بتقنيات روائية ثاقبة، وعدة تاريخية حاشدة، ونفس ملحمي مدهش، يعود إبراهيم عيسى للفتنة الكبرى ليجسد حميا الصراع فيها فى روايته الضخمة «رحلة الدم - القتلة الأوائل»، حيث يبسط لأول مرة دقائق المرويات فى فتح مصر ومقتل عثمان متحدياً أهل الذكر فى التنويه المخالف للأعراف الأدبية «جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية، وكل أحداثها تستند على وقائع وردت فى المراجع التالية» ثم يذكر أمهات المصادر الكبرى فى الفتوح والتاريخ والسير. وهنا يثور سؤال ملح «أين الأدب إذن لو كان الأمر مجرد سرد تاريخى لفترة حاسمة فى التاريخ؟» فينشب التحدي الأكبر لكل من المبدع والقارئ معاً، فالعمل أثر فنى بليغ فى كتابته ورؤيته، على الرغم من عنفه وجبروته وإدانته لهذه المرحلة. وقد أخذت على الشاعر العربى الكبير «أدونيس» أنه يقدم في أسفاره التي أسماها «الكتاب» تاريخ العرب مصبوغاً بالدم والقتل، دون مراعاة لحقيقة بادهة، وهى أن منطق العصور الوسطى فى العالم كله كان الاحتكام فيه للسيف والتصفية بالقتل والانتصار بالغناء، وأن رسالة المبدعين ليست تأبيد هذه اللعنة، بل تصويرها باعتبارها مرحلة فى التطور الحضاري يجتهد الإنسان لتجاوزها بمشقة، فهل وقع إبراهيم عيسى فى هذه الحفرة، خاصة وهو يصم الأوائل بأنهم مجرد قتلة؟
والواقع أن هذه الرواية الكبرى تنجو من الاختزال وتعلو على العنوان وتدعو إلى التأمل، فهى تعمد أولاً إلى نزع القداسة عن الفترات والشخصيات وهى تقدمهم كنماذج عليا في عالمهم المحكوم بطبائع البشر وضرورات الحياة، فيهم السماحة والتعصب والقوة والضعف والطموح والزهد بقدر ما تشدهم المثل العليا إلى الرفعة والسمو. اعتمد المؤلف على المفارقة، فساق فى المشهد الأول مصرع الإمام على بيد أحد الحنظة القراء الذى توهم كفره، ثم كرس سبعمائة صفحة ليشرح فتوح مصر بالدهاء والحيلة من قائد سيأسى ماهر، ويعيد بناء شخصية الحافظ القاتل، عبدالرحمن بن ملجم، بورعه وتقواه وضيق أفقه.
هي لعنة التكفير إذن تشعل حرائق التعصب الديني وتفسد السياسة وتنشر الفتن. يصور إبراهيم عيسى بمكر أدبى بديع مراحل فتح مصر واستمالة الأقباط ضد الرومان الغزاة ليعرض حقيقة اتهام المصريين بالثورة على الخليفة الثالث عثمان وهو يتلو مصحفه، فقد كان الثوار من العرب الفاتحين الذين لم يقبلوا العسف ورغبوا فى العدل المثالي وأصروا على تطبيق القيم الإسلامية كما فهموها، فانتهى بهم الأمر إلى الولوغ في الدم الزكي في الفتنة. أحال المؤلف بأسلوبه المنهمر ولفتاته الذكية المادة التاريخية إلى نص أدبى رفيع. اعتمد على تقنية الاسترجاع واقتطع فترة حكم الإمام على وعمد إلى بناء النماذج البشرية واختيار اللحظات الزمنية المفصلية وتنوع المشاهد وانتقالات الأمكنة ولمحات المفارقة، ووظف طريقته الأسلوبية المائزة في الانهمار بالمتتابعات الوصفية مثل قوله عن الحافظ «لم يقل أحد عنه إنه شجاع أو محارب أو جريء أو بطل أو فارس أو قائد أو صنديد.. رغم أنه كان وسط غمار الضرب والقتل والسهم والنصل والرمح واهناً... إلخ».
مشاهد التحولات:
يتابع المؤلف بحسه الإبداعي النقدي بذور الفتنة وهى تنتشر وتنمو لتصنع تحولات الأحداث والمصائر، فقد حمل عثمان الناس على الاكتفاء بمصحفه وتمزيق مصاحف القراء الآخرين توحيداً للمسلمين، وهذا الهدف على نبله أوغر الصدور عليه، فقد كان البعض يتلو مثلاً «وأتموا الحج والعمرة لله» والآخرون يقولون «للبيت» والبعض يقرأ «ولا يقبل منها شفاعة» والبعض الآخر يتلو: «ولا يؤخذ منها»، إلى غير ذلك من اختلافات القراء نتيجة لاختلاف الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن الكريم مما لا مطعن فيه ولا حجة عليه، ولكن انتزاع الصحف من القراء يوغر صدورهم فيلتبس الأمر عليهم ويثير حنقهم. وينخل المؤلف الروايات التاريخية ليختار منها ما يلائم هيكله الفني، وكأنه مثل هؤلاء البنائيين العظام الذين يفرزون بقايا المعابد والآثار القديمة ليقيموا من أنقاضها صروحهم الجديدة بمعمارها الخاص، فهو يلتقط مثلاً الإشارة إلى عهد عمرو بن العاص إلى أقباط مصر من احتفاظهم بممتلكاتهم وأراضيهم وبيوتهم، لكن من حق العربي إن نزل بهم أن يستضيفوه عدة أيام، فينزل ابن ملجم في بيت قبطي مزين بنقوشه وصلبانه وأيقوناته، ويجعل صبية ذات قرطين على شكل صليب تتقدم لإكرامه بشراب أحمر اللون في إناء خزفي، ينهض مفزوعاً مرتعشاً محموماً رافضاً ما يُقدَّم له بشكل مباغت، فتصرخ الصبية وتدلق الشراب وينكسر الإناء، ويخرج القارئ وهو يتمتم «أنا لن أطيق بيوت الكفار ولا بناتهم ولا صلبانهم ولن أشرب شرابهم أو أبيت على فرشهم» فيرفض لتزمته ما يرحب به غيره كاشفاً عن بذرة التصلب والتطرف فى موقفه. ولا نتوقع أن يكون لمثل هذه الإشارة مصدر تاريخي موثق، فهي من التخيل الذى يعطى للسرد لحمه الحى وللشخصيات نسخها الجوهري وللعمل الفني دلالته المقصودة. كذلك يعتمد المؤلف على تقنية المونتاج وضم المشاهد لبعضها للإيحاء بدلالة كامنة، فهو ينهى مشهد محاسبة رسول الخليفة عمر بن الخطاب لوالى مصر عمرو بن العاص ونزعه الأموال منه وهو يقول «لن تهنأ بها وعمر حى»، يورد بعد ذلك مباشرة مشهد جميل بن معمر وهو يجرى فى شوارع الفسطاط صارخاً بأن عمر بن الخطاب قد قُتِلَ فى المدينة، لا ليوحى بأن له يداً في مقتله، بل ليبرز تحولات الزمن ومفارقاته واستحالة أن يهنأ أحد بالمال بعد عمر. فقد كان فى ذلك مصرع الخلفاء المانعين والمعطين على السواء، لأن اختلاف الأزمان ومكائد السياسة وضرورات الاقتصاد وصراع المجتمعات هى القوى الفاعلة فى حركة التاريخ.
لوامع ومدامع:
كان طه حسين مؤرخاً اجتماعياً فذّاً وهو يسهب ويجن ويطرب عن الفتنة الكبرى، لكن إبراهيم عيسى فنان فذ وهو يعيد ابتكار التاريخ ويخلق مشاهده، لم أقرأ من قبل مثل تجسيده لمعركة «ذات الصواري» التي نجح فيها أول أسطول بحرى لجندٍ مسلمين وبحارة أقباط فى هزيمة ابن هرقل فى البحر المتوسط، مما يجعل هذه الموقعة بداية حقيقية للحمة الوطنية فى مصر على ما شهدته من إحن ومحن ونكسات. ولم يكن يجرؤ العميد على تصوير أمر نساء المدينة بعد الفتوح «فقد غيرتهن الجواري الشقراوات والبيضاوات والخمريات. والبدينات والبضَّـات والنحيفات المتغنجات والمغنيات الراقصات .. لم تعرف المدينة ما تعرفه «حُبِّى»، تلك المرأة الجالسة على باب بيتها تحت سقيفتها تعبر النسوة والفتيات كل يوم عتبتها ليسألن ماذا يفعلن مع أزواجهن وقد صار للزوج بدلاً من الجارية عشرات. ولاشك عندي أن النص الأيروتيكى المدهش الذى أورده المؤلف على لسان «حُبِّى» هذه مأخوذ من صلب المصادر القديمة على تهتكه ومجونه، فالمراجع القديمة الكبرى مليئة بالفحش الذى لا ينبغي نقله إلا فى سياق إبداعي مُبَرَّر ولقراء تعودوا على مثله - لا فى الصحف السيارة مثلاً - لتصوير جدلية الحياة وجمعها بين مظاهر التقوى والعربدة في تمثيلها الجمالي للإنسان فى كل العصور. بيد أنى لم أقتنع بالدور البطولي الذى أسنده إبراهيم عيسى لهذه المرأة فى نهاية الرواية، حيث هى التى تسعف نائلة زوجة الخليفة المقتول وتوارى جثمانه التراب، كما آلمنى وصف السيدة عائشة لعثمان بأنه «نعثل» اليهودي ومشاركة نعثل هذا في دفنه، بعد أن انفض عنه أنصاره قبل أن يرفعوا قميصه ويطالبوا بدمه وسلطته جزاء ما خذلوه فى حياته. يأتى اختيار الشخصيات وإسناد الأدوار والأقوال إليها فى الرواية ليكون مجلى إبداع المؤلف وبراعة تشكيله، أما لغة الرواية فقد تغمست ببلاغة المصادر وشربت من مائها ونطقت بما يريد أن يقوله لنا اليوم.
فهو يأتي مثلاً بنموذج «طوبس» وهو مخنث في المدينة يغنى لنسائها ويمشى في ذيل حُبّى فينتصر لعثمان ضد ثورة الناقمين عليه، فقد كان الشعر هو الأداة الإعلامية، فإذا ما أشبعه الناس ضرباً وتعنيفاً قال لهم الآخرون إنهم سوف يقتلون العصافير، ثم جعل الثوار ينشدون أمام بيت عثمان «أقبلن من بلبيس والصعيد، مستحقبات حلق الحديد. يطلبن حق الله فى سعيد.. حتى رجعن بالذى نريد» وأحسب أن هذا النشيد مما وضع بعد الأحداث. مثل كثير من الروايات التى لم يكن هَمّ مؤلفنا أن يعمل فيها أدوات البحث العلمى ولا التمحيص التاريخى ولا استخلاص الحقيقة من ركام المرويات. بقدر ما كانت رسالته الواضحة تكوير عمل إبداعى مبهر، ينتصب على أنقاض التاريخ، ليشير إلى مغزاه ويسد منابع دمه المتخثر، حيث يفيض الأدب بالحكمة والفن والشعرية بالجمال.