسعة ليلًا.
تلبية لطلب نذير راحل عبد الرحيم الذي صرح به في القبو قبل وقت ليس بعيدًا، أعلن معالج رسميًّا رغبته في الاقتران بتريُّث، وألبس كل منهما الآخر خاتم الخِطبة. وباستثناء نذير راحل عبد الرحيم ومتأمل وإبهام وتدبير الذين شربوا عصير عتبة الرِّباط المقدس قرع الباقون أنخاب نبيذ تين معتَّق وفاخر. وألقى معالج كلمة مقتضبة أعرب فيها عن امتنانه للقَدَر الذي مهما كان مأساويًّا، كما قال، بإعادة خلق نذير راحل عبد الرحيم، فقد حمل كذلك عبرة وحكمة ودرسًا بليغًا لإنسان متواضع مثله كان على شفا السقوط في وحل الإدمان على الكحول والتخلِّي عن حب امرأة عرفها منذ سبعين عامًا. ثم قدَّمت في حُبٍّ ووئام ولا أثر كعك الأمانِيِّ الطَّيِّبة، ومن أجل الحب وحده، وما أحلى الذِّكرى وشرابًا له أريجُ قهوةٍ بسبب مذاقه واسمه الطويل كاد نذير راحل عبد الرحيم يهم بالبكاء: سوف يجرفنا الحنين ولن ننسى مهما كَرَّتِ الأعوام، وأكلوا حلوى الغزال ذات الطعم الفريد المعدة من غزال رضيع وعسل ذي جودة عالية وسمن نقي وثوم ومكونات طبيعية أخرى. وحرص معالج وتريُّث على إضافة شراب أعشاب مُخفِّف لأثر السُّكَّر إلى كوب نذير راحل عبد الرحيم. واكتفوا بهذا القدْر. وتحسبًا للظروف المحيطة أبقوا الموسيقى التي كأنها تأتي من بعيد على مستواها الخفيض نفسه، ولم يستمعوا لأغان صاخبة تلائم الاحتفال بالخِطبة، وشرعوا في جلسة تأمُّل الوداع، ولم يعرف أكثرهم أنها كذلك إلا في فجر اليوم التالي.
عند افتراقهم في التاسعة تمنَّوا لبعضهم بعضًا ليلة أحلام سعيدة، وغادر مهما يكن وعائلته وفي حُبٍّ ووئام ومعالج إلى منازلهم، ومتأمِّل والمتأمِّلات الثلاث دخلوا غرفهم، ودخل نذير راحل عبد الرحيم غرفته، وحالما وقف من جلسته على الكرسي الكهربائي شعر بالألم يخدر ساقيه فجلس على حافة السرير ويداه ترعشان، ونظر صورة تقوى. كانت النافذة مغلقة. وضع رأسه على الوسادة، ومن فوره أخذه الوهن والنُّعاس.
وفي الساعة الثانية والنصف صباحًا استيقظ، وتنبَّه إلى أنه نسي المصباح مضاءً، وشعر بحاجة إلى دخول المرحاض فاستقام جالسًا على سريره، وارتدى خُفَّه، وخرج يمشي، ودخل المرحاض وأفرغ مثانته، واغتسل، وغسل وجهه. كان يرتدي سروال نوم خفيفًا يصل إلى منتصف ساقيه، وقميصًا برُدْنين قصيرين. وعند بلوغه باب غرفته راوده حنينٌ قابضٌ، فواصل طريقه تُجاه الفناء. مشى بين جنبات السَّواقي، ومثلَ مُسَرْنَمٍ دخل الزوايا واحدة فواحدة، ثم سلك المعبر المؤدي إلى القبو وحين وصله فتح بابه، وهبط السُّلَّم، وأشعل المصباح، وفتح الثلاجة، وأخرج قنينة ماء، وصب قليلًا في واحد من أكواب الأعشاب، وشرب، متذكرًا الشهور الستة الماضية وأحاديث أصدقائه الطيِّبين، وتذكر بيت الشِّعر الذي لم يتذكره خلال مشواره الأخير على شاطئ سداب: نبكي على الدُّنيا وما مِنْ مَعْشَرٍ، جَمَعَتْهُمُ الدُّنيا فلم يتفرَّقوا، وتذكر صوت إحدى ابنتيه وهي تُقطِّع البيت عروضيًّا وتُغنِّيه حسب بحر الكامل، وتذكر أبناءه الثلاثة الآخرين. ونزعه حنين إلى تقوى، وآخر إلى أصدقائه هؤلاء الذين ـ تردَّد تفكيره في نفسه ـ لم يعرف في حياته الدنيوية الأولى ولا في هذه الحياة