«والله من ساعة ما المعلم نخنوخ، الله يفكّ سجنه، اتّاخد والعيال مش لاقيه يللي يلمها». كيف تحول أحد البلطجية وشبكاته إلى أدوات ضبط اجتماعي؟ وكيف تحول إلى مؤسسة كبيرة يمتد نشاطها في عوالم مختلفة من السياسة إلى الاقتصاد والاجتماع؟
في إحدى جولات البحث الميدانية ببني سويف، التقيتُ بأحد البلطجية الكبار. كان الرجل يحظى باحترام شديد. التقيت به في إحدى أمسيات الوجهاء ليلاً. كان رجلاً شديد الأدب واللباقة. وكان يلقب بالحج. كان الحضور يتنوع بين التكنوقراط الذين ينحدرون من الطبقة الوسطى (دكتور زراعي ورئيس أحد مراكز البحوث) ضابط بالجيش ورجل متقدم بالسن كان يعمل في مديرية أمن بني سويف وأحد التجار من أصحاب الأراضي. كان خليطاً فريداً جداً، وكانوا جميعهم على علم بطبيعة بحثي الذي أثار في بعض الأوقات جوانب من التحفظ الوطني لدى الجميع: ألا ترى خطورة على سمعة مصر من أبحاث كهذه؟"
الرجل المحترم
تحدث الرجل بفخر كبير عن دوره الإيجابي في منع شباب شارعه وعائلته من الانحراف والبطالة، وكيف يوظفهم في أعمال مختلفة، سواء تضمنت عنفاً مباشراً، أو بعض المقاولات، أو تخليص بعض المصالح التي تطلب وجود عزوة كبيرة. كان يرى نفسه، وكذلك يراه الآخرون، كرجل يعمل على حلّ المشاكل وجلب الحقوق وتخليص المصالح المختلفة. كما يقوم بدور تفاوضي كبير في إنهاء الخلافات، ويُستدعى لمجالسها المختلفة، سواء كانت عرفية أو مجرد جلسات للتفاوض حول بعض الأمور. وتطرّق الحديث إلى طبيعة علاقته بـ«الداخلية»، وكان كثير التضرر منها. وعلى الرغم من صيته الكبير، إلا أن الرجل أبدى امتعاضاً شديداً منها وقال "الناس دي ملهومش عزيز". واستكمل أنه على الرغم من عدم مضايقته للحكومة إلا أنهم كانوا دائمي الهجوم عليه، وعلى شقته ولا يراعون حرمة المنازل، "ويخْشّوا على الناس البيوت والنسوان قالعة .. وقلّة أدب".
قام الرجل بتصنيف أنواع وأنماط البلطجية بشكل شديد الدقة. فقال هناك الشبكات الكبرى، مثل المعلم نخنوخ، وهؤلاء مؤسسات كبيرة ولها أدوار متنوعة مثل حماية الملاهي الليلية، التأمين الشخصي للفنانين والفنانات، العمل في الانتخابات، سواء لمصلحة أحد المرشحين، أو لترتيبات أمنية وسياسية أوسع لضبط عملية الانتخابات مع الحزب الوطني وأمن الدولة، مثلما حدث في 2005 و2010، حل النزاعات بين العائلات الكبيرة التي تعمل بالإجرام، إنهاء وحسم نزاعات الأراضي والعقارات الكبيرة .. وقص عليّ رواية عن نخنوخ ودوره في حل إحدى النزاعات بين عائلتين من البلطجية هناك، وهي الرواية نفسها التي سمعتها من أحد المنتمين إلى السلفية الجهادية، وهو أيضاً أحد تجار الملابس الكبار بالمطرية. والاثنان كالا المديح للدور البطولي والأخلاقي للنخنوخ، وكيف حقن دماء الأبرياء في المنطقة ومن العائلتين.
ثم أشار إلى وجود أنواع وأنماط أخرى، مثل العائلات التي تعمل بالبلطجة، وضرب مثلا عن امرأة بلطجية شهيرة بمنطقة الدخيلة بالإسكندرية، تعمل هي وأولادها في هذا المجال.
وأشار إلى أن طبيعة الأفعال دوماً ما ترتبط بطبيعة المنطقة التي يتواجد فيها البلطجي، وإلى الفرق بين البلطجة والعصابات المتخصصة في سرقة السيارات مثلاً أو نهب الأموال أو قطع الطرق. فهذه كلها "اختصاصات" مختلفة. وأشار إلى نوع آخر من البلطجية كنت التقيتُ بعضهم قبل زيارتي له وبعدها، وهم "العيال الأشقياء" الأشقياء طبقاً لسعيد عز الدين، المؤرخ الشاب بجامعة نيويورك، مفهوم ظهر مع الاستعمار وارتبط ايضاً بالمناطق العشوائية التي كانت أحد هموم الحكم أثناء الفترة الاستعمارية. وهو أيضاً مفهوم قانوني يعرِّف به المشرع المصري معتادي الإجرام، وهناك قانون شهير أخذ في التطور عبر مراحل متعاقبة في التاريخ المصري وهو "قانون الأشقياء والمسجلين خطِر". والمفهوم على المستوى الاجتماعي يشار به لهؤلاء الشباب الذين يودون الالتحاق بعالم البلطجة والتحول من مجرد شقي صغير يشترك في بعض الأعمال الإجرامية، مقابل أموال قليلة، أو يقوم بتوزيع بعض المخدرات، وبالطبع الاشتباك الجسدي العنيف مع أقرانه لبناء سمعة وصيت له بالمنطقة.
