ليس الأدب، ومنه الرواية، شيئا سيمتريّا محكوما بالأقيسة المضبوطة والحدود الرّادعة الصارمة، وإنّما ما رسخ في الأذهان، إنّه مؤسّسة متفرّدة استندت بالأساس إلى إمكانيّة قول أيّ شيء يمكن تخيّله وضمن صيغ متمرّدة على المألوف مغامرة بالخروج إلى مجالات مستغربة أو مستطرفة. يبدو أنّ الرواية ما انفكّت تلوي الطريق أمامها في اتّجاهات مختلفة وهي تعبّر عن الإنسان المعاصر لتحتكّ في هذا المضمار بفنون متنوّعـة أو فنـون المدينـــة، يمكن للانطباعات أن تشي بذلك في روايات لا تحصى، غير أنّ المسألة في إطار مثل هذا الإطار لا تتعلّق بمجرّد الانطباعات الشخصيّة الداخليّة التي تلقي بظلالها على الذائقة، بل إنّها تتجاوز ذلك إلى قرائن فعليّة يمكن البرهنة عليها ضمن المكتوب الروائي سواء كان الأمر متّصلا بالرواية العالميّة أو المحليّة العربيّة والإفريقيّة والمغاربيّة.
تلوح تلك القرائن، بالضبط، إذا ما أردنا مقاربة تقاطع فنيّن كالرواية والسينما أو انخراطهما في دائرة أجناسيّة واحدة مرئيّة كفاية في صورة تمظهرات يمكننا محاصرتها والتركيز عليها. ولاشكّ أنّ هذا التمشّي يثير، قبل كلّ شيء، مسألة السياقات بميّزاتها وخصائصها وبناها، وهي سياقات في تعلّقها بالروائي والسينمائي تحفظ الحدود بين الجنسين على أسس كثيرة ومتينة، غير أنّ ثمّة ليونة تحتلّ خصوصيّة فريدة من نوعها تنهض عليها تلك التقاطعات المثيرة بين الرواية من جهة والسينما من جهة أخرى، تتمثّل في مبدإ رئيس يحمي الأعمال المنجزة من الانكسار ويمكّنها في، في الآن ذاته، من الاشتباك المضمر والموصوف.
ثمّة تجارب ليست بمنأى عن هذه المعالجة كتجربة نجيب محفوظ وإحسان عبد القدّوس، وقد ظهر ذلك في تبادل الأدوار بين الروائي والسيناريست أو تحوّل الرواية إلى عمل سينمائي. وثمّة أمثلة أخرى مطروحة وأكثر حداثة يفضي إليها الواقع بعيده وقريبه، وقد رأينا أنّ إدوار الخرّاط في"ترابها زعفران"(1) قد أرسى مجالا روائيّا تمظهرت عبره السينما بطرق وصيغ مختلفة، في نطاق تجربة مختلفة عن تجارب أخرى في عالمنا العربي، من حيث أنّها لا تندغم في الواقع بقدر ما تغوص على الذات لتطلق الذاكرة، كما يقال من عقالها، في اتّجاه الماضي ممسكة ببكرة عليها خيط كثيف لا نهايه له، وهي تجربة تستلزم، إذا ما أريد لها أن تكون محور مقاربة حرّة ومتقصّية، الانكباب على الجانب الإنشائي دونما غفلة عن البعد التداولي وكذا السيميائي ضمن تشكيلة أداتيّة ترمي إلى فكّ المسألة أو على الأقلّ اقتحام معتركها وياله من معترك!!
1ـ الرواية مجال اشتباك أجناسي:
الاشتباك الأجناسي أو ما يمكن التعبير عنه بحقل دلالي واسع ومتواصل ومشتبه به ليس سوى بديهة، إذ لطالما التقطت الرواية في شباكها أجناسا "غيريّة" وهجّنتها أو أنّستها لتنقلب، من ثمّ، وجها من وجوهها أو سمة من سماتها أو حتّى دليلا على فرادتها. وقد كانت نتيجة لذلك الرسائل والخطب والأخبار والأدب الشخصي La littérature personnelle والرسوم وغير ذلك من ممكنات الرواية واحتمالاتها بوصفها بنت المدينة التي تلتئم عندها الميول، كما يمكن أن يعبّر الاشتباك الأجناسي، وهذا أهمّ، عن روح ما متمرّدة تسكن الرواية وتمتلك قدرة فائقة على تحويل الأشياء وتكريرها، بالمعنى الصناعي، وجعلها من صميم الداخل بعدما كانت خارجيّة، غير أنّ التعمّق في هذا المنحى ومحاولة تقصّيه يجعل في متناول اليد براهين حقيقيّة ومتنوّعة على أنّ مقاربة التقاطع بين الرواية والسينما من بين تقاطعات الرواية مع ما سبق تختصّ بجملة من الخصائص أفضت إلى ما سمّاه بروس مورسيت Bruce Morrissette بـ"مشكليّة الرواية السينمائيّة"(2) وهو يعالج علاقة الرواية بالسينما، كما أفضت إلى التناحر بين السيناريست والكاتب في إطار شخصيّة الراوي المتشظيّة على نفسها في رواية" الاحتقار" لألبرتو مورافياAlberto Moravia (3)، وهو تناحر أشعله باتيستا المخرج ذو النزعة الهوليوديّة الاستعراضيّة، وأراد أن يحوّل المسألة إلى مسألة إثبات كينونة بين كاتب روائيّ يتملّص من الإملاء والعضّ على أنامله، ومخرج له طلباته وإسقاطاته التي هي من صلب مجاله، مجال المخرج دون غيره.
ومــن المهمّ في سياق مثل هذا السياق أن نثير مســألة الانجذاب إلى السينما التي حدثت، بالفعـل، في أمثلة وصور لا يمكن حصرها، فلا أحد في مكنته أن يشكّك في أنّ رحلة وليـام فوكنــر William Faulknerو ناثانيـل ويست Nathanal West وجون دوس باسوس John Dos Passos إلى هوليود كانت مدفوعة بآمال عريضة وكبيرة(4). ويطلق حسن لشكر على التقاطع بين الرواية والسينما عند نجيب محفوظ تعبير سمة الانفتاح التي ستؤدّي، بالتبعيّة، إلى استعارة الروائي لبعض تقنيات السينمائي وعدّته قائلا في هذا الشأن: "وقد كانت نصوص نجيب محفوظ بمثابة القاعدة التي سمحت بالانفتاح على الفن السابع من قبل الروائيين الجدد نظرا لغنى آلياته ونجاعتها"(5).
ويتعرّض حسن لشكر، في ما يتعلّق بإدوار الخرّاط، إلى ما سمّاه هو "تفاعل الحكي الروائي بالحكي السينمائي"(6) في أعماله الروائيّة عموما، وذلك من خلال جملة من التقنيات المستعارة كتقنية الضوء والوصف البانورامي والمونتاج والإلصاق والحركة والصوت، ممّا يدمج في صلب التقنية السينمائيّة الحركيّة. ولا تشذّ عن هذا، على وجه خاص، "ترابها زعفران" بوصفها رواية كما أُشّر على عتبتها أو رواية سيرذاتيّة أو كتابة أي مساحة حريّة لا تخلو من قيود(7) قامت على قاعدة إشاريّة واسعة تجسّد وتعرض رغم أنّ الروائي لا يتوانى عن ممارسة التعميّة على ما كتب من البداية "ليست هذه النصوص سيرة ذاتيّة، ولا شيئا قريبا منها"(8)، فنحن من حواف النصّ، بوصفنا قرّاء معرّضين لمحنة التوجيه أو فلنقل لمحاولة نُستدرج فيها لإمضاء ميثاق يقع التنصيص فيه على أنّنا حيال نصوص لا أصيلة ولا واقعيّة أي لا مرجعيّة، غير أنّها ضمّت، يصرّح الروائيّ بصيغة تصغير المرجعي، نويّات من الواقع!
هذه المفارقة الصغيرة ـ الكبيرة تبدأ بها "ترابها زعفران" فتنفتح مظلّة تجمع تحتها الكاتب ومتلقّيه بينما يؤهّل الأوّل في ظلّها بالتوضيح وظيفة القارئ وكيفيّة استقبال النصّ لن يكون الثاني سوى مثار تلاعب، ففي هذه النصوص ثمّة رغبة جامحة تروم تأمينها بأن تكون في منطقة الضوء لا الظلمة، مرئيّة شكلا في صورة المدينة ولونا في بياضها وزرقتها وحلما في رؤى والسحابات والأحلام.(9) لم هذا الإلحاح على المرئيّ لولا وجود وعي كتابي بوجود تحوّلات في الجنس ذاته من مكتوب إلى مرئيّ أو سينمائيّ، غير أنّه بالتأكيد يعدّ هذا مدخلا لتمظهر السينمائيّ في العمل لا من قبيل عمل سارتر Les jeux sont faits(10) الذي أعدّه صاحبه خصّيصا للسينما، هنا يقع التركيز على أهميّة مجال الرؤية في مستواها الكبيـــر، مستوى المكتوب أو هو ينبّه إلى أنّ القراءة ستجد في طريقها الكلمة تفتح على متعدّد الصور التي تفتح بدورها على المشاهد في متواليات ينسجها وعي الراوي ولاوعيه معا، وهو ينظر من مكانه العالي إلى قاع الزمن بأمكنته وناسه وتموّجه المتوالي الغادر والمداعب فتنقلب على نفسها الطبقات والطيّات ضاربة عرض الحائط بترتيب الفترات والعهود المعقول والمنطقي فقد تطلّبت الأهواء، بعدُ، ما تطلّبت لتنهمر وتعصف، وهاهي تتحكّم في لحظة الرواية، من يعرف؟!
2ـ إشكاليّة الطرح الروائيّ:
الرواية إشكاليّة بطبعها أولاّ لأنّها بنت المدينة أين تحدث الوقائع وتحتدم وتنمو المحسوسات وتينع النظريّات، إنّها ببساطة ليست أفلاطونيّة لا المفهوم ولا التصوّر، بل هي، على العكس من ذلك، مغامرة تجترح عوالمها من اللّغة مضافة إليها التجربة وتنظر إلى العالم من الاتّجاهات الأربعة. ومن هذا المنطلق يتّخذ تمرّد الشيطان على الربّ في (الفردوس المفقود) لميلتون وقتل راسكولنيكوف للمرأة العجوز في (الجريمة والعقاب) وحالات الموت النسوي في "ترابها زعفران"، وهي كلّها جرائم مرعبة كنيباليّة بشكل من الأشكال طابعا مغريّا بينما هو في الواقع الحرفي ليست سوى إقدام مشين على الذنب وتورّط بأتمّ معنى الكلمة في الرذيلة، وثانيا لأنّ الروائي يمكنه أن يمتلك بالاستناد إلى الدائرة الأجناسيّة الفنّية القيّمة جملة من الذرائع وهو يشكّل خطابه على وجهين وجه الصياغة الروائيّة، ووجه يتمظهر عليه ما هو سينمائيّ، يقول إدوار الخرّاط "إسكندريّة، يا إسكندريّة، أنت لست فقط، لؤلؤة العمر الصلبة في محارتها غبر المفضوضة"(11) إنّ المكان هنا أكبر من مجرّد مكان فيزيائيّ، إنّه ركح متجدّد، بمعنى من المعاني، تنعرض فوقه الذوات والأشياء، وهو جسد تناديه الذات المتلفّظة بإمعان ودفء وحنين، بل هو الأنثى التائهة في الزمن البعيد، يكاد يذوي شبحها في حين لم تفضّ محارتها، أعذراؤه هي؟
ثمّة، حينئذ، إصرار على ملاحقة المكان/ الفضاء والالتئام به لاكتناه أسراره المقدّسة في حركة ارتداديّة مفعمة بالخوف من الأفازيا النسيانيّة Aphasie amnésique. يتعلّق هذا بالمعرفة في الرواية هل هي متحقّقة في طريق مكشوفة أم أنّها جملة من المناورات لمّا يشتبك الروائي على أساس تناصّي بالسينما. ومن هنا فالمسألة لا تعود منوطة بما تقدّمه الكلمة أو الجملة أو اللّغة ذاتها، وإنّما تغدو الكتابة شفيفة وليس معنى هذا أنّها تعتمد التماثلAnalogie مع الصور المباشرة المرجعيّة، بل هي تقود إلى التعرّف من داخل النصّ إلى الظواهر، يقول محمّد الخبوّ" ويزداد ذلك تأكّدا في أسلوب نقل تفاصيل الحياة الطفوليّة نقلا يبعث في القارئ الشكّ في صحّته من حيث ما فيه من دقّة لا يمكن للرّاوي الكهل استحضارها بالكيفيّة التي كانت عليها قبل عشرات السنين. ويمكن أن نوضّح ذلك بهذه الفقرة التي يصف فيها الرّاوي ليلة ممطرة وهو بين أحضان العائلة"(12). ويورد المقطع التالي للاستدلال به "المطر يقرقع على زجاج الشبابيك بإيقاع مطّرد سريع، والدفء داخل الغرفة يصنع غشاء كالضباب، رقيقا على لوحة الزجاج الخارجيّـــــة، وأرى أنوار الحارة من خلال نداوة الماء المغبّشة على الزجاج كأنّها نجوم صغيرة متشعّعة، وعندما ينعق البرق في خطفات ساطعة تثب فيها البيوت وسطوحها وسحب السماء في ضوء فضّي باهر ثمّ تختفي، تتلوها بعد ثوان قرقعة الرعد المليئة الصور، يجلجل متلاحق الارتطام، كالطبل الفخم، كان قلبي يبتهج جدّا. وتصرخ عايدة أختي صرخة صغيرة وتجري هناء إلى حضن أمّي فتضحك أمّي ويهدئ أبي من روعها، وأحسست مع ذلك لمسة من الخوف تحبك البهجة أكثر إثارة وأكثر توهّجا وإحساسا بالأمن والكنّ في الغرفة التي دفئت."(13).
