1. إرنست همنغواي:
ولد إرنست همنغواي في إلينوي سنة 1899، ميزته أسطورة كرسها بنفسه: يتعلق الأمر برجل الحركة، وكذا المغامر المدمن على الشرب، المستخف بالأدب وكذا تأثيرات الأسلوب .تخصص في الريبورتاجات ثم صار مراسلا حربيا، وهو ما وظفه في نصه "الشمس تشرق أيضا'' أو "لمن تقرع الأجراس" .النجاح والشهرة مكناه من السفر على امتداد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. أصدر (الشيخ والبحر) سنة 1953. خلال السنة الموالية سيحصل على جائزة نوبل للآداب. أجبره مرضه على الانتحار شهر يوليوز سنة 1961.
الرسالة الأولى:
كانساس سيتي
16يناير 1918
أمي العزيزة
اليوم فقط تلقيت رسالتك. بدأت أتساءل عن سبب غياب أخبار العائلة لكن القطارات جميعها كانت معطلة. لقد وصلت البرودة إلى عشرين درجة تحت الصفر، رغم عدم تساقط الثلج كثيرا. تقريبا على امتداد كل منطقة كانساس اعتمد كل فرد على قدميه الاثنين أو ثلاث. لم يتحرك أي قطار سواء صوب الغرب أو الشرق. هكذا انقطعنا حقا عن باقي العالم لفترة زمنية معينة. أيضا، النقص في الفحم هنا لازال مجحفا. مع ذلك علينا المبادرة لوضع مشاريع لأننا على أبواب فصل الربيع.
الآن، جففي دموعك أمي ثم هدئي من روعك. عليك أن تجدي شيئا يفوق ما يجول في خاطرك أهمية يشعرك فعلا بالاضطراب. بالتالي،لا داعي للانزعاج أو الإحساس بالضيق لمجرد فكرة أني لست مسيحيا صالحا. على العكس، أنا كذلك دائما وأصلي كل ليلة وأومن على نحو سليم وشاق أيضا. إذن اطمئني! فأن أكون مسيحيا مرحا لا ينبغي أن يقلقك.
سبب عدم ذهابي إلى الكنيسة يوم الأحد مرده التزامي بالعمل غاية الواحدة صباحا كي أنهي آخر تفاصيل صدور جريدة "star" صبيحة اليوم الموالي وأحيانا أبقى مستيقظا إلى الثالثة أو الرابعة صباحا. عموما لا أفتح قط عيناي يوم الأحد قبل الساعة الثانية عشر ونصف ظهرا. إذن مثلما لاحظتِ لست رافضا. كما تعلمين لا أتحدث بحماسة عن الدين بيد أني مسيحي صادق قدر الإمكان. يوم الأحد هو اليوم الوحيد في الأسبوع الذي أستطيع خلاله النوم ملء جفوني. أيضا، كنيسة "الخالة أربيل" أنيقة جدا لكن القس ليس ظريفا بالمطلق مما يشعرني بغربة المكان.
الآن أمي عندما أقرأ ما كتبتيه عن كارل(إدغار) وكذا بيل(سميث) ينتابني غضب مرعب. لقد فكرت لحظتها على الفور في الرد عليك للإدلاء بوجهة نظري. لكني تريث حتى أهدأ. مع أني لم ألتق أبدا كارل ولا أعرف بيل سوى معرفة سطحية، إلا أنكِ كنت غير منصفة بجفاء. يعتبر كارل أميرا بل تقريبا المسيحي الأكثر أصالة الذي لم ألتق مثله قط ويؤثر علي أكثر قياسا لباقي معارفي الآخرين. لا يستحضر لسانه باستمرار الدين لكنه مسيحي صادق بعمق وشخص لطيف.
لم أستفسر قط من بيل عن الكنيسة التي يرتادها، لأن الأمر لا أهمية له. نحن الاثنان نؤمن بالله والمسيح ونتطلع معا نحو حياة مستقبلية دون اكتراث بالعقائد.
أرجوك لا تعودي ثانية إلى انتقاد أفضل أصدقائي. إذن اطمئني، فكما ترين لا أسير على المنوال الذي تظنين.
.مودتي
إرني.
* لاتقرئي هذا الكلام على أي شخص وأرجوك احرصي على مزاج فرح.
*الرسالة الثانية
غشتاد5 فبراير 1927
عزيزتي أمي،
شكرا لانهائيا فقد توصلت منك بجدول معرض مارشال فيلد والذي يتضمن إعادة إنتاج للوحتكِ دكان الحداد. تبدو جميلة جدا وتمنيت كثيرا لو رأيت النسخة الأصلية.
لم أكتب لك جوابا عندما تلقيت منك رسالة بخصوص موضوع رواية الشمس تشرق أيضا، إلخ. لأني لم أستطع كبت نفسي عن الغضب ومن الغباء الشديد أن تكتب رسائل وأنت في حالة انفعال، ثم يزداد الموقف حمقا إذا توخيت الكتابة إلى أمك. طبيعي جدا أنكِ لم تحبي روايتي، وأتأسف لأنك تقرئين أي كتاب يحدث لديك الحزن والاشمئزاز.
من جهة ثانية لست خجلا مطلقا من هذا العمل، اللهم في نطاق عجزي على أن أصور بالألفاظ وبدقة الشخصيات التي أصفها أو أبتغي جعلها حقا تتمتع بالحياة لدى القارئ. أنا متيقن من الضجر المميز لروايتي تلك. لكن ليس في المجمل ومتأكد أنه لا يتفوق قرفا عن الحياة الواقعية الداخلية لبعض أفضل عائلاتنا في ضاحية ''أوك بارك''. عليكِ التذكر بأنه مع نص كهذا تجلت في واضحة النهار حياة كل الشخصيات الجديرة على الأقل بالاحترام؛ بينما مع أسر أوك بارك، يلاحظ الجمهور مظهريا جانبا جميلا جدا دون أن يستطيع الوقوف على جانب ثان تمكنت قليلا من إدراكه وأنا ألاحظ ما يجري خلف أبواب مغلقة. أيضا تعلمين باعتبارك فنانة، استحالة إجبار كاتب كي يدافع عن اختياره لموضوع ما في المقابل يلزم إخضاعه للانتقاد حول الطريقة التي عالج بها موضوعه. الأفراد الذين وظفتهم كشخصيات للعمل هم بلا شك منهكين، فارغين ومُدمِرين، هكذا حاولت إظهارهم. سيشعرني فقط عملي بالخجل في حالة عجزه عن بعث الحياة لدى الأشخاص الذين أردت تقديمهم. أمامي حياة طويلة كي أنجز أعمالا أخرى والموضوعات ليست دائما نفسها، فقط أتمنى، أن تكون جميعها كائنات إنسانية.
وإذا كانت السيدات الجميلات لنادي القراءة تحت إشراف الآنسة فاني بوتشر، المفتقدة للنقد الذكي– سأشعر بأني في غاية البلاهة إذا أثنت على عملي- هن متفقات بالإجماع على أني بصدد الدعارة بموهبة كبرى، إلخ، لغايات دنيئة، أقول، هؤلاء السيدات الجميلات يتفوهن بكلام لايعرفن عنه شيئا ويتقولن حماقات فظيعة.
فيما يخصني وهادلي، لم نعد نقطن نفس المنزل منذ مدة (منفصلين منذ شهر شتنبر الأخير ومن المحتمل حاليا أن ننتهي إلى الطلاق) غير أننا معا بصحبة بومبي، حافظنا على أواصر صداقة مثالية. هما على ما يرام، يتمتعان بصحة جيدة وسعيدان. جل عائدات وحقوق تأليف ''الشمس تشرق أيضا'' التي هي تحت تصرفي ستسلم مباشرة إلى هادلي في أمريكا وانجلترا. بعد الإعلانات التي اطلعت عليها شهر يناير، فقد بلغت الرواية طبعتها الخامسة (15000نسخة) ولازال تداولها قويا جدا. ستصدر عما قريب خلال فصل الربيع المقبل تحت عنوان: حفلة. ستأتي هادلي إلى أمريكا فترة الربيع أيضا بالتالي بوسعك رؤية بومبي بفضل فرصة عائدات: الشمس تشرق أيضا. لن أتسلم سنتا واحدا من حقوق المؤلف والتي بلغت أصلا آلاف الدولارات.
لا أشرب خلال وجباتي سوى النبيذ أو الجعة وقد اخترت نمط حياة متقشفة جدا لكني أحاول الكتابة قدر ما أستطيع. تتباين تصوراتنا حول ما يشكل أسلوبا جديدا-هو ببساطة خلاف جوهري- لكنك تفرطين حقا في حالة منحك الفرصة إلى زمرة ''فاني بوتشر'' كي يخبروك بأني أبحث عن الصخب، إلخ. لقد تلقيت رسائل من مجلتي ''فانيتي فاير'' و''كوسموبوليتان'' وغيرهما يطلبان مني حكايات ومقالات وحلقات متسلسلة؛ بيد أني لا أريد إصدار أي شيء قبل انقضاء ستة أشهر أو سنة (بيعت بعض القصص إلى دار النشر "سكريبنرس" نهاية السنة الأخيرة وكذا نص هزلي تتم حاليا قراءته) لأني أعتبر اللحظة الراهنة مصيرية جدا وفي غاية الأهمية بالنسبة إلي أجواء الكتابة بهدوء، محاولا أن أشتغل قدر ما أحاول، دون أن أضع هاجس السوق نصب عيني أو التطلع إلى مردود مادي لما أنا بصدد كتابته، ولا حتى مجرد خروجه إلى القراء أصلا، متجنبا عدم السقوط بأي شكل من الأشكال في شرك ربح المال، حيث التعامل مع الكتاب الأمريكيين بنفس منطق ما صنعته آلة الحصاد بإبهام قريبي الشهير.