ويسعى بعض هؤلاء الأشقياء إلى افتعال المشاكل مع قسم البوليس بمنطقته حتى يذيع صيته ويقال إنه "مدوِّخ الحكومة". وربما يفتح بعض المجال لنفسه للتفاوض مع معاون المباحث أو رئيس المباحث ليوكِل له بعض المهام في المنطقة وإشراكه في أعمال أكبر مقابل التغاضي عن جرائمه. هذه نقطة شائكة للغاية، وخاصة في المدن، حيث يقوم قسم الشرطة بتحويل أغلب شباب المناطق الشعبية والعشوائية لـ "مسجلين خطِر"، بالتعبير الشعبي "يعمله كارتة". هذه العملية تشمل الأشقياء وغير الأشقياء، وربما تلعب الصدفة دورا كبيرا فيها. فوجود أحد الأشخاص في مقهى أثناء حملة بوليسية أو اعتراضه على سلوك أحد الضباط أو الأمناء تجاهه أو تجاه أسرته (وهكذا عدد كبير آخر من الاحتمالات السخيفة)، قد يلقي به في هذا المصير ليصبح مسجلاً خطِراً أو شقيا "صاحب كارتة" بالقسم.
ومثلما يسعى بعض الأشقياء لبناء أو خلق علاقة مع مباحث القسم، يحمل قطاع كبير منهم ضغينة شديدة تجاهه، لأنهم أجبروا على القيام بأعمال إجرامية لمصلحة السلطة، مثل قمع التظاهرات، أو استخدام العنف في الانتخابات، أو أحياناً أعمال فساد شخصية لمصلحة الضباط أو الأمناء أو أحد معارفهم.
القصة الحزينة للزناتي وقصص أخرى
وهناك نوع آخر من البلطجية وهو أقرب للمفهوم القديم لـ"الفتوّة" (أو "القبضاي")، وهو بلطجي يحاول إثبات سطوته الجسدية والمعنوية بمنطقته فيشتبك مع بلطجية المناطق الأخرى. ولا يذيع صيت هؤلاء البلطجية إلا بقتله أو ضربه لأحد البلطجية الكبار من نوعيته نفسها في المنطقة الأخرى. ولعل أبرز مثال هو مرسي الزناتي، أحد أبرز بلطجية منطقة "الرمل" في الثمانينيات الذي كان يقطن بـ "باكوس"، إحدى أقدم وأبرز المناطق الشعبية بالإسكندرية. وكانت نهايته درامية بعض الشيء حيث تمكن عفيفي كامل، أحد أبرز رجال المباحث في تاريخ قسم الرمل في ذلك الوقت، من إلقاء القبض عليه، وأتى به إلى منتصف شارع السينما بقلب باكوس، ثم ألقاه على وجهه وقام بربط جسده على مقدمة سيارة الشرطة وصاح في مكبر صوت على بقية المنطقة ليشهدوا لحظة الإيقاع والتنكيل (بفضل قوة الحكومة) بأهم بلطجي ظهر فيها وهو ملقى على بطنه أمام الجميع، وصاح عفيفي كامل في أهالي المنطقة وظل يسبهم ويسب مرسي الزناتي بأقذع الألفاظ، ثم انتهى المشهد بإدخال عصا خشبية غليظة في مؤخرة مرسي الزناتي وسجنه، ليخرج بعد عدة أعوام ويتحول من بلطجي كبير إلى "تائب" يعمل بالجزارة ويصلي طوال الوقت. لم يكن للزناتي دور كبير في تأمين المنطقة وضبط إيقاعها مثلما كانت الحال مع الفتوات قديماً. ولكنه أيضاً كان يمثل رمزاً للردع النسبي وأحياناً يتم التباهي به في مقابل المناطق الأخرى.
وترتبط أعمال البلطجة ارتباطا كبيرا بأعمال الدعارة وتتقاطع معها في عدة نقاط أبرزها التأمين وضبط عدم تداخل المناطق مع بعضها البعض، وهي تتراوح بين الشبكات الكبرى وحتى العمل الفردي الصغير. ويلعب البلطجي دوراً مهماً في تأمين الفتيات وحمايتهن من اعتداء الزبائن عليهن، أو من البلطجية الآخرين، ويلعب دوراً مهماً في حمايتهن من المجتمع الرافض ظاهرياً لسلوكهن على المستوى المعياري والأخلاقي. وأحياناً يكون الأمر مأساوياً، حيث يفرض البلطجي على أخته العمل في الدعارة للتخديم على بعض مصالحه ويقوم بابتزازها وتهديدها بالمجتمع نفسه، وبفضحها أو قتلها إذا لم تستجب لأوامره، ثم يبرر فعلته كـ"جريمة شرف". وهو ما حدث مع أحد بلطجية "الرمل" البارزين.
