للتاريخ رجاله ومصادره، وللرواية (الفعل المسرود) كذلك، ولا يخلط المهتم بالتاريخ ومصادره برجل الرواية ومصادرها، على الرغم من انهما يشتركان في العالم الذي تنهل منه مصادرهما، وهو الواقع (النص الغائب/ الحاضر) الذي ينهلان منه مادتهم الاساسية، فيدون المؤرخ ما يراهK او يسمع به من وقائع واحداث وحوادث، فيما يكتب الروائي روايته (النص الحاضر) متخذا مما رآه او سمع به مرتكزا لمخيلته "الابداعية" لتنتج عوالم الرواية الفنية الناضجة التي تمتثل لاشتراطات الجنس الادبي هذا.
من اول سطر في رواية )ليل علي بابا الحزين( يبدأ الزمن الواقعي للعراق الذي تتحدث عنه الرواية، وهو زمن الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 (ص31)، «يوم عدت بأسرتي الى بغداد – عقب رحلة كابوسية الى مدينة الأسلاف انتهت باعتقالي – فوجئت بالجيران يرددون كلاما غريبا غير قابل للتصديق مفاده ان "كهرمانة" في نصبها القائم في منطقة "الكرادة"، توقفت، يوم التاسع من نيسان، عن سكب الزيت في جرارها، حيث شوهد اربعون لصا يثبون تباعا مغادرين تلك الجرار ليتوزعوا، تحت جنح الظلام، في شتى احياء العاصمة!» (ص7)، وينتهي بالفتنة الطائفية التي تأججت بعد تفجير ضريح الامامين في سامراء، «فانتشر، في اعقاب تفجير سامراء، رجال ملثمون مزودون بأسلحة اوتوماتيكية كانوا يقيمون نقاط سيطرة وهمية لغرض الخطف والقتل على الهوية.» (ص 13)، مرورا بتوقيف الكاتب/ الراوي، وتحريره من قبل الامريكان "المحتلين" (ص 30)، والاحداث السردية الاخرى التي تكوّن بناء الرواية، وصرحها الكبير والعظيم .
من هذين المفصلين التاريخيين يستعيد الروائي صور الاحتلال الانجليزي للعراق، في اسلوب اتبعه الركابي في سردياته السابقة وهو "التخيل التاريخي" لتاريخ العراق، فيكون هناك مزاوجة بين الواقع والمتخيل، فمرة نجد الواقع يسبق المخيلة في عملها، ومرة نجد العكس، وهذه معادلة لم يحافظ على المساواة فيها الروائي الكبير عبد الخالق الركابي، بل انه تحيز كثيرا الى جانب المخيلة، والمخيلة التاريخية/ الابداعية بالذات، في كل اعماله الروائية، فكان الواقع يظهر باستحياء على شكل مرتكزات ما تلبث ان تولد وقائع متخيلة، اي ان المخيلة النشطة هي التي تعمل، فتؤثر في هذه المرتكزات من مثل: الاحتلال الأمريكي، والاحتلال الانكليزي للعراق، وسرقة الاثار، وآثارهما على الناس.
يلعب المخيال دورا كبيرا في روايات الركابي، إذ انه يسابق الواقع معتمدا على الذاكرة الحية، وخزينها المتراكم الذي تنهض عليه احداث الرواية، ليفضي في النهاية الى رواية أحداث واقعية/ خيالية، او خيالية/ واقعية، وهذا التوصيف الاخير هو ما يمكن ان توصف به رواية "ليل علي بابا الحزين".
من المرتكزات الواقعية في هذه الرواية التي تعبر عن زمن وقوع احداث الرواية، وهو زمن الاحتلال الامريكي، والتي ذكرت مرة واحدة لترمز الى هذا الزمن، هي: انتشار لصوص المال العام، واعمال النهب والسلب، تجارة الاسلحة، هدير السمتيات الامريكية في سماء العراق، مرأى مدرعات المارنيز، كثرة الميليشيات، اصوات سيارات الاسعاف، انتشار الهاتف النقال، وغير ذلك من الرموز التي تدل على ان زمن الرواية هو زمن الاحتلال الامريكي، وهذه من وسائل الكاتب التعبيرية كي يخبرنا بصورة غير مباشرة عن الزمن الذي تتحرك فيه الرواية.
