إذا كانت الملاين قد خرجت في الخامس والعشرين من يناير 2011، في الثورة الحقيقية في مصر، تهتف بأعلي الأصوات منادية بالحرية، كأحد أهم المطالب التي نادت بها هذه الملايين،. فبالتأكيد كان كل واحد من هذه الملايين يحلم بها لنفسه، يحلم أن يستنشق هواءها، وبالتأكيد ما من أحد فيهم إلا وله تجربته التي دفعته للمطالبة بها. علي إعتبار أنه ما من تصرف في حياة الإنسان إلا وهو منبعث، أساسا، من أعماقه هو، سواء كان الدافع له داخليا أو خارجيا. ليشبع حاجة ذاتية بالدرجة الأولي. هكذا هو الإنسان، فحتي الأم، التي تخاف علي ابنها، فلذة كبدها، فهي لا تتصرف إلا بدافع من غريزتها الأمومية، لتشبع ذاتها أولا، حتي وإن كان الظاهر غير ذلك. بدليل أن هناك منهن من تؤثر رغبتها، سواء بالارتباط بالغير، أو لإشباع نهم بأعماقها. حتي وإن قال البعض أن هذا استثناء، والقاعدة غير ذلك، فإن وجود الاستثناء، يشير إلي وجود الدافع الداخلي المُحرك للقاعدة. ولا دليل علي ذلك خير من قول المولي عز وجل عن ساعة الهول {{ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه}}[i] والتي علي ضوئها نستطيع القول بأن الرغبة الجماعية، ما هي إلا مجموع الرغبات الفردية، ومن الفرد تتكون الأسرة، ويتكون المجتمع. ولهذا كانت الحرية الفردية، أو ما عرف بحقوق الإنسان، هي قاعدة أساسية في الدول المتقدمة، حتي وإن كان فهمنا لهذه الحرية مختلف عن فهمهم، لاختلاف الثقافة، وحيث يعتبر الدين في بلادنا أو في عالمنا العربي، أحد أهم روافد هذه الثقافة، وانعكاساتها علي فهمنا للحياة.
ولعل هذا هو الخط الرئيسي، أو العمود الفقري الذي بني عليه د. علاء الدين سعد جاويش، روايته الممتعة "العبور إلي الضفة الموازية"[ii] والذي عبر فيها عن روح الثورة المغدورة، متكئا علي قصة حب، خيالية، لم تحتل من المساحة الكتابية إلا الجزء اليسير، غير أنها تحتل من التأثير، والتأويل، ما يستطيع حَمل بناء الرواية بكاملها.
فحيث يشعر صاحبنا، بنبضة حب طفولي، ورسالة في بضع كلمات، يشعر معها أن قلبه قد بُعثت فيه الحياة، غير أنه يظل حبا أفلاطونيا، روحيا، ويظل هذا الحب يطارده، بل ظل يعيشه علي البعد، رغم زواجه، وزواجها، إلا أن إتصالا ماديا، شفويا، (تليفونيا) يتم بينهما، فيفجر بركانا في وجوده، وإحتياجا. فيجد ألا مفر من حدوثه علي أرض الواقع. لكن قيودا كثيرة تعوق ذلك الاتصال، فيفكر في تخطي كل هذه القيود التي منها طبيعته المادية، كرجل، فكيف يستطيع مقابلة المحبوبة دون أن يعترض المجتمع؟ فلا سبيل إلا تخطي هذا القيد وصولا لحرية الاتصال الآمن، ودون إعتراضات، أن يتخلص من هذه العقبة، فيفكر في ضرورة السفر لعمل عملية بالخارج، تحيله إلي نفس الجنس الذي عليه المحبوبة، ليحطم في سبيل حريته كل القيود المجتمعية، تحقيقا لحريته الفردية. ومنطلقا من النظرة الصوفية التي تري الحرية هي الخلاص من الخضوع للشهوات ، ومن العبودية للمخلوقات، وأنها التحرر من القيود الاجتماعية ، وعدم الالتزام بها .
مختتما ب{ فالأنثي الحقيقية خير من ألف رجل زائف} لتفتح آفاق العمل لما وراء ذلك الخط اللامع في الخلفية. ولتكشف عن تلك الرؤية التي وضعها في المفتتح { ما من كلمة وضعتها في هذه الرواية إلا وبها شئ من ذاتي وتكويني} وكذلك يشعل مصباح الإضاءة في الإهداء، كاشفا عن طبيعة الشخصية { إلي ذواتي المتنافرة في أوقات متغايرة}. لنتبين أن الذات هي الأصل في الفعل، وإن كان السارد لا يملك ذاتا واحدة، وإنما (ذواتي). لنعلم من البداية مدي تشتت تلك الذات، حد التنافر، أي أنها ذات غير مستقرة.
فإذا ما تأملنا المناخ الذي عاشه المجتمع المصري في سنواته الخمس الأخيرة، والتي بالضرورة تشربها الكاتب، وعاشها، شاء ذلك أم لم يشأ، وما جثم علي الصدور، من حلم في الثورة، وضياع الحلم، في تسارع أحداثها، والمؤامرات التي أدت لانكساراتها، وسرقتها. وما عم فيها من أخبار متلاحقة، بالساعة، من قتل وموت، وعاهات أصابت العديد من الشباب. فإنه من اليسير التعرف علي ما يعانيه الإنسان الفرد، والمجتمع المصري في تلك السنوات، أو أنها المحصلة التي خرج بها المصري، بعد خمس سنوات من المعاناة.
وإن كانت الفترة قد اسفرت بوجه صريح عن الصراع بين القوي المتأسلمة، والتي أثبتت أن لها توابع كثيرة علي أرض مصر، متمثلة في من كانوا يسمون أنفسهم بالإخوان المسلمين، والذين خرجوا من التأثير الخفي إلي التأثير العلني في مجريات الأمور بالدولة المصرية، حين تولوا أمور البلاد خلال عام بأكمله، لتنتفض القوة الأخري، والأكثر تأثيرا بما تملكه من أسباب القوة، وهي القوة المسلحة، لتسترد حكم البلاد وتواصل مسيرة يوليو 1952. مدعومة بالكثير من ترحيب الشعب، خوفا من تمادي القوة الأخري، والتي سعت لإعادة البلاد لقرون مضت، وتجاوزها الزمن، وتجاوزتها ظروف العصر. أي أننا نرتد للخلف في كلا الحالين. الأمر الذي لم يكن يرضي جموع الشباب المتطلع للمستقبل، والرافض للوقوف ، فضلا عن الارتداد للخاف.
وحيث أنه قد مرت فترة تعتبر كافية لاستيعاب الرواية للتجربة، فبدأت بالفعل تؤتي ثمارها، علي أيدي عدد من المبدعين، أتصور أنهم يدشنون لمرحلة جديدة في مسيرة الرواية المصرية، بل الرواية العربية، مرتبطة بتحول كبير مرتبط بتلك النحولات الجذرية في حياة شعوبها. فكانت "العبور إلي الضفة الموازية" معلنة رفض كلا القوتين المتصارعتين علي الكعكة المصرية، في بناء إبداعي، منطلقا من الذات الفردية، المُشكلة للذات الجمعية.
تبدأ الرواية بأن تعرفنا الذات السردية بنفسها، في سرد أشبه بالسيرة الذاتية. نتعرف عليه منذ الطفولة، وعلاقته بالموت. ليدخلنا مباشرة في أحد روافد الثقافة المصرية التي قدست الموت منذ الفراعنة، وليتماها الفرد في الجماعة { أدركت أن أقدم من اعتنق الموت هم المصريون القدماء، بل تعلقوا به وأحبوه .....فأول الحضارات التي لفتت الانتباه إلي الموت هي الحضارة المصرية القديمة }ص10.
ولم تتوقف علاقة المصري بالموت عند الفراعنة، وتقديسهم له والاستعداد لتلك الحياة بعده، باعتباره معبرا من الحياة الدنيا، للحياة الأبدية، وإنما ظل الإنسان المصري يعيش بالموت، ويموت بالموت، وينتظر ما بعد الموت، من خلال خطب خطباء المساجد الذين لا يجيدون الحديث إلا عن الموت. متصورين أن الإنسان خُلق فقط لما بعد الموت، متناسين أن الإسلام دين حياة قبل أن يكون دينا للموت { ولما كنت أستمع كثيرا إلي الخطب الدينية من المشايخ الذين علمت بعد مدة أنهم أجهل من أن يفهموا معني الدين والتدين، فقد أستمتع بحديثهم عن الموت ....وكنت أسعد بالحديث عن الموتي، بل كنت أحقد علي من يقوي ويموت}ص8. ليبدأ من هنا انتقاد، بل ورفض الخطاب الديني – وفق شعار العصر الذي لازال نظريا حتي هذه الفترة، دون أن تُتخذ خطوات فعلية لتغييره – تغيير الخطاب الديني. كما نلحظ الذات الفردية تبرز برأسها من بين الذات الجمعية، حيث أتي الحديث بضمير المتكلم الفرد، بينما هو يعني الجمع. فضلا عن التأكيد عليها – الذات الفردية – حين يحيل الموتي إلي سبب للانتفاع الفردي{ وللناس حيال الميت – كما لاحظت – مواقف متباينة وتتوقف في المقام الأول حول الانتفاع من موت الميت أو عدمه، فالورثة يحبون موت المورِث إن لم ينتفعوا بالمال في حياته، ومن يخسر بموت المتوفي يحزن بعمق لا علي الميت وإنما علي مصالحه}ص8.
ومن خلال هذه الأجواء الجنائزية الحزينة، نجد السارد يرفضها عن طريق الحب، حيث الحب سبيل للحياة، حتي أنه أحب الحب، أو أحب حالة الحب، حتي وصل به الأمر لحب الموت ذاته، باعتباره خروج عن قيود الجسد المُكبلِ للروح. وعلي اعتبار أن الحب هو دليل حياة، فيظهر علي السطح بين حين وآخر، وكأنه في حالة مقاومة فردية، لضغوط جمعية، لتبرز مدي المعاناة التي يعيشها الفرد مكبلا، وهو يسعي للتمرد، أو للحرية.
فحين يصعد بالرفض، من الحالة الفردية للحالة العامة، لرفض تلك الحالة التي أدي إليها صراع السلطة من جانب الإسلاميين، وإصرارهم علي السلطة، مهما كانت التضحيات، حتي لو كانت قتل الأبرياء، مع مظاهر التخاذل من جانب سلطات الدولة، أو التهاون في عقابهم- وهو ما كان محل انتقاد الكافة في ذلك الحين- فيتكئ علي الحب أيضا {أرهقني الحب فأحببت أن أتابع ما يجري بعد انفصال دام عدة أيام، ثم أعرضت من جديد، وقد جال بخاطري أن البلاد فيها فرق متصارعة علي السيطرة والحكم، عصابة حكمت ففشلت ولا تريد أن تترك المجال حتي يخلعها أصحاب السلطة ويجرفون البلاد إلي حرب إن استطاعوا، يشعلون النيران في كل أخضر ويابس، يقتلون ويحرقون ويؤسسون لعداوة وثارات تبقي أبدا.....} ص136.
في إشارة بالطبع لتلك الكلمات الزاعقة الحارقة والمشعلة للحرائق، التي كان الإسلاميون يصرخون بها في إعتصامهم الإجرامي في رابعة العدوية، وما فعلوه بطول البلاد وعرضها بعد فض هذا الاعتصام، وما أدخل البلاد في دوامات إرهابية، طالت كل بقاع الأرض المصرية، وما أدي إلي تزايد الرفض لهذه الجماعات، وما نجح في التعبير عنه الكاتب، بالتلميح لا بالتصريح. فضلا عن كون هذه التصرفات هي التي أعطت الفرصة، وأجبرت الناس علي قبول تدخل القوة الأخري، الساعية لاسترداد السلطة، رغم إخفاقها في السابق- وما يؤيده الواقع من محاولة استنساخ الماضي وإحيائه- فيجملها السارد :
{أري الخوف في العيون وأترحم علي جمال عبد الناصر الحقود علي طبقة اجتماعية واقتصادية كانت تجعل مصر من بين عداد الدول المحترمة، كان بمصر فن وذوق وتقاليد وقيم وحدود لكل طبقة بشرية، والناس كانوا رغم كل شئ سعداء، وهذه سنة الله تعالي في خلقه، خلق الناس درجات، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، وهذا قضاء الله، جاءنا هؤلاء الشرذمة من الضباط فغيروا وجه الأرض وتزعموا العالم بزعمهم وخلصو الدول المجاورة من ألوان الاستبداد وصنوف الاستعباد، فدفعوا بأبنائنا فطفح الكيل هنا، وأرهقت موازنتنا ومٌنينا بنكسة ظللنا عدة عقود ندفع الضرائب وأقساط الفوائد التي اضطررنا لها دفعا لهزيمة شعب يقولون إنه عريق بدولة يؤكدون أنها من التاريخ الغابر}ص150.
ثم تعلن الذات الفردية عن تماهيها في الذات الجمعية، صريحة مباشرة:
{يخرجني من همي الخاص همي العام، كأنما كُتب علي المصريين الشقاء، فيشقون بحياتهم في البلاد من تحصيل للقمة العيش أو الحب الذي يمزقهم، أو الاضطرار لمخالطة طبقة خلقها جهل عبد الناصر، حين زعم أنه رسول الحرية}.
إذن فقد ضاع حلم الشعارات التي مات من أجلها الشباب، وانتشر القتل، وغاب القانون، أمام صراع دام علي السلطة، فارتدي ساردنا ثوب المؤرخ، وراح يصف الناس، وما يشعرون به من قلق وخوف، وفقدان كل لذة في الحاة، وكأنهم وصلوا لفترة اللإحساس:
{في كل لحظة تمر أشعر أن الزمن متوقف ويتزحزح للأمام بصعوبة، والناس تطفح مرارا من حولي، الكل غاضب وبائس والحالة العامة للناس في بلادي مكتئبة وحزينة،... الرغبة الداخلية لدي الجموع العريضة في التمتع بالحياة صارت شحيحة، غابت عن الناس البسمة وضاعت من الشعب روح الفكاهة، اسمع حين أمضي في الطريق وأركب المواصلات العامة، الناس تقول: إن الشعب المصري إبان نكسة 67 كان أكثر مرحا من تلك الأيام البغيضة ذات الملامح الكريهة}ص149.
وهنا نرجع للوراء قليلا، حين كان الحديث عن الموت، كان والد السارد، في إشارة رامزة للماضي وكيف كان الأباء يواجهون الموت، الذي هو نهاية، ليعطي مدي ما وصل إليه الحالة الآن {ذكريات أبي عن الموت قليلة ...... فهو إن ذُكر موت أحد أشياخ البلدة ذكر موقفامضحكا اضطره للضحك أثناء الجنازة مما لفت أنظار الناس إليه.......... كل حوارات أبي حول الموت الضحك والقفشات}ص9.
كان ذلك في الماضي، مواجهة (المصائب) بالضحك والقفشات، أما أمام ما يجري اليوم، من تخبط وتضارب، من تيه عام وفقدان للطريق، غابت الابتسامة، وفقد الناس الإحساس.
وأمام تلك الحالة الكئيبة العاجزة، يرتد السارد إلي ذاته الفردية، ليقسوا عليها، رافضا حالة الخنوع والاستسلام، وأن يظل فريسة الصراع بين القوتين المتصارعتين، فيقرر التخلص من رمز الرجولة، بالإخصاء، متحديا القيود المجتمعية المكبلة، والرافضة بالطبع لمثل ذلك التصرف، ومتحديا شكه في ترددها بين قبوله علي تلك الحالة، او رفضه، وكأنه ينفيها (الرجولة) عنه، للوصول لحريته في لقاء المحبوبة، علي المستوي الفردي، وليعلن أنها مزيفة، علي المستوي الجمعي، لنستطيع في النهاية أن نقول أن المحبوبة لم تكن إلا رمز للحرية المنشودةة والمُفتَقَدة منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتي الحالة الراهنة { وازنت بين الإيجابيات والسلبيات التي سأجنيها من وراء عملية الإخصاء .. ظننت أن ما يربطني بها الإمتاع الجسدي، فأردت أن أبرهن لذاتي أن هذا غير صحيح وإنما رغبتي في الوصال أعلي وأكبر من الجهد الجنسي}ص171.
التقنية والإسلوب
أوضحنا أن الكاتب إعتمد علي السرد بضمير المتكلم، الأمر الذي جعله أقرب للحكي في السيرة الذاتية، وهو ما اذاب جمود السرد الجاف، القائم علي المعلوماتية، والأراء، الأقرب للشخصية، والتدخلات الكثيرة بالهوامش المضيئة، والكاشفة عن الخلفيات الثقافية، خاصة أن الكثير منها جاء موثقا، وبتحديد المراجع. مثل {وقد ورد ذكره(الموت) في القرآن الكريم فيما يقارب الثمانين مرة}ص19. أو أن الكتاب الفروعني الشهير "كتاب الموتي" اسمه في الأصل هو "الخروج إلي النهار" لينقل المعني المترسخ في الأذهان الناتج من "كتاب الموتي" وانصبابه علي الموت، لتتغير الرؤية كثيرا، ربما إلي النقيض، ليصبح الكتاب متحدثا عن الحياة، حتي لو كانت حياة مختلفة، لا عن الموت. و هو ما منح العمل، فضلا عن متعته الحكائية، متعة ثقافية، حتي وإن جاءت مساحتها الكتابية أكبر من مساحة الحكاية الحكائية. خاصة أن القارئ لا يشعر بفجوة في العمل، لكون السارد أساسا خريج جامعي (غاص) في القراءة والكتابة، فجاء ما ذكره من معلومات ورؤي وإطلاع، سواء في الدين والقرآن، أو التاريخ والحضارة، أو الرؤي الفلسفية وغيرها، جاء منطقيا، وجعل القارئ يتقبلها دون أن يشعر بفجوة بين الشخصية، وبين تلك المعلومات. أي أن المعلومات الواردة بالرواية نتيجة طبيعية لتجارب شخصية، أي مصبوغة بالصفة الشخصية. وبالتالي فهي تختلف عن تلك الناتجة عن تجليات العقل، وبراهين النظرية، أي علي التوثيق والتدقيق، وفق د محمد برادة { نعلم أن كل رواية ترتكز علي معرفة ما، تكون هي العنصر المحدد لخلفية النص ومقاصده وعلاقته بصوغ الرؤية للعالم.. والمعارف التي تنقلها الرواية تتوزع بين النفس، والسلوك والذاكرة ووصف الحياة اليومية في فضاء معين، واستبطان الظاهرات الاجتماعية، وإعادة تأويل التاريخ عبر التخييل}[iii].
خاصة إذا تأملنا تلك الصور البديعة، التي تنشر ظلالها علي الجفاف فترطبه، وتأتي بالطبع حين الحديث عن الحب المتسامي، والذي يحلق بصاحبه في الآفاق العليا، والتي تغير نظرة الإنسان للناس والكون من حوله، للحد الذي رأي فيه من كان يظن أنه يحبها، وكيف أصبحت بعد أن غمره الحب الحقيقي:
{ إن حملتني قدماي لنفس الموضع الذي كنت واقفا فيه لحظة خروجها إليً ورؤيتي لها أنسي كل قيد قًيدت به ذاتي وأنخلع من الأغلال حول الروح وأتنسم العبير الذي يمر معبقا بعطرها من جديد، وقد لاحظت ساعتها أن عبيرها لايفني وأن أنفاسها لا تتلاشي من الهواء.....لما رأيت الفتاة الجماد التي كنت أظنني أهواها وأرغب في القرب منها، نظرتُ إليها نظرة مغايرة، فما هي إلا ستون كجم في ارتفاع مقداره ما يقارب مترا وستين سم، في حيز فضائي بسيط .......}ص28.
ففضلا عن اللغة والقدرة علي التصوير، فإنها تمهد المناخ للوصل إلي اللحظة الفارقة في شخصية السارد، والتي يتضح عليها منذ البداية وحتي النهاية، رفض الحياة المادية، والميل نحو الروح، فكانت الشخصية متسقة في مراحلها، متسقة مع دورها المنوط بها، وصولا للحظة الفارقة والحاسمة التي يقرر فيها العبور من المادة إلي الروح، علي الجانب الشخصي، والذي يتوازي مع الجانب الجمعي، حيث يقرر العبور من الرجولة الشكلية الزائفة، الي إقرار الحقيقة التي اقتنع بها، إما أن يكون رجلا – في ذاته وفي مجتمعه – علي حق، وإما فالأنوثة أولي به. خاصة إذا دققنا في ملمح تلك العلاقة، فسنجد أن المحبوبة هي التي أخذت جانب المبادرة في كلا الحالتين، التعرف الأول، متمثلا في تلك الورقة التي أرسلتها له مع الوصيفة، لتسأله سؤالا فيه الدعوة، وفيها استنكار ما ظنه حب، علي وريقة صغيرة، قصاصة من كراس دراسي، مكتوبة بقلم رصاص{أكلما رأيتَ فتاة جميلة تحبها، هل تعلم أن كل فتاة جميلة تكون أخلاقها حميدة؟} فكانت السبب في إشعال نار الحب.
واللقاء الجسدي الشفوي المشعل لنار الرغبة { فجأة قالت: تخيل أننا، أنا وأنت في مكان فرغ إلا منا، لا يرانا فيه أحد ولا يسمعنا فيه أحد، ماذا كنت ستفعل؟
أقول لها: المكان الوحيد الذي يضمني وآمنُه علينا هو فلبي، ففيه متسع لنا.
قالت مغاضبة: نريد مكانا أكون فبه خارجك حتي تراني بحواسك ومشاعرك وجوارحك}. فانزلقا إلي حيث الأحاسيس المادية. ليضرب في كلا الاتجاهين: الإنسان : جسد وروح. الرجل، مهما كانت تربيتة وثاقفته دينية أو غيرها، ليس بمعصوم.
كما نستطيع القول بأن الموقف النهائي، أو القرار النهائي، هو التوضيح والإضاءة التي تكشف ضبابية العنوان، حيث يأتي التوازي بمعني عدم التلاقي، في رؤية السارد، وكأن الحب االمادي، لا يستطيع العيش مع الحب العذري. فكان قرار السارد هو العبور، أو تجاوز الحب والرغبة المادية، نحو الحب الرومانسي الشفاف.
لنخرج في رحلة "العبور إلي الضفة الموازية" التي حملنا فيها علاء الدين سعد جاويش علي قارب بمجدافين، أحدهما الخيال بتحليقاته الشفافة، والآخر ثقافة مبثوثة في نسيج الخيال، عشنا فيها مع الواقع المصري المعاصر، المضطرب، والداعي لليأس والقنوط.
Em:shyehia48@gmail.com
12 /9 /2016