حضور عام .. وتغيّر هام
إن أي باحث يود تسجيل تاريخ المناطق الشعبية أو العشوائية سيكون أمام سردية البلطجية والأشقياء وقديماً "الفتوّات"، وسيجد صعوبة شديدة جداً في تفكيك هذه السردية وفضح ما بها من مبالغات شديدة، وإضافات شعبية توضع على الحكاية لتعطيها مزيداً من الإثارة والإبهار. والجميع سيكون إما قريبا أو صديقا أو زميلا لأحد أبطال الرواية من البلطجية والأشقياء. ولكن النقطة المركزية في هذا هي حضور عالم البلطجة وظله الكثيف على كل ما هو اجتماعي وسياسي في المناطق الشعبية والعشوائية. وهي ظاهرة ضاربة في القدم ومتشابكة مع آليات في الدولة الحديثة في مصر.
ولكن ما نراه اليوم هو أمر مختلف بالكلية. ويمكن تحديد تاريخ مهم تغيّر معه عالم البلطجة بالكلية وهو مطلع القرن الجديد. وهو ما يقود للحظة 2011 وما تلى بعدها من ظهور وحضور مكثف للبلطجي في المجال العام. في التسعينيات شهدت مصر ثلاثة أمور حولت المجتمع بالكلية:
1- توحش الخصخصة والشروع في المشروع النيوليبرالي؛
2- اشتداد الحرب على الإرهاب ونهايتها،
3- توسع المناطق العشوائية.
فما نعرفه اليوم عن ظاهرة البلطجة ينقسم إلى قسمين: ظاهرة مدينية، وظاهرة تختص ببعض مناطق الصعيد وتحديداً الدلتا. والاثنتان تعودان إلى إفراط مؤسسة "الداخلية" في استخدام الأشكال اللا - مؤسسية في مواجهة الإرهاب ومحاولة الضبط الاجتماعي. وهى الفترة نفسها التي شهدت توسعا في أعداد أمناء الشرطة ثم توحشهم. فالداخلية قامت بعمل ما يسمى بـ "الروابط" في الصعيد، وهي عائلات أو مجموعة من الأفراد يقومون بالسيطرة على قراهم ومناطقهم والطرق المؤدية لها، لدحر الجماعات الإسلامية في مقابل مزيد من مد نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي (اقتصاد المخدرات والسلاح تحديداً). وهنا بدأت تحدث إزاحات اجتماعية وتشكّل اقتصادا سياسيا جديدا لهذه المناطق، مرتبطا بالأمن والجريمة في آن واحد. وقطاع كبير من سكان هذه المناطق يعيش على هذه الأنواع من التجارة. ووجودها أصبح شرطاً من شروط حياة وتنمية هذه المناطق، من توظيف إلى سكن، وخاصة بعد انقطاع العمل في العراق. فكثير من بيوت قرى الصعيد التي نعرفها الآن تم تشييدها لا بأموال الخليج العربي وتحديداً السعودية، بل من عمالة الصعيد في العراق في أيام صدام قبل غزو الكويت.
أما المدن فعرفت الأمر نفسه ولكن من خلال الأفراد والشبكات لا عائلات في معظم الأوقات. وكان عصر مبارك قد شهد نمو ظاهرة البلطجة ونمو اقتصاد سياسي كامل للجريمة، مع توسع وتغلغل للإسلام السياسي في النسيج المجتمعي لمصر. وتجاور الاثنان لعقود. ولكن السلطة كانت قد دخلت حرباً ضروسا مع الجماعات الإرهابية، كما رفع كل من الإخوان، والسلفية العلمية، والسلفية المدخلية (التي ظهرت في التسعينيات) أيديها عن تلك الجماعات. وحرّضت "الداخلية" عليهم شبكات البلطجة التي تعرف مناطقها معرفة أفضل. وهذه الشبكات تم بناؤها أو توسعها أثناء الصراع مع الجماعات الإرهابية.
انتصرت الدولة على الإرهاب، وكذلك الشبكات الإجرامية أيضاً. كان هناك بطلان للقصة: الداخلية والبلطجية! وكلتاهما ستظهران كثيراً على مسرح الأحداث في العقد الأول من الألفية الجديدة. كان المسرح الاجتماعي يشهد استكمال التحول النيوليبرالي. وهُمِّشت قطاعات واسعة من الشباب واستبعدت من سوق العمل والتوظيف، وفي الوقت نفسه، وبحكم اقتصاد السوق الجديد، بدأت المصالح الاقتصادية في التوسع. وكان هناك ضعف مؤسسي شديد في تطبيق القانون وفي حضور "الداخلية" الانضباطي. هنا وُجدت مصالح جديدة تستحق الاستماتة في الدفاع عنها، وهي لم تعد فقط صراعات العائلات الكبرى على الأرض، في الصعيد والدلتا، بل سوق عقاري جديد، وشركات وتجارة مع أنماط جديدة من الاستهلاك ترجع أصولها للانفتاح، مع فائض بشري كبير يتمثل في قوة الشباب العاطل من العمل.
