يركز الأكاديمي والكاتب الدكتور فواز جرجس في كتابه «داعش إلى أين؟ جهاديو ما بعد القاعدة» على الفوارق في توجهات وممارسات المنظمتين الجهاديتين المتشددتين «داعش» (تنظيم الدولة الإسلامية) من جهة، و«النصرة» (حليفة منظمة القاعدة) من جهة أخرى، في سوريا خصوصا وفي العراق وميادين عربية أخرى.
ففي الفصل الثامن يقول جرجس ان المرجعين الدينيين الفقهيين للإسلام الجهادي أبو محمد المقدسي وأبو قتادة انتقدا بشدة ممارسات «داعش» في فرض طاعة الناس بالعنف والقوة دون أي قيود، حتى في التعامل مع المواطنين العرب السنّة الذين يُفترض ان تكون النظمة القائدة في الدفاع عنهم.
ويضيف المؤلف ان المقدسي وأبو قتادة وصفا ممارسات داعش بانحرافات موازية لممارسات حركة «الخوارج» في التاريخ الإسلامي وأن داعش لم تكن كما ادّعت تمارس العنف الإسلامي العادل ضد أعداء الإسلام.
ويتهم أبو قتادة الإعلام الغربي، حسب الكتاب، بالمبالغة في تعظيم داعش أملاً في القضاء على المشروع الجهادي الذي قادته منظمة «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن ومن بعده أيمن الظواهري. ويشير إلى ان بن لادن والظواهري نبها قادة «داعش» إزاء هذا الأمر ولم تتم الاستجابة لتنبيهاتهما وخصوصاً في ضرورة التريث في إعلان الحرب على ما يوازي المئة مليون وربع المليون مسلم شيعي في العالم الإسلامي، وهي بالتالي حرب قد تنقلب ضدهم.
ويشير الكتاب إلى تحفظ أيمن الظواهري بشدة على إدانة «داعش» لحركة «الإخوان المسلمين» ومجموعة «النهضة» في تونس، حيث اعتبر الظواهري ان مناصري هاتين المنظمتين بالإمكان ان يكونوا حلفاء للإسلام الجهادي إذا ضبطَ الجهاديون العنف في التعامل مع الحركات الإسلامية الأخرى.
وفي المقابل، فإن جبهة النصرة، حسب الكتاب، وبقيادة أبو محمد الجولاني (مع أنها كانت سابقاً حليفة لداعش) قد تنصلت من هذا التحالف بعدما نشطت في سوريا ورفضت تنفيذ أوامر قيادات «داعش» واستجابت لتنبيهات قيادة القاعدة، فنفذت عمليات اغتيالات ضد بعض كبار قادتها ووقعت مواجهات ميدانية بين التنظيمين، وما زالت علاقتهما متوترة. كما حدثت مواجهات سياسية بينهما اتهمت فيها النصرة زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي بارتباطه بالنظام البعثي الصدّامي السابق وانه واجهة لضباط عراقيين من عهد صدام حسين.
ويشير المؤلف إلى ان «داعش» اعتبرت ان «مرونة» زعيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري تشكل ورقة مواجهة الدول الغربية بعمليات «جهادية» على أراضيها. وقد نفذت داعش هذه العمليات في أوروبا وافريقيا، ونشأ نزاع بين المنظمتين في هذا المجال، فيما حاولت قيادة جبهة النصرة تصوير نفسها بالمنظمة الجهادية المعتدلة المستعدة للتعاون مع معارضات سورية أقل دموية من «داعش» من أجل خوض غمار المفاوضات حول مستقبل سوريا والقيام بدور في النظام السوري الجديد.
ويرى المؤلف في الفصل الختامي ان «الطريقة الأكثر فاعلية لنزع شرعية داعش (لا يقول نزع شرعية داعش والنصرة) تقوم في قدرة المجتمعات العربية على توفير حل سلمي للنزاعات الأهلية وإعادة بناء الدولة العربية ومؤسساتها، بالإضافة إلى تسوية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، فمأساة فلسطين تشكل مصدراً للتعبئة والتجنيد للقاعدة والجهاديين الذين يعدون بالانتقال إليها بعد الإطاحة بالحكام».
كلام جرجس هذا مفيد ولكن، هل من السهل نقل التمنيات الواردة فيه إلى حيز الواقع عندما تركز أكثرية المنظمات الجهادية العنفية على قتل منافسيها في منظمات إسلامية جهادية أخرى تخاصمها أو الاعتداء بالعنف على مجموعات مدنية تنتمي إلى طوائف وأثنيات أخرى مسالمة تسعى إلى العيش بسلام مع مواطنيها وممارسة قيمها الروحية بحرية؟ وهل مارست هذه المنظمات الجهادية العنيفة عمليات فاعلة مرتبطة بقضية مأساة فلسطين ومحاولة حسم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لمصلحة الشعب الفلسطيني؟
كتاب جرجس يتناول بواقعية القضايا المطلوب معالجتها في الدول والمجتمعات العربية وضرورة مواجهة الإرهاب المنتشر، ولكن حلوله المطروحة تقتصر على التفريق بين عنف تمارسه منظمة وعنف تمارسه منظمة أخرى، ولا تشمل التشديد الكافي على ضرورة مكافحة المنطق القائل بأن العنف وحده يحقق الأهداف المنشودة، والذي ينطبق على كثير من المنظمات الجهادية وعلى بعض دول المنطقة العربية وغير العربية في الشرق الأوسط وفي طليعتها إسرائيل.
يقول الكاتب في الفصل الختامي ما يلي: «الطريقة الوحيدة لمنع منظمة داعش من أي تمدد إضافي تكون بحرمانها من حاضنة شعبية». ولكن ماذا عن عدم توفير حاضنة إعلامية وفكرية لأي منظمة أو دولة في المنطقة تمارس العنف الوحشي ضد الأبرياء؟ وهذا لسوء الحظ ما تفعله بعض الجهات والدول العالمية والإقليمية الساعية إلى استمرار الصراع في سوريا.
يركز الكتاب بشكل واضح على الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها منظمة «داعش» وقلما يذكر الممارسات القاسية التي ارتكبتها جبهة النصرة المنبثقة من داعش كقطع رؤوس أفراد من الجيش اللبناني كانوا يمارسون المهمات الموكلة إليهم، وكاقتحام أضرحة وأبنية تمثل رموزاً دينية وتفجير أحياء وشوارع ذهب بين ضحاياها كثير من السكان الأبرياء بالإضافة إلى خطف واحتجاز الرهائن من المدنيين. ومع ان جرجس يوضح ان «داعش» نَهَبَ أكثر من خمسمئة مليون دولار من الودائع المصرفية في المناطق التي سيطر عليها وولّد ما يوازي هذا المبلغ (500 مليون دولار أخرى) من مبيع النفط في السوق السوداء ومن فرض الضرائب على السكان في مناطقه، فانه لم يتطرق إلى مصادر الدعم المالي والمادي لجبهة النصرة والامدادات بالسلاح التي كانت تصلها من جهات اعتبرتها منظمة ثورية معتدلة.
فعندما يقول ان من الضروري حرمان منظمة «داعش» من الحاضنة الشعبية وتجفيف مواردها المالية، هل علينا ان نستنتج ان الأمر نفسه يجب ان يُطبق على جبهة النصرة أو أن هذا موضوع آخر؟
يعتبر جرجس ان (تنظيم الدولة الإسلامية) «داعش» ضمّ ضباطاً سابقين محترفين من الجيش العراقي بالإضافة إلى قادة شيشانيين ومن آسيا الوسطى مُدربين على القتال، فيما يتواجد في جبهة النصرة في المقابل عدد كبير من المقاتلين السوريين. وهذا أمرا آخر من الضروري التحقق منه ولا يكفي الارتكاز إلى ما يقوله الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي وحدهما، وخصوصا أن الكتاب يشير في الصفحة (197) إلى أن دولاً إقليمية تستخد» «داعش» والنصرة وتسلح الجهاديين للتصدي لإيران. وهذا ما تؤكده أيضا مصادر عالمية موثوقة. وفي الصفحتين الأخيرتين من الكتاب (ص 261 ـ 262) يقول جرجس انه يجب حرمان «داعش» من الاوكسجين العقائدي والفقهي الذي يغذيها ويجعلها تستمر، فهل قصدَ الكاتب جبهة النصرة أيضاً عندما قال انه يجب حرمان التنظيمات الشبيهة لداعش من هذا الاوكسجين؟ إذا كان الأمر كذلك، فكان عليه توضيح هذا الامر في الكتاب.
في الفصول الأولى يتناول المؤلف أخطاء الحكومات العراقية التي عقبت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ويركز على التوجه الطائفي وفشل قادة العراق بعد صدام حسين في بناء هوية وطنية جامعة وخصوصا في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. كما يقول أن انهيار الانتفاضات الشعبية في المنطقة التي انطلقت عام 2011 شكّل تطوراً مفيداً لنشوء وتطور «داعش».
ويَذكر ان أبو بكر البغدادي استقطب في بداية تسلمه قيادة «داعش» ضباطاً في الجيش العراقي السابق من المحترفين المدربين إلى منظمته ولكنه تواجه مع بعضهم لاحقا ونكّل بهم وخصوصا بعد احتلاله للموصل عام 2014. وهذا، حسب رأي جرجس كان أحد الأخطاء الأساسية لداعش، إذ انه لا يمكن استقطاب الشعوب بواسطة العنف والقمع وإعادة ممارسة القمع الذي مارسه نظام البعث والنظام الذي تبعه في العراق، فالمطلوب، حسب قوله، توفير الأمل والخيارات غير العنفية للشعوب. وهنا أيضا يطرح الحلول الديمقراطية السلمية من دون الإشارة إلى ما إذا كانت جبهة النصرة تعتنقها أكثر من «داعش».
ويُلقي جرجس اللوم على أمريكا لتدميرها الجيش العراقي ومؤسسات الدولة العراقية عام 2003 في مجال التمهيد لنشوء الإرهاب في العراق.
ويعتبر ان التحالف الذي تقوده أمريكا حاليا للقضاء على «داعش» واخراجها من المناطق التي تسيطر عليها في العراق غير فعّال وما يقوم به هذا التحالف لا يكفي للقضاء نهائياً على «تنظيم الدولة الإسلامية» وتنقصه خطة واضحة وفعّالة وتشوب خططه التناقضات.
ويذكر في الصفحة (89) من الكتاب ان بعض العلماء السعوديين المتشددين والمؤيدين للجهاد الإسلامي انتقدوا «داعش» عام 2014 بعد خلاف الظواهري والبغدادي وان أسامة بن لادن حذّر قبل مقتله من التسرع في انشاء الامارات الإسلامية على شاكلة الخلافة التي انشأها أبو بكر البغدادي لأن التسرع في إعلان الدولة الإسلامية سيدفع (في رأي بن لادن) دول الغرب إلى قتل هذه الدولة قبل ان تستطيع الدفاع عن نفسها.
كما نبهه الظواهري حسب جرجس إلى خطأه في دعوة قائد النصرة أبو محمد الجولاني إلى مبايعته بعد انتقال الجولاني إلى سوريا، ثم شنه حملة ضده عندما رفض الامتثال لهذه الدعوة شملت اغتيالات بعض قادة النصرة.
ومن استنتاجات جرجس ان جبهة النصرة من المنتظر ان تملأ الفراغ الذي ستتركه منظمة «داعش» إذا تمت هزيمة الدولة الإسلامية. وهنا أيضا تتجلى احدى المقاربات الأساسية في هذا الكتاب التي يختلف المحللون للأوضاع حولها ألا وهي التالية:
هل تختلف جبهة النصرة بالفعل عن «داعش» في قيمها وايديولوجيتها وممارساتها للعنف ضد خصومها؟
فواز جرجس: «داعش إلى أين؟ جهاديو ما بعد القاعدة»
ترجمة الدكتور محمد شيا
مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2016
جريدة القدس العربي
في هذا الكتاب يتناول الكاتب بواقعية القضايا المطلوب معالجتها في الدول والمجتمعات العربية وضرورة مواجهة الإرهاب المنتشر، ولكن حلوله المطروحة تقتصر على التفريق بين عنف تمارسه منظمة وعنف تمارسه منظمة أخرى، ولا تشمل التشديد الكافي على ضرورة مكافحة المنطق القائل بأن العنف وحده يحقق الأهداف المنشودة.
فواز جرجس في «داعش إلى أين؟ جهاديو ما بعد القاعدة»