بشرًا خلقهم الله بطيبتهم وجميل خصالهم. وصعد سلالم القبو. وعند الباب رأى مُخْلِصًا فمسح رأسه، وذرفت عيناه الدموع، وأجهش كطفل، وقطرت دموعُه على رأس مخلص، ووجد نفسه يدخل تعريشة الأشجار وكانت مصابيحها الخافتة مطفأة، لكن السماء كانت مقمرة منارة بالقمر والنجوم، فنفذ نحو الشَّاطئ، وارتقى سلالم ظُلَّة الصَّنوبر ومخلص يتبعه، ووقف حيث يجلس على كرسيه الكهربائي كل فجر لجلسة التأمل الأولى وسط متأمل ومخلص، ورفع رأسه ورمق البحر، وصعد ببصره نحو الضفة الأخرى حيث أضواء شبحيَّة تتسلَّق قمم المنازل والمنتجعات ومصنع الأصداف، وخرج، ومشى على رمل الشَّاطئ قليلًا، ثم عاد. وأدرك توًّا فحسب أنه يمشي على قدميه، وأنه تحرَّر من ألم خدر ساقيه ورجفة يديه! ونازعه الحنين المقسوم مرة أخرى، وسخن قلبُه وكأنه سيتقوَّر ويسقط تحت قدميه، وابتسم، وحَزِنَ، وضحك، وبكى، وانهملتْ دموعه بلا انقطاع. وعندما بلغ دهليز الغرف راودته رغبة مضنية في طرق أبواب غرفهم جميعًا، مُتأمِّل وتريُّث وماعون ومن أنا من أنت، وإيقاظهم وتوديعهم، لأن موته أزف وها هو يوشك على أن يحلَّ فيه، لكنه آثر ألا يُفسِد هجوعهم في هدأة أول الفجر. وقف أمام باب غرفة متأمل وقال في نفسه مخاطبًا إيَّاه: لن أنسى يا أخي، لن أنسى أبدًا. كان متأمل قد أسرَّ إليه بعد حديثه عمَّا رآه في العالم الآخر بأن والديه قد يكونان هناك أيضًا، ولا بد أن يكونا قد قصدا ملتقى الحُبِّ السَّرمديّ وتزوَّجا أخيرًا وقطنا في بيت واحد، ووافقه هو الرأي شبه واثق مثله، فمُحبَّان مثلهما إلى أين يمكن أن يذهبا بعد الموت إلا إلى هناك! لن ينسى، سوف يسأل أوَّل ملاك يحمله إلى بيته، سوف يسأله عن والدي متأمل وناحية سكنهما ويروح بنفسه ليراهما ويبلغهما الرسالة التي حمَّله إيَّاها ابنهما. وتضرَّع إلى سِرِّ الأسرار أن يرأف بحال متأمِّل ومن أنا من أنت وماعون، ويوصلهم هم أيضًا ملتقى الحب السرمدي ويُلاقي بين كل منهم وحبيبه الذي لن يخذله أبدًا. حال بلغت خطاه باب غرفته المفتوح استدار، ورأى الدهليزَ الطويل الخاوي حيث غرفة متأمل موحشًا، واستدار مرة أخرى ليكمل طريقه، ورأى انعكاس القمر والنجوم يتَّحد بالضوء الشحيح لسقف الدهليز والضوء الخارج من باب غرفته لكنه يصنع ظلالًا فحسب ولا يفلح في تبديد الوحشة المتمددة على بقية الدِّهليز حيث غرف تريُّث ومن أنا من أنت وماعون. وفجأةً ملأ سمعَه صريرُ جنادب، وتذكر كلَّ شيء، وكلَّ أحدٍ، معملَ البشر عابر الزَّمان والمكان، إدريس تكرار، أكثرَ ممَّا تتخيَّل، شقة فندقَ المألوف الخارق، دليلًا، في الوقت المناسب، منزلَ الصَّمت، وجهَ إبهام الذي برق في الظلام الدَّامس، تحت المطر، في اليوم الذي أنقذوه فيه، سهمَ نشَّابة مهما يكن المنطلقَ نحوه برحيق الحنين، ومهما يكن، وتدبير، ولا أثر، ومعالج، وفي حُبٍّ ووئام، والصَّيَّاد، ومخلص، ومقهى الهداهد، والهداهد، ونعيقَ الغربان. وكان مخلص تحت قدميه ينظر إليه نظرات يكسرها الحزن، ويُنكِّس رأسه، وصوته المستكين بالكاد يُسمَع ويخرج مثل أنين مكتوم، يلهث ووبره الشاحب المشعث واقف وذيله نحو الأرض، وكأنه يكبت نباحه ويبالي برغبته في ألا يوقظ المتأملين النائمين.