في الحكاية الالف ليليّة "علي بابا والاربعون حرامي" يقبض "علي بابا" على الاربعين حرامي، فيما في رواية "ليل علي بابا الحزين" يتحرر هؤلاء الحرامية من قبضة "كهرمانة" التي اوكل لها "علي بابا" صب الزيت عليهم: «يوم عدت بأسرتي إلى بغداد ــ بعد رحلة كابوسية إلى مدينة الأسلاف انتهت باعتقالي ــ فوجئت بالجيران يروون كلاما غريبا غير قابل للتصديق مفاده ان كهرمانة” في نصبها القائم في الكرادة توقفت يوم التاسع من نيسان عن سكب الزيت في جرارها، حيث شوهد أربعون لصا يثبون تباعا مغادرين تلك الجرار، ليتوزعوا تحت جنح الظلام في شتى أحياء العاصمة).(ص 7) وهذه صورة من صور مرتكزات الواقع التي يلعب بها المخيال الابداعي، اضافة لما قلناه سابقا، وكانت أداة تعبيرية اختارها الكاتب لتضم احداث روايته من اول سطر فيها الى اخر سطر.
ترتسم هذه الثيمة الرئيسية للرواية (الثيمة الأم) على مثلث متساوي الاضلاع تتوزع على اضلاعه الشخوص الثلاثة، علي بابا، كهرمانة، الحرامية، وينتهي دور الضلعين الثاني والثالث في الصفحة السابعة، ثم يصبح ذكرى تستعاد مرة واحدة في النص في الصفحة (114) الا انها ذكرى تبقى دائما في الذاكرة الحية للمخيلة الابداعية مثل معنى المعنى في الشعر. اما الضلع الاول الذي يقف عليه "علي بابا" فانه يتماهى بالراوي لنقل الاحداث التي عليه كشفها. حيث يعمل الاسترجاع كثيرا في تقديم احداث الرواية، فيسترجع الراوي مع "دنيا" ذكريات علاقتها مع "يحيى"، ويسترجع مع "بدر" النصف عراقي والنصف انكليزي، ذكرياته عن سرقة الاثار من قبل الانكليز: «لم يرو لي "ثومسون" كل هذه الأمور دفعة واحدة، وبالطريقة التي لخّصتها لك على شكل حكاية .. كان يكتفي بترديد بضع كلمات ردّا على أحد أسئلتي المباغتة، لينصرف بعدها الى صحيفته او الكتاب الذي بين يديه». (ص 243) .
يشكل "بدر" مصدر الهام الراوي على طول الرواية، يقول: «لقد بقي "بدر" مصدر الهام دائم لي، لم تمنعه الجلطة الدماغية التي تعرض لها – مسببة بإصابته بشلل نصفي – من مد يد العون لي في تلك الفترة العصيبة التي كوت العراقيين دون استثناء». (ص14) وكذلك (ص18)، فيما يشكل "يحيى" و "دنيا" المصدر الاخر لإلهامه بكل احداث الرواية، اذن الرواية تنهض على المشاهدة الذاتية للراوي، وذكرياته مع "بدر" مرة، ومع "دنيا" و "يحيى" مرة اخرى.
اسماء فصول الرواية لها مغزى في مجريات الاحداث، فـ”الخروج من المغارة” يمثل انطلاقة اللصوص، و انهاء "كهرمانة" (في المصدر الاصلي الالف ليلي تدعى مرجانة) من صب الزيت، وهروب الاربعين حرامي، وتوزعهم في بغداد للنهب والسلب، والفصل الثاني ”افتح يا سمسم” يرمز الى فتح "مغارة" العراق امام من هب ودب، امام الهمجية الامريكية، وما يذكره "بدر" من ذكريات عمل الاحتلال الانكليزي، وما رافقهما من اعمال وممارسات أعوان بعض دول الجوار، و امام اللصوص وسرقتهم للآثار، «يجوبون الشوارع ليقتحموا دون تردد الوزارات والدوائر الرسمية لينهبوا ما يستطيعون نهبه، قبل أن يضرموا وراءهم النيران، وكان منظرهم يبعث على التقزز حقا وهم يتخطون دبابة أمريكية». (ص 146)
اما القصل الثالث ”كلمات كهرمانة الأخيرة” فقد كان يتحدث عن دور الميلشيات في عراق ما بعد الاحتلال، وكذلك عن رسالة "دنيا" من امريكا، وهو أمر أقف حائرا أمامه، حيث "كهرمانة" صاحبة "علي بابا" في الرواية هي التي تصب الزيت على الحرامية، فيبقوا بعيدين عن لصوصيتهم (مسجونين في قماقمهم)، فيما نجد ان "كلمات كهرمانة الأخيرة” هي وجود رسالة "دنيا" في هذا الفصل، و"دنيا" التي تقوم جل احداث الرواية عليها وعلى سيرتها، تركت بلدها والتحقت ببلد المحتل هاربة من واقعها، ومن "يحيى"، ومن واقع العراق الدامي.
بعد هذه المقدمة القصيرة التي تحدثت بصورة اجمالية عن الرواية، سندرس حالة علاقة واحدة، وهي علاقة "دنيا" بـ "يحيى" لنعرف مدى تأثير الثقافة الاسلامية، والعادات، والتقاليد، والاعراف العراقية المسكوت عنها (الفكر الجمعي العراقي المسكوت عنه) في تقديم الفتاة "دنيا" في عمل ابداعي، والتي اختيرت في هذه الرواية من بنات المسيحيين.
ان علاقة "يحيى" و "دنيا" (ص 47) غير الشرعية بحسب العادات، والتقاليد، والاعراف في العراق (الفكر الجمعي العراقي المسكوت عنه) التي تكبل التفكير فتمنعه من ان ينطلق نحو افاق واسعة، ستؤدي الى نتائج غير صحيحة، وغير شرعية ايضا بحسب ذاك الفكر الجمعي للمجتمع الذي افرز هذين النموذجين منذ اكثر من ستة الاف سنة، اي منذ السومريين الى يومنا هذا ونحن نحمل على كاهلنا هذه التقاليد، والاعراف، والعادات التي اصبحت ثقافة متراكمة وعامة لمجتمعنا، مصبوغة بصبغة دينية اسلامية.
نتساءل: لماذا اختار الركابي فتاة مسيحية ورجل مسلم؟ هل لكون المجتمع العراقي يتكون من هذين الديانتين؟ وماذا عن الديانات الاخرى في المجتمع العراقي؟ ولماذا لم يكن العكس هو الصحيح، في ان المرأة مسلمة، والرجل مسيحي؟ ألم يحدث ذلك في الواقع؟ ام ان الكاتب اختارها مسيحية لترمز الى الوطن، حيث كما تقول بعض المصادر ان المسيحين هم اقدم الشعوب في العراق التي لا زالت تعيش فيه، ولما كانت كذلك، فان اي شخص منها سيرمز الى العراق، وقد وضع للفصل الاخير من روايته اسم (كلمات كهرمانه الاخيرة) واذا به يقدم رسالة "دنيا" التي تخبر الراوي برحيلها واستقرارها، وميلاد طفلها، في بلد المحتل.
هل يعني ان "كهرمانة" التي تركت صب الزيت، فهرب الحرامية هي نفسها "دنيا" التي هربت الى امريكا، وتركت حرامية القرن الواحد والعشرين يمارسون فعلتهم تحت انظار الامريكيين؟ أسئلة كثيرة تثار امام اختيار الكاتب المرأة المسيحية، وبهذا الفعل والممارسة والأخلاق، إن كانت سوية ام غير سوية، لأننا لسنا في معرض التقييم والتقويم؟ المجتمع العراقي ذو الثقافة المسلمة يرى في المسيحيين أنهم اول مكون مجتمعي يرحب بالمحتل، لأن المحتل هذا من ملتهم.