ويضيف محمّد الخبوّ "إنّ ما يبدو في هذه الفقرة من دقّة الأوصاف وما جاء فيها من مقارنات ومن تأوّلات ومن تشبيهات، يكشف عن سيطرة قلم الرّاوي العارف بالأشياء معرفة دقيقة لا تتوفّر للصبيّ"(14)، فالرواية، هنا، تتجاوز التعرّف على الواقع الكائن خارجها لتتحوّل إلى خطاب مرئيّ يجسّد بالصورة والصوت ما يحاول أن يبنيه، ونويّات الواقع التي ذكر إدوار الخرّاط من قبل قادحة، بلا شكّ، فلا سبيل إلى إنكار ما بين الواقع والمتخيّل أو المتوهّم الروائيّ من صلات قاعديّة. وذلك الخطاب المرئيّ صورة وصوتـا، من غير المعقول أن ننسى، أنّه كما أثارت العتبة سيفضّ المحارة للإحاطة بالإسكندريّة منتهجا مداخل متنوّعة من طريق الأزمنة والشخصيات والأشياء والعلاقات والأحداث فعليّة وقوليّة وذهنيّة وحُلميّة.
ما من شكّ، إذن، في أنّنا حيال كتلة مكانيّة هي الإسكندريّة مضمّخة بالأرواح، تفرّع على طول الرواية إلى شوارع وميادين ومقاهي وبيوت وشُرف ومخازن المينا وتراموي وكازينوهات وحارات وأنهج وغيرها ضمّت شخصيات من الأسرة والأصدقاء والمعلّميـــن، وبالأخصّ من الراوي في مقابل كثيرات أثرن حبّه وعشقه وحُلمه ونزواتــــه، وكومة من الأحداث التي تنوّعت بين الاستكشافي المبهج المعتّق كرحلة عربة الكارو في اتّجاه وابور الدقيق(15)، أو شوارع غيط العنب(16) والسباحة في البحر(17) وموت رانة صاحبة اللّوكاندة(18) والرحلة إلى عالم ألف ليلة وليلة(19) وما يستتبعه هذا وما هو على نحوه.
هناك متواليات كثيرة، غير أنّ تلك الكتلة تبدو على طول فصول الرواية محاصرة بوصف لافت، إنّنا لسنا حيال الوصف الحرفيّ La description verbale الذي لطالما أثار ذلك السؤال الجدلي حول ماهية علاقته بالتصوير La photographie، علـــــى العكس تماما، نجد أنفسنا قبالة ما يمكن تسميته بإقحام الصور في شكل مكتوب تحيل مباشرة، بشكل من الأشكال، على السينما الروائيّة Le ciné- roman خصوصا إذا ما أضفنا على نفس هذه الوتيرة الاتّكاء على السرود السينمائيّة القائمة على التقطّعات، وعلى وجه أدقّ أسلوب التناوبات بين المشاهد التي تصوّر قصّتين فرعيّتين كما هو الشأن في فصل (الموت على البحر) بين مشهد الرّاوي على البحر، ثمّ مشهد مغامرة بقطر بن عمّته مع صاحبة اللوكانـدة، ثمّ مشهد الرّاوي الحالم بالثورة، ثمّ مشهد رفلة أخ بقطر، ثمّ العودة، بعد ذلك، إلى مشهد البحر. كلّ ذلك في تناوبات ميزتها الأساسيّة الحركيّة، وهي حركيّة تتكرّر، ناقلة الرّاوي من المشاهدة والمعاينة إلى منطق الحلم والوهم، لتنسرب، من ثمّ، أوجاعه الداخليّة وتعتصره في اتّجاه الخارج في شكل صياح مخوف، يقول الرّاوي" وعلى صرخة يقظته المروّعة جاءت أمّه حافية، تجري إليه، من على السّرير العالي في الجانب الآخر من الكابينة"(20).
هذا كلّه يجعلنا، لو استعرنا تمشّي أبراهام مول Abraham Moles(21) نميل إلى أنّ دلالة اللّفظ لم يعط لها في "ترابها زعفران" منطق الأولويّة، نقصد، هنا، منطق اللّفظ ـ اللّغة الذي يمكن نقله أو ترجمته من لغة إلى أخرى، ومن بنية إلى أخرى من فرط ارتباط الرّاوي بالمكان ليس ذلك الارتباط المرجعي. فلسنا أمام صور جزئيّة مثيرة، وإنّما الأمر، هنا، منوط إلى تلك الإحالة التي إصبعها معقود على راو ومتلقّ معرفتهما مشتركة، بل مندغمة في بعضها البعض. وبما أنّ الكتابة الروائيّة أبعد مدى بحكم حريّة اندفاعتها التي لا تقاس، فإنّ الخرّاط لم يجد له من سبيل صيانة لتلك الإحالة الحميميّة ذات اللبّ السحري والشاعري سوى الاحتشاد لإضاءة حقل موحّد الأبعاد يبنين الخيال في الرواية على طريقة الخيال في السينما(22).
وربّما هذا هو ما حدا ببيان اللّجنة وهي تسند جائزة ملتقى الرواية العربيّة لإدوار الخرّاط بعد أنا نالها قبله عبد الرحمان منيف والطيّب صالح ترتكز على أنّه "ابتكر اتّجاها جديدا في الكتابة العربيّة ... وتعامل مع اللّغة تعاملا جماليّا فريدا"(23)، بينما "قال الخرّاط أنّ تجربته تسعى إلى المعرفة أو وضع سؤال عن المعرفة"(24)، فالأرجح أنّ فنيّة الكتابة ومقصدها عند نفس الكاتب كلاهما يلحّ على كسر الحلقة اللّغويّة المغلقة، وتلحّ على ملء العيون وإترافها لا من خلال الإدراك الأيقوني، وإنّما من خلال القفز عليه بكلّ قوّة إلى إدراك مُخيّلي مؤسّس بإمعان ممّا يفضي، في النهاية، إلى" حضور عالم معيّن"(25) وفق تعبير سارتر مع استبدال المسرح لديه بالسينما عندنا، هذا العالم يعيّن على أساس الوعي، ولكنّه ليس أيّ وعي، إنّه وعي المشاهدة لتتحوّل القراءة، وفق مقترب ظاهريّ، إلى مشاهدة، إذ أنّنا نشعر بانزلاقنا خلف المخرج/ الرّاوي من عالمنا الاعتيادي إلى عوالم أخرى، ويذكّر الأمر، على سبيل المثال، بـتوم هانكس Tom Hanks الفيلم الأمريكي الدرامي الكوميدي الذي أخرجه روبرت زيموكس Robert Zemeckis وعُرض أوّل مرّة في الخامس من أكتوبر في سنة 1994 ، فالفيلم يقوم برمّته على دور البطل وهو يجلس على بنك في محطّة حافلات ويأخذ في قصّ ماضيه ساحبا الجمهور إلى بؤر زمنيّة غائرة في الطفولة أو في الشباب أو امتحان الحرب مشكّلة على مدارات وقائعيّة، لكنّها في أساسها مُولّدة أو مشتقّة من روايته المتواصلة، والتي يذكّر بها المخرج بين الحين والآخر كما لو أنّها لازمة الفيلم Refrain تحفظ على المشاهد خيط المشاهدة الأصلي في مواجهة التفريعات/ الاعترافات المزلزلة المُوفية إلى نفسيّة البطل فوريست غامب Forest gump ، ومن ثمّ إلى واقعه الاجتماعي والمعرفي.
في هذا الإطار الذي تسيطر عليه الرواية الذاتيّة المعمّات، أحيانا، بلعبة الضمائر المترجمة بالتحوّل من التعبير عن الرّاوي بضمير المتكلّم إلى ضمير الغائب ثمّة ركيزة أخرى هامة يتمظهر من خلالها السينمائي، وجهها الأوّل مقاربة المكان مقاربة تبدو للوهلة الأولى استعراضيّة، هذا المكان الذي هو الإسكندريّة في عمومها، فنجد في الفصل الأوّل، على سبيل المثال، شارع راغب باشا بالكوبري الصّغير ومياه الترعة الدوّارة ووابور الدّقيق بمظهره الخارجي الحجري ولونه الأحمر وشبابيكه الطويلة وأصوات ماكيناته الدقّاقة المجعجعة، وداخله بحمّاليه، كما نجد شارع الترام وشارع الكروم حيث بيت الرّاوي، غير أنّ الاستعراض غير منفصل أو مستقلّ بذاته، بل تفاعلي لإيصال حالة الشخصيّة العاطفيّة. كما أنّنا نظفر بركيزة ثانية ليست أقلّ شأنا، تمثّلت في إدخال الفوضى على الزمن، وهي تقنية يلجأ إليها مخرجون يخلخلون بها النصّ الروائي مثل وليم بروز William Burroughs أو توماس بنتشون Thomas Pynchon، ولكنّ إدوار الخرّاط، هو نفسه، يزجّ الرواية في فوضويّة زمنيّة، فالرّاوي يفاجئ، على الدوام بوجوه صغره أو شبابه أو كهولته، وأنت لا تعرف من يفعل ذلك، إنّها ميزة مهيمنة وبانية وليست مجــرّد تنويـــع أو خبط عشواء في سياق خطاب الرواية القصصي.
ويكتب الجامعي الأمريكي بروس موريسيت Bruce Morrissette، وربّما يكون غير مسبوق في ذلك من حيث العمق والطرح والوقت، عن الطابع الإشكالي في مقاربة نشرت في الستيّنات(26)، فيثير، بصفة مركزيّة، حجم التضارب والمغالطة والتناقض بين النقّاد السينمائيين من ناحية والنقّاد الروائيين من ناحية الرّاجع إلى اختلافهم من حيث الجنس الذي يعبّرون عنه، أي جنس الرواية في دائرته المكتوبة المرتهنة بالتأمّل وكفاية المتقبّل، وجنس السينما في دائرة المرئيّ بشروطه القاعديّة. ولا يعني ما سبق، بأيّة صيغة من الصيغ، وجود ما يمكن اعتباره أسيجة حديّة بين الجنسين المذكورين بقدر ما يعني أنّ الطرح الرّوائي المراوغ والمخاتل قد يكون كما في "ترابها زعفران" طرحا اقتحاميّا، فالرواية تقتحم الأمكنة مهما بلغت درجة حميميّتها لتجعلها مدركة إدراكا من خلال بعث الحياة فيها وترميم ما انطمس فيها وتركيزها على أنّها مساحات صغرت أم كبرت مورس فيها الحبّ وجرحها اليأس وشوّهها الموت وغمرتها الحركة، كما أنّها تقتحم الأزمنة مبتكرة نظاما جديدا لها، لا صلة له بالمنطق الواقعي والتاريخي وتهجم على الشخصيات من نقطة رسوّ تضبط من موقع الرّاوي المتلّون بضميريه الرّاوي والرّاوي المرويّ، المورّط في الحكي، تارة، وفي الحكي والمحكيّ طورا. كلّ ذلك في إطار بنى فكريّة جائلة بين ما تعقلنه الرّواية في بدايات فصولها، وما تؤسطره، سرياليّا، في نهاياتها بطريقة تلفت الانتباه كما لو كان هذا الدوران لازمة تلحم، في هذا المستوى، الفصول بعضها إلى بعض، مع أنّ تلك الثنائيّة ظلّت تشعر، على مدى صفحات الرواية، بأنّ الوقائع والصور المعروضة لها عمق في نفس الرّاوي لا يسعه إلاّ حلمه.
إنّ "ترابها زعفران" اقتحاميّة، على الأرجح، لأنّها إضافة إلى ما سبق تفتح دائرتها بإمعان على المرئيّ القابل للتأويل وإعادة التأويل وتؤشّر، باستمرار، على زوايا التقاط المشاهد بصوغها هي. وهي، قبل هذا وبعده، ليست رواية تقليديّة صنعت لتكوّن، في بعد رئيس من أبعادها، دراميّة النصّ، أي اعتماده على مبدأ الحوار(27)، وربّما، بسبب من هذا، فإنّ المخرج حسن الإمام الذي أخرج في الستّينات روايات نجيب محفوظ "زقاق المدقّ" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" في الستّينات قد وجد نفسه في مواجهة كثافة المادة وتشعّبها وحواريّتها وطابعها الأدبي، ممّا جعل المخرج يتسلّط على الروايات المذكورة مخضعا إيّاها لمحور الاختيار، فينتخب "من أحداث القصّة ما يكفي ليكون فيلما ويترك الباقي"(28) ممّا يطرح سؤالا هامّا عن مدى احتفاظ تلك الأعمال بروحها من ناحية المضامين والرؤية الأصليّة وصداها أمام تحريف الوصف الحرفي ذاته في الرواية الواقعيّة الاجتماعيّة التجسيديّة إلى مبدأ التقويم السينمائي، وهو مبدأ مختلف يدمج بالضرورة بسبب مرجعه الجنسي المخصوص مبدأ التصوير لتعويض الوصف وشجرته وذلك بالتركيز على الزوايا وتقليص مكافحة الشخصيات بعضها لبعض.