وبدأ احتياج الطبقة الوسطى والتجار وكثير من رجال الأعمال لمن ينجز لهم "المهام القذرة" الذي يصعب إتمامها، أو أخذ الحقوق من خلال القنوات القانونية المباشرة. لا يعني هذا أن البلطجة أصبحت دائرة خارج أو ضد حيز العدالة والإجراءات الجنائية. بل المشكلة هي أنها أصبحت جزءاً مكملاً لها، وربما إحدى خطواتها. كما أصبحت أحد أذرع الدولة اللا - مؤسسية التي تحميها وتعفيها من المسؤولية الجنائية والفضيحة السياسية، مثلما حدث في 2005، سواء في الانتخابات آنذاك أو في فضّ التظاهرات من خلال تزاوج الأمن المركزي مع البلطجية لترويع الخصوم. أضف إلى ذلك أن السلطة بدأت تواجه قطاعات جديدة من أبناء الطبقة الوسطى ومجالا سياسيا تشكل في 2005. وبالفعل شهدنا أحداث "الأربعاء الأسود" في 25 أيار/ مايو 2005، حيث تحرش البلطجية أمام رجال الأمن بالمتظاهرات أمام نقابة الصحافيين اللواتي تجمعن للاعتراض على تعديل المادة 76 من الدستور.
والعقد نفسه شهد تفشي ظاهرة احتلال المساحات العامة والاستيلاء على الأراضي. فأصبحت مساحات ركن السيارات في المناطق المختلفة محل نزاع، ومصدر دخل ريعي لمن يستطيع السيطرة عليها وبسط نفوذه على المكان بالتنسيق مع رجال الأمن .. بالعمل لمصلحتهم كمرشدين.
وهو العقد الذي لم يشهد انهيار المواصلات العامة (فهي كانت منهارة أصلاً)، بل تلاشيها، والإغراق في أشكال أخرى للمواصلات، وتوسع مواقف النقل الأهلي والخاص. وهذه المواقف تحتاج لإدارة لفرض السيطرة والأمن عليها. وهنا بدأ ظهور أشكال جديدة من البلطجة. وكانت المواقف تمثّل أحياناً منفذاً لتدوير وإصلاح "المسجلين خطِر" من خلال رجال المباحث أو حتى مديري الأمن. فمثلاً إذا أحب أحد رجال المباحث الكبار أحد الأشقياء واقتنع بتوبته بعد انقضاء عقوبته في السجن، يمكن أن يحيله لإدارة أحد المواقف. فمن ناحية هي مصدر عمل شريف بالنسبة له، ومن ناحية هي زرع لرجل موال للأمن في هذه المساحة التي تشهد نزاعات شخصية وجماعية في ما يتعلق بإدارة هذه الأموال، وترتيب الصفوف، وأولوية السير والتحرك ... ويمكن ملاحظة الشيء نفسه في شواطئ الإسكندرية التي تمت خصخصة معظمها. فبعض الفنادق الكبيرة التي استحوذت على الشواطئ قادرة على تأمين نفسها من خلال شركات الأمن الخاصة، بالإضافة إلي حماية "الداخلية" لها. أما الباقي، الذي يتوزع بين بعض صغار رجال الأعمال أو القلة المتبقية من الشواطئ العامة، فشهدت دوراً أكبر للبلطجة فيها، سواء من خلال السيطرة عليها بالكلية أو لتوفير الأمن لها.
خلاصات
هناك تحولات جذرية في المجتمع بسبب الخصخصة والنيوليبرالية وظهور أنماط جديدة من الاقتصاد والمصالح والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في ظل ضعف القنوات القانونية والقضائية، ووجود للمال السياسي تمثل في الحزب الوطني، وإدارة أمنية. ثلاثي كبير تسبب في توحش واستفحال ظاهرة البلطجة كما نعرفها اليوم. حتى صارت بعض الإحصاءات تقدر أعداد البلطجية بما يتراوح بين 200 ألف و500 ألف بلطجي في عموم مصر، وهي أعداد يصعب التأكد من صحتها، ولكنها تشير بالتأكيد إلى ضخامة الظاهرة. لقد صارت بعض شبكات البلطجة إحدى وسائل الضبط والتوظيف الاجتماعي للشباب. وهكذا انفرط العقد بعد القبض على المعلم نخنوخ!
كانت الثورة لحظة صراع كبرى اشترك فيه معظم قطاعات وطبقات المجتمع، وهى بطبيعتها لحظة انفلات كليّ. تعاظمت الظاهرة، وكان اللقب في انتظار كل من يسرق أو يقوم بنهب أحد على الطريق. الأهم هو أن اللحظة شهدت انقلاباً كبيراً في عالم البلطجة، فالبعض كان يدافع عن مصالحه التي تضمن بقاء نظام مبارك ورجاله والحالة الاجتماعية العامة، بكل ما تحمل من تراتبية وتقسيم للعمل وأنماطه والواقع اليومي. وهؤلاء كانوا على علاقة وثيقة برجال النظام وبالداخلية، وهم من شكلوا وقوداً حقيقياً لمعاداة الثورة. البعض الآخر استغل لحظة الانفلات لبناء قوته وشبكاته الجديدة. وآخرون كان يئنّون تحت وطأة الفقر، وأغلبهم من أصحاب "الكاراتات"، وهؤلاء كانوا يخضعون لتهديدات الداخلية أو لإغواء المال (ولو كان مجرد 50 جنيهاً ووجبة طعام) للمعركة، وتمّ استخدامهم من قبل الجميع.