هذه الفكرة خاطئة، ذلك لان اول من رحب بالاحتلال الامريكي، وصفق له هم قلة قليلة من المسلمين في الجنوب والوسط، وليس المسيحيين، إذ دخلت قوات الاحتلال من جنوب العراق . اذن، فاختيار الكاتب للمرأة المسيحية قد جاء تحت التأثير غير الواعي، وغير المعلن، للثقافة الجمعية للمجتمع ذي الثقافة الاسلامية، والعادات، والتقاليد العراقية التي ترى ان الرجل لا يمكنه ان يفعل مثل ما فعلت هذه المرأة، ان كان ذلك في تحررها الاخلاقي عن القيم الشرعية – حسب تلك الثقافة المضافة بالتعاليم الاسلامية - في اقامة علاقة غير شرعية مع الرجل المسلم، وكأن الرجل لا يسأل عن هذه العلاقة، مع العلم ان "يحيى" هو المسلم المتذبذب، والفاسد، والباحث عن الثراء السريع بأي طريقة كانت، كما تقدمه الرواية. وايضا، فإنها رحلت الى بلد المحتل "امريكا"، وكأن النساء الاخريات من ديانات اخرى خاصة الاسلام، لا يفعلن ذلك، مع العلم ان المصادر الاحصائية تؤكد عكس هذا. إن الرحيل الى امريكا، الدولة المتحررة من كل شيء، ومنها الاخلاق، كما يراها التفكير الجمعي، وبحسب الثقافة الاسلامية للمجتمع العراقي، هو التحاقها بالأصل (وهذا تعبير خاطئ تستعمله هذه السطور)، اي التحاق "دنيا" بابناء ديانتها المسيحية.
تقول في رسالتها: «فكل بقاع الأرض لم تعد تعني لدي شيئا منذ خيّم هذا الليل الحزين على وطني فهجرته دون وداع (...) فقررت لحظتها نفض يدي عن كل شيء والنجاة به، هو ابني الوحيد وسط زبانية جهنم». (ص290)، لم يكن هذا سببا كافيا لان ترحل الى بلد المحتل لو كانت تعي وطنيتها حقيقة، اذ دول اوروبا مفتوحة الابواب أمامها، الا ان الكاتب وتحت تأثير الثقافة العامة للمجتمع الاسلامي، والتقاليد، والاعراف العراقية "رحـّلها" إلى امريكا، وهي أمريكا العدوان، والاحتلال، فلماذا فعل ذلك؟
انني ارى في ذلك الامر هو تمثلا لما يعتقد به ابناء المجتمع العراقي من ثقافة، وتقاليد، واعراف غير معلنه، وانما هي من "المسكوت عنه" في هذا التصور، وليس ذلك لسبب فني، او ابداعي، او فكري من الكاتب، انه تعبير عن المسكوت عنه في التفكير. وهكذا كان الكاتب مبدعا في استخدام ادواته التعبيرية، من التخيل التاريخي، في سرد ما بعد الحداثة، واستخدامه الواقع كمرتكز رئيس، والانطلاق مع المخيلة، الا انه في استخدامه لأدواته الفكرية كان منسجما مع الفكر الجمعي للمجتمع الذي يعيش فيه، فجعل بطلته "دنيا" من ديانة مسيحية، وهذا اجحاف بحق المسيحيين في العراق، ولو كان قد جعلها من الديانة المسلمة، لكان في ذلك متوافقا مع الواقع الحقيقي عند دخول الاحتلال الامريكي من جنوب العراق، وما وجده عند البعض (وهم قلة قليلة) من ترحيب بهم، على الرغم من اننا نعي جيدا ان النصوص الابداعية غير مطالبة باتباع الواقع كما هو، او ان نملي عليها كل تصورات فكرنا، لان في ذلك مصادرة لحق الكاتب، وحق ابداعه، ولكن واجبنا هو طرح الاسئلة التي من شأنها ان ترفد العمل الابداعي هذا طاقة ابداعية كبيرة.
ويبقى سبب ابعاد رواية "ليل علي بابا الحزين" من جائزة "البوكر" فيما تراه هذه السطور هو انها قدمت نقدا لاذعا للعدوان والاحتلال الامريكي، وما سبقة من احتلال انكليزي، وهذا الامر غير مرض عنه عند اصحاب "البوكر" العربية، واصلها الانكليزي.