في هذا الإطار تلوح "ترابها زعفران" اقتحاميّة لأنّها لا تتردّد في مزج المشاهدة من مناظير منصوبة هنا وهناك، وراء كلّ واحد منها متخفّ في شكل مكتوب أصله كامن في راو تتدفّق روايته باستمرار. ومن المهمّ أن ننظر إلى ما يكتبه إدوار الخرّاط من زاوية نظر نحاول نحن أن نبنيها على أسس تدفع بها إلى الضوء. هذا هو معنى الطرح لا أن نقيس الكتابة المنضوية إلى جنس بعينه، وهذا بحدّ ذاته اختيار والتزام أقدم عليه رجل له مواهب متنوّعة وخيارات مشجّرة، لذا فإنّ التقاطع مع الرسم كما يتّضح في مواضع هنا وهناك عبر الكلمة لا يمكن أن يعني كما في "ترابها زعفران" بسياقها السردي ذي المنطق المترابط المذخّر بأفكار وتجربة متكاملة، متنامية، متطوّرة، لا تخضع للتأطير المادي أو المعنوي تكبيلنا بقياد يؤدّي إلى التسمية التعيينيّة أو حتّى التسمية النسبيّة التلميحيّة أو تسمية الرسّام صاحب الضربة المُنهية بعبارة بيكاسو تلك التي تسوّي اللّوحة.
ويتمحور، هكذا، سياق السّرد بمكوّناته القصصيّة في درجة أخرى على رهان كبير، رهان التسمية الشعريّة، وهو ينبني على مفهوم ابستيمولوجي عند الخرّاط تجاه الخطّ، يقول تعليقا على لوحة رسّام" ليست اللّوحة عندك تخطيطا كاليجرافيّا للكلام العربي، وإن كانت فيها إثارة من ذلك ـ لكنّها قبل كلّ شيء عمل من أعمال الروح، مسعى جمالي وصوفي، يتناغم فيه اللّون والتشكيل مع الشعر وأشواق غير محدودة أمام نداءات المجهول وألغاز الوجود والمصير"(29). هذا العالم الذي يراهن عليه الخرّاط هو أسّ خلافه الفنّي والمعرفي والأنطولوجي مع نجيب محفوظ المغرم بعالم "الخارج" بما هو حجر الزاوية، وبما هو أساس الفعل التشريحي Le fait anatomique المشرع في وجه الجسد الاجتماعي ومتعلّقاته.
ويوضّح الخرّاط مفهوم الخطّ، علينا أن لا ننسى ههنا أنّه نواة الكتابة أيضا، بوصفه مفهوما أشمل من مجرّد وسيلة يقع استخدامها، أي بوصفه مفهوما إبداعيّا، مندغما تماما في الكتابة المبدعة فيكتب مواصلا" الخطّ الذي تتكوّن منه وتتشكّل لوحاتك الجميلة الرائعة ليس فقط توحّدا بخبرة جماليّة وصوفيّة عاشهاـ بل هي يعيشها حتّى الآن ـ عظماء ثقافتنا العربيّة الحيّة دوما: ابن عربي، والحلاّج، والمعرّي، والنفري، بل هو تكوين من إبداعك الخاص بك ـ هو إبداع لنا جميعا، بالإمكان ـ وهو خلق جديد ولعلّه كامن قديــــم، ينبع من ذات نفسك المرهفة وثقافتك العميقة. هل أجد في هذه "اللّوحات ـ العبوات" تجاوبا حميما مع ما تجيش به حياتي الداخليّة وما أحاول ـ منذ ستّين عاماـ في كتاباتي؟"(30). إنّ الرّاوي في" ترابها زعفران" يرسم المشاهد السينمائيّة المكتوبة بالإضاءة، بزوايا الالتقاط، باختيار الألوان والأحجام والأشكال والترافلينغ بأنواعه" بل هو أكثر من رسّام، لأنّه في كلّ كادر، في كلّ لقطة، في كلّ مشهد ومع حركة الكاميرا وحركة الأشخاص داخل الكادر مطلوب أن تبقى الصورة ضمن حركة الكاميرا، تبقى في قيمتها اللّونيّة وفي هارموني اللّون ساحرة الجمال ومعبّرة عن طبيعة المشهد المتحرّك، بعكس اللّوحة المرسومة الثابتة التي هي لحظة ثابتة من الزمن"(31).
إنّ الخلفيّة النظريّة التي يصدر عنها الخرّاط عند اعتبار كما سبق أنّ اللّوحة ليست تخطيطا، وإنّما هي عمل من أعمال الروح مؤدّاها إلى أشواق غبر محدودة أما المجهول وألغاز الوجود والمصير تُذكّر برسّام إسبانيّ عبقريّ من طينة سلفادور دالي Salvator Dali الذي انتقد منهج تعليم الفنّ في أكاديميّة مدريد، وانقطع إلى حركة السورياليين المناهضة للفنّ الحديث القائم على المفهوم الجمالي والشكلي باستهجانه للنزعة التكعيبيّة، ليفضي به الأمر، أخيرا، إلى الاشتراك مع لويس بونيول Luis Bunuel في الفيلم القصير"كلب أندلسي Un chien Andalou"، وقد أخرج بالأبيض والأسود في سنة 1929 بالاعتماد على سيناريو كتبه دالي مع مخرجه.
ويمثّل هذا في تعاقده مع ما مضى، عموما ومقولة المخرج الرسّام(32)، بالضرورة برهنة على أنّ تمظهر السينمائيّ في المكتوب يستغرق تقاطعات الكلمة مع الريشة معا، وإلاّ ما الذي دفع دالي إلى السينما، قافزا إلى عالم الحقيقة فيه مرئيّة لها وقعها، تماما كما أنّ لها كيانها Entité. فحقيقة الرسم في "ترابها زعفران" بهذا المعنى ليست تعمية على السينمائي بقدر ما هي ملوّحة بأنّ الطريق في اتّجاهها آمنة، كان لابدّ من توضيح هذه المسألة حتّى لا يتحوّل الرّوائي إلى رسّام والرّواية إلى رسم مرويّ و" ترابها زعفران" إلى مجتزءات يحكمها منطق التجاوز أكثر ممّا يحكمها منطق القصص في حنين أدبيّ ظاهر الهُويّة رغم ما يمتلك من ممكنات المخاتلة الصادمة.
يستنتج ممّا سبق أنّ الطرح الروائيّ الذي هو بطبعه في اشتباك، كناية عن الصفة الاقتحاميّة في الرواية، ينبغي أن يكون إشكاليّا، تماما، وهو إشكالي، بالضبط، لأنّه يولّد هذا الخلاف الحادّ في الرؤية بين المبدع سواء كان كاتبا أو مخرجا أو شاعرا أو رسّاما وغيرهم من جهة وبين النقّاد أو القرّاء، فهذا دستويفسكي Dostoïevski يبيّن ضيق أفق الواقعيين الذين يركّزون على صلة الفرد بالمجتمع، ضمن بعد يبدو معزولا لا يملك ما يعزّزه قائلا "يدعونني بسيكولوجيّا أي عالما نفسانيّا، وهذا خطأ، فلست سوى إنسان واقعيّ بأسمى معنى للواقعيّة، أي أنّي أصف بأعمالي كافة سريرة النفس البشريّة"(33). وهاهو بادي تشايفسكيPaddy Chayefsky الذي أنجز، كتابة وإخراجا، شخصيّة هاورد بيل Howard Bill في فيلم الشبكة Network، وكانت شخصيّة رافضة لانحطاط الواقع ومرارته، رافضة لأن تكون رقما على أساس أنّها مجرّد فرد قد أُثر عليه قوله السّاخر إنّ أحلامه لم تتحوّل إلى السرياليّة، وإنّما العالم قد تحوّل بعدُ إلى مسخرة حقيقيّة، لهذا كان يميل إلى الاستبداد بالصورة المرئيّة خوفا من اللّغة وهي تُضيع الوقائع وتطمر الأفكار(34). وهاهو إدوار الخرّاط يُتّهم بأنّ الناقد فيه قد استولى على الكاتب الرّوائي، ليلصق به مع كوكبة أخرى من العرب هاجس التنظير نظرا لثقافته الموسوعيّة، المحكّكة بلغة القدامى الموسوعيين، فقد سألت المحاورة الفلسطينيّة نعمة خالد الرّوائي نبيل سليمان" بين الروائين كثيرون يكتبون النقد أيضا جبرا إبراهيم جبرا ومحمّد برّادة وواسيني الأعرج وإلياس خوري وإدوار الخرّاط، وفي حالات غير قليلة يأتي التنظير للرواية أقوى من النصّ نفسه"، وتواصل واصفة الأمر ومدقّقة العبارة "هل عانيت مثل هذا المأزق أو التحدّي؟"(35). ألا يعني هذا أنّ الطرح الروائي مزدوج في إشكاله لأنّه يطرح مسألة التكنيك أو الأسلوب مخلوطة بمسألة المعرفة أو بالأحرى التعرّف الذي تدّعيه الرواية، ممّا يجعل هذه الخلافات في المقاربة وتحديدها بما فيها من مسوّغات وما استتبعته من معارضات كائنة في قلب دائرة المفهوم، مفهوم الزمن والمكان والشخصيات والمرئي والحدث ذاته في كيفياته وتجليّاته ومداه؟ هل نحن بإزاء أبواب توصد وتفتح بحسب المواسم أم متخيّلة يقودنا إليها حدسنا وبصيرتنا أم مزاريب نتسلّقها أم أبواب خلفيّة تفتح على ما هو حميميّ ولطيف أم هي أبواب دوّارة تسمح بالمراوغة والتلاعب باستبدال الخارج بالدّاخل والدّاخل بالخـارج، ممّا يستدعي تمظهرات على طول المكتوب وعرضه، يبتكرها التكنيك ابتكارا دلالة على الزوايا بمستوياتها المتفاوتة، السريّة والظاهرة، المحتملة في صوغها العمـودي أو الأفقي.
3ـ تقنيات سينمائيّة بين يدي الرّاوي:
هناك فكرة مبدئيّة وأوليّة من الضروريّ إثباتها وإعلانها على سبيل التنبيه، في سياق هذه المقاربة بالذات، وهي أنّ الحديث عن تقنيات السينما في الرواية فيه نسبة كبيرة من الخطأ، إنّه قول غير مضبوط ورجراج بعبارة الجرجاني. ونحن، هنا، أمام خيارين إمّا أن نحوّل جميع الروايات والتراث الإنساني إلى مجال يُمارس فيه التكنيك السينمائيّ بـ"الجبلّة" بينما هو مجال مبتكر مادة وأدوات ورؤية متمركزة في جنس مرئيّ محكـوم ضرورة بشروط حديّة توضّح نشوءه، وإمّا أن نقارب مظاهر، أو بالأحرى، تمظهر السينمائيّ في الرواية كما في ما عداها من قصّة ومسرح وشعر وموسيقى إلخ...حديثا وقديما، سواء حدث ذلك في عين القارئ أو ذهنه. ومعنى هذا أنّ تلك التمظهرات لها فعلها، بل خطابها المالك لخاصيّة البندول في تأرجحه بين اليمين والشمال، يمينه لمّا نكون في الرّواية المكتوبة بسياقها الكبير بمهيمناته، وشماله لمّا نجترح حوافز فعليّة على المشاهدة والاندغام في العرض مهما كان نوعه وسياقه وتفريعاته الإخراجيّة الخاصّة أو حتّى جنونه كما في افتتاح الفيلم القصير الشهير"Un chien Andalou" لمّا قرّر لويس بونوييل ومن ورائه سلفادورداليSalvatore Dalí البدء بمشهد صقـل الممثّل لموسـاه ـ الرّازوار ومراقبتـه، بعدها، للسماء من الشرفة، وعندما قطعت، بالضبط، قطعة من السحب قرص القمر شقّ بالعرض عين المرأة مفرّغا إيّاها من حشاها.
وعلى هذا الاعتبار ليست "ترابها زعفران" عرضا سينمائيّا قبل كلّ شيء أو حتّى في درجة تالية من الدرجات، ولكنّها تفتح على تمظهرات سينمائيّة ملفتة للانتباه نقرؤها ونتابعها خطّيا في نفس الوقت الذي يتلفّظها الرّاوي بقناعي الرّاوي الفاعل حينا، والحاكي المتورّط حينا آخر. ويلاحظ المرء، وهو يتصفّح الرّواية، أنّ لغتها جاذبة بمعنى من المعاني، هو ذاك الذي يُحضرك قبالته تماما، بما يعني أنّنا حيال لغة سينمائيّة، لكنّها تختلف عن لغة السيناريو، أيضا، المعروفة بأنّها مُضجرة ومقلقة لأنّ سمتها الأصليّة إعلاميّة، تعيينيّة مثل دليل سياحيّ، موظّف لغرض محدود في بدايته ونهايته. وعادة ما تصبغ اللّغة السينمائيّة الرّواية بصبغة جديدة، فهي تحوّل الرؤية إلى اعتبارات أخرى إضافيّة ومفصليّة، وتمكّن من استعارة خبرة السينما، ومن ثمّ تبرز الأحداث وفق مشاهد ولقطات سينمائيّة مؤثّثة جيّدا في شبكة العين. وربّما يفرض علينا هذا في مثال إدوار الخرّاط" ترابها زعفران" وباقي إنتاجه، وأخصّ بالذكر" أبنية متطايرة" الانطلاق من مصادرة أنّ مركز الثقل أو نقطة الرسوّ في طرح التقنيات السينمائيّة هي اللّغة. وبالفعل فإنّ منح الخرّاط جائزة ملتقى الرّواية العربيّة الرّابع المنعقد بمصر سنة 2008 قد استند، أساسا وقبل كلّ شيء، إلى التعامل الشعري الجمالي الفريد المميّز للغة الرواية(37).