ويجب ألا ننسى مشهد هؤلاء النساء اللواتي حاصرن نقابة الصحافيين، أو ملأنَ ميدان التحرير للتهليل للسيسي. فلعقد كامل من عقود مبارك، كانت هؤلاء النساء يبعن قوتهن الجسدية وقدراتهن الشعبية في السباب والضرب. وكثير منهن أمهات هؤلاء الأشقياء، فإن لم يكن لهن كارتات بالقسم، فلأولادهن وأزواجهن، وما أسهل الضغط عليهن لارتكاب أي شيء. وهن أنفسهن النسوة اللواتي يتعرضن لكل أنواع التنكيل والإذلال والاستخدام المتبادَل مقابل العفو أو المال أو بسط النفوذ في مناطقهن. البلطجة عموما في مصر هي خليط من إرادة القوة وبسط النفوذ، والرضوخ لابتزاز المال، أو الخوف من البطش والعقاب من قبل رجال الأمن.
مصر: جهاز "الداخلية" والنيوليبرالية
افْتُرِض أن التحوّل النيوليبرالي كان من شأنه تفكيك أو تقليص هيمنة الدولة البوليسية لصالح "السّوق"، كنتيجة لرفع يد الدولة عن الاقتصاد، والتوظيف، وعن هيمنتها وتدخلها المباشر في حياة الناس. إلا أن ما حدث هو العكس تماماً. وقد مثّلت "الداخلية" أداة مهمة للفصل والتحجيز الاجتماعي بين الأغنياء والطبقات الأفقر، كما أنها أصبحت المنظِّم المركزي لإدارة الثروة والموارد، أي للعلاقات الاجتماعية. إذ تعود جذور دولة مبارك البوليسية إلى لحظة 1967، أي الهزيمة، حيث انتقل المشروع الناصري من السعي للسيطرة على الداخل والتمدّد في الخارج، ومن دولة صاحبة مشروع اجتماعي كبير، إلى دولة تسعى للحفاظ على سلطتها فحسب وإخضاع الداخل.
فأهمّ "أبطال" عصر مبارك وُلدوا في 1968. شهد هذا العام ميلاد "الأمن المركزي" ومعهد أمناء الشرطة. وكلاهما سيكون لهما حضور كثيف وثقيل في حياة المصريين. وفي 1971، تأسّس جهاز أمن الدولة الذي تعود جذوره إلى العهد الاستعماري ليحتلّ مكان المخابرات العامة التي تمّ الهجوم عليها من داخل النظام نفسه لتصفية صلاح نصر وتحميله عبء الهزيمة. ثم أعقب ذلك، مع وصول السادات إلى الحكم، محاولة الجيش للسيطرة على الجهاز، فكان أول منصب يتولّاه المشير أحمد إسماعيل قبل قيادة الجيش المصري، وصار الأمر فيما بعد تقليداً مركزياً، فلم يحكم الجهاز أحد من أبنائه، وظل رجال المنصب يأتون من جهاز المخابرات العسكرية، حتى تولاه خالد فوزي في عهد السيسي. هكذا نرى جنوح الدولة نحو التحوّل من دولة أمنية، ثقلها المركزي يقع في الحفاظ على النظام وتصفية أعدائه وخصومه السياسيين (ما يمثله جهاز المخابرات العامة)، إلى دولة بوليسية. فبحلول سبعينيات القرن الفائت، أصبح هناك ثلاث أذرع بوليسية:
1- أمن الدولة الذي سيلعب دوراً كبيراً في قمع احتجاجات كانون الثاني/ يناير 1977، وسيظلّ هو أداة النظام في إخضاع خصومه السياسيين وإدارة الحياة العامة والانتخابات، وسيصبح الجهاز والمؤسسة الأولى في مصر.
2- قوات الأمن المركزي، التي ستغدو جيشاً كاملاً، وستكون أحد "أبطال" المشهد في تمرّد 1986 ("انتفاضة الأمن المركزي") وكذلك في القمع طيلة العقد الذي سيليه، سواء ضد الإرهاب الإسلامي، أو انتفاضات المدن، مثل انتفاضة إدكو في 1992 وبعد ذلك سيتسيّد حضورها المشهد السياسي والاجتماعي من 2005 إلى 2011، حيث سيتولى الأمن المركزي قمع المظاهرات السياسية والإضرابات العمالية. وستتحوّل ساحات الميادين الكبرى إلى مساحات لاستعراضاته العسكرية، وسيقوم بعمليات إخلاء السكان لصالح رجال الأعمال، كما حدث في قضيتي المفروزة 2006 وطوسون في 2008، حين تمّ اجتياح هذه المناطق السكنية لإزاحة سكانها لصالح مشاريع استثمارية جديدة.