تحت نور القمر والنجوم ألقى نذير راحل عبد الرحيم نظرته الأخيرة على منزل التَّأمُّل، الحديقة، أشباح دالية العنب وشجرتي الرُّمان والأناناس، والسِّياج، والأجمة، وغرف أصدقائه النائمين، وسقف الدِّهليز ذي الإضاءة الشَّاحبة، وانحنى، ومسح رأس مخلص وعانقه بقوَّة وأفلته بلطف ووقف، ودخل غرفته، وطالع صورة تقوى، وتبسَّم، وعاد وجلس على سريره، ومدَّ رجليه، ووضع رأسه على الوسادة، وتغطَّى حتَّى صدره، ولم يطفئ المصباح، وتذكَّر الزِّرَّ أسفل المصباح على جانب السَّرير الذي رجاه متأمل قبل ستة أشهر إن احتاج إلى شيء أن يكبسه، ومدَّ يده ولمسه لكنه سرعان ما قَصَرَها، والتفت نحو الباب فرأى مخلصًا منطويًا على نفسه يئن ويرمقه بحزن، فلوَّح له بيده مودِّعًا وعلى وجهه شبح ابتسامة تغسله الدموع، ثم ردَّ بصره ناظرًا نحو السقف، وشعر بثقل وبرودة ثلجيَّة في صدره وحلقه ما لبثا أن سريا في أطرافه وصعدا حتى رأسه، وأيقن أن موته قد حان. وعلى هذه الهيئة مرَّت دقائق لم يتحرَّك خلالها ولم ينتبه إلى مخلص الذي أصبح يتلوى الآن ويئن عند حافة سريره. شمَّ رائحة تقوى، ورآها جالسة على سحابة تنظر إليه وتنشرح وينبع من بَشَرَة وجهها فرحٌ وهَّاج، وتُقبِل عليه، وتناوله مِشْطًا وقد تأهَّبتْ لتستدير، وتُلقي شعرها الغزير على ظهرها، فابتسم، وانبسطت ابتسامتُه على وجهه العجوز واتَّسعت وانفرجت شفتاه، وكخَفْقِ جناحي هدهدٍ انسلَّتْ روحُه وتجمَّدتْ نظرتُه السَّعيدة في الفراغ.
وفي الرابعة والنصف جاء متأمل، ثم من أنا من أنت وتريُّث وماعون، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي لم يطرقوا فيها باب غرفته منذ عرفوه في حياته القصيرة الغريبة، فقد كان الباب مفتوحًا والنُّور مضاءً ومخلص على مقربة من سريره. ولمَّا رأوه على هيئته تلك، وأيقنوا أنه عاد إلى حياته الأخرى، وأن كل شيء قد انقضى للأبد، أغمضت تريُّث عينيه، ورفعت كومة اللِّحاف عن صدره وغطَّت وجهه. ولم يتماسكوا أكثر من ذلك، وبلبلتهم المفاجأة، وبرغم ابتسامته الغريبة التي أصبحت تحت اللحاف الآن انخرطوا في النحيب. ثم ذهبت تريُّث وجلبتْ قُرْطها، ومطَّت شاشته، وضغطت اسم مهما يكن، وناولت متأملًا الهاتف لكن هاتف مهما يكن لم يرن، وحتى بعد معاودة الاتصال به مرارًا وكذلك بهواتف لا أثر وإبهام وتدبير كان الرد الآلي الوحيد الذي يسمعونه عبر مُكبِّر الصوت يقول إن الأرقام المطلوبة غير صحيحة!
بريزبن، أستراليا
30 أكتوبر 2015 _ 27 سبتمبر 2016