إنّ أوّل ما نلاحظه في النصّ الأوّل من الرواية المعنون بـ"السّحاب الأبيض الجامح" طبيعته الشعريّة الجماليّة بل السرياليّة، إذ يقوم على وصف مراوغ واستعارة معطاة رأسـا، فكأنّما هذا السّحاب حصان مميّز ببياضه الدالّ على جماله ورفعته، الكائن عليه في الأحلام العشقيّة فارس الحبّ المنتظر عند المرأة، ثمّ مع استبعاد صفة السواد أو الرّمادي، فإنّ هذا الحصان جامح، منفلت بأعلى قوّته إلى الأمام في رواية تتعقّب ماضيها تعقّبا عكسيّا وتسبر حركة الزمن قوّة وفعلا، أي في انتقالها من كمونها إلى ظهورها. ألا يعتبر هذا ضربة البداية بوصفها صورة مقرقعة للمخيّلة ومهيّجة لها، خاصة، في اقتراب مفهوم الجموح من مفهوم الأورجازم؟ ألا يعتبر هذا مراهنة على النصّ بوصفه من صميم وظيفة القارئ وبوصفه كيفيّة في الاستقبال محايدة للحرفيّ، فالعمل يشير إلى أنّه لن يبنى إلا بقارئه(38).
إنّ هذه الإطالة مبرّرة حينما نتتبّع عناوين النصوص الباقية واحدا واحدا: السحاب الأبيض الجامح ـ بار صغّير في باب الكراستة ـ الموت على البحر ـ فلك طاف على طوفان الجسد ـ غربان سود في النور ـ النوارس بيضاء الجناح ـ السيف البرونزي الأخضر ـ الظلّ تحت عناقيد العنب ـ رفرفة الحمام المشتعل. إنّها عناوين مختارة بعناية تنهض على لغة إشاريّــة، لغة السينما بآمتياز، ثمّ هي تختصر التقنيات في قاعدتها التصويريّة وحتّى في الإفصاح عن التكنيك السينمائيّ من خلال أسلوب تقنيّة الإضاءة، وقد أورد ذلك حسن لشكر في كتابه "الرواية العربيّة والفنون السمعيّة البصريّة" لمّا قال: "وقد اتّكأ الخرّاط على تقنية الإضاءة في جلّ رواياته لإبراز وبلورة عناصر سياقيّة دالّة"(39). ويمكن أن نعيّن، في هذا المستوى، ذلك في عنوانين بعينهما هما عنوان النصّ الخامس:غربان سود في النور وعنوان النصّ الثامن: الظلّ تحت عناقيد العنب، وهو اختيار قام على أساس السمة السينمائيّة المهيمنة الأوضح من غيرها الواضحة.
وقد لاحظنا، في هذا المجال، حرص الروائي على ترقيم الفصول بعد أن عنونها على امتداد الرواية، وكان يمكن، على سبيل المثال، الاكتفاء بترقيم الفهرس، ولكنّه اختار أن يمضي بعيدا في مراوغة القارئ الذي سيدخل في نقاش طويل مع ترتيب تلك الفصول، فيضطرّ إلى محوه وتعويضه بما يقتضيه منطق القراءة من تعديلات وتسبيق فصول وتلحيق أخــرى، وذلك تبعا لتحوّل الرّاوي من كبير إلى صغير ومن صغير إلى كبير، ومن داخل الأنا إلى خارجها، كلّ ذلك في إطار لعبة زمنيّة تحفّز، باستمرار، جاعلة المشاهد في عروضها على أساس ما ستفاجئ به. ويمكننا إذا ما حاولنا الإحاطة بالمشاهد في " ترابها زعفران" تقسيمها إلى ثلاثة أنــــــــواع، مشاهد يغلب عليها الوصف، وأخرى تغلب عليها الحركة، وثالثة وصفيّة حركيّة، ففي مفتتح" السحاب الأبيض الجامح" ينطلق النصّ هكذا" عدت إلى شارع راغب باشا، وكان الكوبري الصّغير مفتوحا، ومياه ترعة المحموديّة تحته حمراء، وكنت أعرف أنّها تدور حول قوائم الكوبري في دوّامات متقلّبة".
كنت أقف في أوّل عربة من عربات الكارو الطويلة، قدماي متشبّثتان بالخشب، خلف الحصانين القويين بينهما قائم التعريشة الطويلة، أرى الذيول المقوّسة مليئة بالشعر الأشقـــر، والكفلين الدائريين بلونهما الأصهب عليهما ندى لامع من العرق، الرأسان بعيدان، محنيّان، في الأمام، أسمع الحمحمة الغضوب المكبوتة بجهد. من كان إلى جانبي يمسك بالأعنّة؟ وجوده مليء بالسيطرة والتحكّم: لكنّي لا أكاد أراه مع ذلك ، أعرف فقط أنّه إلى جانبي في نور الصبح تحت سحاب الإسكندريّة الوضيئ الرّقيق الذي ينساب بسرعة في السماء الصّافية"(40).
ما من شكّ في أنّ هذا المشهد يقوده حدث الرجوع إلى شارع راغب باشا، وذلك بالرغم من أنّ توسعته، وما يلحقها من تطوير، تأخذ اتّجاها وصفيّا متصاعدا يعتمد على تفكيك الشارع إلى مكوّنات مُعرّفة به أو شواهد دالّة وهي كوبري صغير مفتوح ومياه ترعة المحموديّة تحت الكوبري مركّزا، في مرّة أولى، على حمرتها ومركّزا، في مرّة ثانية، على دورانها حول قوائم الكوبري في دوّامات متقلّبة. اللّقطات سريعة ومتتالية، قائمة على التكثيف. والتصوير يبدأ عامّا منصبّا على" الأمام"، ثمّ ال" تحت". ومن ناحية أخرى يقع التركيز على الرّاوي ـ الشخصيّة بالالتفات إلى الوراء مطوّرا لقطتي الوقوف في أوّل العربة والقدمين المتشبّثتين بالخشب، في تحوّل استكشافيّ ضيّق، ليقع، إثرهذا، التركيز على الحصانين بتصويب عين الكاميرا التي هي نفسها عين الرّاوي ـ الشخصيّة إلى الأمام، فينفتح إمكان وصفيّ جديد: ذيول مقوّسة مليئة بالشعر الأشقر ـ كفلين دائرين بلونهما الأصهب عليهما ندى لامع من العرق ـ رأسان بعيدان محنيّان في الأمام، ثم، أخيرا، يُختتم هذا المشهد الافتتاحي بتقنية الصورة المحيلة على ما هو واقع خارجها Hors champs(41)، وهو ما يظهر جليّا في المقتطف التالي ممّا سبق" أسمع الحمحمة الغضوب المكتومة بجهد" التي مكّنت من ضمّ ما يجري خارج الصورة المدقّقة هنا المحصورة بين الذيول والراكب. غير أنّ هذا المشهد برمّته لا يُختتم، فعليّا، إلاّ بتكبير اللّقطة، ثمّ تحويلها إلى مشهد راكبين أحدهما الرّاوي والآخر سائس الحصانين، ثمّ تحوّل عين الكاميرا إلى فوق حيث السماء الصّافية بنورها الصّباحي وسحاب الإسكندريّة في ملفوظ يصفه كما رأينا كالآتي" الوضيء الرقيق الذي ينساب بسرعة في السماء الصافية" كما لو أنّ هذا ما يميّز الإسكندريّة من بين مدن العالم.
إنّنا، حينئذ، حيال مشهد مبنيّ بدقّة، مهيمنة الوصف جليّة فيه يبدأ بالأرض وينتهي بضديدها الهندسي والعقائدي والجمالي والثقافي السماء، ويتضمّن مراوحة بين" الأمام" و" الوراء" و"الجانبين" وما هو أفقيّ في علاقة الراكبين أحدهما بالآخر لا تعلن مباشرة. وقد تطلّب، هذا، دوران الكاميرا في هيئة عيني الرّاوي الطفل دورات عديدة ومنوّعة لترسم في إطار الصورة أوّل مشهد في الرّواية، ويمكن تسميته" مشهد عبور الرّاوي لشارع راغب باشا". هذا مشهد تتلوه مشاهد أخرى مثل "الوقوف قدّام وابور الدّقيق" وهو مشهد طويل يمتدّ من السطرين الأخيرين في الصفحة السابعة إلى السطر الأوّل في الصفحة العاشرة، ويغلب عليه الوصف لذلك نجد شجرة الوصف غنيّة، فالوابور من الخارج: أحجار عالية ـ لون أحمرـ شبابيك طويلة عليها قضبان حديديّة رفيعة سوداء. إنّ هذا المنظر يعرّف، في مرحلة ثانية، شارع راغب وغيط العنب محاولا تقريبهما ممّا كان عليه في قاع الزمن. وتُوظّف، هنا أيضا، تقنية الـ" Hors champs "ليقع الجمع بين مظهر الوابور الخارجي من خلال المرئيّ وحركته أو جلبته الدّاخليّة من خلال أصوات الماكينات" تدقّ دقّات مسدودة الصّدى بإصرار."(42).
ثمّ يتّخذ الرّاوي مسافة وسطى بين حاضر الرّواية وزمن الطفولة ممسكا بالزمن من طرفيه في منطقة وسطى، يستخدم، وهو متموقع فيها، لتفعيل استذكاراته معجما صناعيّا وحضاريّا بوجه خاص: الغرابيل الأسطوانية الفخمة ـ أسقف الحديد المموّج ـ الماكينات والتروس الدائريّة ـ المواسير والأقماع المفلطحة والسيور الجلديّة. وتستخدم، في هذا الإطار نظرا للتموقع الخاص، تقنية الكولاج Collage للرّبط، من خلال المشاهد، بين زمنين أبعد وبعيد، أي ماضي الطفولة عند الصبيّ العائد وماضي الصبىّ عند الرّاوي القريب منّا. إنّ الرّاوي يريد أن يجعل الماضي الطفوليّ وحاضره في تلك النقطة الزمنيّة الوسطى لحمة واحدة، لا مجرّد أشلاء مقطوعة، ثمّ إذا بخيط الذكريات ينسرب إلى ثقوب كثيرة كانت معمّاة، فتعتمد الرّواية تقنية العودة إلى الوراء Flash-back واضحة أكثر ممّا كان عليه الأمر ضمن الكولاج، مستعيدا ذاته الطفليّة" كانت أمّي ترسلني إلى الوابور أشتري كيلة دقيق ونصف ردّة، من كشك خشبي أخضر اللّون من داخل الباب، فيه صعيدي عجوز مكسور الأسنان يضع على رأسه الجاف عمامة وحول رقبته كوفيّة صوف، صيفا وشتاء على السواء. وكان يكيل لي الدقيق والردّة بجاروف حديدي كبير، كلاّ منهما في صندوق خشبي عال مائل الفتحة، ويضعهما في كيسين من الورق الأصفر الدّاكن، أحسّ بثقلهما على ذراعيّ، وأنا أحملهما إلى صدري، وبقليل من الخجل."(43). يوضّح هذا أنّ اللّغة الروائيّة بفضل سياقها القصصي تشتغل على توظيف البورتريه والديكور لتقدّم مشهدا منتجا لدلالاته وأبعاده الإشاريّة القابلة للمشاهدة، بل أكثر من ذلك تلك المشاهدة المُزمّنة المازجة بين التسجيلي والاجتماعي. غير أنّنا إذا ما تجاوزنا هذين المشهدين نجد أنفسنا قد عبرنا من تركيز الصورة على أرض الإسكندريّة وسماها إلى مشاهد أخرى ستجرفنا إليها الرّواية، وكأنّ الكادر العام المتعلّق بالمكان قد استوى، بعدُ، عوالم تهيمن عليها الرّوح ليعلن الخطاب القصصي عن شجرة العائلة والأماكن الحميميّة وتبيان العلاقات المعلن منها والسرّي والأقوال وتجويفاتها.
تتعدّد المشاهد، بعد ذلك، ولكنّنا سنحاول استخدام نوع من النمذجة كما سبقت الإشارة، من قبل، لمّا عرضنا إلى الوصفي والحركي وما هو مزيج بينهما. ولهذا سنختار، ههنا، مشهدا حركيّا أو فلنقل مشهدا تهيمن عليه الحركة، ولنأخذ مثالا على ذلك قول الرّاوي "جاء جبره، وكمال، ورمزي، ثلاثتهم، إليّ وأنا في الحوش الكبير، وطلب منّي جبره بصوت كلّه رجاء، واعتذار، ومصالحة، أن أشرح لهم معاني المحفوظات وإعرابها، فتصالحنا، ولكنّني كنت دائما أحسّ معهم بالقلق، وكره ملتبس، وأنّ ما يدور بينهم في خفاء جسدي غير مفهوم، جذّاب ومنفّر معا."(44) إنّه يصوّر هنا أجواء مدرسة النيل الابتدائيّة بعد انتقاله من بيت شارع الكروم أمام الإصطبل إلى البيت الواقع في شارع 12 أمام وابور الدّقيق، ويسلّط الضوء على عالم الفتيان وألغازه، عالم تقوم فيه المفارقات بين البراءة والشرور، وبين الأسرار والواقع، وبين الانضباط والشغف بالمعرفة والإهمال. ويحتلّ الرّاوي موقع الإيجاب من هذه المفارقة مُعزّزا بصغره إلى جانب من هم أكبر منه في مدرسة واحدة.
وتتوالى اللّقطات بوصفها أصغر وحدة في الحدث الدرامي في الفيلم السينمائي ليُبنى المشهد شيئا فشيئا، وهي لقطات تكشف حركات الشخصيات: جبرة ـ كمال ـ رمزي من مجيء واعتذار ومصالحة، فتصالح على أساس أنّ البطل ـ الرّاوي قد يقبل، وهو المتفوّق، بإسنادهم معرفيّا بعد أن كان في السابق موضع سخريّة وتلميح وغمز بقول جبرة" يا عيني على سلاسل الذهب...يا حلاوة الذهب"(45) تعليقا على إعجاب مدرّس العربي خليفة أفندي بإلقاء الطالب النبيه. ثمّ يكشف الحوار في صيغته غير المباشرة بعد سلسلة الأفعال السابقة أنّهم صحبة الرّاوي" يذهبون بعد المدرسة إلى بيت رمزي في آخر شارع 12، حيث شركة الغزل، وإنّ رمزي عنده مجموعة مجلاّت كلّ شيء والدنيا والكواكب، في غرفة على سطح بيتهم"(46)، ثمّ تتوالى بعد ذلك اللّقطات متسارعة، نشطة فرحا بآخر حصّة قبل الإجازة، وبعد ذلك تُصوّر اللّقطات ذهاب الرّاوي مع الجماعة، ولمّا يشعر بأنّ الأمر ليس سوى مكيدة للإيقاع به والانتقام من براءته تتصاعد حركة اللّقطات عاكسة نفسيّة الرّاوي ـ الضحيّة المحتملة، يقول: "ولكنّني أحسست فجأة أنّني في كمين، وأنّ شيئا ما، خطرا ومرعبا وغامضا يدور من حولي، قلت يجب أن أنزل الآن، بيتنا بعيد، واندفعت أجري نازلا على السلّم وأنا أسمع كمال يقول إنّ رمزي سيجيء بالمجلاّت حالا، ولم أردّ عليه، كنت أجري في شارع 12، أجري في شارع الكروم، أجري أعبر شارع التراموي، لا أتوقّف ولا آخذ نفسي، حتّى وجدت نفسي في فسحة السلالم داخل بيتنا، فوقفت وأنا أنهج، واكتشفت أنّني أضمّ كتبي إلى جنبيّ بشدّة، وأنّ الندم يضرب في عروقي كلّها. وكان كلّ شيء مستغلقا عليّ وغريبا وأريد أن أنساه."(47)
لاشكّ في أنّ هذا المشهد يمارس ضغطا على القارئ يتمثّل في تسريع متابعة الأحداث، تلك المتابعة التي تتحوّل إلى مشاهدة ما بالاعتماد على التعاضد الواضح بين السّرد من ناحية والأقوال من ناحية ثانية وتأثيث الأمكنة داخل المدرسة وخارجها على السطح وفي الشارع وفي البيت تأثيثا يشعرنا بتتالي ثلاث دوائر، كلّ دائرة تدفع بالأخرى في سلسلة مهتزّة ومربكة وعلى أساس تقاطع تقنيات أخرى هامّة مثل التقاط صورة البطل الهارب والصوت الذي يلاحقه من الخلف والإنارة والظلال والترافلينغ Travelling avant كما في تقدّم الممثّل في صعوده للسطح، تأخّر عين الكاميرا أو Travelling arrière كما في محاصرة الرّاوي لمّا وقف وهو ينهج، هذا عدا عن تقنية المشهد العريض Plan-large وهو في رفقة الأشرار، يدبّرون له المكيدة.
لقد تجنّبنا، ههنا، إطلاق تطوير دور الرّاوي باتّجاه اتّخاذه عينا للكاميرا لأهميّة أقوال الشخصيات التي شخّصتهم وحرّرت ذواتهم من قيده، وخاصة إذا ما تذكّرنا وقوع الشخصيات ضمن باب المفارقة بين الأفعال البريئة والأفعال الشرّيرة. ثمّ إنّ مفهوم عين الكاميرا يستتبع مسح ما هو ظاهري ولا يذهب إلى كشف الدواخل والغضون، ولهذا لا يعتبر الرّاوي، خاصة المختلط بمخرجه ـ المؤلّف ذريعة كافية للدلالة على تقنية مثل هذه دون ركائز سليمة أشرنا إلى ما هو مركزيّ فيها. إنّ هذا المشهد بما فيه من تفاصيل وما صاحبه من أسلوب يبئّر طور الصّغر، وهي مسألة وضّحها من زاوية الخطاب القصصي الروائي بطريقة مسهبة وضافية محمّد الخبوّ في أطروحته المميّزة" الخطاب القصصي في الرواية العربيّة المعاصرة"(48)، وذلك على مدى صفحات متتالية، وهو تبئير يلحّ على معنى الحفر في الزمن من حيث هو باب مُشرع على عوالم الرّوح وما مرّت به الشخصيّة في أطوارها المختلفات، وبما أنّ مسألة التبئير، كما نبّه الخبوّ ملتبسة، فنّيا، في علاقتها بالرّواية وفق ما سمّاه جيرار جينات Gérard Genette بالمقام السردي Situation narrative(49)، فإنّ مآل الكلام، حينئذ أنّ المشهديّة تتمظهر في إطار روائيّ بامتياز رغم مدخلاتها ومخرجاتها المراوغة وخذلان اللّغة لوضوح المعايير وصفاء الصيغ.
ونجد مشهدا آخر في السياق القصصي يطوّر الرّاوي باتّجاه اتّخاذه عين الكاميــــرا" عندما دخلـت، سمعت ثرثرة الستّات واللّغط والصيحات الناعمة والضحكات النسائيّة العاليــــــة، كانت أمّي عندها ضيوف جئن يهنّئن بالسلامة، ورأيت على كنبة الفسحة ملاءاتهنّ السوداء خلعنها ورمينها من غير نظام، وعلى" البوريه" كومة صغيرة من الأساور والحلقان والعقود والخواتم الذهبيّة. كانت الكومة الذهبيّة متهدّلة الخيوط والحلقات بعضها فوق بعض، تومض وتشعّ بخفوت"(70)، ثمّ يتطوّر هذا المشهد درجة بعد درجة نحو الأفعال إذ المضامين في توجيه الأمّ لآبنها وهي نافس محكومة بقوّة إنجازيه دفعت إلى أعمال إرشاديّة صيغت في إطار الأمر والحثّ والحضّ، ثمّ ، بعد ذلك، نحو الفعل المشخّص الذي يأتيه الرّاوي وهو فعل استخدمت اللّغة لتصويره زوايا متنوّعة اختلفت باختلاف المواقع والذوات المؤثّرة: الشرفة ـ الشارع ـ أمّ حسنيّة ـ روزا الخيّاطة الشامية الوحيدة ـ سماء الشارع حيث رمى الرّاوي بالصرّة التي فيها خلاص أخته لويزة.
ليس ثمّة شكّ، على هذا الأساس، في أنّ كادر الصورة يقع تحريفه خدمة لتطوّر الأحداث ونسج الدلالات التي تبلغ مجال الأسطوري، خاصة، في اللّحظة التي تغيب فيها الصرّة في السّماء وتتبخّر، وكأنّها قد رُفعت بطريقة ما. فهنا، تحديدا، يقع تطوير دور الرّاوي باتّجاه آخر في غاية الخطورة لمّا يصبح تعبيرا بوظائفه عن الجماعة المعتقدة، المالكة لتفكير ديني وطقسي، وبالتالي عوائد وممارسات محسوبة تلقى كلّ المراعاة والتقدير بوصفها طقوسا لها قداستها، الرّاوي مؤتمن عليها، ويستجيب الأمر لخطاب موجّه إلى جمهور متفرّج، جمهور يفهم تلك الممارسات في إطار المدينة المشتركة، البانوراميّة.
إنّ المؤثّرات في السياق القصصي موجودة وماثلة، بل هي محيلة على السينما في بناء المشاهد وتنسيقها، وفي أساليبها وتنويعاتها بما في ذلك ثلاث نقاط هامة، الأولى فيها إحالة مباشرة على الفيلم كما في حديث الرّاوي عن" شرائح م فيلم أسود أحبّها عليه صور متعاقبة لتوم ميكس على حصانه لا تكاد تتغيّر مع أنّه يجري"(50) "مجلّة اللّطائف المصوّرة"(51) وقوله "قد تعلّمت مرواح السينما"(52)، والثانية تقوم على مبدأ التوثيق أو التسجيلي، وهو عابر للرّواية من بدايتها إلى نهايتها من خلال أمثلة كـ" الريشة ذات السنّ النحاسيّة الرّفيعة التي تنزل منها فجأة قطرة مدوّرة من الحبر فتشعّع على الورق"(53) و"الجرامفون"(54) و" فطير الملاك"(55)و"السيرجة" و"الشوالات"(56) و"علب التوفي"(57) و"صورة أتاتورك"(58)، ثمّ تتطوّر هذه النزعة إلى مقاطع أكثر تعبيرا، فنقرأ" تخرّجت واشتغلت في المتحف اليوناني الروماني بعد فترة تعطّل طويلة وانخرطت في الحركة الثوريّة التي كان يتمخّض بها البلد ويمور، وطلعت في المظاهرات واشتركت في تنظيم الإضرابات وكوّنت خلايا سريّة، وكتبت بيانات وتحليلات ومنشورات، ودخلت المعتقلات، وخرجت منها ويئست من العمل السياسي، ومن الحبّ، ومن الحياة"(59)، ثمّ نقرأ في نفس الصفحة" وفي 11 فبراير1951 كنت أتوجّس من حملة البوليس التقليديّة علينا في ليلة الملاك عيد ميلاد الملك"(60)، وهذا يتقاطع مع مشاركة الخرّاط في الحركة الوطنيّة المصريّة في سنة 1946 ، وقد تعرّض للاعتقال في سنة 1948، خاصة في مروره على دخوله المعتقلات مرور الكرام.
هنا يظهر الرّوائيّ موسّعا في دائرة "الأنا" التي تمثّله لتصبح دائرة جماعيّة، اجتماعيّة، لكن مختلفة عن اجتماعيّة نجيب محفوظ، فتجربة المعتقل ليست تجربة فرديّة بالمرّة في دلالتها الأصيلة، وإنّما لها دلالة اجتماعيّة لمّا يفجّر المجتمع طاقته وينتدب أحدهم ليشقّ به جدار الصمت والخوف وليحفر في القلوب معنى جماعيّا، هو معنى الوطنيّة المتجلّية في نكران الذات ممارسة ورواية شاهدة لا تبجّحا واستعراضات رخيصة وأنانيّة ومغرورة.
ويبلغ من تنويع الكاتب في تقنياته أنّه يعتمد، وهذه هي النقطة الثالثة، ما يسمّى بـ"وجهة النظر الموضوعيّة" Le point de vue objectif، النادرة الاستعمال في الروايات، إنّه نوع من السّرد المنفصل، فهو يعزل وعي الشخصيّات، ويعرض علينا الحدث أو الأحداث من خارجها، إنّه أسلوب آلة التصوير التي لا تتخيّر، يقول الرّاوي "كانت صفوف متعاقبة من الناس تأتي إلى محطّة الترام في وسط الساحة، ملفّفة بالمعاطف الجلد والفرو والقماش السّميك، ورؤوسها مغطّاة بالقلابق والشابكات، ألوانها كلّها قاتمة. ويتدفّق الناس، ويركبون، صامتين، كلّ مهموم بنفسه، أيديهم مدفونة بعمق في جيوبهم أو مكفّنة بالقفافيز الغليظة، والترام يمضي بهم، كبيرا أصفر اللّون يتأرجح، وأسمع من وراء الزجاج الثقيل قلقلة عجلاته وصراخها الحادّ في الدوران. والثلج قد تجمّد بكتلته الصّلبة اللّينة الشكل مع ذلك، لونه شاحب تحت نور مصابيح المغنسيوم في الشارع بصفرته الحادّة، دوائر النور الأصفر على أفاريز المباني القاتمة العريقة وأعمدتها المنحوتة في الحيطان المتينة الحجر، وعلى أغصان الأشجار الرفيعة المسنّنة بجذورها السوداء كأنّها محروقة من الشتاء"(61).
مثل هذه التقنيات تفرض نفسها بنفسها إذ تملك قدرة المحوّل من مقام إلى مقام، من القراءة المتأمّلة إلى المشاهدة مع التأمّل، وهي مسألة طرحها نقّاد كثيرون وسبّبت خلافات في وجهات النظر كما أغنت القصص بشكل كبير وأوجدت "تداخل الخطاب القصصي والخطاب السينمائيّ" بعبارة محمّد آيت ميهوب في دراسة بسط فيها أمثلة تخيّرها لتبيان توظيف التقنية السينمائيّة في الرّواية والقصّة القصيرة(62).