أبعث هذه الرسالة لكما معا لأني أعرف أنك وأبي قلقان دائما بخصوص مساري، وضع يدعوني بدوري للتأسف باستمرار عن نوعية المشاعر التي أحدثها لكما. لكن لا ينبغي أن تقلقا، فمادامت حياتي تعرف لحظات أفراح وأحزان، فإني أبادر على الدوام إلى فعل ما بوسعي القيام به بالنسبة لمن أحب (لا أكتب لكما على نحو متواصل نظرا لانعدام الوقت الكافي، ولأنه عندما أكتب، تواجهني صعوبة كبرى في تدبيج الرسائل كما يلزمني تحديد نطاق مراسلاتي، على تلك الرسائل التي من الضروري حقا كتابتها، وأصدقائي الحقيقيين يعرفون درجة تعلقي بالنسبة لمن أكتب لهم أو العكس)، لم أكن قط مدمنا بل ولا أشرب النبيذ بطريقة منتظمة (سيحكون لكما أساطير تقول بأني سكير، الأمر الذي حدث مع كل الذين كتبوا عن أشخاص مدمنين) بل كل ما ألتمسه الهدوء وإمكانية الكتابة. قد لا تحبان أبدا ما أكتبه، ثم بغتة قد تحبان بشغف شيئا ما. لكن عليكما أساسا الاقتناع بأني صادق بخصوص جل ما كتبته. كان أبي أمينا بينما أنت أمي لم تكوني كذلك بالمطلق، وأفهم على الوجه الأكمل أن تفسير ذلك يعود لكونك تعتقدين بأنه يلزمك توبيخي وإخباري بأني متورط في مسلك تعتبرينه مشؤوما.
لكن، بوسعنا على أية حال عدم الخوض في كل ذلك. أنا على يقين، ستعثران بين طيات مجرى حياتي على مبررات شتى تخلق لديكما الانطباع بأني جلبت لكما الفضائح إذا صدقتما كل ما ستسمعانه. من جهة ثانية وبجرعة صغيرة من الصدق بدل التخدير بوسعكما ربما أن تتحملا ببداهة جلية سمعتي السيئة ثم تكتشفا أخيرا، أني لم أغمركما قط بالخزي.
على أية حال، محبتي الكبيرة لكما.
إرني.
*الرسالة الثالثة:
لافينكا فيجيا 17 شتنبر1949
أمي الغالية،
شكرا جزيلا عن رسالتك ليوم7 شتنبر. لقد سعدت كثيرا لحظتها وأنا أحصل على الكتب مثلما فعلت معنا ونحن أطفال. تسلمتها في مدينة ''كي ويست'' التي لم أزرها منذ سنوات طويلة. اسمحي لي أن أهنئك على اهتماماتك الرائعة ومحبتك لنا جميعا فترة شبابنا مع أننا مثّلنا لك مصدرا كبيرا للإزعاج. كان ممتعا قراءة الإشارة التي وقعتيها على الكتاب أما الصور الملتقطة من طرف أبي فجلها تقريبا آسرة. أتمنى لك دوام الهناء وأن تظل جميع أمورك على ما يرام وأيضا بالنسبة لروث أرنولد، الذي أبعث له تذكارا ودودا جدا.
أخبرني سكريبنر أن سيدة أظنها تعمل في مجلة ''ماكال'' اتصلت بهم كي تحصل على عنوانك بهدف إنجاز مقالة عني تتطرق لحقبة شبابي. لا أحب هذا النوع من الدعاية لذلك لا تسمحي لها. سأطلب من سكريبنر كي يكتب إلى هذه المرأة الصحافية الوصولية جدا والشديدة العدوانية. أظن، سيكون موقفا سيئا جدا، أن أتوقف عن مواصلة المساهمة في تأمين حاجياتك في حالة نشرهم لمقالة من هذا النوع دون موافقتي. أتمنى، أن هذا التوضيح قد حسم المسألة.
أما عن الأولاد فهم بخير، وقضوا فترة هنيئة في أوروبا. بومبي قائد جنود المشاة في برلين، زاره باتريك وغريغوري هذا الصيف على متن الدراجات النارية، كما قاما بجولة في إيطاليا زارا خلالها المتاحف والتقيا بأصدقائنا الجيدين هناك. لقد واجهت صعوبات جمة كي ينال ليستر الوظيفة التي يمارسها في بوغوتا، غير أن الفضل الأول بهذا الصدد يعود إلى الجنرال بوك لنهام الذي عملتٌ تحت قيادته ضمن الفيلق 22 للمشاة أثناء الحرب الأخيرة. لقد التمس ليستر أن يتم نقله ضمن وحدات المشاة، من موقع العطالة الكلية التي ميزت مصلحة التصوير الفوتوغرافي، وكان جنديا في منتهى الروعة بحيث هيأ له الجنرال بوك كليا السند .طبعا، لم أتمنَ انخراطه في صفوف المشاة، لأنه ليس بمقدوري السهر على رعاية زوجته وطفليه اللذين أحبهما كثيرا، بينما لا أشعر بأي انجذاب نحو زوجته.
أهنئك أن تكوني أم الجدّ وقد أدركتِ سن السابعة والسبعين. بدوري أحببت حقا، أن أصير جَدَّا ثم أعيش حتى أبلغ مستواك من طول العمر.
راهنا أنا منكب بكيفية مضنية حقا على كتاب أظنه سيكون مهما جدا. بعد الانتهاء منه، أفكر في السفر إلى أوربا للاستجمام.
اعذريني أرجوك إذا نسيت تقديم تهنئة عيد الميلاد وأشياء أخرى.
منتهى الحب،
ابنك إرنست.
2. أندريه جيد:
ولد أندريه جيد سنة 1869، من عائلة بروتستانتية، توفي أبوه في سن مبكرة جدا، فترعرع بين أحضان أمه ومربيته. بدأ يخالط الوسط الأدبي لمالارميه وفاليري بين 1891 و1908، وأسس بصحبة بعض الأصدقاء المجلة الفرنسية الجديدة .مارس تأثيرا مذهلا على الحياة الفكرية الفرنسية لمدة خمسين سنة، بفضل عمله ومواقفه المتخذة ثم صداقاته المتعددة وأسفاره. حاز على نوبل للآداب عام 1947، وتوفي في باريس سنة 1951.
الرسالة الأولى:
الخميس 23غشت 1894
فندق بوتي بيير، روزمون
لوزان
أمي العزيزة،
أعرف أنك وحيدة مرة أخرى، أخشى من إصابة قلبك بفتور، وقد غمرك حزن شديد، وأريد اليوم أن أكتب إليك فقط لأخبرك كم أضمر لك من الحب والحنان .يبدو أن تعلقي يجعلني أفهم حقا جل الأفكار الرمادية التي يمكنها أن تحوم حولك، خلال أيام وتثير غضبك: أحب أن تعمل هذه الرسالة على استبعادها.
لقد علمتِ بالقصة العجيبة ل فالنتين التي أتوافق معها بخصوص كره سويسرا، مع ذلك قمنا بجولات ممتعة البارحة وقبل البارحة .إذن وقت رائع ضاعف سعادتنا، شاهدنا تلك المناظر الجبيلية المعروفة ب''جورج دو تريان''، جولة لاتنسى، ابتدأتها بأن أخلفت موعد القطار، وتركت خالي وفالنتين يسافران بدوني، ثم أضعت قبعتي في القطار، إلخ .. إلخ. ستروي لك فالنتين كل تلك التفاصيل.المهم، تسلينا كثيرا.
بالأمس، تناولنا الشاي في الغابة صحبة كل نزلاء الفندق الذي نقيم فيه .فالنتين ساحرة: لا يمكنني قط أن أكون سعيدا لمجرد هذا التوقف القصير في لوزان، لقد كتبتِ إليها بالأمس كلمة مقتضبة لامستها بعمق.
سأبقى هنا إلى يوم الغد أو بعد غد، ثم سأرحل إلى منطقة ''إنجادين'' عبر منتجعي ''فوركا'' و''شيدي أندرمات'' وأظن، لست متأكدا، أني سأراسلك.
خالتي مريضة جدا، لكنها فاتنة، أيضا خالي مثير وجين جذابة .أنا سعيد لأن فالنتين اجتمعت بهم.
لاشيء آخر في جعبتي بوسعي إخبارك به، أفقد بسهولة أعصابي، لكن هذه الأجواء ممتازة بالنسبة إلي.
أمي الحبيبة، إلى اللقاء . أحبك، أكثر مما تتصورين، وأتذكر النزهة الرائعة التي قمنا بها وحدنا فقط بالقرب من مقاطعة "بونيبوسك'' (منطقة نورماندي)، كما كنا نفعل خلال السنوات السالفة.
إلى اللقاء.أنا ابنك العزيز.
أندريه.
الرسالة الثانية:
لابرفين
الخميس 18 أكتوبر1894 .
أمي الحبيبة:
أتوسل إليك بكل روحي أن تتركي في سلام علاقاتي بمادلين (ابنة عمه). انتظري على الأقل حتى أكلمكِ بهذا الخصوص. لا يمكنكِ أن تتخيلي إلى أي حد إصرارك كي تطرحي باستمرار هذا الموضوع، حتى ولم تتعرضي له صراحة، يغمرني رعبا وينزع مني الثقة. أريد منك تأكيدا بأن لا تقولي شيئا، بحيث يمكن لهواجسك الباطنية المستمرة، أن لا تبرز إلى السطح ولو قليلا؟ أريد منك التحلي بالثقة .ذاك اليوم، أدليت لي بملاحظات جميلة وقوية، ولم أستطع لحظتها إخباركِ أنكِ كنت خاطئة، لأني لم أكن متيقنا على وجه الإطلاق بصوابي، لكني أعتقد بأن كل واحد منا امتلك فعلا ما يكفي من الحكمة حتى يدير وقائع حياتنا الخاصة، ثم هناك نقطة لا دخل للآخر فيها ولا مجال للنصائح.
أمي حبيبتي، أرجوكِ احترسي: عندما تأخذ الأمور منحى سيئا، سأنتظر كل شيء منكِ، وأسرع لمساعدتك .لكن حاليا، بما أن كل شيء على ما يرام، فدعيها كما تسير. كلمة متهورة منكِ، قد تحدث لنا جميعا كثيرا من الضرر، أقول جميعا، لأني توخيت إثارة انتباهكِ أنه إذا أزعج شخص ما، أحبّ كائن إلي في العالم، فأسوأ الاحتمالات ممكنة.
من جهة ثانية، ماذا تتوخين؟ أنتِ بنفسك من نصحني، حينما أردتُ الذهاب بوتيرة سريعة، كي أتأنى مليا. ألا تريدين بدورك الانتظار في الوقت الحالي؟ ثم إني لا أنتظر شيئا! لا أعرف ماذا أقول لكِ، فالرسائل لا تفي بالغرض ومقتضبة. انتظري، حتى نتحدث، ولا تقفي ضد مجرى الأشياء. أما إذا سعيتِ للتشويش عليها، فلا أعلم ماذا يمكنني الإقدام عليه وقتها، أعتقد أني لن ألتقيكِ أبدا. كل شيء يسير مثلما تصورناه معا في قرية ''لاروك''. سأكلمكِ، فأنا مستعجل، عن مراسلاتنا. أي سوء تفاهم غريب، قد يؤدي إلى توقفها في يوم من الأيام؟ لقد تمنينا أن يجمعننا لقاء خلال فصل الربيع في مدينة أجنبية: لقاء بالكاد تطلعنا إليه، لكنه يصير مع كل يوم أكثر استحالة ومجرد احتمال. لم أتكلم معها في هذا الموضوع، ولم أجرؤ على ذلك، لكن مادلين راسلتني معبرة عن رغبتها الكبيرة لرؤيتي! ولم ألتقيها منذ أربع سنوات.
ربما أنا مخطئ بشكل كبير مع البوح لك بكل هذه الاعترافات، لأني بهذا الخصوص لم أحدثكِ كفاية حتى تستوعبي المعطيات جيدا. انتظري حتى نتكلم، أرجوك، انتظري، لا تقومي بأي مبادرة، وإلا فسأصاب بالإحباط.
انسِ كل ما أتيت على قوله لك، ثقي كفاية في ابنيك، واتركيهما أحرارا يراهنان على سعادتهما، ولا تعتقدين دائما أنهما يجهلان قواعد اللعبة. كلمة حمقاء، قد تتفوهين بها، ستخلق لنا معاناة يستحيل ترميمها. ليس لدي حاليا الوقت، كي أتكلم معك مدة أطول. في الانتظار، لا تنطقي بأي كلمة، أمي العزيزة.
لم أفهم جيدا، ما قلتيه عن المهن، وأنتِ تقارنين مهنتي مع التي يمارسها الأطباء والمهندسون، أخشى ارتكابكِ لخطأ جسيم، لذلك أريد التحدث معك أيضا في هذا الموضوع. لماذا تذكرين أسماء شخصية؟ فكل شخص لا يشبه غيره؟ ألا يمثل كل فنان طبيعيا استثناء أمام كل القواعد؟ إنه حالة متفردة يستحيل العثور عليها ثانية؟ أو هو بلا قيمة إذا وجد سلفا من يماثله. ينبغي أن تفهمي بأن الأعمال الكبيرة تدوم، وليست مثل عمليات الأطباء الجراحية التي يلزم استئنافها ثانية مع كل مريض. المهن الأخرى، كيفما كانت، تقدم موضوعا دائما لصاحبها، بالتالي فهي تدور على نفسها. من هنا الأهمية المتميزة على نحو غريب لحياة الفنان. أكتب لكِ على عجلة وهذه الأشياء، المهمة من بينها جميعا، تبدو تقريبا بلهاء، ومنحصرة ضمن سطور مكتوبة بطريقة رديئة .لنفترض كما لو أني لم أصرح بأي شيء.
وداعا، أمي العزيزة، ابعثي رسالتي الأخيرة إلى مادلين مثلما رجوتك، وكوني مطمئنة. احتفظي بهذه الرسالة إلى جانب باقي رسائلي الأخرى. المفضلين عندي، من أكتب لهم أجمل مالدي.
محبوبك العزيز
أندريه.
الرسالة الثالثة:
مارسيليا، الجمعة 18 يناير1895 .
أمي المعشوقة جدا،
أتواجد حاليا بمدينة مارسيليا، وأنتظر. استمر الجو ملبدا، ولم يتلطف سوى البارحة، حاليا لا سحابة على امتداد السماء الزرقاء جدا، هكذا شرعت روحي أخيرا تزخر بقدر من الصفاء. متى أتذوق ثانية في نهاية المطاف، الابتهاج المطلق كما كان الأمر خلال الأشهر الأخيرة والذي أود أن يستمر دائما؟ أعتقد وحده تعب الدماغ يوقفه. المزعج، يستحيل أن تستريح في مارسيليا. أقطن غرفة صغيرة في فندق ''لوكانبيير''،بحيث يصمت بالكاد ضوضاء الشارع المرهق لساعات قليلة بين الليل والصباح. هذا يذكرني بمدن إسبانيا وضجيجها، تذكرين برشلونة، مدريد، وأشبيلية؟
أيضا، أنتظر، أن لا أغادر هنا حتى أصير قويا متماسكا، لأن تعب هذه الأيام الأخيرة أضحى حملا ثقيلا على صدري -آه! غمّ - لكن كما في الغالب (أوصتني السيدة بورجي وأندريا بعدم الاكتراث) تشتغل الأغشية المخاطية للشعب الهوائية بشكل سريع ثم تفرز، مما يتسبب في حشرجة صغيرة على مستوى التنفس. أقول لك هذا ببساطة، لأنه لا ينطوي قط على مؤشر يثير الخوف. كذلك،لا أعرق بطريقة غير طبيعية أو تنتابني قشعريرة، فقط قليلا من التعب وكذا لحظة رطبة وأخرى دافئة.
أخيرا، هل أعترف لك، إني أنتظر …أنتظرك !نعم! التطلع إلى قدومك يلازمني إلى حد أني لا أجرؤ على الذهاب، ومغادرة مارسيليا، قبل معرفة إذا كنتِ ستأتين… ومن تم الرحيل عنها معا؟ أعلم أن خالتي شارلي اقترحت عليك تقريبا شيئا مماثلا، لقد قرأت علي المقطع الصغير من رسالتها، المشير إلى سياق ذلك، سرعة المقترح فاجأتني، لقد فكرت أولا: آه!كيف! وعلى حين غرة! بالتالي صرخت. بل تضرعت وتوسلت إليها تقريبا، كي تغير هذه الرسالة. حاليا، أفكر:لم لا؟ كل متمنيات قلبي وروحي، وكل أفكاري الغالية، منصبة على الموضوع وهي تتصادم. لازلت أنتظر. أجيبي بسرعة، فهذا الترقب يعتبر إنهاكا: لماذا لا تأتين فورا، وانتهزي فرصة كون ماري لايمكنها آنيا أن تعود إليك؟
يلزم حاليا معرفة كيفية تخليص هذا من التحمس، ونجعله شيئا مبهجا، رائعا، يشغل القلب والفكر حد انعدام أي وقت قد يمنح فرصة إدراك إذا كان هذا حقا صائبا أم لا. كان لك ومازال الوقت كي تتأملي الموضوع، أنت، ولا ينبغي أن تتركي مادلين تخمن كثيرا في هذا، بحيث ستنزعج وتستهلكها هذه التأملات الواهية .انتبهي، في حال قدومك سنعبر ثانية باريس، كي نرى كثيرا من الناس، ربما كانت هناك السيدة لورانس ثم المزيد!.
متى طرحتُ الفكرة، كلما تحسست معها منفذا وحيدا، قياسا لوضعية منهكة جدا. بمعنى آخر، لا شيء يحدث ولا شيء ينتهي أيضا.
إذن، لن أذهب قبل توصلي بجواب منك، لكن بما أني أصاب بالجنون حين الانتظار كثيرا، فأرجوك أن تسرعي إلى الإرسال البرقي، ويكون ردك: ''نعم سنأتي''. يصعب أن أتصور ما قد يسببه لي جواب غير هذا. تخيلي، كيف ستكون الرحلة برفقتنا نحن الثلاثة، والزمان الرائع الذي سيتجلى. فكري، على النقيض، في بؤس عبوري وحيدا.
في انتظار الفرار من مارسيليا، أنوي الذهاب إلى ''تولون'' من أجل تحية أسرة ''لاتيل''، وربما كذلك مدينة ''كان'' للالتقاء بالسيدة "ليبيل-كوانتي (التي التقيتها في مستشفى مونبلييه) قصد معرفة جديد السيدة "سالفادور''.
أقبّلك من كل قلبي
أندريه.
لقد توصلت منذ قليل بمسودات الجزء الأول من كتابي الذي سيحمل عنوان: "paludes" فبعد انطباع "المجلة البيضاء''، المحزن أتبينه حاليا جيدا. حقيقة أنا جد مندهش بهذا الخصوص، نعم هو عمل أثار دهشتي كثيرا. كم أترقب بشغف لحظة تقديمه لك! .
أرفق طيه هذه الرسالة لماري.
3. جان كوكتو:
ولد في ميزون –لافيت سنة 1889، هو كاتب وشاعر ومخرج ومصمم وفنان. عرف عن جان كوكتو النجاح منذ شبابه، وبدأ يتردد على الصالونات العالمية والفنية إلى غاية حرب 1914 وابتداء من سنة 1917، ربط علاقة صداقة مع بيكاسو وأبولينير وبليز ساندرارس. شارك في كل تيارات حقبته من رقص الباليه إلى التكعيبية فالسوريالية. سنوات الثلاثينات، التفت نحو السينما والمسرح: دم الشعراء، الآباء المرعبون، وصية أورفي. أعمال، كشفت عن موهبته. أصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية سنة 1955 وتوفي يوم 11أكتوبر1963، وقد ترك نصوصا آسرة وخلاقة إلى أقصى حد، متوخيا من خلالها البحث عن تجربة الحدود.
الرسالة الأولى:
فال-أندريه 30 آب/ غشت 1906 .
أمي العزيزة
شعلة شمعة ترتجف. خرير البحر. كل شيء هادئ … أولا أقبّلك ألف مرة، ثم أسرد لك قصة سفري.
داخل عربة القطار، يجلس أمامي رجل يتمتع بهيئة جميلة، مستمتعا بقراءة كتاب: ''مجرمو شيكاغو''. يتسع وجهه حبورا يبدو أنه يستلهم سعادة هائلة من قراءته تلك. تغاضيت عنه كي يستغرقني تأمل ''الفصول الأربعة''. يمينا وشمالا، تنساب منحدرات، جميعها متماثلة! بالتالي أملك ما يكفي من الوقت للقراءة!.
إلى غاية وقت وجبة الغذاء، لاشيء يستحق الذكر، لقد نسيت مرور الوقت بصحبة غورينفلو وشيكو.
أذهب إلى المقصورة- المطعم وأنا أتمايل على الجدران بكيفية تقلد تماما رقاص الساعة الحائطية.أتناول الطعام بشراهة.الرجل صاحب الهيئة الجميلة،يتواجد أمامي، قدموا له قطعا من لفائف النقانق لكنه امتنع! من البلاهة أيضا قراءة كتب وأنت على خط للسكة الحديدية! تركته يتبادل أطراف الحديث مع مسافر آخر حول أمور تتعلق بحجم الأشجار عموما وشجر المرّان خصوصا. هناك، تنساب سهول من كل جانب، رائحة الغذاء لاذعة، انتهت ممتزجة بأخرى عديمة الطعم مصدرها الاغتسال السطحي بعطر الكولونيا. تتآخى المراحيض مع روائح السيجارة الانجليزية، ثم تشكل مجموعة أبخرة تحزن القلب.
مهما كان الأمر، يجري القطار، تبعث الشمس بحريقها، فتشعل حرارة لاتطاق، تحدث العربة قفزات فجائية عنيفة. بدأ الرجل صاحب المظهر الجميل، يصدر شهقات تنم عن الجزع. فجأة اختفى.
لا أشعر بأني على ما يرام. أحس بألم يجثم على قلبي؟ صفارة إنذار! محطة، ثم توقف القطار! لقد أنقذت، أمدوني بمضخة الأوكسجين، اجتذبت منها ما يلزمني بجنون، فاستطعت بالمثابرة على هذا التمرين التنفسي أن أسترجع الاهتزاز المنخفض لصدري.
الآن أنا بخير، بوسعي القراءة بهدوء. أتقاسم مع الرجل صاحب المظهر الجميل، محادثة متلهفا بصوت مرتفع، كي يظهر إلي غزارة معلوماته عن الأسفار مبينا ساعات الوصول وكذا أسماء مختلف محطات الوقوف، إلخ. هكذا تراجع تقديري كثيرا نحوه، لأن طنينه بات يشكل عقبة بخصوص تركيزي على القراءة.
إنها محطة مدينة "لامبال"! نتدافع. أتناول أغراضي ثم يستحوذ علي الانطباع الذي سبق أن أخبرتُك به لحظة نزولي السريع في مصعد. من الذي سألتقيه؟ ينقبض قلبي المتعب، شعور غبي ربما، لكنه شاق على أية حال.
لا أتبين أحدا ينتظرني! وعوض أن يضايقني هذا، تنفست الصعداء بحيث لدي الآن ساعتان من الزمان كي أتهيأ!
أكتشف هنا عالما مختلفا عن ما تركته، أرى نساء مخمليات ومرتبات الشعر يتجولن! ويرتدي الرجال لباسا قصيرا أزرق. لا وسيلة لنقل أمتعتي. أخيرا تقترب سيارتان. أشرت على الثانية. كنت في البداية وحدي، ثم التحقت بي سيدتان تبدوان طيبتان، تتصببان عرقا، وبالكاد تتنفسان، تحملان أمتعة ضخمة.
سلكنا طريقا أشبه بالبياض تقريبا، تغمره أتربة طباشيرية. يمينا، المقعد يحجب عني الرؤية، أمامي وخلفي… تمر سهول شاسعة لكنها قبيحة المنظر. سحابة رمادية، مصفرة بالشمس، مستمرة وراءنا تخط على الطريق عبورنا، بقدر تقدم السيارة. نطوي الطريق رويدا رويدا…ثم هاهو النقر المؤلم جدا يستحوذ ثانية على بطني. هل من مؤشر على أننا نقترب؟ توجهت بالسؤال إلى إحدى السيدتين، فأجابتني بعد نصف ساعة من الآن! وددت الرد عليها أنه مع هذه الارتجاجات تكفي دقيقتان، لكنها لن تستوعب المستملحة، بالتالي التزمت الصمت.
يصير المنظر أكثر إثارة للإعجاب. نرى السماء تسقط على الأفق من كل الجهات، زرقاء فوقنا ومكفهرة في الجهة الأخرى، اكفهرارا يمتزج بسراب بنفسجي مثل بخار خفيف، كل شيء من حولي يقضمه الغروب ثم تظهر طاحونتان، تدور أجنحتهما ثم تدور.
تستند المرأة المسنة على ركبتي، تأخذها بلا شك كمقعد، وتطبطب عليها بإيقاعات عسكرية فجأة تعالت صرختان "فيردوليverdelé!" ثم يرمق بصري تلك الصخرة الشهيرة وقد اعتراها التشوه نتيجة نبرتهما، تنتصب وسط منفذ في الجبل بنفسجي وأخضر عند ركن أزرق.
وهذان الطاحونتان الشقراوتان ذات الأجنحة الصفراء مستمرتان في الدوران. أشعر أكثر فأكثر بالإرهاق.
تظهر بعض المنازل، وأكواخ، وصخور! لقد وصلنا! فتاة صغيرة تسوق أمامها بقرتان. صدغاي، يتصارع اصطكاكهما.
هانحن في المنزل الريفي لجورج-آن .الجميع منهمك في لعب كرة المضرب، أنا وحيد. توخيت بجنون أن أنسحب وأعود من حيث أتيت! لكن تبا وقررت البقاء.
أرى رجلا وسيدة قادمين، أحدس أنهما أسرة دييتز! ''بلا شك هما'' تقول مدام بيلازور. دفعا الحاجز، صعدا الدرج دقا الباب، ثم هاهما:
هو: يشبه قليلا الممثل موني-سولي، عين جد متملصة، نظرة إلى الأسفل، أحاديث مبتورة.
هي:خصلة شعر على جبهتها، تبلغني بصيحات صغيرة أنه ابتداء من الغد بداية العطلة، سنقوم برحلة على متن الدراجات لقطع مسافة ستين كيلومترا: «إذا لم ترغب فسيكون موقفك مؤسفا» ،ثم أمسكت ذقني بحركة لا تقتضي مقاومة وتفحصت حلقي كي تخبرني بأني لا أعاني تقريبا من أي شيء وهو ما أعلمه جيدا.
عشاء العائلة
ثلاثة نزلاء وصبي، ثم حل ضيف آخر سيأخذ مكاني في النزل. بالتالي إلى أين سأذهب أنا "لاأدري". سأستسلم لمجريات الأمور، إنه القرار الأكثر بساطة، فلم يكن من اختيار ثان سوى الامتثال له.
ابتداء من هذه الليلة اشتغلت على اللاتينية، كريستي لايضيع وقته! أنا أبله وحائر على نحو مطلق. إلهي كم أشعر وحيدا! أتمنى أن أتحفز ثانية مع الليل. ثم أنهي هذه الرسالة كي أنام.
أحبك عزيزتي الصغيرة أمي، وأنا أبكي بمرارة لكونك بعيدة عني. أغمرك بقُبلي.
جان.
اكتبي إلي رسائل طويلة تجعلني أكثر قربا.
الرسالة الثانية
فال-أندريه 12 شتنبر 1907
الأحد
أمي الصغيرة العزيزة
خلال خمسة عشر يوما سأكون على وشك الالتقاء بك! أشعر أكثر من أي وقت مضى بالحنين إلى الديار. لكن للحسرة وضع حد لمعاناتي لن يتجاوز يوما واحدا ما دمت ملزما بالرجوع ثانية فور قدومي.
بدأت أشكر لاختبارات الباكالوريا اقترابها السريع لأن هذه الحقبة المرتبطة بالدراسات الصارمة وكذا المجهودات المبذولة تثير أعصابي أو تنهكني.
أقضي ليالي رهيبة، لكني أفكر فيكِ، وكذا الصداقات العميقة التي عرفت كيفية نسج خيوطها مبديا في الآن ذاته تذمري من الأنانيين الذين لا يعرفون أبدا عزاءات القلب غير القابلة للوصف.
صارت العزلة لدي خلال النهار جحيما، نتيجة ضوضاء البهجة البلهاء والسعادة الطفولية: كرة المضرب، وجلبة تصحبها أغاني.
سعيد جدا، أنكِ أخيرا أنصفتِ موريس ميترلنك (كاتب) ووضعتيه ضمن الخانة التي يستحقها، وأعيدي قراءة روديار كبلينغ (كاتب)، مدهش حقا عمله: "النور الذي خمد"، نص يثير الإعجاب.
كل أهل البلدة يحبونك وأنا أهيم فيك.
جان .
ملاحظة: شكرا ألف مرة بخصوص لطفك.
الرسالة الثالثة:
عزيزتي
تدركين جيدا، لاشيء في هذا العالم يرضيني سوى رسائلك وكذا كلمة ثناء منك تشكل لي درعا أتحصن به ضد كل الطعنات. البارحة ليلا، جدال حول الخوف وكذا اليرقات الكوكبية. رعب كبير بهذا الخصوص، أدلى ''ليون'' بإيضاحات تقتل على الفور. يحكي بأنه مع بعض الحالات يمكن لانعكاس مِرآة أن يحدث إشارة معاكسة لإشارتك وتأخذ حياة خاصة. يعني هذا أن لاتلج ليلا غرفة حمامه.
حب.
جان.
الرسالة الرابعة:
عزيزتي
تعلمين حبي لك أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم، وبأن مصدر أمزجتي السيئة كوني أحيانا أحزن نتيجة غباوة تنتزع مني عذوبة الهدوء. إعصار، عاصفة، ديكة وأبقار جميعها تخلق الكآبة على وقع نقرات المطر الخريفي.
رسم إميل بلانش نبات البيغونيا، ستفقدك عقلك، وباقات زهورها الشمسية تنير وتدفئ المنزل بزيتها الوضاءة.
أقبّلك من كل قلبي.
جان.
ملاحظة: رفع لوغري الكلفة عن رسائله التلغرافية، مما أذهلني وجعلني أتصبب عرقا!
يتعهد إلي الجميع بألف شيء جميل.
الرسالة الخامسة:
1918
لم أكتب لكِ قصيدة بمناسبة أعياد الميلاد
كانت نار المدفأة في غاية الفتور.
ولم أهديك نصا شعريا ليلة السنة الجديدة
لأنه تبدأ سنة حزينة جدا.
لكن هنا
تحت سماء يسودها بول سيزان
خمائل نيريات من الدم
تغمرها
زيزيات
يتدفأ قلبي
داخل المنزل الأحمر حيث تتدافع جياد عنيفة.
سواء فيليب أو جيرمان
فالأمر سيان
هما شجرتا ورود متفتحتين.
كانت أمهما سيدة حركة فليبريج *
ثم شربت وفريدريك ميسترال
يوم 21 ماي 1899
بمناسبة كأس كاتالونيا
مثل زهرة الزنبق
ووردة
في مزهرية واحدة.
وأمّها لورا دو ساد
اسمها الكبير المرعب
ترافقه
ابتسامة
فرانشيسكو بيترارك .
1918
يشبه الرجل الطفل
الذي يكشف عن لطخة
يحاول بتكتم إخفاءها
يتملى
وهو يحمل على يديه وكذا وجهه دموعا.
تسود الموت
أيضا منها ألتمس.
أن تأخذني قبلَكِ
هذا إذن
جل ما أطلبه منها.
غراس 1918
جان.
*ماري تيريز دوشوفينيي هي ابنة الكونتيس أديوم دو شوفينيي، ولور دوساد: هي سيدة حركة فليبريج بقيت أرملة منذ سنة 1904، ثم تزوجت ثانية سنة 1910من الكاتب فرانسيس دو كرواسي وأنجبت منه طفلين هما فيليب وجيرمان. أما ابنتها ماري-لور دو نويلز فهي ثمرة زواجها الأول.
4. غوستاف فلوبير:
ولد غوستاف فلوبير في منطقة روان سنة 1821، كان والده طبيبا جراحا. أبان فلوبير مبكرا عن نزوع نحو الأدب، لكن أبويه وجهاه وجهة دراسة القانون، فأرسلاه إلى باريس سنة 1841 بعد إصابته بنوبة عصبية شديدة، استقر على ضفة نهر السين بمنطقة كرواسيه مقررا أن ينذر نفسه كليا للأدب .سنة 1856،أصدر عمله ''مدام بوفاري'' التي لاقت نجاحا جماهيريا، لكنها أيضا تسببت في محاكمته بدعوى إهانته الأخلاق العامة. كتب فلوبير العديد من الروايات التي أعلنت نهاية الرومانسية: سالامبو، التربية العاطفية، ثلاث حكايات. توفي في بلدة كرواسيه سنة 1880 .
باريس، ليلة الخميس بداية الجمعة
الواحدة صباحا
25- 26أكتوبر1849
بلا شك تنامين حاليا، عزيزتي المسنة المسكينة. لو استطعت البكاء هذه الليلة، وأنا كذلك، هيا تفضلي .أخبريني كيف حالك، لا تكتمي عني شيئا. تصوري، أيتها المسنة المسكينة، أن هذا السفر سيغدو بالنسبة إلي ندما رهيبا، إذا أساء إليك كثيرا. مكسيم بخير ويتمتع بحالة جيدة، لا تخافي. لقد وجدت جوازي سفرنا جاهزين! بدا وكأن الأمر يتحقق بسهولة. إنها إشارة جيدة. وداعا، هي رسالتي الأولى، وستصلك أخرى تباعا. غدا سأخط لك ثانية أكثر إسهابا. وأنت؟ حاولي أن تكتبي إلي مجلدات، تدفقي.
وداعا، أقبلك من كل قلبي المفعم بك .ألف ملاطفة.
عنوان فريدريك فوفار هو: ساحة الأهرام،3
5. مارسيل بروست
ولد مارسيل بروست سنة 1871، ينحدر من أسرة بورجوازية، كان طفلا عصبيا، متعلقا بأمه بكيفية مرضية، وبدأ يعاني منذ سن التاسعة من نوبات ربو عنيفة. سنة 1892، حصل على الإجازة في الآداب، وبدأ يتردد على الصالونات ويحضر الأمسيات .سنة 1896، أصدر عمله ''ملذات وأيام'' .ثم من 1896 إلى 1904، كتب رواية "جان سانتوي" التي قاربت ألف صفحة لكن بروست لم يكملها. ثم صمم موضوعات وفضاءات وشخصيات روايته الشهيرة ''البحث عن الزمن الضائع'' سنة 1905. صدمه موت أمه ثم صار مدركا لتطورات مرضه، بالتالي لم يعد مكترثا لملذات العالم. هكذا استمر إلى غاية وفاته، منزويا على وجه التقريب، في غرفته، تقطعها فقط إقامات طويلة في كابورغ. بدأ يشتغل على هاجس، ربما قد لايكمل العمل الذي شرع لحظتها في كتابته. النجاح غير المتوقع لعمله "من طرف سوان" الصادر سنة 1913 عن غراسي على نفقة الكاتب، أفسح المجال كي يصدر لدى غاليمار: ''في ظل فتيات كالأزهار'' (جائزة غونكور سنة 1919)، ثم:''جانب غيرمانتس'' (الجزء الأول سنة 1920 والجزء الثاني سنة 1921) و"سودوم وغوموره" (1921-1922). توفي بروست سنة1922؛ وقد أشرف أخوه على طبع مؤلفاته: السجينة (1923) ،اختفاء ألبيرتين (1925) وكذا ''الزمان المستعاد'' (1927).
الرسالة الأولى:
الأحد الساعة الخامسة
8شتنبر 1901
عزيزتي الصغيرة أمي
ليس أني لا أفكر فيكِ هو الذي يفسر قلة رسائلي إليكِ، أو لما أكون بصدد الكتابة إليكِ لا أعتز باللحظات التي قضيتها وحدي معكِ. لكن لأني أكابد باستمرار أزمتي النفسية، أفضل البوح بشكاوي إلى مُؤتَمنين أكثر لامبالاة. آنيا، أنا في أفضل حالاتي. انتهيت منذ قليل من تناول وجبة الغذاء التي أعتبرها لحظتي العذبة. لكن سرعان ما أعقبها نزوع طفيف نحو الشعور بالاختناق، إلا أنه اليوم على العكس، ابتدأ هذا الإحساس ثم توارى. أبرقت لكِ من مقاطعة "أميانز"، حيث توقفت هناك لتناول الغذاء لكن في واقع الأمر كنت قد ذهبت برفقة ياتمان إلى ''أبدوفيل'' ويريد أن يكمل غاية مدينة ''بولون- بيانكور'' وعوض تناوله هناك وجبة الغذاء مع زوجته مثلما كان مقررا، سيقضي بلطف شديد الظهيرة معي حتى الساعة الخامسة ثم أخذ القطار ثانية إلى "بولون''. رجعت وحيدا إلى ''أبدوفيل''، اشتغلت قليلا أمام الكنيسة. على الساعة السادسة ونصف سافرت مرة أخرى بالقطار إلى ''أميانز'' وتناولت وجبة العشاء في مطعم المحطة. لما علمت أن قطارا سريعا، سيمر على الساعة التاسعة ليلا من محطة تسمى ''لونغو'' مجاورة لأميانز استقلت قطار الساعة الثامنة والنصف للوصول إليها كي أدرك السريع المتوجه صوب باريس التي وصلتها على الساعة العاشرة ونصف بدل منتصف الليل. استقبلتني تلك المحطة المنكوبة لشرق تروكاديرو (لاحظتِ بأن الورقة التي كتبت لك فيها كانت ملطخة، أعتذر). الجزء الأول من هذه الرحلة الاستكشافية لم يكن مطاقا فقد عانيت وقتها بشدة. لكن قسمها الثاني، اتسم على العكس بروعة مفرطة بحيث لم أشعر بألم مؤرق، ثم سعدت وأنا أكتشف من حولي أجواء الصيف في بداياتها. فقط منذئذ، لم أنعم بليلة هادئة تسعفني على محو هذا التعب، النتيجة لم أعد آمل كثيرا كي أكون صاحب صورة جسد وافر النعمة (مثلما) أتطلع جدا كي أظهرها لكِ، ثم الحلم بالليل الذي أخلد فيه للنوم كأني تلقيت رصاصة. مع ذلك، الأكثر أهمية ويبهج قلبي أن ليلكِ ينقضي بسرعة. صحيح لم تخبريني بأي شيء، لكن ممارستكِ للمشي عند الساعة العاشرة فاجأني وأسعدني. إلى حد هنا، أخبارك جد فضفاضة، لكني خمنت أنكِ تمارسين المشي لمدة نصف ساعة بجوار الفندق .يعتبر ديك Dick حقا قيمة أخلاقية وذهنية وكذا جسدية. لقد تلقيت منه شيكا بمبلغ 400 فرنك، وقت ذهابي إلى ''أميانز'' وعلى الفور أشعرت أبي بالتسليم. في هذا الإطار أسرد لك بعض التفاصيل. تجنبا لأي طارئ مع أن مبلغا من النقود بقي معي غاية يوم الخميس (ظل حسابي مغلقا خلال الأسابيع الثلاثة) وكما أخطرت ''ناتان'' سابقا فقد طلبت منه يوم الثلاثاء 100 فرنك وأرجعت إلى "أرثر" 100فرنك كما قلت لي، وبقيت في حوزتي 200 فرنك. لكن مصاريف قضاء يوم في أميانز-أبيفيل، بما في ذلك تكلفة استضافة يتمان إلى وجبة الفطور. أما وجبة عشائي فقد كلفتني7 ولازلت مدينا لأرثر بتذاكر المسرح إلخ (أشير هنا إلى مسرحية عن البطل ويليام تيل. أظنني تحدثت لك عن هذا). تقريبا ثلاثون فرنكا، ثم مع مصاريف هذه الأيام لم يبق في محفظتي سوى 150فرنكا.
هل أخبرتك أن السيد بوريل أتى للالتقاء بأبي. في كل الأحوال،لا أعتقد ذلك (أيضا غالبا لم أكتب لكِ بأن صيدليا اسمه بوشير راسل أبي متحسرا على غيابه مادام كان عليه القدوم كي يعبر له عن شكره لكونه بدل ما في وسعه داعما له حتى يصبح مندوبا لا أعرف عن أي هيأة للمساعدة العمومية). ليست لدي حبوب روش منذ الأربعاء ولا أرى خارجا أي سيارة رابضة. صبيحة اليوم الذي قضيته في أميانز، احتاج جيلون زهاء ساعة وربع كي يعثر لي على علبة واحدة، لا ألومه أبدا، فهو غير محيط بالأمور. لقد تزامن انعدام الدواء مع توقف للشعور بالاكتئاب، بحيث عجزت على تبين علة ذلك في خضم أسباب واضحة وأخرى متأتية عن طريق الصدفة. حاليا عاودتني الأزمة النفسية، ربما جراء تعب رحلة أميانز الذي بلغ منتهاه وكذا الليالي المضجرة، ثم عدم البقاء طويلا على السرير إلخ إلخ (كي أحافظ على تناول وجبات الغذاء، وإن خلال أوقات متأخرة نتيجة سوء أحوال نومي فقد أجبرت كثيرا على تقليص ساعات بقائي ممددا على السرير). أخبري روبير أنه لأسباب عدة (أتجنب أن أتعب بالكتابة كثيرا) أتساءل مع نفسي إن كان مرض الربو لدي مصدره حشرات الفراش، بالتالي ألا يحتم علي الأمر، محاولة أي شيء مهما حدث. لقد نصح بريسو في كتابه، بالتنظيف بواسطة الزئبق، بيد أني أتجنب المبادرة بمفردي إلى صنيع من هذا القبيل. لكن إذا رأى روبير إمكانية الاختيار بين كالوميل ثم التطهير بماء ممزوج بالغليسيرين وفي هذه الحالة فليرسل إلي برقية. أما إذا تبين له انتفاء أي حظ كون مرضي مرده إلى وجود حشرات الفراش فلا يبرق (معذرة على عدم اللياقة). لا أقدر على الإسهاب في الكتابة تجنبا لارتفاع حرارتي مع أني صرت أرشح بشكل أقل. سأرسل لكِ عِرقا معدنيا حول مدينة كومبيين، بدا لي جذابا.
ألف قبلة حنونة.
مارسيل.
إحساسي النفسي بالاختناق لاينتابني دائما.
تسألين إن وضعت مشاريع. بالتأكيد إذا تحسنت حالتي وصرت أفضل! عموما لا أعرف فيما يتعلق بهذه الأيام.
أعيد فتح رسالتي خشية أن لا تتخيلي بأن أزماتي النفسية تكون أكثر حدة شهر يونيو. لكن وضعي جيدا منذ بضعة أيام. لا أسيقظ أبدا ليلا. فقط أحس بالانزعاج. اليوم ومنذ تناولت الغذاء بقيت حالتي مستقرة ثم ها قد مر وقت طويل. تشير الساعة حاليا إلى السابعة (لقد كتبت لكِ نحو الساعة الخامسة).
الرسالة الثانية
السبت ليلا
24 شتنبر1904
عزيزتي الصغيرة أمي
يظهر لي أني أفكر فيك أكثر وبمحبة أكثر ما أمكنني السعي (مع ذلك لم أدركه بعد) اليوم 24شتنبر (مرت عشرة أشهر على وفاة أب بروست، أستاذ الطب بجامعة باريس، وبالضبط يوم 24نونبر1903) كل مرة أتذكر فيها تلك اللحظة، مع تراكم مختلف الأفكار ساعة بعد ساعة ومنذ اليوم الأول، يظهر لنا مدى طول الوقت الذي انقضى سلفا، مع ذلك فعادة الإحالة باستمرار على ذاك اليوم وكل السعادة التي سبقته، دأب أن تعدّ للاشيء فقط لأجل نوع من الحلم الميكانيكي السيئ، ومختلف ماتلاه، بيد أنه على العكس سيبدو كالبارحة وينبغي احتساب التواريخ لتأكيد مرور فعلا،حتى الآن عشرة أشهر،وأنا أكابد الشقاء لمدة طويلة وسأكابد لأجل أطول،ثم منذ عشرة أشهر لم يعد المسكين الصغير أبي يبتهج بأي شيء، مفتقدا حلاوة الحياة.أفكار تصير أقل قسوة بالنسبة إليه عندما نكون الواحد بجوار الثاني لكن بما أننا على الدوام مرتبطين بتلغراف لاسلكي، فأن نكون تقريبا قريبين أو بعيدين، يعني أن نتواصل حميميا دائما ونظل جنبا إلى جنب.
لقد أجريت فحصا، زيادة أثر السكر والألبومين، ما تبقى يعتبر تقريبا عاديا (يلزمني أن أجري آخر كي أقارن). تأويلي كالتالي: ربما مصدر التعب أني لم أنم كفاية، ولم أسترح سوى قليلا حينما كنت على متن السفينة مما أفرز لدي قليلا من الألبومين وكذا نسبة السكر. لكن حقيقة لا أعتقد ذلك، لأنه عموما استرحت كفاية ثم عوضني الهواء كثيرا ، إلخ. أو أن ارتفاع النسبة مردها كوني تناولت وجبتين عوض واحدة، تفسير أيضا لا أظنه صائبا،لأنهما كانتا خفيفتين ومشبعتين جدا ''بالزيت''. إجمالا، لا أعتقد أني كنت لحظتها في حالة أسوأ مقارنة مع الفترة التي أعاني خلالها حقيقة. بقيت فرضية أخرى (لكن هذا ربما يتناقض مع الجانب الفيزيولوجي، الطبيب وحده من بوسعه تأكيد المعلومة أو دحضها) مفادها استمرار إفراز السكر والألبومين خلال المدة التي كنت أستنشق قليلا من الهواء، وقد شعرت بتوعك أكثر فترة تواجدي على متن الباخرة (ربما تصور غير ممكن ومجرد هلوسة). أو أن الهواء أحال دون التعرق، مما حتم على السكر والألبومين كي يمضيا عبر البول ويخرجا حاليا بواسطة الجلد. لكن لا أفترض أن العملية تمت على هذا النحو.أشعر دائما باعتلال فظيع. رجعت البارحة ليلا، لم أحس بأي أزمة نفسية، ثم نمت عموما على ذات الوضع كما لو أني لم أخرج.في المقابل، عانيت صباحا من نوبة طويلة لكن دون تشنج أرغمتي على العودة ثانية إلى النوم حتى وقت متأخر جدا، وأستيقظ على عجلة مما عكر صفوي من جديد ولم ينفع في شيء ثم استمر ذلك بحدة لمدة طويلة. وبهدف إنهاء صداع رأسي الدائم، وكذا التهاب حلقي إلخ إلخ، تناولت هذا المساء جرعة قوية من الأعشاب متمنيا أن أستعيد بها عافيتي. إجمالا، لقد صممت على الوصول إلى ذلك المبتغى مهما كلف الأمر. ظهر لي أن الأمر يأخذ وقتا أكثر مما ينبغي، ولأني أتمتع بهدوء تام في الوقت الحالي تماما، فسأبقى بصراحة خلال ليلة ما نائما وأستيقظ في اليوم التالي صباحا.أعجز على فعل ذلك هذه الليلة لأنه بعد الأزمة النفسية (مع أنها لم تكن قوية جدا لكنها في نهاية المطاف استمرت طويلا) أحس بالارتياح وأنا أتناول الطعام واقفا.فضلا عن ذلك لو عرفت أني سأتبنى هذا النظام لم أكن لأستبق نظامي الزماني،لأنه عندما أستيقظ في حدود الساعة السابعة أو الثامنة يسهل علي حينئذ كثيرا أن أبقى على السرير قياسا بالوضع الراهن وقد استيقظت على الساعة الثانية أو الثالثة ثم يبدو لي كئيبا جدا البقاء نائما. البارحة ليلا مع أني تناولت وجبة العشاء قبل الخامسة فلم أخلد للنوم إلا متأخرا تقريبا (الثالثة ونصف صباحا) لأني كنت مضطرا لفتح نافذتي وقد شرعت وقتها أكتب إليك حتى ساعة متأخرة. ولأني أدخن صباحا، ثم عدت من جديد إلى فراش النوم غاية الرابعة والنصف موعد استيقاظي. لم يكن العشاء جاهزا إلا عند الساعة السادسة والنصف.
لقد استحسنت موقف إيمانويل أرين Aréne الذي تنازل عن رئاسة المجلس المجلس التنفيذي لكورسيكا كي لا يضطر إلى التصويت على الرجل الكورسيكي الأكبر سنا المتواجد في قاعة المؤتمر، باعتباره مجرد تمثال نصفي لنابليون. قرأت البارحة ماكتبه المدعو ''أندريه بيونير'' حول الانفصال، دائما نفس الحكايات الساخرة، واستشهادات بهنري ماري والفعل ورانك إلخ. أخبار عالمية متفرقة، السيد نيدونشيل يقضي فترة اصطيافه في منزل عريق يعود تاريخه لنبلاء القرن الثاني عشر إلخ ثم معلومة واحدة اعتقد بأني أخطأتها ''ابنة للسيد لوغران هي خطيبة السيد جورج مونيي" ( بل تعتبر زوجته) والحال أن الصدفة جعلتني أكتشف بأني كنت بصدد قراءة جريدة ''فيغارو'' قديمة تؤرخ لسنة 1903 أؤكد لكِ بأنه يمكنك الاطلاع على مجموع صفحاتها دون أن تقفي على شيء يستحق، الموضوعات نفسها فقط التاريخ يختلف.
أنا بخير جدا لما أكون بصدد الكتابة إليك، عموما لا شيء يتناقض مع راحتي سوى نظير ما أزعجني قبل ثمان أيام. لكني لست قلقا قطعا، ربما سأكتشف السبب صدفة. راسلت السيدة لومير رينالدو كي تستفسره إذا: «امتلكت الشجاعة كي أذهب لتلقي العلاج إلخ» وكتبت إليه ابنته كي تقول له بأن والدتها جعلت الحياة لاتطاق. هذا شيء لا يمكنني قوله! عزيزتي الصغيرة أمي! والتي ستغمرها سعادة عارمة حينما تلاحظني على مايرام مثلما أنا عموما، مادامت نوبة هذا الصباح كانت الوحيدة وأضيف أنها بليغة لكنها ليست عنيفة، على سبيل الإشارة عطس متواصل كما اعتدت حينما أستيقظ صباحا. لقد أخطأتِ بما يكفي وأنتِ تنسبين أقوال فرانسيس دو كرواسي (كاتب) إلى الحنق الشديد. إجمالا قال إميل فاغي (كاتب) بأن هذا يتأتي مباشرة من ماريفو (كاتب) الذي كان محبوبا جدا حد مائة مرة.لا، لقد صارت أناقة لدى الفتيان الصغار تدوين اسم فاغي مثلما حدث سابقا مع فرانسيسك سارسي (كاتب). من الغباوة جدا التذكير بفداحة جهله للغة الفرنسية.الأمر مقصود ويعرف جيدا ما يفعله. على النقيض، إذا أمكن الدفاع عن شيء فهي هيأته.أبعث لكِ هنا جزئية بلا أهمية وردت ضمن مقال لصاحبه "ألفسا'' في منبر''مجلة باريس''، لكن فقط لأن اسم أبي ورد بين طياتها. كنت اليوم وحيدا، لما أخبرني أنطوان بيبيسكو، أنه سيأتي في وقت متأخر لزيارتي والجلوس معي قليلا. ربما أذهب إلى الريف غدا، إذا صارت حالتي جيدة بفضل جرعة من الأعشاب، لكني أشك في ذلك جدا. حاليا أنا على سريري مغطى، لكن ماذا لو أصابتني نزلة برد عندما أستيقظ. هل اعتدتٌ ربما على التخفيف من مضايقة رينالدو (الوضع حاليا الآن على أحسن ما يرام). إذا اطلعتِ على الحقبة الزمانية للرسالة التي دبّجها أوجين لينتيلهاك (كاتب) فعليكِ بقراءة رسالة أوكتاف ميربو عن السيدة نويلز. أية مدائح!.
أوضحي لي بكيفية دقيقة طبيعة الشروط التي يمكنني في إطارها المجيء كي أقطن مدينة ''دييب''، مسألة تعتبر مهمة بخصوص اليوم الأول من العلاج. لقد نامت فيليسيي في ساعة جيدة تماما، أفترض نحو التاسعة ونصف مع أني لم أنتبه للساعة لحظتها. بقيت ماري تشرح لي قليلا مختلف مشاريعها ورفضت بطريقة مهذبة جدا أن لا أستقدم بروتستانتيا معمدانيا إذا كنت محتاجا كي أحظى بالنوم ولو لليلة، مؤكدة بأنها ستفعل ذلك عن طيب خاطر.
أشارت علي كي أخبركِ بأنها نسجت لكِ ياقة يغطى بها الصدر. بما أن جرس الباب معطلا (نعم مطلقا) (ربما أخبرتكِ البارحة) فقد استدعينا كهربائي حي مونسو، السيدة جيسلاند تجهل رسالتك.
ألف قبلة حنونة.
مارسيل.
أشعر هذا المساء أني بخير إلى أبعد حد، سأنام مبكرا وإن تناولت وجبة العشاء متأخرا.
6. هنري جيمس:
أمريكي الولادة سنة 1843، ثم توفي انجليزيا سنة 1916، بعد طلبه الحصول على الجنسية البريطانية. ترعرع ضمن طقوس الحضارة الأوروبية، بحيث اقتسم مبكرا حياته بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. أمكنه التفرغ كليا للكتابة الأدبية، بفضل ثروة عائلته، وشرع يؤلف منذ سنة 1864، قصصا ومقالات نقدية.استقر في باريس، فأصدر العديد من الروايات منها: الأمريكي، دايزي ميلر، أجنحة الحمامة، قبل أن ينهي مساره كروائي سنة 1904، لكنه استمر في الكتابة.
الرسالة الأولى:
فندق ريغي، فودوا
جليون -سور- مونترو
28 يونيو 1869
أمي الغالية جدا،
كما ستلاحظين فندق جليون خلال الأسبوع المنصرم ثم جليون ثانية. لكن مهما يكن، فبفضل بقائي هنا، توصلت برسالتك الثمينة يوم 7 أو 8 يونيو. غيرها، لم يأتني هذا المكان بأي شيء يستحق أهمية تذكر، قد يلزمني بالوقوف عنده أو مجرد البوح به. لا يمكنني مع ذلك الإمساك عن الكتابة، مع أني أجازف (أتشبث بارتيابي هذا) أن أصير مزعجا. ذات عصر يوم أحد، كنت أشعر بفتور، وبعد تناولي وجبة العشاء، صعدت إلى غرفتي. تمددت على الأريكة، ثم خلال نصف ساعة، اكتشفت أن آلاف الأفكار والذكريات المتعلقة بنا، تجتاح ذهني الواهن بنوع من العناد، بحيث لم أجد من مهرب سوى تناول القلم والسماح لعاطفتي بالتدفق. منذ آخر مرة راسلتُكِ، تحسن الوضع كثيرا. أصبح الجو صحوا، وقضينا تقريبا أسبوعا ميزته أيام جميلة ولطيفة. فوجدتها فرصة كي أستفيد من ذلك، لتحقيق أقصى درجات سروري. كل ظهيرة، أذهب وحيدا في نزهة طويلة لمدة ثلاث أو أربع ساعات. المنتزهات هنا عديدة، إلى أبعد حد وذات جمال مميز. حتى لو كانت جميعها عمودية تقريبا، فإن ذلك لم يمنعني من إتمامها تقريبا.
إذا أردتِ تقييم تطوراتي، منذ مغادرتي "مالفرين" (نيويورك) فمجرد التفكير وقتها في ارتقاء الروابي الصغيرة يشكل سخرة مزعجة. بينما، راهنا لم يعد يمثل أي جبل مشكلة بالنسبة إلي بحيث أمارس التسلق على الأقل مرة واحدة، كمعدل، بعد الظهيرة. أحب لانهائيا، أن أكون قادرا على وصف مناظر هذه المنطقة الساحرة، لكن من أجل القيام بذلك أحتاج إلى ريشة جون راسكن أو جورج صاند. في مونترو، مع تقلص مياه البحيرة، يمتد صدع عميق- واد صغير- بجانبه وفوق هضبة ضيقة يتواجد الفندق. موقع هذا الوادي، يسمح للنظرة كي تتجه بتأملها نحو الأعلى والأدنى أو أفقيا. عند أسفل الوادي، يتدفق موج جارف لمجرى مائي ينحدر من الجبل بسرعة صوب البحيرة. حين الذهاب من الفندق، للبحث عن متنفس وسط الحقول، يتموج طريق متعرجا بين المروج، نحتها وجعل منها بساتين، ويقود نحو فضاء مثالي لا يقاوم، توسعت إليه الخطى عبر جسر خشبي مترهل. إنه يتوارى وسط الطبيعة فوق رأسك، ركام من الاخضرار يخفي منحدرات الوادي. عند أقدامك، يندفع سيل مائي صاخب هادر حتى نهاية الوادي، من هناك يمكن العبور والصعود نحو الجهة الأخرى، ونتبع القمة غاية أمدها الأخير، حيث تنغلق ثانية أسوار الجبل فترسم بغتة موضعا مخيفا ومنتسبا كثيرا إلى "نمط جبال الألب''. من هنا، يمكننا ثانية عبور النهر والعودة مرة أخرى باجتياز الغابة إلى فندق جليون.
هو مسار نزهة من بين أخريات. تعجبني جميعها، أتلذذ كليا بحرية الحركة، يتزايد الفضول، مع سعة وتنوع المنظر الطبيعي وكذا غزارته وعذوبته. بعد أن أسلك الجسر الذي أشرت إليه سابقا، أستدير نحو البحيرة متعقبا التلال التي تحيط بها، حيث بوسعي الوصول إلى بلدة ''فيفي''vevey (سويسرا) عبر منطقة من المروج ذات ظلال وبساتين منحدرة وهادئة للرعي مثل منتزه إنجليزي .مع ذلك، لم يقارب بعد هنا جوهر سويسرا التي أتهيأ للسفر إليها. أتطلع إلى الغوص في أصالة المنظر الطبيعي لجبال الألب وأتنفس هواءها. منذ أيام، ذهبت بالقطار إلى ''فيفي'' مثلما زرت مرة أخرى عائلة نورتون. أفكر، حين الذهاب من هنا، قضاء أسبوع في المنزل بالريف المجاور لعزلتهم. حيث يستأنسون بانقطاعهم التام عن مجريات العالم، منعزلين جدا، وأعتقد أنهم سيشكرون جدا رفقتي لهم، ويمكنني، بهذا الصنيع التعبير لهم عن امتناني بعد حسن وفادتهم إلي في لندن بطريقة مكلفة شيئا ما.
بعد انجلترا، وجدوا في هذه العزلة والوحدة سكينة رائعة جدا تناسبهم إلى أقصى حدا وتخلق سعادة منقطعة النظير مادامت هي عزلة مطلقة ونهائية. سأبقى بالتأكيد أسبوعا آخر في هذا الفندق. صحيح أن التكاليف مرتفعة قليلا قياسا لما بوسعي العثور عليه في مكان آخر، لكنه يوفر نوعا من ظروف الراحة تجعلني سعيدا بأن أنعم بها طيلة هذه المرحلة التي أتعود خلالها على الحياة في الريف. بعد خمس عشرة يوما سأكون قادرا تماما على أن أعيش يوميات الشظف. وبفضل تواجدي بهذا المكان، تملّكتُ بحيرة لوسيرن، أنا بصدد البحث عن مأوى واحتمالا قد أمكث في المكان حتى الأول من شهر شتنبر. لقد أقلعت تقريبا عن فكرة الذهاب إلى سان موريتز، بحيث خمدت همتي جراء الحكايات التي اسمعها عن البرودة الشديدة وقسوة الجو. أصبو إلى تنفس هواء المرتفعات النقي، لكن، هذا يكفي أريد أيضا أجواء الصيف. سأحدثك عن تفاصيل مختلف ذلك، في أوانه. لقد وثقت بدقة أوامرك كي أقضي صيفا هادئا وبتكاليف أقل. أتوخى التوفيق بين الجانبين: أي سأعتمد في تنقلي، على قدمي غير المكلفتين كثيرا. ستصلك، في الوقت الحالي رسالة، مكتوبة إلى جنيف منذ شهر تقريبا حول موضوع هذه الأسفار وكذا النفقات، التي تتضمن مشاريع شيئا ما متناقضة مع فكر –أو بالأحرى خطاب- النصيحة المشار إليها أعلاه .أجهل الطريقة التي أجبتِ بها، تماما مثلما طبعا فكرتِ في القيام بذلك. حينما تتكلمين عن ارتفاع نفقاتك الخاصة، إلخ. أشعر بشكل مخيف أني مذنب وأناني بصدد تكريس أهداف قد تبدو لك قليلا مخالفة لجادة الصواب.
طيب، أمي العزيزة، لو فقط تقدرين صفاء دوافعي! لقد أقنعني التأمل، كما سيقنعك، أن وسيلتي الوحيدة التي ستجعلني مدبرا للنفقات هو أن أتعافى إلى درجة القدرة على الاشتغال. أنا مستعد لكل شيء وصولا إلى هذا الهدف، بل وأتخذ مظهر مجرد طالب لذة. حتى إذا كنتُ دائما عند نفس النقطة لمدة شهرين، فإن قضاء فصل شتاء في إيطاليا سيمكنني من تنظيم وقتي كما أرغب، ويضعني على سبيل العلاج مقارنة مع أي شيء ثان، أكثر من موسم شتاء في باريس –وبكل بداهة، أطول مدة ممكنة تفوق مستوى إمكانيتي-أو ألمانيا. بيد أن هذه الإقامة في إيطاليا تعجل باللحظة التي أكون قادرا على قضاء فصل شتاء في ألمانيا أو أشهر، دون خسارة ثم باستفادة حقيقية. لو استطعت أن أفهم، قبل مغادرة المنزل، كما الأمر حاليا أنه حتى أصبح مفيدا، يجب أن تستهدف زيارتي إلى هنا تغيرا حقيقيا- تبلور وعي حقيقي- لتمكننا من مناقشة الموضوع أفضل بكثير من فقرات هذه الرسالة. في الواقع، عندما تعود بي الذاكرة إلى ثلاث أو أربع أشهر، قبل إبحاري، حينما اضطررت إلى التخلي كليا عن القراءة والكتابة (قد يخبرك ويلي بهذا)، أتبين بأنه كان حقا توهما مجنونا لأحلامي لما تصورت استعادتها بمجرد تغيير بسيط للمكان، أيضا كان عبثيا الاعتقاد بإمكانية استعادة حياتي السابقة في باريس، بأقل التعثرات مقارنة مع كامبردج.
وبقدر ما وفرتُ وقتا فقد بذرته، لذلك ستفهمين، رغبتي الطبيعية لاستثمار ما تبقى منه. إذا فكرتِ في الأمر، فقضاء فصل شتاء في إيطاليا، لن يكون ''استجماما'' كما وصفتيه، لكنه فرصة في ذات الوقت كي أحيا ثانية، ثم أتابع تكويني الثقافي – قيمة الثقافة هي السمة الوحيدة التي لازلت أمتلك لها بعد وقتا وقد قاربت سن السادسة والعشرين- أيضا أجد الشجاعة كي أواصل مشروعي، حتى مع تلميحاتك بضرورة أن أحسن تدبير الإنفاق أينما ارتحلت. هذا، يستلزم يقينا عميقا جدا كي أترافع أمام دلائل، مهمة ومؤثرة، عن السبب لما سيبدو كعَطالة مبتذلة. لكني، تسليتٌ منذ مدة طويلة مع مشكلتي والتي أشعرتني بإمكانية أن أصير بذيئا شيئا ما.
أمي الحنونة، إذا عدت إليك سليما، في حالة جيدة، فستدركين أنك لم تبعثري درر محبتك على شخص فظ وغير متبصر، بل أنا مبدع يتمتع بقوة الإرادة، وكذا روح قادرة على الاعتراف بالجميل. هناك مسألتان، أجد حرجا في، ضرورة إضافتهما: أولا، حتما، مقتضيات حالتك من سيملي عليك الجواب، وأنك تستبعدين كل رغبة لإرضائي، مثلما لاينتابك أي شعور بالفزع بعدم إرضائي. ثانيا، سواء في باريس أو إيطاليا، سأكون أيضا مدخرا قدر الإمكان.عموما، لازال شهران، بالتالي اعتراضات كثيرة من طرفك، يجب أن تظهر لك سابقة لأوانها. ربما اكتشفتُ ذاتي صلبا كفاية كي أجابه ''الركود'' الباريسي منذ أول شتنبر.
الأربعاء 30
لم أكمل رسالتي ولن أضيف إليها سوى كلمات قبل أن أغلقها. لقد عشت مغامرة، ينبغي أن أرويها لك. يوم الاثنين مساء (قبل البارحة) قررت بصحبة ثلاثة أشخاص تعرفت عليهم في المنطقة (إنجليزيان وألماني) تسلق جبل قريب جدا من هنا، يسمى صخرة الثلج (بهذا الخصوص، وفيما يتعلق بمختلف مواقع هذا الفضاء، اطلبي من ''ويلي'' أن يقدم لك قصيدتي الشاعر ماثيو أرنولد عن أوبرمان obermann. انطلقنا كما اتفقنا عند منتصف الليل، كي نتمكن من مشاهدة شروق الشمس. وصلنا إلى عين المكان، بعد أربع ساعات من المشي بدون توقف، وجرى القسم الأخير من المسافة تحت ضوء القمر. لكن شروق الشمس سيخيب أملنا بسبب كثرة السحب: على أية حال، انبجست العاصفة، مع تلك الفجاءة الجليلة المعتادة. كان الطقس باردا جدا في الأعالي، مع أننا اعتمدنا على مرشد مختص في المعاطف، إلخ. نزلنا سريعا جدا ثم عدنا إلى الفندق في حدود الساعة السابعة أي الوقت المناسب للاستحمام وتناول الفطور. كنت طبعا متعبا، لكن ليس كثيرا ثم ها أنا ثانية اليوم على ما يرام.
مع ذلك، فكرة هذه الرحلة الاستكشافية كانت مضحكة، وإلا لما سمحت لنفسي قط كي أستسلم لذاك النوع من الأعمال الليلية المبهرة: لا أجد فائدة. إن جبل صخرة الثلج أكثر ارتفاعا من جبل واشنطن. فماذا كنتِ ستقولين إبان الصيف الأخير، حين رؤيتي وأنا ذاهب منتصف الليل بهدف تسلق ذلك الجبل؟ أما عن حالتي الصحية، فأحس بكامل الاستعداد كي أنطلق غدا، بصحبة ممتعة، من أجل نفس المغامرة. وصلتني للتو بامتنان مجلة أطلانطا لشهر يوليوز. لم تستهوني قصتي، التي كتبتها الشهر المنصرم، لكني أتصور الجزء الثاني أفضل. تلقيت مؤخرا أخبارا عن ''جون لافارج'' وأعلمني عن احتمال قدومه إلى سويسرا هذا الصيف. أتمنى جدا أن يستمر وفيا لفكرته لكني أشك. أما ''ميني تومبل'' فقد راسلتني بخصوص إمكانية ذهابها إلى روما خلال فصل الشتاء المقبل. أيضا بهذا الخصوص لا أملك سوى أملا ضعيفا. تواترت لدي أخبار كثيرة عن خالتي ''كاتي''، والتي هي بكل بداهة، تتسلى بما يكفي. ستكونين على أهبة مغادرة ''بوانفري''، اكتبي إلي عن الموضوع. في انتظار أن أمدك بعنوان قار، ابعثي رسائلك حاليا على عناوين ''نورتون'' ''لاباكوت'' ثم ''فيفيي''. وداعا، أمي الغالية جدا، أخبري ''ويلي'' أني سأجيب بسرعة على رسالته الأخيرة. كل أمنياتي إلى ''بير'' و''أليس''. لا تترددي في الإلحاح على ''ويلي'' كي يكتب إلي.
ابنك المخلص
هنري جيمس.
الرسالة الثانية:
واشنطن
الأحد صباحا 29 يناير 1882
أمي المحبوبة جدا،
ينبغي حتما مراسلتك وأقبّلك رغم خشيتي من أن لا أحظى بنفس القبلة قبل مرور وقت معين. منذ يومين أحاطني ''بوب'' علما بمرضك، وقد توسلت إليه على الفور كي يمدني بأخبارك على نحو مفصل. لم توزع الرسائل اليوم، بالتالي يزداد انتظاري، كما أني لست متيقنا أن يصلني تقرير صحي من كامبردج، كما يفترض. أتمنى جدا أن تتحسن صحتك، أمي حبيبتي، وتنتهي معاناتك مثلما هو جدير بك. يستحيل تقريبا أن أتخيلك في حالة كتلك وأنا من شاهدك دائما منكبة على الاهتمام بالأسِرّة التي يرقد عليها مرضى آخرون. ألا تنهضي حاليا كي تعاودي ممارسة أنشطتك الأثيرة لديك، وتتنفسين بحرية أكثر من أي وقت مضى. بلا شك، يعتبر الربو، أكثر الأمراض قسوة، متمنيا بأن إخلاص العائلة قد وفر لك كل المواساة الممكنة. لكن إذا اتخذت الأمور منحى سيئا، فأخبريني وسأكون بجانبك ساهرا على الاعتناء بك ليلا ونهارا. سيخيب أملي، في حالة عدم توصلي بأي جديد منك غدا، وسأكون سعيدا جدا، إذا بادرت خالتي إلى مراسلتي ولو بكلمات قليلة (ربما أخطأ استنتاجي بخصوص إحساس ''بير'' و''أليس'' بالتعب قليلا نتيجة اعتنائهما بك). واشنطن رائعة على الدوام، بالرغم من الوقت القليل الذي قضيته فيها ولم أنجز حقيقة أي لقاء يستحق الذكر. أفكر أن أبقى هنا لمدة أسبوعين. الحدث الذي يشغل الرأي العام، يتمثل في موقف ''جيمس بلين'' Blaine بخصوص أمريكا الجنوبية، الشيء الذي خلق لدى أبناء الرئيس جون آدامز – إنهم متسيسون جدا: لاسيما السيدة آدامز– حالة إثارة كبيرة.أخشى أنكِ عانيت بشدة بسبب البرد وأتمنى أن الأسوأ قد مضى. أريد حقا أن أعرف شيئا عن إقامة ''ويليام'' في شيكاغو، لكن بما أني لا أنتظر منه قط أن يسرد لي حيثيات ذلك، فلا أعرف من أقصد بهذا الخصوص. إلا إذا أمكن ل ''بير'' أو ''أليس'' مخاطبتي بكلمة أو إذا تمكن ''بوب'' من أن يكتب إلي مرة أخرى.
عطفك الحنون دائما.
هنري جيمس
*توفيت والدة هنري جيمس في ذات اليوم الذي كتب لها هذه الرسالة.
المرجع:: Ma chère Maman : De Baudelaire a Saint-Exupéry ;des lettres d écrivains . Gallimard ;2002.