3- وأخيراً، "أمناء الشرطة" الذي سيتحوّل إلى مهمّة الضبط الاجتماعي في الأحياء الفقيرة، وسيتولى مسؤولية القمع اليومي لعموم الجمهور، سواء في الحملات الأمنية أو الكمائن أو في إدارة أقسام الشرطة وبعض القطاعات البيروقراطية.
بين الحرب على الإرهاب وتعزيز نظام الحكم
وُلد نظام مبارك من رحم الفزع في "حادث المنصة" (اغتيال السادات)، بين امتعاض واختراقات في صفوف الجيش، وجماعات مسلحة إسلامية تسعى لقلب نظام الحكم. وفي خلفية هذا انتفاضة جماهيرية عنيفة في 1977. وهو ما جعل النظام يكمل ارتكازه على ما تمّ تشييده بعد هزيمة 1967. وهنا عززت "الحرب على الإرهاب" من سطوة "الداخلية"، التي أوغلت أكثر في قمع المناطق الشعبية على أساس يومي، وكانت تلعب دوراً استعراضياً وانضباطياً للسيطرة على عموم السكان وإخضاعهم، مثل الحملات المكثفة على المقاهي، وحملات ليلية للتضييق على شباب الحيّ حتى في ممارسة كرة القدم، وكذلك تعمّدت إذلال الجموع.
ففي التسعينيات من القرن الفائت، بدأت الداخلية تقوم بدور "أخلاقي" أبعد للسيطرة على المجتمع وللمزايدة على التوجّه الإسلامي المتعاظم. وشكّلت واقعة السفينة "كوين" المبحرة في النيل فرصة جديدة لتوسيع نطاق وسلطة الداخلية. فقد قامت بمداهمة أمنية مفاجأة عليها واتهمت من كانوا على متنها بممارسة المثلية الجنسية (في خطاب الداخلية والإعلام تمّ نعتهم بـ "الشواذ" و "إفساد أخلاق المجتمع" و"الحثّ على الرذيلة")، وصارت "الداخلية" منوطة بالتدخل المباشر في أخلاقيات المجتمع، تحت الزعم القديم الذي تعود جذوره للحقبة المملوكية: الحفاظ على الآداب والأخلاق العامة. وهو ما وسّع من قدرتها على المزيد من تجاوز القانون. وأفرط أفراد المؤسسة في إساءة استخدام هذه المساحة لممارسة الاشتباه والتضييق العام، مثل الهجوم على الجالسين على كورنيش النيل أو البحر أو ملاحقة بعض العشاق في الإجازة الأسبوعية وهكذا... وهكذا انتصرت "الداخلية" وأثبتت جدارة في قهر الجماعات الإرهابية كما استطاعت إخضاع المجتمع، ونجحت في الحفاظ على استقرار النظام السياسي لمبارك. وهكذا مهّدت للهيمنة الكاملة بدخول الألفية الجديدة.
كيف عززت النيوليبرالية الداخلية؟
افترض البعض أن التحول النيوليبرالي كان من شأنه تفكيك أو تقليص هيمنة الدولة البوليسية لصالح "السوق"، إلا أنّ ما حدث هو العكس تماماً. فسنوات الألفية الجديدة الأولى شهدت تضخم الجهاز وطغيانه وتطوراً ملحوظاً في بنيته التحتية. وكرمز لذلك، شُيّد المبنى العملاق لـ"أمن الدولة" في مدينة نصر بالعاصمة. وعلى الرغم من انتهاء الحرب على الجماعات الإرهابية بنهاية تسعينيات القرن العشرين، دخلت مصر الألفية الجديدة في ظل قانون الطوارئ. كان هذا التوسّع نتيجة أسباب عدة:
1- كان على الطبقة الاجتماعية الصاعدة والحاملة للمشروع النيوليبرالي بقيادة جمال مبارك، الطامح لوراثة الحكم، التحالف مع الداخلية في مواجهة الجيش وبقية البيروقراطية الناصرية. واجتمعت كلتاهما على مصالح أيدولوجية ومادية واضحة. فلأول مرة بعد الاستعمار يكون هناك مشروع سياسي قائم على ازدراء عموم السكان ورؤيتهم كمجموعة من الكسالى والرعاع. كما اجتمعت المصلحة على التحالف في مواجهة الجيش على مستوى شرعيته السياسية للحكم وعلى مستوى نفوذه الاقتصادي والمادي.