4 ـ استراتجيّات العروض:
إنّ تمظهرات السينما في "ترابها زعفران" هي التي تمكّن من المرور إلى طرح إمكانيات العروض، وذلك، بالطبع، بالاستناد إلى تقنيات السينما وأساليبها وتنويعاتها وتلاوينها ومراوغاتها خلال الخطاب القصصي المعدّ، أصلا، للقراءة. ويمكّننا مفهوم الاستجيّة Staégie، الكامن في كلمة محوّلة في أساسها عن الإغريقيّة من محاولة الإحاطة بالعُروض، لا من حيث كينونتها وصورها، بل من زاوية تطبيقها روائيّا أو روائيّا وسيريّا Autobiographique، ومن ثمّ قيادتها إلى نوع من التعرّف وفق تنسيق معيّن في مسرح المشاهدة على محمل مقروء لكنّه مالك لسمة تمييزيّة سبق ذكرها، وهي سمة الليونة، بحيث يمكن تحويل القراءة إلى مشاهدة وقلب القارئ إلى مشاهد خاص والكلمات إلى إشارات والمرجعي بأشيائه وذواته إلى كينونة بمعنى المعيش. ويحفّز مثل هذا التمشّي على البحث في المغزى، وهو مبدأ في غاية الأهميّة تفسيريّا وجماليّا، ما الذي جعل الخرّاط يقفز في هذا المعترك، بالطبع خارج تصريحاته، عسى أن نظفر بما يحلّ الألغاز المعلّقة أعلى الباب؟ لماذا تلاحقنا السينما بحُقنها في جنس مكتوب؟ هل تغيّرت الحياة بازدهار الصورة السينمائيّة في اتّجاهات أخرى إلى درجة هذا الميلان الظاهر الشبيه بميلان الشمس من الشرق وهي تتوجّه إلى مواقع أخرى في الطريق نحو غروبها؟ يمكننا اعتبار هذه الأسئلة محوريّة لأنّها، ببساطة، تحفّز على التقدّم في المسألة، وتنقّر على أساس من المنطق المشروع.
لاشكّ في أهميّة الطرح بأسئلته المعلنة والمضمرة ومثيراته، غير أنّ هذه الأهميّة لا تنحصر في جانبها النظري Théorique بالرغم من قيمته، وإنّما تمتدّ وتظهر أكثر في مباشرة ما سبق في" ترابها زعفران"، إذ أنّ تقليب الصفحات يفضي، باستمرار وكلّما تقدّمنا، إلى عروض كثيرة قدّرنا أنّها يمكن أن تتمحور على محورين رئيسين محور عروض الجسد، ولنتذكّر ههنا أنّ الذاكرة مُتموقعة فيه في صورة الأحاسيس والمشاعر ومنطق المراوغة والانتقالات، ومحور المرجعي بأمكنته وأزمنته.
4 ـ 1 ـ عُروض الجسد:
يستدعي الأمر بكلّ تأكيد التركيز إلى ما تثيره العروض من إثارة، ويتحدّد الاشتغال السينمائي، هنا، بمختلف تمظهراتها على صور فعليّة مؤطّرة، خارجة عن مجال التماثل بسبب خاصيّة اللّغة الرّوائيّة المستخدمة بوصفها لغة جماليّة إلى حدّ التصوير بما تضمّنته من تقنيات وأساليب. وبالفعل فإنّ مجال الصورة حسب ج. ج. بتود J. J. Botaud تتجاوز ارتباطها بما هو لساني في الأصل إلى منطقة الإدراك والتعرّف، وذلك خاصة من خلال إحالاتها الواقعيّة المقصودة المضمّنة في خطاب يستهدف بدلالته مقاصد محدّدة، كامنة في السياق القصصي، ومن هنا، فإنّ صورة الجسد في العروض باختلافها عن التقطيع المزدوج المصبوغ به اللّسان مميّزة، ولذلك فهي عروض تتوثّب بشكل من الأشكال، وهي سمة سينمائيّة، إلى المباشرة في سياق أكبر هو السياق الرّوائي الكبير ربّما بطابعها التسجيلي الذي لا يقاوم الذي يقود إلى جملة نقاط رسوّ آمنة في معترك ضبابي.
إنّ عروض الجسد في "ترابها زعفران" تتّخذ من المرأة موضوعا رئيسا لها، وهي تُفهم بتواتر مثير في إطار ثنائيّة التواصل، فالانفصال. وتقوم العمليّة، ههنا بالأساس، على قاعدة عرض المرأة عرضا يمرّ من العام إلى الحميميّ ومن الحياة إلى الموت المزلزل، يقول الرّاوي" كانت حسنيّة، في الأوّل، تومئ برأسها، على سبيل التحيّة، فأجري أصعد السلالم ووجهي أحسّه ممتلئا بالدم لا أعرف إن كنت قد رددت عليها التحيّة أم هربت"(63)، ثمّ يطوّر المشهد هذه العلاقة ليدلف به الرّكن الحميمي لنقرأ على سبيل المواصلة" وفي مرّة أشارت إليّ تدعوني بإصبعها، برفق، فخطوت إليها متردّدا ووقفت خارج باب شقّتها. وكانت في قميصها الواسع القصير، من نسيج حريريّ أبيض له وبرة ناعمة ممسوحة من القدم وكثرة اللّبس.
قالت لي: تعالى يا حبيبي، تعال .. وفجأة مدّت ذراعها الرّفيعة وضمّت رأسي إليـها، ووقع وجهي تحت ثديها الحرّ الذي أحسسته لدنا ومتماسكا وصغيرا وضغطت رأسي إلى أضلاع صدرها اليابسة ... وأفلتّ منها، وقلبي يدقّ"(64)، ليحدث بعد ذلك الانفصال بين الرّاوي وحسنيّة وترتسم في خواطره "حسنيّة المقهورة الحنون"(65)، لقد انزلقت خارج حياته ليفهم حكايتها، بعد ذلك، على ألسنة الطلبة وأنّها كانت تستقبلهم في مغامراتهم السريّة. لقد حاول الرّاوي الطفل أن يبني كينونة خاصة وجوهريّة حول شخصيّة حسنيّة رغم خوفه البريء، إلا أنّ التقدّم في الأحداث كشف أنّ الحياة النفسيّة جزء من الحياة الاجتماعيّة، وإذا كانت الحقيقة الأولى تسمها بميسم ما هو العشق عند الرّاوي الغرّ، فإنّ المجتمع يلوّن العلاقة بكشف الزوايا الأربعة وتعرية الكائن من منظره الغامض من خلال الاحتكاك بالآخرين في محيط التجربة.
وهكذا يصبح هذا الخطّ التصاعدي هو نفسه خطّ التعرّف، فالقضيّة معرفيّة بالأساس لها خاصيات متباينة، خلفيّة الطفل المرتبك وخلفيّة الصبيّ التلميذ المحنّك بشقاوة المغامرين وخلفيّة الشاب الذي يعتريه الندم على زلاّت الماضي، وقبل ذلك وبعده، خلفيّة الرّاوي المركّب من كلّ هؤلاء المنفصل عن ذاته، المتّصل بها إلى الدرجة التي لا ندرك معها هل هو الذي يعرض لنا المشاهد أم هي المشاهد، مشاهد الجسد المعروضة لمّا يتفرّسها تفرّسا ويلتئم بها، ثمّ يحزن عليها فلا يجد له في نهاية الفصول سوى الغوص على أحلام تغلب عليها التصوّرات والأوهام، والجامع بينها الانشداد إلى الأنثى الشبيه بتمسّك الغريق بالحياة "مياه كثيرة لا تُغرق عشقي، والسيول لا تغمره. صخرة ناعمة الحنايا أنت في قلب الطوفان، سفوحها ناعمة غضّة بالزروع اليانعة، بالسوسن والبيلسان، ترابها زعفران، خصب وحيّ، ترفّ عليها حمامة سوداء جناحاها مبسوطان حتّى النهاية، لا تكفّ رفرفتها في قلبي."(66)، ثمّ نقرأ في موقع آخر، وكلّها نهايات فصول "وأعرف أنّ الظلال السوداء عندئذ، سوف ترفرف عليّ، وتسقط، من السماء الخاوية. لماذا أنثر حبّات قلبي على الرّمال، تحت أقدام العابرين، من سوف يلتقطها؟ وماذا سيفعل بها؟"(67)، ثمّ نقرأ في موضع آخر "خفق قلبي، وتوقّف، من هي؟ هل هي أخت لها صغيرة لم أرها من قبل؟ كنت موقنا أنّها هي، هي، أم هي الأخرى التي سوف أعشقها وأفتقدها."(68)
هذا التطوير مهمّ جدّا من الأنثى المرئيّة بلسانها وجسدها إلى أنثى أخرى غير معيّنة، مصبوغة بنظرة رُوحيّة تسكن في الدّاخل أكثر ممّا تسكن في الخارج؛ وكأنّ الأنثى التي يدمّرها الواقع الاجتماعي في دائرة من دوائر جحيمه، تسترجعها الذات الحالمة بطريقتها، وتجعلها نقطة تسكن منها الصّميم تحت غيمة سوداء أو في شكل غربان سوداء أو ظلال سوداء قد تمطر الموت في أيّة لحظة ليعصف بالكينونة ذاتها بما فيها ومن عليها. هل هي، إذن، عروض الجسد المختارة بعناية ليُكنّي عن الحياة الوديعة الحالمة في تأرجحها بين نقطة الضوء ونقطة الظلام أو بين إمكان العشق الذي تؤلّفه وقبر الموت الذي تبنيه كما يتّضح ذلك مع فاجعة رانة صاحبة اللّوكاندة، يقول الرّاوي "صعدت السلالم جريا، وفي الدور الثالث رأينا بابا مفتوحا بالقرب من غرفة ابن عمّتي بقطر، وعرفت أنّه باب غرفتها، واندفعت إليه، ورأيت ضابطا بنجمة وتاج يقف في الغرفة مع اثنين من المخبرين، وكانت الغرفة مزدحمة .. وعندما اندفعت إلى الداخل من بينهم جميعا، وقبل أن يمسكني أحد، رأيتها على السّرير، كانت مغطّاة بملاءة بيضاء، عليها بقع الدم، داكنة، ترشح ببطء وتتّسع في مواقع مختلفة عند الصدر والبطن."(69)
إنّ الرّواية، هنا، تقول الجريمة وتصوّرها في انقضاضها على الأنثى، وهو معنى يتطوّر كما رأينا في الرواية ليشمل الإسكندريّة أو غيط العنب" لأنّ العالم غيط العنب"(70). وهذه الإسكندريّة قد تُفقد في حال لم تسعفها الذاكرة وتجذبها إلى هنا، إلى الحاضر عند المشاهد/ القارئ أو القارئ/ المشاهد واقعا مسجّلا وحلما، نثرا وشعرا. ولكن لم تجسّد المرأة، هكذا، مندحرة عن مواقع البهجة؟ ولم ينتهكها المجتمع في صور مختلفة، فرديّة وجماعيّة؟ ولم يحاصر نورها في جمرة الجحيم؟ لكأنّ البهجة عند الأنثى نواة مشقّقة تندثر بسهولة وتنكسر لمجرّد أنّها أنثى في مجتمع ظالم، يدّعي الرجولة والمروءة بينما كان المستعمر يُنيخ عليه بنزواته، يقول الرّاوي في تصوير مشهديّ يعرض جانبا من الحقيقة المعيشة "لمحت بنتين أو ثلاثا من سنّها (بنت سابقة) أو أكبر قليلا، كأنّهنّ أسماك ملوّنة داخل أكواريوم زجاجي منير، في درجات متراوحة من العري، جالسات بصمت وانكسار على كنبة اسطمبولي طويلة، ناحلات، مسوخ صغيرة مزوّقة ببذاءة"(71).
لا يمكّن هذا سوى من كشف تشوّهات المرأة في مقام أوّل، فهي لا تزيد عن كونها مسوخا، وأنّها، في مقام ثان، تُعرض على صعيد مادّي محض بما يعني أنّها مشيّـأة، وتظهر لنا، بالتالي، جملة من الأحكام التقويميّة ذات القيمة المضاعفة من حيث تبيانها لأثر التلفّظ المعبّر عن الرّاوي، ويتعيّن ذلك في نعت البنات بالمسوخ الصغيرة والمزوّقة، وكذا في إلحاق الحال" ببذاءة" بهنّ، فسحق المرأة أودى بها إلى درجة دنيا من القبح مشوّه للواقع ذاته أدّت إلى فقدانها معنى الحياة، فالعرض، هنا، يجسّد الذوات ضمن استراتجيّة شقّ الأكمام عن المصير المأساوي، الدامي، الفاجع بحمرة الدم الصادمة، ثمّ ضمن استرتجيّة أخرى أعمق تنهض على فضح حقيقتها الخاوية. ويبدو التنسيق واضحا بين الاستراتجيتين في الاتّحاد بهما في نقطة واحدة تتجلّى فيها مرارة الحياة بالموت تارة وفقدان الروح ثانية، ولابدّ أنّ قول الرّاوي على سبيل المثال لا الحصر" أحسست بموسيقى الموت البطيء"(72)الذي يزحف باستمرار على جسد الأنثى والإسكندريّة واقعة في حقله الأكبر تعبيرا عن الحزن الثقيل أو كشف المآلات السوداء وهي تتربّص بالشخصيات النسويّة.
4 ـ 2 ـ عروض المرجعي الأكروباتي:
إنّ "ترابها زعفران" تطرح جملة من المسائل في هذا السياق، وهي، بطبيعة الحال، مسائل متعلّقة بالأزمنة، ثمّ هي متعلّقة بالأمكنة أو الأفضية، كيف يتمّ عرضها؟ كيف تؤطّر؟ كيف يقع التنسيق بينها في كتابة مخاتلة، مقنّعة أحيانا بالسيرذاتي وأحيانا بالرّوائي، قافزة بين ضميرين حابكين للعبة ضمير الأنا والهو اللّذين يؤلّفان معا في جملة السياق القصصي عيني أنا القارئ وعيون القرّاء.
4 ـ 2 ـ 1ـ المكان:
نجد أنفسنا في مستوى الأمكنة حيال منظومة فضائيّة معقّدة، واحدة مصرّح بها، والأخرى مضمّنة ومُتستّر عليها. ومعنى ذلك أنّ الرّواية، كما سمّيت، تعتمد بفضل لغتها الشعريّة على الإيحاء والإيماء، خاصّة في مقاطع الحلم والخيال، يقول الرّاوي" في الآخر، استيقظ دفعة واحدة، السماء صحو وليس فيها شمس ولا قمر، وسحابها شفّاف وثقيل. كان جسمها الخمري العاري، بكلّ بضاضته، ممشوقا مع ذلك كالسيف وناعما كأنّه موجة عالية وثابتة، أمام النافذة، شرائح حصيرة النافذة المسدلة يتسلّل منها نور الغمر، مشاعا، ليس فيه حدّة، كأنّه سائل لبنيّ اللّون ورقراق، وصوت الماء يأتي من وراء الحجر السميك، خافتا، رغوته خفيفة، والهواء الملحيّ يملأ صدره، والعالم منفيّ وكأنّه غير موجود."(73)
أليست هذه الإسكندريّة المبنيّة من داخل القصّ؟ أليست هذه الإسكندريّة التي يبني الخطاب في الرّواية صورتها المشفّرة بنبض الاستعارة لتكون الفضاء المميّز بطبيعته الخلاّقة إذ سماؤها صاحية بلا شمس ولا قمر؟ أليست هذه المدينة الكاملة كالفرس الكامل، بصورة من الصور، في قصيدة امرئ القيس؟ أليست هذه المدينة/ الأنثى الجامحة بين الشــــيء وضديده، بين السيف الصقيل القاتل من جهة، ولنتذكّر المقتولين والمغدورين في المدينة ومنهم صاحبة اللّوكاندة وحسنيّة والمعذّبين والمعذّبات وفي مقدّمتهم أمّ الرّاوي وغيرهـــــــــــم(74)، واللّيونة المخصّبة في الأمّ والماء أو بين السكون والصوت من جهة ثانية؟
ولا يلبث هذا الفضاء المعروف في صورته السّابقة بلغة حالمة، وفيها بذرة الوعي بالألـــــم، أن تنشطر إلى حلقات من الأفضية والأمكنة متنوّعة وملوّنة ومؤطّرة، لننتقل من شارع راغب باشا إلى البحر إلى شارع التراموي إلى المنشية والحارة بميدانها والمحطّة التي حوصر فيها النحّاس باشا بأسلحة الإنجليز وقبل ذلك وبعده غيط العنب، مرادف العالم وقلب الإسكندريّة أو قلب الرّاوي النابض. وتبدو الأفضية في المدينة فاعلة، بل جارحة" قال: لم أكن أعرف أنّ البكاء على الأطلال موجع بهذا الشكل"(75). إنّها، أي تلك الأمكنة والأفضية، تحرّك مثل محرّك قويّ تماما ماذا؟ "أطلال الطفولة والصّبا والشباب التي تقوّضت"(76)، ولهذا يلوذ بها الـــــــرّاوي، فهي الملجأ يأوي إليه مقصوف القلب، معنّى الفؤاد، غير أنّه لابدّ من الانتباه إلى قول الرّاوي "تركنا البيت الذي في شارع 12 أمام وابور الدّقيق بالقرب من الكركـــون، عندما دخلت مدرسة النيل الابتدائيّة من أربع سنين، وانتقلنا إلى بيت شارع الكروم أمام الاصطبل قريبا من ترعة المحموديّة، مخصوصا لأنّ المدرسة كانت في الشارع نفسه"(77).
ونلاحظ أنّ محرّك الأفضية لا تنحصر قيمته في ما هو روحي، وإنّما يندرج اندراجا في تكوين الشخصيّة الرّاوية والمرويّة في" ترابها زعفران" في شتّى الأبعاد النفسيّة والمعرفيّة والثقافيّة والحضاريّة والعلميّة والاجتماعيّة والسياسيّة. فالأفضية، هنا، هي التي تعرض الشخصيّة رغم أنّ اللغة توهم، أحيانا، بعكس ذلك، فتدقيق شارع الكروم على أساس قربه من الاصطبل ومن ترعة المحموديّة ومن المدرسة يجعل الفضاء قائدا لا مجرّد موضع. إنّ هذا الفضاء، نظرا لتغيّراته ووظائفه السابقة وتلاوينه، يصبح بطريقة ما أكروباتيّا Acrobatique لأنّه ببساطة يطلق تبعاته في اتّجاهات تحفظ التوازن كالشقلباتLes sauts périlleux الرّشيقة، المؤاتية في اللّحظة المناسبة. ويتوسّع الفضاء إلى الريف والصعيد وإلى الطرنة أرض الجدّ ساويرس، غير أنّ المهمّ، هنا، أنّ الإسكندريّة المركزيّة لها خلفيّة صعيديّة واضحة قبطيّة تفاعلت مع غيرها، وحقّقت مقولة العيش المشترك إلى درجة اختلاط العادات عند الصّغار من خلال الفرحة بالمباهج الدينيّة والتزاور والتوادّ، ولها واجهة أماميّة تلطم فيها الأمواج أو تسكن هي واجهة البحر المعاقر للرمل والمشتبك بالصخر.
وتتنوّع الأمكنة، فهي عامة ككازينو غيط العنب والمخزن في المينا ووابور الدّقيق والمدرسة والبار أو حميميّة ويشمل هذا الجانب جميع البيوت، ونخصّ بالذكر، هنا، البيوت التي سكنها الرّاوي وتنقّل بينها من فترة إلى أخرى بشوارعها المختلفات. والمهمّ أنّ البيت يكشف تكوين الشخصيّة ويضيئها لأنّه يعرض في مواضع رفعة الأسرة" .. وقضى رفلة أفندي ( أي ابن عمّة الرّاوي) سنوات طويلة مدرّسا للجبر والهندسة ... وعندما كان يزورنا على العشاء في بيتنا في غيط العنب كنت أسهر معهم على المائدة الطويلة الحافلة، قرصها الرّخامي البنّي المجزّع مغطّى بمفرس أبيض سميك ومكوي ومحمّل بالأطايب التي كانت أمّي تعدّها"(78)، ثمّ إذا بنا في مكان آخر هو بيت عبده في محرّم بك" بحثا عن شقّة إيجارها أرخص"(79)، ونلفي أسرة الرّاوي تنحدر إلى الحاجة" قالت له (أمّ الرّاوي) أن يذهب إلى محلّ الرّهوناتي الذي في آخر شارع محرّم بك...قال لها: آخذ كام؟ قالت: اللّي يدّيهولك، وحوّلت عنه وجهها"(80).
هذه حال الأسرة بعد موت الأب وتقلّب الزمن، ومن جهة أخرى فإنّ الرّاوي يكتشف في البيت نفسه من خلال الآخرين، يكتشف ما هو سرّي "سمع في صمت النوم الثقيل، الصوت الخشن، هامسا ملحّا. وحفيف الأغطية والملاءات، تتحرّك، ولم يكن يرى شيئا. وجاء الصوت الخافت، فيه تمرّد، حارّ النبرة: لأ.. لأ.. مش عايزه.. لأ"(81)، فالأماكن، عموما، والبيوت، خصوصا، تعرض الشخصيّة عرضا بانوراميّا منوّعا في اتّجاهات مختلفة، ما فوق السطح، المرئيّ والمسموع، وما تحت السطح، المهموس والمحشرج.
4 ـ 2 ـ 2ـ الزمن:
لعبة الزمن عند الخرّاط مركّبة جدّا، ففي حين يوحي ضمير الأنا بأنّ الرّاوي معبّر عن الكاتب، يتتبّع أطوار حياته بدءا بالأبعد وصولا إلى الأقرب، نجد الأمر على نقيض ذلك، إذ أنّ السياق القصصي يعرض وجوه زمنيّة ليس فقط غير منتظمة، وإنّما مبنيّة على قلب الأزمنة المنشأة من داخل الكتابة والتلاعب بها. فالرّاوي يبدأ صغيرا، غرّا يتشبّث بخشب العربة خوفا ورهبة والسائس على جانبه(82)، ويُنهي صغيرا في أوّل الفصل الأخير الموسوم بـ"رفرفة الحمام المشتعل" قائلا "كان الطفل يجري إلى بيت أم توتو < الجريجية> في تقاطع شارعي البان والنرجس، كأنّه يلوذ بمكان مسحور"(83) مراوحا في الرّواية بين الأنا والهو، فهذه دورة تامة، ناضحة بالطفولة وكأنّنا بالدلالة تحوم حول هذا المعنى الذي هو طور محكيّ الطفولة وطور الطفولة المتخيّلة المبتدعة، فلا ندري أيتعلّق الأمر بكتابة مرجعيّة أم بأخرى حالمة وثائرة.
إنّ المسألة أعمق ممّا يبدو، هل يتحكّم الأنا في ماضيه فيستطيع ملء فراغاته؟ هل يجرؤ على التعرية، تعرية تامة، غير راضخة بالمرّة؟ وهل يتحكّم الرّاوي في تلفّظه المتعلّق بالهو طفلا وصبيّا وكهلا في خياله وجنوحه اللّغوي؟ كأنّنا بالأزمنة وهي تتنقّل من أطرها وتبتعد عن القرينة الهادئة لا تراوح فقط بين التاريخ والواقع المرجعي ذي التلاوين النفسيّة، بل هي تطفر إلى درجة أعلى تجعل منها استعراضيّة من ناحيتين: الأولى راجعة إلى تمرّدها، فهي تمحو الثبات وتحاول قدر استطاعتها إضاءة العلامات المُشينة، والثانية أنّها تتشكّل باستمرار، أي تتّخذ أبعادا هنا وهناك لتجلب الانتباه وتلوي إليها، بعبارة القدامى، الأعناق. وكأنّنا بالخرّاط يبرهن على أنّه متورّط عبر ممثّله في النصوص في الرّواية والمرويّ كلاهما، إلاّ أنّ الكتابة وقد وسمت أجناسيّا بأنّها رواية تعمّق نفسها بكسر شوكة السيرذاتي عبر الإطاحة بالترتيب المرجعي وأطوار الحياة المتتابعة والمتسلسلة وتخرج عن زمن الفرد إلى أزمنة الحلم وأزمنة تاريخيّة عجائبيّة Fantastique، تحاول مراوغتنا بضمير الأنــــا ، بينما هي سباحة حرّة لا رادع لها في المتخيّل الكبير" وعندما عدت تجوّلت في شوارع بغداد متنكّرا مع هارون الرّشيد، وسمعت شجو الأغاني مع الموصليّ وبراعة القريض، وروّعتني فاجعة البرامكة، وأحسست عنقي في يد مسرور السيّاف وذراعيّ ورجليّ مقيّدة بالكلاليب والجنازير، وصارعت الأحناش والتنانين وفتحت الكنز المرصود عن ذهب وماس ولؤلؤ منثور..."(84)، فإذا بالاستذكار، حينئذ، ليس سوى قناع يضعه المتلفّظ على وجهه، فهو مجهول الهُويّة تحاول المشاهد تبيّنه وتوضّحه فيما هي تعميّه من خلال أرجوحة زمنيّة لا يقرّ لها قرار، فهل نحن حيال هذا المستذكر لذاته أم المتخيّل المستذكر؟ أفلا تتحوّل القصص إلى دوران في الزمن لها مغزى في زاوية من الزوايا تنعقد على بهلوانيّة الحياة في حدّ ذاتها؟ ألا تجذب الإشارات، وما أكثرها!!، إلى جدوى العروض وكأنّها المكتوب المرئيّ المنقذ من العماء.
5 ـ اللّغة المفتوحة ومقعد القارئ المشاهد:
لا يمكن تحديد وصف معيّن يتعلّق بما تعنيه عبارة اللّغة المفتوحة، ولكنّ اللّغة المُعيّنة، هي على كلّ حال، اللّغة الرّوائيّة ليس بوصفها عجينة تحبكها أصابع الرّاوي، بل بوصفها عوالم غائرة بالدلالة والمعاني. وهي بفضل ذلك، وهذا مهمّ جدّا في السياق القصصي الذي إليه ينضوي فنّ الرّواية، معين خصب محكوم بوجهة نظر وبتأويلات لها ركائز وأدلّة. ما يجلب الانتباه ويجذب إلى الدّرس والتحليل أنّ انفتاح اللّغة سليل ذلك المعين الذي أسهب في تقصّيه الناقد والمخرج هاشم النحّاس باتّخاذه على ذلك الدلائل والوقائع والأمثلة قائلا في تمهيده لمقالة بعنوان [نجيب محفوظ وتأثيره في السينما المصريّة]: "لا تقلّ أهميّة وجود نجيب محفوظ في السينما عن أهميّة وجوده في أدبنا المعاصر، بل لعلّ وجوده في السينما يفوق أهميّة وجوده في الأدب من عدّة نواح"(85). ولا أريد أن أذكر هنا أمثلة أخرى لا حصر لها على طول العالم وعرضه، ولكنّني أردت أن أختار مثالا بارزا في ثقافتنا العربيّة يعيد تقييم مفهوم الاستقبال ذاته، هل هي فقط مظلّة المصطلح، وهو يعبّر عن التحوّل من الكاتب إلى القارئ، ومن السارد إلى المسرود له؟ هذا هو السؤال المدوّخ خصوصا إذا وضعنا في اعتبارنا تمظهرات السينما في "ترابها زعفران".
يبدو أنّ تلك المظلّة قد مكّنت في مثالنا وفي مستوى القراءة من التحوّل من مقعد القارئ إلى مقعد القارئ/ المشاهد، وعلى هذا الأساس أهّلت الكتابة بشاكلتها هذه لدور جديد يؤسّس قاعدة تفاعل متينة بين مشاهد/ عروض النصّ، إذ يقع تجريب الأدوات في نفس الوقت الذي فيه يقع التعريف بالخلفيّة الثقافيّة أدواته. وليس هذا بغريب على إدوار الخرّاط في مسيرته سواء من خارجها بالرجوع إلى تكوينه الموسوعي ومواهبه واطّلاعه الأجناسي الواسع واللّغوي الواسع أو من داخلها، فالصوغ اللّغوي يفرض علينا الانزلاق إلى الموقع الذي منه تتحدّد كينونة الجسد البائنة في التأكيد على الظرفيّة المكانية والزمانيّة معا، وهي لا تنحصر في ضربة الرسّام المُنهية للعمل، وإنّما تتجلّى على كادر الكاميرا لتثير بتعيين الأشياء، هكذا، مجسّدة وإضاءتها في دائرة إشاريّة واضحة تمام الوضوح تتجاوز الصوت وإن كانت هي البنية الأصليّة بل الشرعيّة.ولا أريد أن أعرّج، هنا، على أمثلة مثل رواية أبنية متطايرة وغيرها، ذلك أنّ الخرّاط المولود في 16 مارس 1926 بالإسكندريّة والفائز، أيضا، بجائزة النيل للآداب قد أمعن في تأسيس تيّار الكتابة المفتوحة.
إنّ اللّغة المفتوحة عند كثيرين ليست سوى انتقال من عالم الخطاب القصصي الرّوائي إلى عالم الخطاب السينمائي المرئي، ويظهر ذلك في تحوّل الكاتب إلى سيناريست أو اجتزاء المخرجين الأعمال الروائيّة والخوض بظلالها في عالم العروض الواسع المغزى، غير أنّ الأمر في مثال الكتابة الجماليّة المراهنة على التمظهر السينمائيّ لا ينعقد على التلوّن بلون جديد، وإنّما على توسيع مجال التقبّل ذاته، وذلك بالإلحاح على السماح بظهور الشخصيّة المحنّكة التي تعرض نفسها بنفسها.
إنّ ما سبق لا يحجب أسئلة كثيرة تطرح نفسها في أبعاد متعدّدة، فلئن أرجعت النصوص الواقع غُركيّه أي مُرّه وحلوه إلى الفضاء/ المكان/ الإسكندريّة المرأة والمدينة، فلم بدا المتلفّظ في أحلامه على عكس ما باحت به الوقائع انقلابيّا على نفسه، فهو، تحديدا، لا يرجع للمرأة خطيئة الإنسان المكتوبة على جبينه، وكأنّها كائن لا يتشظّى بصخرة الحياة، يقول الرّاوي "كانت حسنيّة مرميّة تحت سنابك الخيل الحديديّة التي تطأ عظام صدرها وعيناها مسدّدتان إليّ من الأرض، صلبتين، وينسكب منهما حنان صامت لا أريده"(86)، أم تراها هذه هي المرأة المقهورة، المدفوعة إلى حدّ السيف وأنشوطة التردّي في مجتمع شرقيّ الذّكر فيه بطل بقدر ما هو مغامر أو هو، على الأرجح، يخبز عجينة المرأة بسلطته القاهرة وبالدم إن لزم الأمر.
باحث تونسي
الهوامش والإحالات:
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، دار الآداب، ط2، بيروت 1991.
- M- Bruce Morrissette , Problèmes du Roman Cinématographique, Chaier de L’association Internationale Des études française :20, pp :275- 289, Année1968 .
- ألبرتو مورافيا، الاحتقار، دون ذكر المترجم، دار الآداب، ط4، بيروت1994.
- لوي دي جانيتي، فهم السينما، ترجمة جعفر علي، منشورات عيون، المغرب، دون تاريخ.
- حسن لشكر، الرواية العربيّة والفنون السمعيّة البصريّة، كتاب المجلّة العربيّة، عدد169، الرياض، ص17.
- م، ن، ص59.
- إيمانويل فريس وبرنار موراليس، قضايا أدبيّة عامة، ترجمة لطيف زيتوني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت2004، ص33.
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، ص5
- م، ن، ص، ن.
- هي رواية كتبها جون بول سارتر وصدرت في سنة1947 احتجّ بها بروس موريسيت على الرّواية المعدّة خصّيصا للسينما.
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، ص5
- محمّد الخبوّ، الخطاب القصصي في الرواية العربيّة المعاصرة( دكتوراه دولة في اللّغة والآداب العربيّة)، نشر جامعة صفاقس بالاشتراك مع دار صامد للنشر والتوزيع، تونس2003 ، ص438.
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، ص-ص109. 110.
- محمّد الخبوّ، الخطاب القصصي في الرواية العربية المعاصرة، ص438.
- إدار الخرّاط، ترابها زعفران، ص6.
- م، ن، ص23.
- م، ن، ص43.
- م، ن، ص57.
- م، ن، تشمل هذه الرحلة الصفحات77. 78. 79. 80. 81. ليتشكّل ضمنها الرّاوي بوصفه بطلا من أبطالها، فالإنشاء يقود هنا إلى أنّ من بين أعلام ألف ليلة وليلة القدامى علم آخر أخذ فجأة يحضر في الزمن السّحيق في عبور مذهل على تقاطعات ثقافيّة لا يمكن حصرها.
- م، ن، ص51.
- يرى أبراهام مول أنّ العمل الفنّي معقّد جدّا في كتابه Theory and Esthetic Perception ، والنقطة المهمّة في سياقنا أنّه يفرّق بين دلالة اللّفظ القابلة للنقل والدلالة الجماليّة الأعمق، وهي تفترض التقاء بين المتلفّظ والمتلقّي في منطقة يتعايشان فيها في إطار شبيه بالكينونة الحقيقيّة لا المنقولة.
- كتب بروس موريسيت في كرّاسات الجمعيّة العالميّة للدراسات الفرنسيّة" Les rapports les plus fondamentalaux entre cinéma et roman, et qu’il éclaire de façon nette la possibilité d’un champ unifié de perspectives sur les structures fictionnelles qui se retrouvent dans les romans et dans les films, naturellement, toute recherche de ce genre doit reconaitre d’emblée certaines sepécificités des deux arts( images, sons, mots et phrases) et doit eviter de tomber dans le piège d’une assimilation totale des deux genres" P276 .
- محمّد شعير، مقال بعنوان" في مناقشات مؤتمر الرّواية: لايوجد رواية جديدة..هناك ملل من الأشكال القديمة"، مجلّة أخبار الأدب بتاريخ24/ 02/ 2008، ص5.
- م،ن، ص، ن.
- يراجع في هذا الشأن:- Jean- paul satre, Psychologie phénoménologique de l’imagination, Bibliothèque des ideés . Gallimard , Paris, 1940 .
- – M. Bruce Morrissette, Problémes du roman cinématographique.
و يقول في شأن اشتباك الرّوائي بالسينمائيّ التالي" Les romanciers comme Robbe-Grillet et Claude Simon insisteront sur l’exemple du cinéma pour renforcer leurs théories sur la nécessité de cette justification. Simon est le plus explicite encore que Robbe Grillet à cet égard l’orsqu’il écrit : Il est certain que la photographie et le cinéma ont modifié radicalement chez chacun de nous( le nouveaux romanciers) la façon dont il appréhende le monde. P : 279 .
- ثمّة قواميس مهمّة تختصّ بالمصطلحات الأدبيّة ترى أنّ الدراما هي عمل أدبي مكتوب بطريقة الحوار من أجل التمثيل .
- هاشم النحّاس، دراسة بعنوان" نجيب محفوظ وتأثيره في السينما المصريّة" مجلّة الوحدة، الرباط، السنة الخامسة، العدد60، سبتمبر1989، ص154.
- إدوار الخرّاط، عمود بعنوان " إلى سامي علي"، أخبار الأدب المصريّة، عدد311، يونيو1999، ص13.
- م،ن، ص، ن.
- قاسم حول(مخرج عراقي) دراسة بعنوان" اللّون في السينما والتلفزيون والنهايات السعيدة في السينما، مجلّة نزوى العٌمانيّة، العدد40، أكتوبر2008، ص108.
- م، ن، ص 108.(من المفيد التذكير، هنا، بما جاء في دراسة المخرج قاسم حول. )
- مجموعة من المؤلّفين، تاريخ الآداب الأوروبيّة، ترجمة صباح الجهيم، منشورات الهيئة العامة للكتاب، دمشق2013، ص18.
- لوي دي جانيتي، فهم السينما، ص8.
- نشر هذا الحوار الذي اضطلعت به الكاتبة الفلسطينيّة نعمة خالد مع الرّوائي المعروف نبيل سليمان في مجلّة نزوى العمانيّة، العدد41، ص151. وفيه أثيرت قضايا متنوّعة لها علاقة بالكتابة الرّوائيّة ومجالها القصصي وتحدّياته.
- –Un chien andalau est un court métrage muet surréaliste en noir et blanc par Luis Bũnnel en1929 sur un scénario de Luis bũnnel et de Salvator DalÍ .
- محمّد شعير ، في مناقسات مؤتمر الرّواية، أخبار الأدب المصريّة، بتاريخ24/ 02/2008، ص5.
- يعتبر سي هولب أنّ نظريّة الاستقبال التي تراهن عليها المرئيات قد تجاوزت المنحى التفسيري بتطبيقاته العمليّة والمستفيضة وطابعه الإملائي الواضح من قطب بعينه، وأصبحت المسألة في بعدها الجديد منوطة بالقارئ الذي يعيد تشكيل العمل ويرسم حدوده بالارتكاز على مبدإ التفاعل بين قطبي النصّ من جهة والقارئ من جهة أخرى.
- حسن لشكر، الرواية العربيّة والفنون السمعية البصريّة، ص58.
- إدوار الخرّاط، ترتبها زعفران، ص7.
- مصطلح سينمائي هام يقوم على كيفيّة التقاط الصورة، ويدلّ على جعلها وهي في الكادر" جزء من" إطار أوسع يستدلّ عليه إلى جانب المرئيّ بالصوت على سبيل المثال لا العصر
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، ص8
- م،ن، ص9.
- م،ن ، ص68.
- م،ن، ص66.
- م،ن، ص67.
- م، ن ، ص69.
- محمّد الخبوّ، الخطاب القصصي في الرّواية العربيّة المعاصرة، ص-ص338. 339. 341.
- نجد شرحا ضافيا في ما يتعلّق بالمقام السّردي وطابعه الإشكالي عموما وجدوى وقاربته لإضاءة السياق القصصي الرّوائي الحديث.
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، ص13.
- م،ن، ص136.
- م،ن،ص 118.
- م، ن، ص16.
- م،ن ، ص، ن.
- م، ن، ص24.
- م، ن، ص27.
- م، ن، ص52.
- م، ن، ص24.
- م، ن،ص123.
- م، ن، ص، ن.
- م، ن، ص143.
- محمد آيت ميهوب، دراسة بعنوان" تداخل الخطاب القصصي والسينمائيّ" مجلّة الحياة الثقافيّة التونسيّة، العدد194، جوان2008، ص30.
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، ص12.
- م، ن، ص، ن.
- م، ن، ص22.
- م، ن، ص126.
- م، ن، ص ن.
- م، ن، ص58.
- م، ن، ص، ص56. 57.
- م، ن، ص128.
- م، ن، ص116.
- م، ن ، ص125.
- م، ن، ص، ص150. 151.
- م، ن، ص 163: تتراوح الصور في هذا المجال عموما بين الهروب كما في مثال حسنيّة والقتل كما في مثال صاحبة اللّوكاندة والتضحية المتواصلة المسترسلة كما في مثال أمّ الرّاوي، إلاّ أنّ ذروة الحقيقة الاجتماعيّة تلمع في صورة الذبح، وكان ذلك شأن المرأة التي ذبحها زوجها بسبب العرض.
- م، ن ، ص127.
- م، ن،ص128.
- م، ن، ص62.
- م، ن، ص51.
- م، ن، ص85.
- م، ن، ص92.
- م، ن، ص146.
- م، ن، ص7.
- م، ن، ص179.
- م،ن، ص80.
- هاشم النحّاس، نجيب محفوظ وتأثيره في السينما المصريّة. مجلّة الوحدة، السنة الخامسة، الرباط، السنة الخامسة، العدد 60، سبتمبر1989، ص154.( نحصر، هنا، الاهتمام بروايات نجيب محفوظ التي غذّت السينما المصريّة، وأنتجت تأثيرات مرجعيّة هامة في نسيج الخطاب السينمائيّ دون أن نخوض في مسألة كتابته للسيناريو.)
- إدوار الخرّاط، ترابها زعفران، ص21.