2- خلّفت الخصخصة في تسعينيات القرن الفائت، ثم استكمالها في الألفية الأولى، فائضاً بشرياً كبيراً تُرك "للسوق"، وخلّفت دولة متآكلة، لغياب أي فرص للضبط المؤسسي من خلال قنوات العمل. وفي هذا كان هناك احتياج للضبط والقمع الشرطي بشكل عام. وكان مشروع جمال مبارك شديد الوضوح، فهو مهندس "لقلة منتقاة" (بحسب تعبير الباحث عمرو عبد الرحمن)، وكانت أحلام الدولة الناصرية إلى زوال، وقيل للبقية أن تتدبّر أمورها بنفسها. سقطت من هذا المشروع قطاعات كبيرة من أبناء الطبقة الوسطى، بل تحوّلت إلى مصدر تهديد وقلق دائم للنظام، بالأخصّ بعد انخراط بعض شبابها في الحركات الاحتجاجية منذ 2004، وانتهى الأمر بمقتل أحد أبنائها على قارعة الطريق في الإسكندرية (قضية خالد سعيد).
3- توسّع القطاع غير الرسمي بشكل كبير ليواجه هذا الغياب للتوظيف ولسوق العمل الرسمي. فأصبح هناك مزيد من الاحتياج لاستدعاء الداخلية لضبط الشارع وحركة السوق، حيث أصبحت الشوارع مساحات نزاع وسطوة بين الأمن وأتباعهم، وبين الباعة الآخرين.
4- الاعتماد على الاقتصاد الخدمي، بالأخص قطاع السياحة في شرم الشيخ والغردقة، مَنح الداخلية مزيداً من السطوة، فهذا القطاع يتطلب توفير الأمن الكثيف. ظهرت ممارسة شرطية غاية في الغرابة كانت تتعرض لها العمالة في هذه المدن، وهي التهديد بالترحيل. فكان من حقّ الضباط أن يقوموا بطرد مَن يشتبهون به أو لا يروق لهم إلى خارج المدينة. وكان الأمر يمس أحياناً أبناء الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا التي تذهب هناك للترفيه، ولكنه كان موجّهاً بالأساس ضد العمالة القادمة من المحافظات المختلفة للعمل الخدمي.
5- انفجار ما يُعرف بالمناطق العشوائية وتحوّلها إلى مصدر قلق وتهديد أمني للدولة، ولتلك "البرجوازية" المصرية. وفي المقابل، التوسّع العمراني لما يُعرف بالمجتمعات المسيّجة (السكن المحميّ) على أطراف القاهرة والإسكندرية. وهو ما استعدى مزيداً من الحملات الأمنية الدائمة وحصار المناطق الشعبية والعشوائية. ووضعت كمائن أمنية على مداخل أغلب المناطق السكنية الأخرى، بالأخصّ مترفة الطابع، وتحديداً في القاهرة .. كانت مثلها مثل ما يُعرف بـ "الكمائن الحدودية"، وهي ليست على الحدود الخارجية للبلاد بل تفصل بين المدن!
6- مثّلت "الداخلية" أداة مهمة للفصل والتحجيز الاجتماعي بين الأغنياء والطبقات الأفقر. كما أنها أصبحت المنظم المركزي لإدارة الثروة والموارد، أي للعلاقات الاجتماعية. ويمكن ملاحظة هذا بوضوح في تحوّل أقسام الشرطة من الطابع المؤسسي إلى اللا - مؤسسي بالاعتماد الكثيف على شبكة الأمناء والمخبرين والمرشدين، بالإضافة إلى الشبكات الزبونية وشبكات البلطجة. وكذلك بمحاولتها الدائمة لاختراق النسيج الاجتماعي، والمساومة والمواءمة لإدارة الحياة اليومية (كتقوية بعض العائلات والأفراد لتكليفهم بالضبط والسيطرة الأمنية في محيطهم، بمقابل غضّ الطرف عن أنشطتهم غير القانونية وأحياناً غير المشروعة)، والإفراط في تجاوز الأطر القانونية من خلال جملة من المساومات .. حتى تحوّلت هذه كلها إلى عقدة في شبكة أوسع منها، ولكنها نقطة ارتكازها الرئيسية.
7- تزامن المشروع النيوليبرالي مع الهوس العالمي، والأميركي تحديداً، بـ "الحرب على الإرهاب". وهو ما عزّز من سطوة الداخلية المصرية في الداخل وجعلها حليفاً مهماً للخارج الذي يقوم بالاستثمار الدائم فيها من التدريب إلى البنية التحتية والمعدات.
رؤية "استعمارية"
قادت التحوّلات البنيوية الكبرى التي شهدتها مصر، وتلاقي المشروع النيوليبرالي مع المشروع البوليسي ليس فقط إلى شراكة في الحكم، ولكن إلى تشكيل هوية جديدة لجهاز "الداخلية". فجهاز أمن الدولة صار العقل الذي يقوم بإدارة الحكم، ويخضع له في التراتبية المؤسسية ثلاثة أجهزة وإدارات قوية داخل الداخلية: الأمن المركزي، والمباحث العامة، وكل القطاعات البيروقراطية التي تخضع للوزارة. وقوات الأمن المركزي، وبالأخص، على المستوى الفردي كما يتضح من نتائج أبحاث ميدانية، صارت تستشعر قوتها الكبيرة، وأنها صفوة لها قيمة مهمة في الحفاظ على النظام. وتشكّل على ذلك استعلاء ذكوري نابع من القوة الجسدية والماكينة العسكرية التي بين أيدي أفرادها. وصار "الأمناء"، وبالأخص العاملين في جهازي المباحث العامة وأمن الدولة، أسياد قطاعات اجتماعية واسعة، ونجحوا في استغلال مواقعهم الوظيفية كمصادر للريع والدخل، بما أنها تتيح لهم الهيمنة الاجتماعية والأمنية .. هذا بالإضافة إلى الفساد الموسمي أو الصفقات الاستثنائية، مثل الدخول في شراكات مع مقاولين أو بلطجية للاستيلاء على الأراضي والعقارات. وفي داخل كل قطاع، تشكلت هوية جمعية تُشعِر أفراده بالقوة والسطوة. وعلى مستوى المؤسسة ككلّ، لم تعد هذه الذراع الباطشة للنظام فقط أو مجرد جهاز قمعي تابع للدولة، وإنما صارت عصب الحكم والقمع والسطوة. وهو ما دفع أفراد المؤسسة للاستعلاء على مَن يناطحونهم السيادة على البلد، وهم القوات المسلحة. وأصبحت "الداخلية" أكثر قدرة في التجرّؤ على أفراد الجيش في الكمائن، وانتقل الأمر إلى مشاحنات دائمة بين طلاب الجهازين. وعلى المستوى الاجتماعي، صار حضور ضباط وأفراد الداخلية يتّسم بقدر من الطغيان والاستعراض الدائم للقوة، كما أصبح الالتحاق بـ"الداخلية" ليس فقط وسيلة للترقي الاجتماعي وإنما مصدر ريعي وأداة هيمنة للعائلات الكبرى، وكذلك تطلع حقيقي للطبقات الأدنى. فالمؤسسة صارت اللاعب المهيمِن داخل جهاز الدولة وأروقة الحكم، كما صارت مُحمّلة بدلائل ورمزيات اجتماعية شديدة الطغيان.
مع تشكّل هذه الهوية عبر العقود الثلاثة، وبدء عودة الدولة البوليسية التدريجي منذ لحظة الهزيمة في 1967، أصبحت الداخلية تحمل "رؤية استعمارية" للسكان على غرار رؤية تلك المؤسسة في المرحلة الاستعمارية، ولم يعد طغيانها ناتجاً عن وضع مؤسسي سلطوي، ولكن تحوّل إلى حالة كاملة من التجبر والطغيان على عموم الناس، بمن فيهم أبناء الطبقة الوسطى من أطباء ومهندسين وأساتذة. وأصبح تركيع المجتمع يشكّل جزءاً من "اللذة"، وآلية لتعريف الذات والتباهي. وأصبحت ممارسات مثل التحرش الجنسي، واستغلال الكمائن الليلة للتفتيش الأخلاقي على النساء والرجال، وتعمّد ممارسة أكبر قدر من التسلط على الرجال في المجتمع، بالأخص أمام السيدات .. واسعة النطاق. وانتقل الأمر إلى أسر الضباط فأصبح من له/ا ابن أو أخ ضابط يستطيع التنكيل بالآخرين باطمئنان كامل، لغياب أي عواقب على فعلته. وصار أي اعتراض على هذه الممارسات يُعرّض صاحبه لمزيد من التنكيل. خلقت هذه العوامل تماهياً كاملاً للجهاز مع نظام مبارك ودفاعاً مستميتاً عنه .. وهو دفاع عن الذات وعن المصالح المادية والرمزية التي اكتسبها الجهاز. وبالفعل ظلّ هذا وفياً لأقبح رموزه إلى يومنا هذا، مثل حبيب العدلي وزكي بدر.
لم يكن عصر مبارك هو التجلّي الوحيد للدولة البوليسية. فالعصور «الخديوي والاستعماري والملكي» كانت الدولة فيها بوليسية بالمعنى العميق للكلمة، وكانت الأقسام مراكز لإذلال المصريين، وكانت "الداخلية" تتحالف مع البلطجية وتتقاسم معهم الأموال. ولعل النموذج الأبرز لهذا الأمر هو شوارع اللهو والمتعة مثل "عماد الدين" في القاهرة. الأمور التي جدّت مع مبارك هي الهيمنة السياسية والاجتماعية شبه الكاملة للجهاز. ففي العصر الملكي كانت هناك ثلاث جهات تتنازع حول السلطة: القصر، والوزارة، والبرلمان، والاستعمار الإنجليزي. كما أنه كان لكل حقبة مشروع كبير تلتف حوله النخب والدولة. أما مبارك فكان مشروعه هو الأمن وعصره بدأ مع حرب الدولة على الإرهاب، وتزامن عقده الأخير مع الحرب العالمية على الإرهاب وهوس أمني عالمي، عزّز من قدرات "الداخلية" في مصر، ومنحها فرصاً أكبر للتدريب الدولي والدخول في شراكات أوسع مع الأجهزة الأمنية في دول مختلفة، أو لتدريبات يتلقاها الجهاز المصري في ألمانيا. هكذا هيمنت "الداخلية" على مدار ثلاثة عقود، وهكذا انفجرت على مدار ثلاثة أيام من 25 إلى 28 كانون الثاني / يناير 2011.
* باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر