من خلال ترتيب أوراق عراقي مجنون نجا من الحروب في الشمال ومن السجن يصور لنا الروائي العراقي صلاح عيال حياة الجنود القاسية وحياة الأكراد في القرية البعيدة المحتلة محاولا توثيق ما جرى في حلبجة ولحياة جندي يهرب فيعدم في وحدة عسكرية، وآخر انتهى للجنون.

كيــــورش (رواية)

صـلاح عـيال

 الكـــلام أنثى والجواب ذكـر

 إن اجتمعـا فلابد من نتـاج ..

 علي بن ابي طالب

وهكـذا مثل كل الحكايات التي لا تنتهي نقتص جزءا من الحكايـة.....، نفترض البداية أولا، حيث لا بداية لها ثم يلزمنا التيـه. ربما، لا تنتهي أو هكـذا سـوف نكتفي..

 

ملمــح نهائـي

 ... الحديث عن مهدي يعني الهروب إلى جنونه ومنه إلى أوراقه التي تركها على عربة المقعّد لينظمها كيفما اتفق.

ما أن تقتفي أثر المجنون حتى تمضي إلى ضياعه، ضياعك أو نهيك عن تفاصيل إذا ما جُمعت اختطفتها طرق لم تنته إلى تفاصيل اللحظة التي ألقمته حليب السياسة البكر ووهبته طريق الهاربين أو العائدين ليلا تحت جنح الرصاص، في ظلمة ممطرة ونباح لا ينقطع.

قد تضع، بمحض إرادتك، قدميك.. خطواتك على درب الضياع أو الظلمة أو طريق البيانات المنتخبة غير أن طريق السياسة الوحيد التي تتلقفك قبل أن تتلقفها، تدخلك إلى دهاليزها وأزقتها الملتوية ومتاهاتها المعتمة.

**

في الواحدة بعد منتصف ليلة شتاء بصري انهالت أصوات الأطلاقات، أيقظت الراقدين في غرفهم الموصدة والواقية للرياح الشمالية. كما أيقظهم النباح المتعالي كلما اقتربت الكلاب من أزقة محلتنا الهادي.

تعوّد فقراؤنا، في مثل هذه الحال، إطفاء أضواء البيوت ومصابيح الأبواب. أبي أطفأ المصابيح ومضى بعد أن تأكد من إخوتي النائمين.

(لا تفتح الباب..)

قالت أمي وكررتها أنا، غير أنه اندفع.. ربما، كان على موعد معه. فما أن انفتح الباب حتى دخل شاب لم يتجاوز السابعة عشر سنة.

عرفته وعَرفتَه أمي.. والدي يعرف لِمَ أتى ومَنْ هؤلاء الذين يطاردونه. كان يحمل كيس أوراق مملوءة بعلامات وإشارات متعددة، فك رموزها بعد أن اطمأن لي خلال أربع ليال مكثها عندنا ليعود لأمه دون علم أحد.

((والدي.. رغم فارق السن، لم يذكر عن سر علاقته بمهدي أو أصحابه.. أمي أيضا لم ترو عنهما أي شيء.. كان خوفها أن لا نسلك طريق السياسة))

...

 في الليلة المعتمة التي تجاوزت الأسبوع على زيارة مهدي لنا وضعتُ الأوراق في جيوبي بعد أن قرأتها وحفظتُ منها الكثير، لا أقول ذلك لأثبت رجولتي السابقة لأوانها، بل كنت متفوقا في السنة الأولى من المرحلة المتوسطة ومن أوائل المرحلة الابتدائية.

تسللتُ إلى دار عمي وكان أبي قد سبقني ليضعني على حصان أخيه الذي أستلم إجرته مقدما ودخل داره. كانت المرة الأولى والأخيرة التي تشجعت بها على ركوب حصان.

بهدوء ركبته، لكزته مندفعا بخطوات حذرة خارج القرية، غير مهتم لنباح الكلاب لكنني متوجس خيفة من.. لا أنكر أن الغرور دفع همتي بعيدا، وراء سكة القطار وعلى الطريق الترابي، حيث آثار الفيضان دليلي إلى الأهوار.

لم أنس أن ناظر المحطة نائم وأن قطار بصرة - بغداد لم يحن موعد تحركه بعد.

عدت كما خرجت ليلا لكنني بلا حصان. كان ظهر أبي مَن حَمل العناء. أصبحت قدماي لا تقويان على حمل جسدي، كنت متهالك القوى شديد التألم والصراخ أمام أمي التي ابتليت بيَ كل هذه السنوات، من المدرسة إلى البيت ومن البيت.. تدفع بعربة المعوّق الذي حمّله مهدي قبل غيابه الذي يشبه غياب الأب أو أولئك الموزعين بين الحروب والسجون والغربة و..

وضع مهدي أوراقه على قدمي المعوقتين ودون رؤية أمي قبّلني وغاب.

 

في فجر السليمانية البعيد، تهرب أمام عيني التمثال الصخورُ التي تحاصر قرية رانية، لتكوّن سلسلة جبال كيورش، آخر محطات الهاربين تليها قرىً نائية أُخرى، إذ لا عودة إلا في هجيع الليل أو تحت أزيز الرصاص.

كل ليلة، كانت قصبة رانية تستبدل التحدي وقتلاها الموزعين على الشوارع بالعويل، النساء بدموعهن والرجال المندفعون بأقدامهم في الأزقة والطرق الملتوية على السفوح وفي عمق الوادي؛ لإنقاذ الصبية والأطفال الذين جفف الرعبُ أثداءَ أمهاتهم.

 كان التمثال مركز قريتهم أو أنَّ المركز تمثال يتعقبهم. يتكلم عنهم. يضحك (هكذا يُرى) يرفع بندقيته ليتابع رغباتهم، من دون أن يُغيّر المكان يُحلّق فوق القتلى. صار قتلاه قاعدة للتمثال.. فيما بعد اكتشفوا أو قال لهم النحات أن التمثال ليس ثقيلا وان جوفه فارغ.

 كان النحات بأصابعه شديدة الأثر قد ثبّت مجساته، على أسياخ نحيفة حول الجبس. منحه وجهين؛ الوجه الأول.. أكذوبة ضاحكة، بندقية برنو تتلوى أمام أنظار الذاهبين إلى بيوتهم أو المنتشرين في أزقتها. ومن دون أن يحقق انتصاره أو الرغبة فيه.. لا ننسى، أن النحات قد ألبسه السروال والقميص والوشاح الملون بورد الربيع، زياً يسمح له أن يضحك أو يرقص. يدفع الرصاص فوق رؤوس ممن يصفقون له عنوة. أما الوجه الآخر.. فكان جسده السري، لم يظهره الفنان، غير أن الرائي يدرك مخاوف الصبية أو الطلبة وهم يبتعدون عن المساند الموزعة حوله.

....

في الشمال، ربما رأيتم الأكراد وهم يمتطون الجبال، رأيتم الأطفال وقد التفوا بثياب أمهاتهم، كانوا ينحدرون مع الأرض الخضراء. الينابيع التي تشق الأنهار باتجاه الجنوب..

 كان الشمال ريفا آخر، تُستبدل الزوارق واليشاميغ بالمرتفعات.. بعض ممن شَهِد القطبين يتذكر، مشاهد الجنوب وكذا الشمال.. وجهين متشابهين، بل هو وجه واحد. لا يرتديهما الوسط، تمثال... لا يبهر أحدا. لا يثير سوى الاشمئزاز. ذاكرتي ترفض التماثيل الموزعة بين الجنوب، الوسط، الشمال... سفوح الجبال، عمق الوادي أزقة البيوت الملتوية كالأفاعي، كانت تأخذ في انحدارها لقطاءً أُجبرت أُمهاتهم على الإنجاب، شواهد أقدام وعربات ليل وبنادق توزعت أصداؤها في الأودية قبل البيوت.

 في البدء، لم أعرف، مَنْ يستر مَنْ؟

 .........

 ترجلنا من سيارة (الكاز (66نحمل يطقاتنا، الأسلحة والذخائر. الضباط ترجلوا من سيارات "الواز" الصغيرة.

 لا نعرف لِمَ ؟

 أين الواجب؟

 .............؟

 ((إلى الحرب.))

 قال.

 أيُّها الأسكندر الجليل إني لأسرك:

ربما، كنا معصوبي العيون.. الآن لم نعد كذلك.

 ((إلى الحرب.))

كرر.

 ((حتى مَ نبقى بركبك أيّها الكولونيل؟))

 لا داعي لأن تجيب فأصابعك ما زالت تنحت على ظهورنا الأسئلة المترادفة، أجرام سماوية كونت بتساقطها العلني ملحمة لا تساوي إلاّ الملاحم التي اختلقتها ولم نتمكن من تدوين عشر كوارثها.

 (ماذا جنيت؟)

 قال الكولونيل.

 (ماذا جنيت؟)

 قالت القرية.

 (ماذا جنيت؟)

 قلت أنا.

 (..........؟)

 الآخرون.

لم يكن مهدي قادرا على أي شيءٍ إلا أن يترك بعض أوراقه المتناثرة التي كتبها منذ انتشاله من السجن وقد بانت متشنجة مقتضبة في موضع، مسهبة في موضع آخر.

 هو.. أحد الذين أنفتح لهم السجن ساعة انهيار يوم عاصف.

 لم يكتب عن هذا المكان سوى هذه القصاصة التي أسرّنا بها أو دوّن لأجلها ساعة هدوء العاصفة وانسحاب الناس بعد أن اقتلعوا جذور بنايات النظام. مديرية الأمن العام. الاستخبارات. المنظومة الجنوبية. مقرات السلطة، الحزب والمحافظة.

هو يعتقد أنها/ العاصفة/ ما زالت قائمة.

 (إن أول ساعة ارتطام السيل في الحجرات، أحقاً كنا في حجرات؟

قاعات السجن. المحاجر ، لم نكن في مقابر. الأرض التي احتوتنا..

زُقت الحياة بنا زقا.

أُقتُحمنا وعُبرنا.. انتشلونا مثل قطعة نقود "صدئة التقطها معتوه أضناه الجوع.." أخذوا بأيدينا نحو سماء، منذ سنين، لم نرها.

كانت عيوننا ترفض الرؤيا. نصرخ مثل جنين وضع تواً.

خطيئـة أولى:

الخطوات مكان الحلم أو حلم المكان الذي ملأته أقدامنا، نمل هرع من حفرته، آلاف الآلاف أُستعيدت لهم الحياة.

لا أعرف لماذا تأخرت عن الجمع، ربما، لأُراقب الرياح الصفر وهي تقتلع كل شيءٍ أو بنايات السلطة التي تخطتها السيارات.. كانت السفن الراسيات تنفلت في عرض الشاطئ. أو تندفع نحو الخليج.. بيد إنني صرت جزءاً من السيل، عبرت البيوت. المسافات التي طوتها أقدامنا جزءاً من الكارثة، فالخلل الذي حدث فعلاً هو ضياع الطريق أو أن الطرق التي عبّدها الراكضون إلى اللاشيء أضلتنا.. طرق على الأرض وطرائق إلى السماء. الطائرات التي علّبتها الحربُ استعادت قوتها بطائرات الشبح العولمي، لا بأوامر شوارسكوف فحسب، بل أن انتحاره المؤجل أحرق الأخضر واليابس مَهّد الأمر للانطلاق، ثبت البوصلة.

***

 كان اعتقاله الأخير في أول نوفمبر عام 1988 في قرية سونه.. لم أسمع عن

هذه القرية شيئا. قدري أو قدرها أن تخدش أقدامه شوارعها. بيوتها.. أودّع لثلاث ليال في سجن قرية رانية أو كما تسمى قصبة رانية ثم نُقل إلى... أو هكذا وجد نفسه بعد سنين على شوارع مدينة البصرة. العشار بسعته، شط العرب. الكورنيش. أسد بابل. سينما أطلس. شارع الوطني. شارع الكويت. في الجانب الآخر، سينما الكرنك.. أُم البروم، المقبرة القديمة.

 ثمة آثار للحرب.

 ثمة آثار للجنون.. جنونه الأول، يوم لقفته الحروب، ردم الموتى. إنقاذ الهاربين، بعيداً عن معاصريه. سلام. هلمت. فؤاد الهندي. هو... جنونه الآخر، العاصفة التي أعادته إلى الوراء. دفعته باتجاه محلته الهادي.. كلابه ومكتبته، غرفته المهجورة.

* *

 هل وجد الأختصاصيون ذلك مقنعاً لكي لا يودعونه السجن ثانية؟

 ربما، كان أمره مقنعا بالجنون. أو أن توتره عبر المراحل المحرقة أقنعتهم بذلك. الآن، لسنا بصدد جنونه. لنبق مع أوراقه التي تركتنا في حيرة لأن ننظمها كيفما إتفق .

 كان يتحدث بها عن نفسه. عن مهدي ألذي أعرفه والذي لا يعرفه. عن مهدي عدوه. صديقه.. الآخرين، لا ضير أن يعرفهم أو لا يعرفهم.

كان يعتقد أن الجنون بالنسبة إليه سجن.. غرفة وكلمات...

* *

يُحكــــى...

أن قرية أجداده حرير تمخضها فيضان، أُنتُزعت مياهه من الأرض ومن السماء.. طوفان لم يدركه في أول خطواته، أغرق أعالي الأهوار كما أغرق قرىً بعيدة تسكنها الطيور والخنازير. بعيداً عن الأساطير، الجن والسعالي.. الأيشانات. عَبرَ أجداده ليؤسسوا قرية مسوّرة بمعالف الجاموس قريبا من الأنهار أو إلى ما توصل إليه الفيضان.

قريتهم، قريته الهادي، المحلة البعد الآخر. قَذفها القدر على بعد ثلاثة أميال من الفيضان الذي أغرق ثِلثَ أبقارهم. بيوتهم بما تحمل. بعض أطفالهم.

حينما تدخل القرية تتراقص خطواتك بين بائعات السمك وعيون بائعات الحليب والقيمر. عصراً، كانت لبّانات الخاثر يتبادلن الضحك. لنظرات. الكلمات، أحيانا، لا أحد يستوعب سماع حكاياتهن.. سراق الليل. حمالون. دلالو بقر. تجار مشاكل، شيوخ عشائر تُنهي أكبر شجار بدينار يدفعه أضعف الخصوم. أسرار وخفايا يحيك سجادها الهاربون. اللصوص. السياسيون زوّار ومهربون.. كانوا يتخذون الليل لباس مصائبهم، طيور تعبر فضاءاتها، ترتشف غيوما. قطرات مطر لم تصل الأرض لكنها فززت مجنونها مهدي..

 

 ((صقور تصارعت بسماء البيوت. هبطت خلفها، وراء السكة الحديد. لم تفزعها القطارات التي تبدأ من الجنوب. ثمة صقران دارا حول القرية، بيتنا أيضا..

كان دويّ الدبابات حاداً ومخيفاً(لا أعرف ما علاقة الدويّ بالصقور؟ هذا ما دوّنه)وكانت الغيوم الداكنة والضباب الكثيف قد منعا الرؤية عن الوضوح. فُرغت الشوارع من الناس، تكوروا في البيوت. ثمة قطرات مطر ناعمة هبطت كالخرزات على طفل الشرفة البعيد، أنا.

أتذكر جيدا، قبل أن أُلاعب جرادة اصطدتها بعد أن كانت تحوم أعلى السطح. قصصت أجنحتها فبدت يائسة.

الأمطار التي أزداد هطولها أنذرتني، ليل حالك زحف باتجاهي وضعت يديّ على فمي لكي لا أُفزع أمي، الآخرين. اعتقدت أن صوتي يُسمِع مَنْ في البيوت.. تَحسستْ أصابعي شارباً كثاً قد نُبِتَ لي فجأة فصرخت بجنون.))

 

((قبــل البــدء))

الحرب..

لملمت أوراقها وانسحبت. سنوات من الفزع المستمر. سنوات من الأحلام المنقوعة بماء السدر. سنوات من الإنفجارات. من الصبغة التي أحالت كل ما هو أبيض إلى لونها الدموي.

كان هولها المفزع قد هشم صحن الأرض، العسكر ببساطيلهم اختصروا المسافات. عبروا الأنهر أو جَففوها، سحقوا الحشائش، عروقها النابتة في العراء. صيّروا الأشنات رمادا. احتضرت أجسادهم، لكنها لم تمت.

***

ثمة أمـر لا يُنسـى..

أن السنوات العجاف تغور بأحلامنا وإلى الأبد.

للساتر ضيوف يفترشون الصمت وللملجأ فئران تندرس في فراغ الحائط والصحف المعلقة عليه. تطل بأبوازها من خلال ثقوب صغيرة، كانت تشاركنا الحياة. تشاركنا الجوع، تُذكّرنا بالقصعة ولحمة(الروست) والصمونة المتعفنة. كانت تتنصت إلى أحاديثنا النافرة وإلى الرغبات التي قتلها التأجيل.

من الداخل، كانت الملاجئ مغطاة بأوراق ملونة وصحف ومجلات. سور قرآنية. صور أولياء تزاحمها صور مطربات ومطربين. في زاوية ما، تجد صورة محمد علي كلاي وقد خسر نزاله الأخير. أحد الجنود كان ملاكما في نادي الكرخ مزّق صورة تايسون التي أمامه.. الكرة العراقية، هادي أحمد وفلاح حسن أو بيليه.. بيكنباور. أم كلثوم، عودت عيني على رؤياك. الآخرون لا يهربون من الذاكرة. صور ظامئة وجرائد ترابية متيبسة هنا وممزقة هناك..

في الحرب لا شيء اسمه القدر. لا شيء اسمه الرب.. الرب، هو أن تعرف الصحوَ من الجنون. أن تعرف الموت من الحياة. الرب يعني البديل.. حين تتعادل النقائض في تنور الحرب تفقد الأشياءُ دلالتها.

مَنْ لي بمخلّص يُنقذُني.

قالــوا...

في أحد الأيام، كان.... يدرّس طلابه، وقد أنتبه إلى عيونهم وهي تحدق إلى إحدى قدميه. بينما، دفع يده الشمال لتغطي إبهام قدمه الظاهر من أحد جوربيه المتهرئ. دخل شاب وسيم.. مهيب الطلعة تبدو عليه سيماء العظمة والشرف. سلّم على المجلس وقد أُستقبل باحترام الغريب وتقديره، وبلا انتظار وَجّه كلامه إلى سيد الدرس:

 (ما رأيك في امرأة مُسخ زوجُها؟)

فاجأبه الشيخ:

(نظرا لعدم بحث هذا الموضوع في الكتب والرسالات الدينية، فأنني لا أرغب البحث فيه.)

(افترض /قال الشاب/ أن هذا حصل ومسخ فما هو تكليف زوجته؟)

أطرق الشيخ رأسه إلى الأرض قائلاً ثم رفعه ليحدق بوجهه قائلاً:

(في رأيي، إذا مُسخ الرجلُ على شكل حيوان فعلى المرأة أن تأخذ العدة للطلاق ومن ثم يُمكنُها الزواج بآخر، أما إذا مُسخ الزوجُ على هيئة حجر أو جماد فعلى المرأة أن تأخذ عدة الوفاة بعد أن مات زوجها.)

وبينما قام الشاب من المجلس طالبا من الشيخ سعة الدرس أمر طلابه أن تلحق به، غير أنهم بحثوا في أزقة ال... ولم يجدوه.

***

لا أعرف لماذا ترك هذه القصاصة مع أوراقه، بل أشك في أنه لم يتخلّ عنها..

لم أُفكر بالمخلّص، فكرت في رجال الحروب، غُيبوا، ربما مسخوا إلى شظايا وصخور.. بقايا ملاجئ. نساء كثيرات وحاجات منتصف الليل، أول الصباح. بعد الظهر... الحرب لم تنته.

..وحده أو وحدك امتصصت أرقهم، سلموا أوجاعهم إليك. كانت أمانة في عنقك... واحد، اثنان، أربعة، مئة، ألف، بل الملايين، يلتحفهم الموت القريب والصمت الغريب.

.. والنساء؟

***

كان الليل في أوله والسكون في أوله.. الأوامر الصادرة بحبس النار في أولها. الغيوم الرمادية التي فُرشت ستائرها في السماء اكتفت، في النهار، بفراشها الثلجي.

قلعة بشدر تطفئ أنوارها(انه جزء من الأوامر)قبل قليل كانت بعيني جندي القمة الحالم بالسلام قطعة من السماء اجتزت بنجومها المتلألئة العمق.

في العمق، كان "سلام" يهبط وعبر الشق المتصل إلى المنحدر يتبعه جندي المرصد. ينزل في النقطة القريبة من اتجاهه. يعود أدراجه إليّ، يؤدي التحية، لم تكن تحية عسكرية، فأنا جندي مثله، أتذكر إنني لم أجبه.

مد أصابعه في الظلمة الحالكة ليتحسس الحبل الذي أوثقه سلام على وسطه وأنطلق.. إذا كانت بداية الحبل لديه فنهايته تتكوم في النقطة.

(لا أريد اِتصالا لاسلكيا.. لا حاجة للاتصال بالسلك.. الحديث مسموع من الجانبين.. الحبل وحده الإشارة بينكم.)

كانت أوامره الصادرة؛ أن تتوقف عن سحب الحبل، يعني أن سلاما وصل النقطة، أكمل ضلع المثلث..

ما بين جبهتنا وجبهتهم حبل من نار.. بيني وبين سلام حبل من القلق والانتظار... بينه وبينهم لا حبل سوى الموقف.

أن يُنفّذَ حسبما أُمر تتصل النار بالنار، لا حياة بعد ذلك في زوايا المثلث. أما أن يُنفّذ ما يريده فذلك حبل من الأمل، يوصله إلى فراغه الثلجي، تجمعه إرادته وتذوبه إرادة ممن يحبون الحياة.

لم أر كما لم ير الجندي الداخل إلى النقطة توا سوى مترين من الحبل الخارج عن النقطة باتجاه العمق، فالحياة بيننا هي الحبل السري.. وعلى الطريقة التي اِتفقنا.. سلام، أنت تعرف الطريق جيدا، درسته في النهار وحفظته في الليل. الأرض التي بَقّعتها الثلوجُ الخفيفة والصخور التي جرّدتها الرياح من الثلج لها القابلية على رسم ملايين الأشباح.. أصوات تفاجئنا بالرصاص.

(لا بأس بغيرك..)

قال أحدهم فرفض سلام.

كان يعرف، أن المهمة لم تقف عند إخلاء جندي مات إثر الاشتباك الحاصل منذ أسبوع، أهملته مخاوف التقدم في الوادي. غمرته نتف الثلج المتساقط قبل المعركة بليلة واحدة وحتى يومها الثالث. أربعة أيام كانت كافية لأن تمطره في وادي الموت. موت لا رائحة له أو منه.

الرياح الشمالية الباردة كانت ترفع بصفيرها الحاد الجليد فينكشف جثمانه الوحيد، فمنذ لحظات التجبر البشري وحتى الساعة التي قربت سلام من الآمر ليسرّه ما كان يتوقعه...

أ لهذا كان مصّرا؟

قلت في سري، أنا صاحبه وخليله وماسك حبله العلني من النقطة إلى الجثة وحبله السري من القلب إلى...

(إن لم يكن من جنودنا إلغمه)

قال الآمر.

كان يعرف ذلك جيدا. مشيئة من الحياة دفعته إلى الظلمة. مشيئة أسدلت الستارة على عينيّ الآمر الحالم بتلة موتى.

لا حيلة الآن..

هاهو مسجى أمام سلام. صدره إلى الأرض. قدماه ملمومتان إلى بطنه. يداه قابضتان على شيء خمّنه أول الأمر مخيفا:

عجيزة تتجه إلى زاوية المثلث المقابل. وجه مستدير إلى الأعلى، مملوء بالدم. عينان تتطلعان إلى القادم تتفرسان وجهه الشاحب.

لم يسأله سلام، أيّ وجه قادم ليلة البارحة؟

ربما اكتفى، أن يمرر يده على وجهه الشاحب. يغمض عينيه ثم يفتحهما. شيء من القامة يندفع إلى جسده فيقشعر، يستفزه أو يُستفزُ منه، برودة لا علاقة لها بالزمهرير وليله الثلجي.

أيمكن أن يبقى حياً؟

تسأل الجثةُ سلاما ويسألها...(هذا ما أعتقده ولم يسرّه لأحدٍ سواي).

أن عيني الجثة تشعان بالأسئلة:

(مَنْ أنت؟)

(لماذا أتيت؟)

(لا تتركني...)

لا تستغرب حديثه. فيما بعد قال سلام..

(في يوم ما ستكون على يقين، أن الموتى يحلمون أيضا. وأن الجثث أسرار عميقة ستُبعث من جديد)

كان سلام قد اقترب منه أكثر. جَس جسده الجامد من برودة الليل. حاول أن يقلبه فارتعد أول الأمر، شيء ما دفعه إلى الهرب، العينان اللتان كانتا مفتوحتين وجدهما مغلقتين. ابتعد عنه وبالقدر الذي يراه في هجيع العتمة يتوقف.

أنا، لا أعرف لِمَ شددت الحبل بيني وبينه؟

لم يكن مقطوعا، حاولت سحبه فسحب الحبل الذي إنداف ببياض الثلج ثُم أرخاه فعرفت أنه في أمان، لكنني لَمْ أعرف أنه خائف.

((لا نحتاج إلى التسديد، الحبل وحده سيدلُّنا إلى الهدف))

قال الجندي الهابط إلى المرصد. رمقته بعينين تطاير منهما الشرر سحبت البندقية قليلا، أقسمت في سري لن يحدث ذلك البتة.

 ثمة أبواب/ لا يتوقعها أيُّ من تلك السلطات الحريفة في نقل بيادقها/ سأفتحها للموت..

((ربما ربط الحبل بإحدى الصخور.. انتبهوا إلى كل شيء))

 قال الآمر.

 (حّرك الحبل لنتأكد)

 كاد جندي المرصد أن يقول للآمر شيئا.. غير أنه دفع يده إلى الحبل فأمسكتها.

(أنا المسؤول عن كل شيء)

 قلت.

 (ولكن...)

 قبل أن يكمل اهتز الحبل من العمق فاطمأنتْ نفسي، إذ كان يتابع الأوامر، تحركات الوادي والجثة المتجمدة قربه، عينيها اللتين تأكد من إنفتاحهما، كان إحساسه بالموت هو إنغلاقهما. يقترب منه ثانية، يحاول أن يدفع بقايا الثلج المتجمد عن ملابسه. يدفع يده إلى تحت جسده. ربما، يشعر بخوف يسري في جسده، ثمة رمانة يدوية معلقة في حزامه العسكري.

 كانت الرمانة باردة ومحفوظة بحلقة الأمان، يتركها سلام ليبحث عن شيء آخر، لا شيء هناك، لم يكن ثمة قادم قبله يلغمه. يُقلّبه إلى الجانب الأخر. يفتح أزرار قمصلته. جيوبها. بنطلونه الجبلي.. لا دليل إلى هويته، يتذكر قرص الهوية المعلق في الصدر، لا أثر إليه، كما لا أثر إلى الوشم أو علامات في جسده.

 ثمة/كنت أقول إلى سلام/علامات تدلك على انتسابه إلينا أو للبلد المقابل.. جل قدرك، إذ تحاول فتمنعك طلقة التنوير، تنبثق من القمة المقابلة تتمدد، مثله، ميت آخر لا يتحرك، تشعر بالخوف ثانية.. لا لأنك قربه، سيشاهدونك في أية لحظة.. بل، لأن اللحظة أكثر هولاً من الموت نفسه. فالموت ليس عذبا إلى حد كما يتصوره(يوكوميشيما) في اعترافات قناعه. بل، المستقبل المجهول أثقل عبئا.. موت لم يطفئه سوى اليقين.

(خوفي أن..)

قال مبعوث الآمر قربي.

(أتراه أنت؟)

قلت له. فسكت..

ثمة إطلاقات متفرقة تنبعث في الجهة المقابلة.

(لا إجابة من قبلنا)

كانت تلك الأوامر.

(إرخ الحبل..)

فأرخيته كما أراد. لم أجبه، كانت إجابتي إلى العمق ومن العمق، معه.. مع سلام الذي حفر ذاكرتي التي لم تدون بعد.

إطلاقة تنوير قد أُضرمت فوقه. ربما، نسيجها سينزل على الجثة أو يحف موتهما المرسوم سلفا.. يتحرك الآن، يمنح نفسه شعورا عظيما بطريقة الموت.. الموت الذي لا يكون باردا، فالاختيار أسهل من فكِ اللغز.. يتحرك فعلا، يدرك أن لغما كان قد ثُبّت مسمار أمانه أو هكذا تعلم طريقة استخدامه.

الآن، ما عليه إلا أن يدفعه تحت الجثة لتضغط عليه ثم يتركه لأي حركة قادمة. سيأتي جندي آخر، من الجهة الثانية. ربما، لإخلائه أو يفعل ما فعله سلام ويحدث الذي لم يتوقعه من الذي فَعله جندي الجهة الثانية، قادم الليلة الماضية.

كان على يقين، أن جندي الليلة الماضية قد غار في صحرائه كما غار سلام ألآن في صحرائه وسكر كما سكر، وقدم إلى الصخرة البعيدة عن الجثة كما قدم أيضا، ترك سلام اللغم قرب لغمه. أفزعه أول الأمر، مستدركا، ثمة أحباء للحياة. ثمة مبغضو حروب.

الآن، هشمه قول مأثور(أن يبقى حيا ما دام ذلك ممكنا..) عندها أدرك أن الرجل الميت مهم بالنسبة إليه، لذا عليه أن يبقى حيا.

***

أيمكن للحرب أن تنتهي؟

وحدها.. كانت تتقلب على الدبن من بين مجموعة بغال مرقمة ومسوّمة باسم قاطع الفرقة(24) في حضيرة حيوانات، عند السفح نازل بأتجاه سرية الأسناد، قبالة ملجأ رحيم البغّال والضيّفية على الوحدة العسكرية. نظرتُ إلى الباب الذي فُتح توا ليخرج منه الجندي فؤاد نور الدين شمس الدين، أو كما يُسمى فؤاد الهندي بيده جليكانا ماءٍ فارغان. لم يتبعه أحد لذا استدارت البغلة التي تنتظر فتح الباب، غير أن الهندي تقدم نحو الحضيرة تاركا الأُخريات دون حراك.

 أقترب منها ليسحبها من حبلها فتراجع وقد أبعد ذراعه من أسنانها الحادة وحال تراجعه قفز من ركلتها.

عاد إلى الملجأ. ضرب الجليكانين على الأرض. انفجر، جدف بالرب لعن اليوم الذي جاء به إلى هنا. كان قصير القامة. طويل الشعر، فاحماً ومدهوناً، بل أطول شعرٍ تحمّل صاحبه عقوبات عسكرية. لا يهتم بالواجب أو خدمة جماعته في الحضيرة لم يذهب إلى القصعة أو يرتب اليطقات، ربما، ينظف مكانه من أعقاب السيجاير. لا يتعب نفسه كثيرا، لكنه ثرثار وممل. بينما عاد إلى الملجأ فتح فمه دون انقطاع؛

 (قلنا لك لا تُعلّمها هذه الطريقة السخيفة. لا أُصدق أن رجلا يمسك بغلة وينزل بها إلى الوادي. يمارس معها كأنها امرأة ألا تخجل من نفسك.. بأعجوبة تخلصت من ركلاتها، كادت أن.. أما أنت يا بغل فتذهب معك بسرعة مثل عاهرة...)

ضحك رحيم وقد ترك الفراش وأحكم قميصه ليغطي فانيلته الممزقة من الصدر. لبس بسطاله غير الملمّع وهمّ بالخروج.

(لا تذهب القصعة عليك..)

لم يهتم رحيم إلى قول سلام التائه وسط أحلامه. وضع ملابسه في كيس النايلون وحمل بدل الجليكانين أربعة وتوجه ناحيتها.

كان رحيم طويل القامة. عريض الصدر ومفتول العضلات. لم يشرب الشاي. يحب أكل دهن الحر والعسل والدبس، بل يشربه دون أن يخلطه بالراشي. فتح رحيم حبل البغلة لتسير بسرعة نحو الوادي، كانت تعرف طريق عين الماء. يلتقي بجنود يحملون الجليكانات على أكتافهم ويصعدون إلى القمة. آخرون.. في هذه الظهرية المشمسة لا وجود للقصف أو لتبادل إطلاق نارٍ. كل شيء هادئ.

(اغتسلت وغسلت ملابسك. صحيح؟ منذ فترة وأنا متحير معك، لا أعرف كيف تعطيك بهذا الشكل المقزز، ترفع ذيلها وتتراجع إلى الصخرة التي.. ألا تخاف من القصف.. انك مجنون. أنا رأيتك أكثر من مرة، لا أحيانا تأخذ لها صمونا لتتأخر على راحتك. أنت تأكله أم هي..؟ طبعا تضحك، أضحك.. ها عصرت فانيلتك الممزقة من الماء.. وتريدني أنتظرك على الأكل... أنا أصلي هندي، من أين جئت لكم، لا أدري؟)

(والماء، مَنْ يأتي به، أنت؟)

ببرود أعصاب قال رحيم وهو ينشف ملابسه.

نظر فؤاد إلى البندقية. بصق عليها. سحب نفسا من سيجارته التي تزعج رحيم دون أن يمنعه منها، بل خاف ثرثرته، قرّب السيجارة المتوهجة من صورته مع المرأة التي يعشقها، ثقبَ مِن بين فخذيها، مط شفتيه الغليظتين. ليقبّلها(بنت الكلب أوحشتني).

بينما كان رحيم يعلق ملابسه على حبل الملجأ الممتد أعلى فراش سلام قال بصوت محموم أو هكذا تصوره.

(أنت أنهيت دراستك وأنا لم أحصل حتى على الابتدائية والفرق.. كلنا بالهوى سوى، وعلى رأيك، الموت واحد والقذائف بلا وطن.. تدعى هنديا. طز).

بعد شهر، وقفت البغلة قرب رحيم الذي ألقى ثيابه جانبا وأنزل أحمالها ليصعد الصخرة التي تراجعت إليها، قبل أن ينتهي منها بدأ قصف عجّله لارتداء ملابسه وضع جليكاني الماء وترك آخرين ينز من أحداهما الماء كما نز الدم من صدره. قبل أن يسقط ضرب البغلة لتنجو بنفسها من القصف.

وبعد شهر أيضا، عَبَرَ فؤاد إليها وقد جاءت معه على غير عادتها، بهدوء وضع الجليكانات على سرجها ودون أن يضربها ركضت إلى عين الماء قريبا من استدارة السفح الحادة وعلى غير توقع توقفت. حاول أن يحركها. ضربها أكثر من مرة، بلا فائدة.. اقتربت من السفح ولم تنتظر، ألقت بنفسها إلى العمق، في وادٍ سحيق ملأته الحرب جنودا وبغالا رُقنت أرقامها.

كانت الليلة الوحيدة التي هدأت بها المدافع ولم يمت بها أحد. كان السكون فيها غريبا والصمت صفيرا في الآذان. لا أحد يعتاد عليه..

 مثل حلم توقفت الحرب..

كل البيانات والهتافات وموسيقى الجاز، موسيقى الحرب. طققت الأيفات، كلها اندفعت وباتجاهات شتى..

نبقى مع سلام وخطواته الثقيلة. نتذوّق ريقه الحنظلي. نتحفّظ عن أسئلة ثاقبة، وحده مَنْ يَجرؤ أن يكرر في الوجه السؤال:

(ماذا جنيت؟)

(بل، ماذا جنيت؟)

لم تكن الحرب قد انتهت.. ثمة جفاف لعروق قد نضبت.

***

حينما سُحب "سلام" من قِبل فرقة الإعدام المعدّة من قيادة الفيلق الأول يصحبه موكب احتفالي، إيعازات عسكرية ومفاخرة بيوم إعدام جندي لم يطعْ الأوامر..، جفت عيون الماء الدافئة في الشتاء والباردة في الصيف. الأنهر السافحة باتجاه الجنوب، بالتأكيد لم ينس أحد شاهد البنادق العشر وقد انتشرت على جسد سلام المنتصب(عنوة)على صليبه، لم يعرف أسماء أصحاب البنادق. لم يعرف أسماء أولئك الموزعين للتفرج أمام الفرقة العسكرية لكنه، وان كان معصوب العينين.. عرف آمرها و بعض ضباطها، أحدهم، كانت عيناه شائهة وشهقته خرساءَ أراد أن يقول شيئا لكن سلام بادر بعد أن تأكد منه جيدا

(نفّذ لهم ما يريدون، سيكون بقاؤك مثمرا..)

 كان يعرف الكثير عن توجهات الضابط (لم يذكر عنه شيئا).

بالتأكيد، قبل أن تستقر الأطلاقة الواحدة بعد المئة في جسد سلام برقت في ذاكرته صور ضباط أقلوا مركب الحرب. جنود مددوا أجسادهم على اليطقات ساعات اللاقيلولة، كان ينتبه إلى أنسراحهم أو رقودهم كموتى في سراديب، برقت في ذاكرته الصحف الممزقة. كنى الجنود، شهادات الموتى، كانت رائحتها كبلل أتربة الصيوف اللاهبة، عطنة وخانقة.

***

عندما أنتهت الحرب تنحو جانبا عن الأحداث، الضباط والجنود إستعدوا لساعات كانت الحرب قد أجلتها، بعضهم نام قليلا فحاصرتهم الأحلام/ هذا ما أعتقده في مذكراته/ حاصرت سلام قبل إعدامه، فززته قبل ثمانية أعوام وستة أشهر وأربعة أيام وساعتين، كان طويلا ومخيفا، مثل أفعى رمل، صفراء وسائبة. إنتفخت أوداجَ مَنْ فاجأته الحرب ولم يمت حتى نهايتها.

قال في نفسه، ماذا سيحدث غدا؟

بينما تحركت أقدامهم إلى فضاء أحلام لا طائل لها..، تحركت قدما سلام إلى الملجأ، إقترب من السراج، حرّك عتلته، خجلةٌ إنسحبت الظلال، كاشفة عن مشهدها الغريب.. ثمة قوة ألقته على الأرض ولم تدفعه إلى التفرج، كان قانون الفضاء الجديد غريبا، يتنفسون الموت وينزلون به تحت الأرض، حيث الملاجئ تشبه رائحة المقابر، كانت الرائحة زفيرا. يمس حاوية السراج النفطي الذي استدار به ماداً ضوءه إلى الخارج. (أدرك ذلك في السلم. في الحرب كان لدخان البنادق وحرارتها طعم أو ضباب أفقده الرؤيا)عند فتحة الباب إرتجفت يد سلام التي تحمل السراج وارتجف الظل أيضا. كانت الوجوه مثل أوراق الخريف، لأشجارها الجرداء إحساس لا يروم السقوط. حملت وجهه ذبالة الضوء إلى الخارج غير أن هبوب الرياح أمالته إلى الجانب ولم ينطفئ في الملجأ.

قبل الفجر، كان الظلام حاداً والقمر بعمره الأخير بزغ ضعيفا وخابيا وكانت أصوات القرآن وأدعية الصباح تتعاقب في فضاء القرية التي دبت حركتها لتعلن إقتراب آذان الصبح، حيث الصلاة وراء الشيخ آغا حمه رزكار جامعة، في مسجده الذي بناه في بداية الأمر لوحده بعد أن أسسه أبوه رزكار الحداد ثم شاركته كبار القرية بجمع التبرعات وشد الأزر. بينما، الشباب أخذوا على عاتقهم البناء كانت النساء توسّم واجهة باب المسجد وحيطانه بالحناء، لعل الشيخ يدعو الله ليحفظ أولادهن من كل مكروه فأدعيته مجربة لشفاء المريض وعودة المسافر وإنقاذ المسجون فهو الذي حلم أن يبني المسجد على بعد خمسة أميال من ثكنة عسكرية نُقل اليها سلام قبل سنة ، فيما بعد أصبحت الثكنة أكبر معسكر في قصبات رانية وسونه وجوار قرنة المتجاورات، بعضهن إعتبرن هذا من عادات الجنوب لاسيما وأن أول كفين وضعتا الحناء هي سلوى الشطري التي تزوجت بعد أن تعرفت على أهل زوجها قرب حنفية منطقتهم الوحيدة، قضاء الشطرة في الناصرية أثر تهجيرهم من إقليم كردستان ولم يتم الزواج في ذلك اليوم بسبب نهوة أعمامها الذين سمحوا لها بعد أن أعطى خطيبها أخته لأخيها.

ذات يوم جاء أخوها بزوجته وإبنه وبنتيه بملامحهم المعجونة بين أهل الشمال والجنوب، يومها إندفعتْ إلى المسجد الذي حقق لها حلمها، فمنذ ذلك اليوم ولم تترك أغلب نساء قرية رانية المسجد والحناء لأي طلب يريدنه لا سيما بعودة غيّابهن المطاردين.

هذه الليلة، لم ينم هلمت بن الشيخ آغا رزكار كما لم يطفأ سيجارته العشرين، هو يعرف لماذا كانت أيامه قلقة لكنه لا يعرف لماذا قلق هذه الليلة التي نشر فيها العسكر إطلاقاته المتكررة في عمق الوادي وأمام القرية، بعضها كان مُذنّبا ينطفأ في سماء القرية وقبل الوصول. سحب من درج المكتب أوراقا إحتفظ بها داخل مجلة مستنسخة، إتكأ على وسادته. أراد أن يقرأ لكن أصوات الرصاص بدت قريبة وكثيفة. ترك الأوراق جانبا حاول أن يندفع إلى خارج الغرفة غير أنه سمع كلماتٍ مخنوقة وهمهمة قريبة من شباك الغرفة المطل إلى الخارج. لم يكن الصوت واضحا فنباح الكلاب من جهة وأصوات الرصاص من الجهة الأخرى، إندفع كي يفتح الشباك، ميّز الصوت، خلف الحائط، عرفه جيدا، تأكد أنه سلام، صديقه العسكري، ما كان قدومه غريبا فقد دخل بيته عدة مرات، غير أن الليلة وتحت أزيز الرصاص...

(هلمت.)

(سلام..؟)

(نعـم.)

(هل من شيء؟)

(افتح.. افتح بسرعة..)

همّ هلمت نفسه لفتح الباب سمع دبكات قريبة، جعلت سلام يدخل حال فتح الباب، انتاب العائلة الخوف ارتجفت قلوبهم وكادت تهوي من الذعر.

 (هل حدث شيء..الرصاص عليك...؟)

فاجأهم الشيخ آغا بدخوله البيت واندفاعه إلى غرفة هلمت وقد تبعه مع سلام. حدق بوجهيهما المنارين بمصباح الغرفة تابعهما كما كان يتابع أثناء قدومه من المسجد قذائف التنوير ورشقات الرصاص في جميع الاتجاهات.

قبل قليل، كان أحد الجيران قد أخبر المصلين، أن هاربا دخل القرية وهي الآن محاصرة ومُنع فيها التجوال.

أمر سلام أن يخلع ملابسه العسكرية بعد أن أطفأ المصباح وأشعل السراج فظهر جسده الحنطي نحيفا تكاد أن تُعدّ أضلاعه. كان الشيخ يشعر بخطورة الموقف فالجميع يعرف علاقته بابنه لذا أمرهما بترك البيت على عجل.

(يجب أن تسلكا الوادي الغربي صعودا باتجاه النهر، حاذرا من السفح، خوفي من الكمين لم ينسحب بعد.)

قال الشيخ بقلق وقد ترك هلمت يودّع اُمه وأخوته. أوراقه وكتبه..

 قلوب واجفة وحزن أبديّ..

 عادة حين تشرف أية مشكلة على نهايتها يكون القلق نصيرها الوحيد لاسيما وأن القضية قد بدأت وانتهت على طاولة الاتهام.

كان لهلمت كلب رافقهما الطريق ركض قبلهما ورجع بسرعة خلفهما، لم يكن ينبح لكنه بدا مذعورا من صوت الأطلاقات المتعاقبة والموزعة على جهتي الوادي. تحركا بين الصخور. تجاوزا نصف الوادي وعند نهايته اقتربت إطلاقات الكمين منهما، لم ينس سلام موقعه لذا انحرف بصاحبه للسفح المقابل غير أن إطلاقة تنوير أفسدت عليهما العبور فانكشفا. حاول سلام أن يقاتل مع هلمت الذي تسمر بمكانه ليشد عزمه رافضا رجاءه للهروب، معتمدا عليه. كان الكمين قد أُسند بقنابر الهاون التي تكاثفت عليهما.. بينما أُصيب سلام بكتفه إصابة خفيفة كان هلمت قد مددته إطلاقة BKC قرب صخرة كبيرة. لم يُر آثار الدم على جسده، كانت يده فوق صدره المخترق وكأنه نائم.

انسحب سلام باتجاه النهر صعودا إلى الراقم 2477 المتروك(حسب المعلومات العسكرية) مستغلا انقطاع الرمي وقنابر التنوير لاعتقاد جنود الكمين أنهما قتلا.

(لابد وأن أذكر ما عرفته عن الكلب)

لقد عاد إلى البيت بأقدام ثلاثة بعد أن فقد واحدة قرب هلمت. لم ينبح عند دخوله البيت كما لم يستطع اللهاث. مد جسده أمام الشيخ ومد لسانه المزرق ومات.

كانت عائلة الشيخ أول من عرفتْ بالمصير المحتوم وأمام نجمة الصباح التي بدأت بالانفلات عن الرؤيا صرخت الأم وصرخ الأطفال بينما الشيخ آغا انزوى بالمسجد حتى ارتفاع الشمس.

عند ارتفاعها الشاهق وبيان اتجاهها أعلى الحاجب الأيسر من جهة القبلة اندفعت أصوات آذان الظهر التي نوديت من جميع المساجد عدا مسجد الشيخ آغا، فقد تأخر قليلا ثم صعد المنارة الصغيرة. مشت الأرجل على الظلال الحانية بانحدار الأرض، قصدت أصحابها للاستفسار عن وجوب الصلاة جامعة وراء الشيخ، فالجميع كان يحبه ويعتبره سيد القرية الأول.

 أخيرا، أذّن تاركا الجنود(أنا أحدهم) خلف المسجد وفي الأزقة متهيئين ببنادق تندفع بأي اتجاه يريده العسكر أو تناوره ردود الفعل غير المتوقع. أحد الضباط أمر حضيرته بالدخول إلى المسجد فمنعه ضابط آخر.

(ليس الآن.. انتظر الأوامر.)

بعد أن فرغ من الصلاة وقد أطال الدعاء دفع يديه ليقيّدوه أمام الباب المُحنى. الضابط الذي منع زميله الدخول إلى الشيخ ركب في سيارة (اللاندروفر) وقد أصطحبه في المقعد الخلفي مع جنديين إنتخبهما، كم تمنيت أن أكون أحدهما، أن أمسك يديه، أشد عليهما.

قبل أن يسحبوه إلى السيارة حدق بوجه المصلين وبقية المتجمهرين الذين نكسوا روؤسهم، ليس لأجله فحسب، بل لمقتل ثلة من أبنائهم، قالوا أنهم قياديون في الحزب الشيوعي العراقي وتصفيتهم تمت لبيان مصداقية الصلح الذي فشل بين الشخصين المتنفذيّن في أقليم كردستان مع بغداد، أحدهم قال أن(الكولونيل)مهندس السياسة... لا أحد ينسى، يوم قبله تحت حلمة نهده، في القلب...

كان الشيخ متألما مما يجري، لكنه كتوم ولم يسمع منه سوى.. لا حول ولا قوة إلاّ بالله...

 

ســــلام..

الآن، وقد أصطحبه الضابط إلى التحقيق. كان أطول منه، أبيض البشرة عَبر به الرواق. كان مصابا، نزف دما كثيرا. أمر الضابط بمعالجته، كان حرصه أن لا يموت وحرص سلام على السر الذي بينه وبين هلمت ورزكار والنهر وقنديل. حين دخل مع الضابط إلى غرفته الباردة لم يفاجأ بالشيخ أمامه فهو يدرك ما يفعلون، بل الشيخ قد انتابه الرعب والأصح الانتكاسة التي دفعت رأسه إلى الأسفل، أسقطت عمامته بينما لحيته أضاعت لون وجهه المتعب. كانت يداه طليقتين، حينما تحدث لم يقطّب، كعادته، حاجبيه.

(سلام.. بنيّ أن هلمت قد مات لا تحاول أن تخفي شيئا.)

ببراعة وصدق، وكأن الأطلاقات لم تخترق جسده والمسافة التي قطعها على سفح جبل لم يبرح الجليد قمته، حين لحقوه كان فاقد الوعي. سحبوا بنادقهم. إفترسهم الخوف وعلى الرغم، أنهم وجدوه ممددا.. ظنوا أنه ميت. اصطحبوه، لم يكن خائفا من صراخ الضابط الذي تركه مع الشيخ ليقنعه.. اعتذر من الشيخ، كان حازما مما شجع سلام أن يفتخر بصداقة هلمت وبأوراقه التي تركها تحت وسادته(نسخة احتفظت بها، لا بأس أن تكون هامشا).

لم يتحمل الضابط استرساله في الحديث مع والد هلمت لذا دخل عليهما فوجد الشيخ يستمع وقد وضع أصابعه العشرة على رأسه تاركا وجهه مندسا بين ساعديه.

(خذ جثة ابنك دون أن تثير أيّة مشاكل.. دون عزاء.)

كان عزاء الشيخ البكاء والصمت وغرابة النبؤة التي أسرها معلم غريب، ذلك الذي دخل القرية ليلا وخرج منها فجرا، لم يره الكثير. قال عنه أنه ابن سرة (يقصد سرة البطن ) سيموت أما بطل مفخرة أو ذليل شاطئ.

كان عزاء الأم.. شقت طريق الموكب. التصقت بالجنازة. قبلتها. صرخت باسم الشيخ رزكار الذي نسمع به ولم نره. التفتت إلى النهر الذي كاد يغرق به ذات يوم.. تذكرت أوراقه التي لم يكمل شجونها حتى موته.

 

قالت الدايـة:

 (قالت أمي عن أمها عن... إذا ولد الطفل ملفوفا بغشاء فاحتفظي بذلك الغشاء له، سينجيه من غِيَرْ الزمان وتكالب العدوان أما إذا ولد وقد دار سر البطن على رقبته فهو ابن شقاء، إن لم يمت بالغرق، صائحا مولولا لأن ينجيه سالك طريق أو مغامر جرف، فأعلمي أن موته مناصرة لأهل الحق ومجابهة لأصحاب الباطل وولدك هذا بين الأمرين والله حافظه وعالم سره.)

الجميع، كانت على يقين، ليس الشيخ آغا أو عائلته أو الجبال التي خطاها مع سلام. الوديان التي لم يصل إلى بعضها، بعض عيون الماء المتدفق ببرودته صيفا ودفئه شتاء، يقينهم بالأطلاقات التي اخترقت جسده ولم تمحوه، دمه، كعيون الوديان كلمات الرب الذي يعتقد به سلام.. كان قد شُبه للبعض من أهل الصليب، ولا أحد ينكر ممن شاهد الموقف، أنهم رسموا علامة الصليب على صدورهم، قالوا عنه: يعتبر زيارة الفقراء حجة. يطعمهم الصبر ويلوح للقريبين منهم، أن الحق قادم...

......

كان سلام القادم من الجنوب والصاعد عبر مياهها النازلة عنوة، يدخل عمر الشبهات، يدخل في زمن اللا حدود أو لا حدود لمملكته سوى الجوع والحرب والغثيان. مَنْ كانت لا تتراجع عنه العجلات المحملة بالفناء والتي دفعتها المصالح غير المنتهية إلاّ عند رؤية المشاة وقد مُسخوا(أمام أعينهم)إلى قردة يمشون على أربع، لكنهم يحملون بنادق ورمانات يدوية. يجرون المدافع إلى قرىً آمنة بعد أن أشبعتهم حروب الجوار.. هناك حيث قابيل غيّر شرائعه إلاّ شِرعة السيف التي ينبجس من مقبضه الدم.

حضر سلام في ذاكرتي، كما يحضر دوما لينقذ الحيارى. التائهين على الطرقات. يحتضن المولودين توا، يزق بأفواههم الحكمة التي تعلّمها بالتجربة، يؤذن في آذانهم اليمين ويقيم في آذانهم اليسار. يطرق أبواب الليل ويتسلل من بين البيوت. يصعد عبر السفوح، كان يقول:(الوديان مطبات الغدر). يمتطي قمم الجبال كلمح البصر وبذات اللحظة يعود إلى الجنوب، مدينته الآسرة، لا أحد يعرف شيئا عن حياته.. في يوم تجده نوخذة. وفي ساعة تجده صيادا تخافه الخنازير.. في أي يوم وأي مكان يصرخ الناس باسمه تسمعه، تجيبهم رسائله، المنبعثة من الأهوار المحترقة، من حرير مدينة أجداده.. رمادهم، كانت وما زالت تذرها الرياح.

 

رسائل وبعض كتابات ...

صديقي الجنوبي

لم أعد أتصور ذلك التيه، الوهم الذي فخخ ذاكرتي. قالو: أنك أحدهم، ورغم أسى التأكد كذبت نفسي وقلت أنك بينهم وأن القادمين قريبون حد التصافح والعناق. أمد اليك يدي لعل الخطى التي أفلتت في الأسى تدثر غربتي.. أنا أسير السفح المغتصب. تصور كيف أعطش وأنا الهابط منذ المساء في أهوارك التي جففها... وأحرق قصباتها. كنت أنتظر القمر الفاضح لكل الأصابع الموهومة بالخلود. ربما أصابع قتلانا على قمم الجبال. بل، على أهبط أرض حضنتها البصرة، الميناء برافعاته العملاقة الشاهد الوحيد على هذا الوهم. مازلت تعيش بين العسكر، غير أنك تنام وتصحو عكس الأتجاه، تعد القانتين إلى الرب. تتذكر الحيارى وقد التحفهم سوق المغايز في مدينتك البصرة ومومسها العمياء، أم غيلان التي تنتظر الشتاء ليغسل تمثال شاطئها المحفوف بأغلفة إطلاقات الحرب وطقطقات جسر العسكر الوحيد. تتذكرهم تحت ظل الثبات الذي هدهدك في مهد لم تر منه القطارات التي تبدأ من الجنوب لكنك تسمعها من دون أن تنتظر فيما بعد إخلائك القادمين وقد ملأوا الفراغات أسىً وصروحا.

أتذكر، أنك تهدهد الليل/ كما قلت/ ووحشتك التي تعد رؤوس أبناء عمك وابنتهم الوحيدة. تلحظ رأسها الذهبي، كما تغض البصر عن زوجة عمك التي لم تفرّقك يوما عن أبنائها وزوجها الحالم بالأمان.

ألآن، أُلملم أوراقي وأنسل في ذاكرتك وذاكرتي الموحشتيّن، أن قدميّ متعبتان. أجلس على أريكة العائلة، أتطلع إلى وجوه عائلتي فيلزمني التيه.

صباحا، في جهة وادي القرية البعيد وجدت خوذة استوقفتني بثقبيّها المتقابلين ودمائها المتيبسة، لم أر صاحبها.

أعتذر لعدم إكمال الرسالة لأن والدي كان متعبا.

 صديقك هلمت

.....

ثمة أوراق أخرى أودعها هلمت عند رفيقه سلام وأودعها هذا في بيته، غير أنني وجدتها عند مهدي، بين أوراقه المتناثرة.

كانت الأوراق مستهلة بحرفين، أعتقد أنها اسم الكاتب(ح.ن) فيما بعد عرفت أنها نُشرت في مجلة محظورة باسم(حسين نرجس) ما هي إلاّ بانوراما تقترب من الدلالة والتوثيق أكثر مما هي جهد أدبي، إذا لم نقل أنها أدب تسجيلي.

(يموت الشهيد ويعطي آخر نبضة للحياة التي إستخف بها لذاته وقدّمها قربانا لغيره، يموت الشهيد وينكفئ على تراب الوطن: يلثمه ويغرس أصابعه في ثناياه ويعطي الحنان الأزلي لأمه الرؤوم لتلك اللوعة، الحياة.

أتشبث بكل شيء في تلك المدينة المخنوقة عمدا وإصرارا وأجهد نفسي لكي أُجسدها أمام ذاكرتي المثقلة بالعذابات. أُريد هنا أن أكتب عن حلبجة وأيّتامها وأراملها الباقية بين معوقة ومشلولة أو مفتولة السواعد.. أن الشهيد هنا كان مدينة مترامية الأطراف، ناضر وجه وناصع تأريخ. أن الشهيد هنا ليس الإنسان فقط، بل البيوت والمدارس والمعابد والمكتبات.. أيضا.

 

المشهد الأول

شاء القدر الخردلي أن أتخطى هطول النعاس وجحوظ العينين، خروجها من المحاجر. شاء القدر أن أتخطى انهمار الموت الزؤام والفضل في تلك المشيئة كان بُعدي عن المدينة المغضوب عليها، عدة كيلومترات، ها.. أنا مُهلهل الثياب جريح الروح حتى العظم. أمشي في الشوارع المزروعة بالجثث، ها هو الموت وعجرفة البرابرة قد اندفعت إلى أقصى حدود البهيمية. نشاهد الطائرات تطارد الجموع المذعورة من الأطفال والنساء في العراء. الجموع تتقاذفهم الجبال والوهاد السحيقة فيبدو أن المحفل التتري قد أمر الطائرات أن لا تدع في حلبجة حيا.

الجموع تبحث عن ملاذ آمن من شعاب الجبال والوديان ولكن أين الأمان والموت ينهمر من السماء مدرارا وقدس اسمك يا حلبجة.

 

المشهد الثاني

غابات كاملة من القامات البشرية قد قطعت وغطت الدرابين ومداخل الدور الخارجية. عشرات الأطفال الأثداء في أفواههم والموت في أحشائهم وهم في أحضان باردة. عيون الجميع جاحظة شاخصة إلى السماء، عشرات من سيارات (الجيب واللاندكروز) محشوة بالبشر كأنها تجمعت لحفلة عرس بهية، ذلك الحشد الهائل من السيارات التي تحاول الهروب من الجحيم وليس لها خيار سوى السير على القامات. فأوقف الخردل السيارات أيضا. ولم يخنق مكائنها وهي ما زالت تبكي وتولول وبصوت خافت على ركابها وعلى الضحايا تحت إطاراتها. يا ساسة المواخير يا تجار الكلمة الصفراء ويا وعاظ السلاطين.. اضحكوا ملءَ أشداقكم، ألستم الساكتين عن الحق والمنتظرين للجريمة، أن جميع مبادئكم محشورة في قول من قال(( ألأكل مع معاوية أدسم والصلاة مع علي, أثوب )) وقدس اسمك يا ..

المشهد الثالث

شاعر كردي عاش بدايات هذا القرن، له قصيدة طويلة بعنوان (لن أكون مريدا له) يقول بأحد أبياتها:

( لا يقود الضرير ضريرا وتبقى الخطوات تتراوح )

الفضاء جحيم سعيد أمطر الجماهير بالخردل والسيانيد، ونجا الذين حاولوا الهرب بعكس اتجاه الريح، ولكن كيف نجوا؟ جموع هائلة، من الرجال والنساء والأطفال يهربون من المدينة، مهرولين مذعورين صوب العراء والبساتين. يولولون ويستغيثون بالأولياء والأنبياء. يجرجرون الأجساد التي أضناها الخوف والهرب. بعد لحظات فهم الجميع أن النور يحتضر في الحدقات، وأن الموت قد تعرى أمام الجميع وبات أقرب من حبل الوريد. أيقنوا أن بساتين(كولان وبرس ونورولي)قد تصبح قبورا جماعية لهم وأن بكاء الأطفال قد يوقظ (كوران) الشاعر ونجمته الذائبة في الأفق، بل يوقظ محفل الشعراء في حلبجة. مولوي.. حمدون أحمد جاف طاهر يخبرهم جميعا بأن الجموع ستصلب على أغصان الرمان والتين. وأن مدينتهم ستصبح درب تبانة أرضية وأنهم من جنبات تلك المروج والبساتين سَيُبعثون.. ثم هل سيحاسبون؟!

بعد بضع دقائق ينجلي المشهد بصورة أوضح:

ترى غابة من القامات البشرية قد تبعثرت وانشطرت إلى كتل صغيرة يقود فيها الضرير ضريرا. يقود فيها الآخرون آخرين وترى الخطوات لا تروح، كما قال شاعرنا الشعبي، بل هي غريزة البقاء. عشرات من الطائرات الإيرانية أنقذت, الألوف, من الأرواح وغسلت الحناجر والشرايين من السموم، بل أنقذت الأنوار المحتضرة في الحدقات وأرسلت أسراب من ملائكة الرحمن إلى خارج العراق للعلاج. وستعود سيمفونية الحياة الطبيعية إليك يا مدينة الشعراء والنضال، يا مدينة الأولياء والجمال وقدس اسمك يا حلبجة...

المشهد الرابع

يذكّرنا السيد خيري منصور أحد الكتاب الفلسطينيين بـ...(كلمة غير واضحة) الشكل والمضمون يكملان أحدهما الآخر فلا يجوز التضحية بأي منهما، يذكرنا بحكاية شعبية قديمة ذات مغزى،

((أُمان تنازعتا على طفل وأحتكما لدى حكيم نابه، فأصلح ذات البين قائلاً:

(يجب أن أقتسم الطفل بينكما.)

وما أن سمعت الأم الحقيقية بالحُكم حتى لاذت بالعويل وتخلت عن فلذة الكبد للأخرى))هل تتخلى الوالدة حلبجة عن أحفادها، وأين أنتِ كي تربت أصابعك على رؤوسنا؟ منذ أن حل طاعون الخردل والجنون في كل بيت وسرداب. منذ أن صُهرت أرواح وذكريات وأحلام بسيطة وعجنت بالدماء الدموع وقدومها حارة لذيذة للمحفل التيموري. منذ ذلك الوقت أنقذ اتجاه الرياح المعاكس للخردل آلافا من الناس الذين تسممت حدقاتهم وعشعشت العتمة في مآقيهم والبحة في حناجرهم. سهول الزلزال ترك المئات من الأطفال والرضع وهم متصلبون في مهادهم مئات الأمهات والآباء هربوا على جثث أطفالهم وأعزائهم الهامدة بحثا عن البقاء(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه)على قمة جبل شاهق يطل على نهر(سيروان) يتبلور مشهد تقشعر له الأوصال والضمائر حين انفرجت في قلب الأمومة براكين وحرائق، لو لم تكن في كردستان المعذبة لأُحرقت أنظمةُ وشرائع وعروش في هذا المشهد المفجع. تكومت عدة أمهات على الطريق المارّ بقمة الجبل، الخوف والطاعون جمعهن، الأطفال من الحقن والسم في الرئتين ونصف العتمة في المحاجر، في هذا المشهد الغريب لم تتخلّ الأم عن ابنها خشية التقسيم كما يحكي لنا خيري منصور، بل ارتفع فجأة بكاء حاد وحشرجة شقت عنان السماوات، ترى ماذا حدث... هل ماتت إحدى الأمهات أو طفلها، هل العذابات وتحصن القلوب وسحابة الخردل تكاثفت وأحدثت هذه العاصفة الرعدية على قمة هذا الجبل؟

ما هي إلاّ صيحة واحدة حتى تدحرجت العلياء إلى الحضيض، أطفال فإذا هم خامدون، ارتفع البكاء والعويل من الأمهات والمتفرجين، وفجأة تهاوت أمهات في المنحدر الحاد وتدحرجت فلحقن فلذات الأكباد إلى النهر!

بقي شيء واحد من مكونات المشهد أو بالأحرى ملحقاته وهي الكلمات أو الحمم التي قُذفت بها الوديان والجبال:

(من خمسة أطفال، من الزوج والأخوان، من كل مابنيناه، ماذا بقي.. خذه.. أعده إلى خزانتك يا أرحم الراحمين.)

(يا إلهي ما دمت قد تخليت عن شؤون عبادك الكرد وتركتهم لهؤلاء... فخذ ما منحته لنا، خـذ.. خذ.. خـذ.. ذ...)

(.... !)

وبهذه الصيحات والحمم تركن أصداء وإنفجارات في الوديان المحتدة والكون الشاسع.. وقدس اسمك...

المشهد الخامس

عشرات من السيارات المليئة بالبشر نجت بعد أن سُحقت في المدينة أكوام من الجثث البشرية واتجهت صوب الشمال والشرق. لقد استخدم العلماء معرفة الرياح لتسيير الزوارق والسفن والطائرات والتنبؤ بسقوط الأمطار. لكن العلماء العملاء في بلادنا استخدموا تلك المعرفة للإجهاز على عدد أكبر من أبناء حلبجة، كان اتجاه الرياح ساعة الزلزال لغير صالح الشمال وشمال شرق المدينة ولكي لا تذهب جهود الطائرات ومعامل الخردل والسيانيد سدىً، أُشعلت تلك الغازات السامة برائحة البرتقال والفواكه المعطرة!

السيارات التي ابتعدت عن المدينة بضعة كيلومترات اعتقدت أنها نجت، لكنها توقفت خلف صفوف طويلة أخرى قد سبقتها وسدت الطريق، لوحظ أن دبيب الحياة في الصف الطويل قد مات، فما أن نزل السواق الجدد باحثين عن سبب التوقف حتى علموا أن جميع الجالسين في السيارات ساكتون كأنهم يصلون وقد انتهوا من(التحيات)منتظرين إمام الجماعة ليسلم على المصلين.. وقدس اسمك...

المشهد السادس

ماذا حل بالمجتمع الحيواني/ إن صح التعبير/ الذي يقاسمنا العيش في الحلبجة في البيوت؟ هل طالته النكبة أيضا؟ يقول علماء الطب أن بعضا من الحيوانات الأليفة والقوارض قد تسبب بنشر ميكروبات وفيروسات مرضية للإنسان.

ساسة الخردل(النشامى) انتقموا من تلك الحيوانات التي تسبب للإنسان أمراضا كثيرة!

في حلبجة رقدت جثث الطيور والحيوانات بجانب الجثث البشرية في الأزقة والشوارع. ترى هل استغاث الإنسان، لحظة الاحتضار، بتلك الحيوانات، أن الحيوانات عاتبت الإنسان لِما جلبه من الكوارث إلى الجميع؟ وهل ترى قطعانا من الحيوانات الأليفة النافقة تخرج من حلبجة أو تتجول في أرجائها، وهي ضريرة، أصواتها تثير الخوف والحيرة، أنها تزعق في ألم مريع.

يقال أن الحيوانات التي تفرز سموما والعقارب لا تتأثر بالأسلحة الكيمياوية.. ومهما كانت الحقيقة لهذه الفرضية، أستطيع أن أُطمئِن أبناء حلبجة الشرفاء، أن الأفاعي والعقارب البشرية ذات الأرجل الأيدي التي تعيش في المدينة وتتجسس على كل صغيرة وكبيرة:

أن هؤلاء الجواسيس لم ينجوا فقد سلمتهم بركات الخردل. لقد لفظوا آخر أنفاسهم النتنة أيضا وهرب البعض إلى كبيرهم الذي علّمهم العهر والفسق والنميمة.

.. وهرب آخرون إلى إيران ليواصلوا اللدغ وبث السموم في الأذهان والأفكار. ألا لعنة أبدية على جميع الذين يمتهنون.. بالعمالة والخيانة... وقدس..

المشد السابع

هنالك أناس اعتادوا اللقمة المغموسة بالقيح والدم. أنه المرض القديم في جسم الحضارة. أنها النفوس المريضة التي لا تستطيع جميع الشرائع أن تهذبها وتغرس فيها زهرة وخضرة، غير أن تلك حالات ضامرة هزيلة تطفو على سطح أرض المُجتمع وتشوه وجهه الناضر وتكرره لأنها مشرفة من المواقف الإنسانية الرائعة. أذكر غيضا منها: بعد الانتهاء من القصف الكيمياوي انهال على حلبجة رجال الأنصار(البيشمركة) والجيش الإيراني ورجال الأعلام من كل صوب وحدب يحملون الأقنعة والأبر المضادة للخردل والسيانيد. رأيت عشرات من أمثال البيشمركة(عمر محمد علي عمر جاوشين) أعطى كل الأبر الموجودة بحوزته للنساء والأطفال لإنقاذ حياتهم. أعطى قناعه الواقي إلى شيخ ولم تمض ساعات حتى إستُشهد متأثرا بالخردل. كيف أنسى البيشمركة(عثمان ملا صالح/ دربندخان)وهو يخلع حذاءه ويعطيه للآخرين. يمشي حافيا محروق اليدين والرجلين، إستُشهد في انتفاضة 17 /3 /1991 عند الهجوم على(منظمة الأنفال في السليمانية)كيف أنسى(هيبت محمد)وهي ترى مَدةً كبيرة من الذهب تسقط من أحد الجيران ساعة الزلزال، تلتقطها وتعيدها بعد شهرين لصاحبها في إيران كاملة غير منقوصة، وآلاف من هذه المواقف المثيرة... وقدس اسمك يا حلبجة.

..................

إنتهت الحــرب ..

في إحدى المساءات، بعد انتهاء الإنذار وانسحاب المراتب، باستثناء الخفراء، إلى ثكناتهم أوجز سلام.. قبل اختفائه إلى مهدي:

(سنلتقي في وقت آخر. لتبقى أوراقي لديك. سلاحي اتركه على فراشي لكي لا يتهمونك بالأمر.)

(إن لم أسلمهم السلاح سيخفونه ويتهمونك به.)

كان مهدي يدرك سر غليانه ويعرف مع من كان يلتقي ويدرك جيدا ما نوى عليه سلام فهو أكثر الجنود معرفة بطرق القرية التي نزلها بعد مضي شهرين كاملين على انتهاء الحرب غير آبه بأوامر المنع والتقرب إلى الأكراد أو النزول إلى قصبة رانية وما سمع عنها من حكايات على لسان طويل القامة وحسن الخلقة، صديقه هلمت، كانت عيناه الكبيرتان، كحبتي بندق حادة البصر والبصيرة. شعر رأسه فاحم غير أن لحيته وشاربه خفيفان، لونهما حني، كان يجيد العربية، بل حتى أن لهجته سليمة. كان جادا وصارما كجده رزكار الذي روى عنه ولم يرو عن أقرانه الكثير..

في عام 1974 وأمام هذا الجبل الأجرد كيورش شهدنا ما لا تصدقه عين أو تسمعه أُذن، جحافل جيوش بغداد وعلى ما ذُكر بقيادة سعيد حمو أو جَواد الشكرجي، لا يهم مَنْ كان فجميعهم أبناء نظام.. دخلوا علينا فجرا. كسروا أبواب بيوتنا ومحلاتنا عبثوا بأسواقنا. سحلوا نساءنا، لا أحد منا يتحرك فالحركة كانت بأوامرهم(سيروا أمامنا) فسرنا بين متمتم وباك وصائحة ثكلى على ولدها الذي تمدد على صخرة جبل كيورش مع أبناء جلدته ومناصريه، أمام قرية رانية، جمعونا مثل صفوف العسكر، أرتال تتبعها أرتال، نتقدم أمام الجنود كدروع من عين القناصة الذين اعتصموا في السلسلة الجبلية وعلى مشارف عيون الماء، كانت المعارك قد تجاوزت الشهرين ولم يتمكن العسكر رغم العمليات المثيرة والطيران الذي حلق في سماء القرى(كتب هلمت؛ كنت صبيا قبل أن يعتقلونا مع كثيرين من أهل القرية والقرى الأخرى ويرسلونا إلى الجنوب، شاهدت ثلاث طائرات لم تلق الصواريخ كعادتها هذه الأيام، بل ألقت براميل البنزين من الأعلى وقبل وصولها إلى الأرض رمتها برشاشاتها لتنفلق حمما بركانية التهمت مزارع الكروم والتبغ والحبوب والرز وأشجار البلوط والجوز.. حمم بركانية على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ. على البقر والدجاج والأغنام والبغال والكلاب والقطط والفئران و... على البيوت المليئة بالحشائش والأخشاب، المبنية بجذوع أشجار البلوط والقصب والقش.. حمم التهمت الأرض، أحالتها إلى رماد ولحوم مختلطة الأجناس.. أتذكر، أن عمي الكثير الخلاف مع والدي بسبب وقوفنا بجانب البيشمركة في أعالي الجبال ولكونه شيوعيا، أرتبط حزبه بجبهة وطنية مدعيا أن الحقوق تأخذ بالحوار، شاهد بعينيه هذه الكوارث المفزعة فاستشاط غضبا، هرب باتجاه الوادي ولم يعد إلى القرية حتى بعد المؤامرة التي حلت بحزبه. بل، لا أحد يراه وإلى يومنا هذا.) لا ينسى جدي الأكفَّ المقيدة بالحبال والمأمورة بصعود الجبال أمام الجنود لكي تحتله بهذه الطريقة التي شهدت فشلهم، أرادوا من الصخور العالية أن تلقي بأسلحتها وتسلم أمرها إليهم، غير أنها تفاجأت بجبل خال، بل سلسلة جبال لا يوجد عليها سوى رجل أحكم قناصه بيديه متحملاً نزيف الطائرات المرّ ليؤخر التقدم ريثما يهرب أنصاره إلى الجهة الثانية. كان الرجل حريفا ببندقية البرنو، لم تخطأ طلقته الهدف الذي يروم. قاومهم، أخرهم حتى المساء، حيث وصلنا منهكين القوى، مرة نجلس وأخرى نتقدم. لم نجد على هذه السلسلة الجرداء غير بندقية ورجل مددته.. لم أصدق ما سمعته من هلمت/أن الرجل كان عمه.. كيف وصل إلى القمة ومتى؟)).

........

كان هلمت ومنذ أول لقاء حدّث سلام بأشياء مثيرة ومدهشة، كأنه يعرفه من قبل، حدّثه عن الحرب وقضايا أخرى، وقتذاك، لم تكن لهم الرغبة في الاستحمام، حيث التقيا في حمام رانية الشهير. وسط مرتفعات حجرية وغرف صغيرة وباحة للسباحة مملؤة بأحواض الاستحمام(لم أقرأ في أوراقه شيئا عن هذا الحمام، ربما زيارتهما لمغتسل الموتى، المسجد الذي شيدته إرادة الجد رزكار أثارت سلام..

قـال..

كان جدي جوالاً لا يحب البقاء مع إخوته الثلاثة لهذا تركهم وهو ابن التاسعة. منذ طفولته، قالت العرافة عنه، يعيش وحيدا، بعيدا عن إخوته، قتيل القرية، غير بعيد عن القصبات..

كان عنيدا كتوم السر. لم يذكر يوما لأخوته أو أبيه عن لقاءاته بشيوخ الكزنزان أو مع من يلتقي. تعلم من مجالستهم الكثير غير أنه لم يتعلم القراءة والكتابة والحقْ أنهم تركوا هذه الناحية. هجر قريته... لا يُعرف عن أهله شيئا.. سكن قرية بشدر التي تحد ايران من شماله الغربي وتزوج ابنة أحد الحدادين. تعلم المهنة التي أحبها وأتقنها حتى اقترن اسمه بها. كان يفتخر أنه حداد ويُذكّر الجميع بمهنة كاوه الحداد الذي ناصر الفقراء وخلّص أبناءهم الذين تقاطروا بسيف الملك الظالم... كان إذا جاء عيد النوروز يتحدث عنه كثيرا. يرقص لأحياء الذكرى. يدق الذِكر ويمدح بفنون غريبة الأطوار، حينذاك، يقسم أن العيد له.. يضحك الجميع له ولا يضحكون منه.

.........

كان هلمت كثير اللعب مع الصبية لكنه لم يبتعد عن جده الذي يحرص على خطواته ويرغب أن يعلمه المهنة التي اشتهر بها بيد أن هلمت، كان مزاجيا يكره الحِرف ويحب القراءة، تعلم منها الكثير. كما تعلم من تجارب الآخرين سوى أبيه الشيخ آغا الذي دفعه لتعلم أمور الدين ومساراته التي أبحر في مناقبها حتى صار شيخا يتعبد على طريقته. لا يتدخل في شؤون الناس إلاّ في حدود الواجب وما تمليه عليه عقيدته، ولا غرابة إذا لم يتدخل في أمر ولده هلمت.

كان الجد رزكار يتدخل في علاقاته وألعابه الصغيرة والكبيرة، يعلمه لعبة رأس الصلعاء والتاج والجري على السفوح وصعود الجبال. اصطياد الكلاب، كان فخورا عندما عقد الرهان مع كبار أهل القرية، اذ غلب أقرانه بمروره أمام دار آمر الهيز بايز وقد تحدى كلبه، حارس الساحة الفارغة أمام الدار. كان الكلب طويلا ونحيفا مثل ذئب تتوامض عيناه وتدب قوائمه على متحديه الذي قبض على رقبته ولم يتركه إلا ميتا أمام الرهان.

وقتذاك، جن جنون الهيز فداهم مع جحافله عائلة رزكار ملأ سماء بيتهم بالرصاص. كانت الجحافل الخفيفة أو كما تُسمى الفرسان، هم الوشاة، بل الشهود على الحجة التي اتهم بها رزكار بالتجسس والتخريب أو يسلم هلمت. فالكل تعرف جيدا، أن المشاحنات التي دارت بين رزكار والهيز بايز لم تنته عند قول رزكار:

(من الجُبنِ أن تطارد صبيا ولو كنت كرديا ل...)

منذ ستين سنة ورزكار يخرج من طرق متعرجة ويدخل في أخرى غير أن هذا العمر وهذه الآلام التي كورته في السجن أحالته إلى ورقة ممزقة لكنها ذات خبرة لم تتركه أن يدل على هلمت.

(إن لم تعترف الآن ففي المرة القادمة.)

قال آمر الهيز بايز.

كان صبورا ومزهوا عندما دفع بهلمت إلى قرية سونه البيضاء بمحاذاة النهر الشمالي لمصب الينابيع. لم تكن القرية بعيدة عن رانية لكنها منعزلة، يسكنها معارف رزكار. مَنْ يدخلها(قبل أن يعبث فيها العسكر)يجد دبا محنطا لا يشبه تمثال رانية ولا يتعقب رغباتهم. لم يكن أكذوبة ضاحكة، بل دب حقيقي لا تخافه الصبية وبلا مساند.

ثمة أُناس سكنوا القرية وعيشها الجماعي، بعضهم أعياه المرض، لاسيّما الذين عادوا إليها بعد كيمياء الأنفال. كان هلمت قد التقى بأحد عناصر المعارضة الذي رفضه لصغر سنه ولعدم ثقته بأحد إلا أَن تأتي به التجربة . فهو ابن الحادية عشرة سنة وقضيته مع البايز ليست كبيرة، فما أبداه والده الشيخ آغا حمه من سعي وتنازل(من أجل أبيه أم ولده، لا أحد يعرف)كان كفيلا لحل مشكلة غير سياسية ناهيك عن تأييده للانتخابات التي تحضى كل مرة بترشيحه وقد وعد الآغا ببناء مسجد القرية حين تسلمه الأمور، لكنه لم يف بوعده.

........

يــروى..

بعد أربعة أعوام وفي سادسة أحدى المساءات دفع رزكار الحداد من المقهى عشاء آمر الهيز بايز الذي ترك المطعم المقابل بعد أن أوعز لأحد حمايته الأربعة مراقبة الحداد.. وبينما كان متجها إلى مقره صاح به الصغار:

(العم بايز.. العم بايز هو من يضع حلقة التاج في رأس الصلعاء.)

توقف الآمر فجأة. أصابه الذهول. شعر أنّ كلمة( العم بايز)عميقة وغريبة إضافة إلى أنها من هلمت ابن الرابعة عشرة سنة وأصحابه(لم يكن هلمت صغيرا لكنه لا يفارقهم) فهو لا يأمنه منذ حادثة الكلب. رمقه بعينين صفراوين. أراد أنْ يترك الأمر، لكنه اعتبره تحديا لهلمت ولجده أيضا.

كانت اللعبة المثبتة في الأرض تبعد عن جسد ألآمر ثلاثة أمتار. أمسك البايز بالحلقة التاج. قلّبها بين يديه وقبل أن يُلقيها صرخ الأولاد:

(يرمي العم بايز.. يرمي التاج..ي...)

كان مزهوا بتشجيعهم وصراخهم الذي عجل به لأن يلقي بالتاج الذي استقر على الرأس كما استقرت الأطلاقة التي ألقته صريعا.

..........

كان إعتراف رزكار بمسؤولية القتل قد أخلى سبيل عشرات الشباب وعوائل الذين تمكن أبنائهم من الهرب. فهو فخور بما نفذهُ هلمت وأصحابه.

كان هلمت ينسل مع جده في الليالي القليلة الضياء ليعلمه الطريقة الشيخيّة التي تعلمها قبل أربعين سنة فمن خلالها بدأ يحجب عن جسده العصا والسيف. الأطلاقة والسهم. كانت طريقته رفيعة وسامية. وقتذاك أسرَّ أكبر شيوخ الكزنزان اليه.

(رزكار.. أعرف أنك تعمل بالممكن.. لا تنتفع بكل طريقتنا لكنها تفيدك حتما.)

 

تـروي القريـة..

أن رزكار سار مع عربيدين كانا قد مُددا له قرب تكية معلمه داخل سرداب بعد أن فُتحت الأبواب السبعة تباعا. وجد حوضا أزرق تفور فيه مادة قرمزية لاهبة يكاد بريقها يتشظى من عينيه فيفز منهما الدمع، لم تكن دموع بكاء..

 كان قد مكث يومين بنهاريهما وليليهما قرب الحوض قارئا خلالهما، كما تعلّم، سورة الحمد ألف مرة والإخلاص والكرسي ألف ألف مرة ووحّد الله آلاف المرات، ردد أسماء الرب والرسل والأولياء حتى تمكن من تجميد الحوض وإعادة العفاريت إلى تكيتها قرب الشيخ.

***

بعد ستة أشهر من مقتل آمر الهيز بايز وفي صباح جمعة زرعت القرية بالجحافل الخفيفة ودبابات الجيش وبأمرة ابن الهيز بايز(لم يُذكر اسمه) وبحضور الشيخ آغا حمه رزكار وعوائل القرية باستثناء هلمت الذي كان هاربا وقد هُدّدت القرية بالحرق إذا ما تظاهروا وأثاروا التمرد بسبب إعدام رزكار الحداد ابن الطريقة وجد هلمت.

كان الجيش قد حزم أمره متخذا القرية سورا وجحافل الفرسان في الداخل عينا. على المرتفع القريب من مجرى نهر بشدر قيّدوا الحداد وببرود اقترب منه ابن القتيل بايز.

(هنا لا يحق للدراويش الاقتراب.)

(لو شئنا/ بهدوء قال الدرويش رزكار/ لكنّه أَمر اللهِ، أن تُزيلكم دمائنا.)

ضحك الآمر الجديد قائلا:

(أن كان لك أمر أو طلب؟)

(أتنفذ يا ابن الهيز؟)

(بشرف أبي أنفذ ما تريد، المهم أن أعدمك بيديّ هاتين.)

 ببرود قال رزكار الشيخ أمنيته الأخيرة:

 (ليكن مكاني هذا مسجد القرية.)

اقشعر جسده، إذ لم يتوقع أن يطلب(مكان) إعدامه مسجدا..

......

أيـام الحــزن

فجرا، تنفست القرية الخطر الذي لم تحسبه عامة أكراد القرية، بينما شبابها ومن لهم الخبرة في طرائق النظام توقعوا اليوم، أربعينية الشيخ رزكار سوف تعبر على جثث الكثير حتى الذين لم يشتركوا في المظاهرة التي وصلت أخبارها عبر فرسان الوشاية لاسيما وقد لاحظ أغلبهم اِندفاع الجيش منذ منتصف الليل على المرتفعات القريبة من قرية المقبرة، شمالها. كنت أحد القريبين من قبر الشيخ وباتجاه آخر زقاق ينحدر إلى الوادي وجنوبه وحتى السوق، والشاهد على أول فانوس تحمله امرأة تريد أن تعبر الشارع باتجاه بيت قبالتها. كانت المرأة قد جفلت من سحب أقسام البنادق وخطوات زوجها المسرعة وراءها، تسمرا بمكانهما بعد أن وضعت الفانوس المشتعل على الأرض كما أمرها عريف كريم البصري صديق الفرسان أو على شاكلتهم، أدار زوجها إلى الحائط ليتأكد أن كان يحمل سلاحا، بينما تلصص بنظرات تلذّذ إلى المرأة التي بادرت بالكلام تخوفا على زوجها، معتذرة عن إزعاجهما في هذه الساعة حيث أن حماتها أخذها الطلق ولابد من داية تولّدها(هذا ما ترجمه أحد الجنود الأكراد معنا) لم يقتنع العريف بالعذر أو هكذا تمادى لاستغلال المرأة التي فاجأته ببسقة في وجهه حالما دفع يده إلى خلفها دون علم زوجها، تحولت النتائج بإعتقالهما وتهشيم فك الزوج وسحله أمام الجنود وركنه في سيارة مع زوجته إلى آمر الفوج الذي أطلق سراحهما حالما ذكرا الحقيقة له وقد صدّقها الجندي الكردي وأيدتها دون خوف.

كان واجبنا أن نراقب المتظاهرين ونكون على أهبة الاستعداد وانتظار الأوامر لأطلاق النار. والحق علمت من أحد المخابرين، أن لا نشاكسهم والاستخبارات سوف تشرف على تفريقهم بهدوء ولا بأس أن يأخذوا متنفسا، ذلك أفضل من المواجهة كما أخبر آمر اللواء ضابط استخبارات الفوج وقد شدد على الفرسان أن لا يتدخلوا، يراقبوا الموقف من بعيد. يسجلوا أسماء المتمردين.

(يبدو أن إطلاق سراح المرأة وزوجها متعلق بتلك الأوامر)

وبدأت المظاهرة غريبة الأطوار لا أثر لشعارات أو تنديد. لا أثر لأي حركة باتجاه المقبرة، زعموا ستكون بدايتها انطلاق المظاهرة.. كان السوق على حاله الباعة والتجار والمارة غير المكترثة إلى الجنود المتمترسة أعلى المرتفعات وبين بيوت، بل على أسطح بيوت تعاونوا مع العسكر. غير أن المظاهرة قامت بما لم يكن بحساب أحد، حتى أنا القريب نفسيا من رزكار وأبيه وجده والحي الذي روى عنه الكثير.

كانت المظاهرة صامتة، مظاهرة أزياء، ملابسهم، سراويل أو عباءات نساء وعربات أحمال وأطفال تندفع إلى اللعب أو المدارس زيارات هنا وهناك تلتم مرة ولا تتوحد إلاّ في شيء واحد أخرسَ الجميع وتناقلته رسائل الإنذار واستعداد الجيش للمفاجأة الغريبة التي وحدت أبناء رانية بحزام الأكراد الذي حمل لونا واحدا دون بقية الأيام، فاللون الأسود الذي توشحوا عبّروا به عن حزنهم لإعدام شيخهم الكزنزان رزكار صاحب الطريقة بمظاهرة سلمية لا غبار عليها، بل أجبرت الوكلاء أيضا على اللبس ذاته.

أجمل ما عرفته عن هذا اليوم أنهم يكررون المظاهرة بذلك الأسود كل عام.

 

مهـدي والليل

بعد ساعة من الواجب المعتاد ليلا وأمام مزرعة التبغ سمع صوت إطلاقات على جهة المسجد، آخر بيوت القرية. اثنان من الأطلاقات كانت مذنبة. ثمة انفجار كبير على سن صخري فوق ربيئة أعلى كيورش التي احتلها الجيش بعد أن جاء الضابط الكبير(الجندي المطيع)بكرشه الذي ذاب خلال أسبوع من أمر سيده. جاء من قيادته وقد سبقه رعيل هندسة عسكرية، أمره بفتح طريق تمتد فوق السلسلة الجبلية إلى الجانب الأخر الذي ينحدر باتجاه سونه، احترازا من أن تسيطر(العصاة)كما يُسميها على الطريق الجانبي & .

 & سرية وفورية

 إلى/ .....

رقم المنشىء 513 تأريخ المنشىء 13 /3 / 1975 وقت المنشىء س/ 1900 رسالتنا س ف/ في 1700 من 13 / 3 / 1975 تم قطع معبر طريق رانية جوار قرنة الوحيد، الجهة الشرقية وللمرة الخامسة.. أقامت مجموعة المخربين(... )باختطاف إثنين من جنودنا وقتل ثلاثة. في س 1800 استعاد فص 11 ف 2 لوائنا المعبر أعلاه وإخلاء الشهداء. انتهى.

 لمش/ 97

 سرية وفورية

 إلى/ ..... لمش 97

رقم المنشىء 715 تأريخ المنشىء 21 /3 / 1975 وقت المنشىء 1300

اجابة. رسالتكم المرقمة س ف/513 في 13/ 3/ 1975 تنسب السرية الثالثة، ف2، لوائكم مع هاون عدد 2 ورشاشة BKC عدد 2 على المقاطعة 116 المواجهة إلى كيورش لحماية رعيل الهندسة العسكرية لغرض شق طريق أعلى وشرق السلسلة كيورش خلال خمسة عشر يوما. انتهى.

 .....

 كانت الأطلاقات متقطعة ليس كأطلاقات إعدام سلام التي شهدها مع الجنود أمام حوض الآمر الصغير، كانت تسكنه الفقراء قبل وجود العسكر، فقراء أتعبتهم حروب امتدت لعقود، ربما أجبرت الخبزة بعضهم فانصاع إلى الأوامر وعدم المجازفة بالتهريب الذي يعتبره الكثير مهنة تحد، بينما أعتبره البعض مجازفة لاسيما أولئك الذين اتخذوا البيوت الحجرية على السفح الهابط باتجاه نهر بشدر، وبالاتجاه الآخر من وادي جوار قرنه المقطوع من السلسلة الملتوية جنوبا.

في تلك الليلة أُطفئت أنوار الملاجئ، تركتها الأوامر مثل قبور معتمة لم تبعد عن الساتر أو نقاط الحراسة التي تقرفص في أحداها. كان القمر يرسل نوره خلف جبال بعيدة، لم يبزغ وقت تجاوز مهدي الدقائق العشر من واجبه. غير أن وقته سزيفيا، كان يتدحرج بصعوبة دافعا نظراته إلى قمة جبل قنديل المتناهي البعد والارتفاع. لم ينتبه كثيرا إلى مزرعة التبغ التي أمامه أو إلى القرية الساكنة لكنه هبط بذاكرته إلى اختفاء سلام.. إعدامه. هلمت. رزكار. الشيخ آغا، العفاريت والتاج والكزنزان.. يتجمد جسده ويندفع بنظرات شبحية إلى الأطلاقات. يهبّط رأسه مستذكرا إشارات سلام المرورية ليعبرون ببغالهم الليلية ذهابا وإيابا إلى الجنوب.. لم يفتح سلام عليهم النار كما فتح، الآن، العريف النار من النقطة المجاورة ثم اندفع إلى مهدي.

(كيف حال القرية؟)

يمد يده إلى ال BKC المثبتة في نقطة الحراسة ليزرع إطلاقاته أمام المعسكر.

(دع القرية غافية.)

يقول إلى العريف ماسكا يده ببرود مثير. فتح ضوء مصباحه اليدوي، كان شعره الأسود بالأبيض يتلألأ، وجهه الممتلئ ببقايا بثور الشباب يصفر خوفا وقلقا.

(أحذرك، فالحرب لم تنته مع هؤلاء..)

قال العريف وقد انسحب تاركا النيران على قمم الجبال. لا أحد يسمع صوتها، مواقد تتصاعد أبخرتها مثل غيوم داكنة ومتقطعة.

كانت كلمات العريف عميقة ومؤثرة أقعدت مهدي على الأرض. وضع رأسه على كيس الرمل الساند لقاعدة الرشاش. تركت عيناه القرية وإطلاقات القمم وحدقت في ساحة المعسكر. شعر برطوبة أرض النقطة. اندفع خارجها أغمض عينيه التحم ظله بظل شجرة قريبة كان يحدثها عن فؤاد الهندي رفيق الملجأ وقد علقت شذراته في الذاكرة أو على لوح الشجرة التي رفع قشرتها ليفكّ طلّسم الكتابة وتأريخها. لا أحد يعرف متى زُرعت وأي رجل أو عفاريت سقتها، ربما فؤاد الهندي أو صديق هلمت خط بعض حروفها وكستها القشور.

(سيقول لهم، أنني لم أسمح بالرمي..)

بينما قال في نفسه تاركا ظل الشجرة يتقلص أثر ارتفاع القمر وانجلاء شيءٍ من عتمته. اندفع إلى رشاشته في النقطة، دار بها إلى عمق المعسكر، غير أن الدورية قد شدت على معصميه. أحسّ أن الدم إنحبس في أصابعه.. سحبوه بهدوء عن النقطة. كان الواجب قد شارف عن الانتهاء، الجميع على الساتر، لا واجب في النقطة.

 

شـذرة الهنـدي

رغم أن أذنيه الكبيرتين ثقيلتا السمع انتبه إلى صوت انهيار بقايا الثلج الذي أُذيبَ معظمهُ في(القزان)بعد إن أضاف النفط لطباخ صغير مشتعلة ليلا ونهارا. يقف ليملأ الأبريق ويكاسر الماء الحار بالبارد في قزان آخر لم يُستخدم للطبخ. يدفع صندوق عتاد كان يعترض الممر الضيق، فتسقط أحجار الدومينو منه. بينما ظل رحيم وسلام غير المنتبهين إليه يلعبان الشطرنج على يطقه، يمرر نظراته عليهما. يحدق بصور المجلات على حائط الملجأ. تتوقف عيناه الكحيلتان عند صورة العشيقين. قال إنها من صوفيا، التقطها يوم اصطحبته إلى شقتها إبان سفرته الوحيدة لعلها تنتفع منه، لاسيما وأن مرتبها كمحصلة في سيارات النقل الداخلية في البلدان الاشتراكية، لم يف بالمطالب الشخصية، الإيجار والشراب واللذة التي لم تحصل عليها بسهولة لتقدمها في السن. أرادت أن تعرّفه بصديقات لم يتجاوزن العشرين لكنه أصر على مرافقتها طوال الشهر الذي قضاه في بلغاريا ليصرف المبلغ الذي أدخره لدى عمه في مطعم الفلافل والسمبوسة الهندية. قال فؤاد..(بينما عمري تجاوز العشرين كانت سيدة الأربعين. صاحبة خبرة فانا أعشق النساء اللواتي أسودت أسنانهن من التدخين، علمتني ما لم أتعلمه من أيّ فتاة أخرى).

سحب فؤاد الصورة ووضعها في جيبه.

(تذكرتها...؟)

قال سلام.

(السم صعد على رأسه.. يريد أن يعملها)

قال رحيم البغل.

(العادة السرية لك يا "أبو" البغال)

خارج الملجأ، في طريق الوادي ينزل فؤاد على أرض بيضاء تظهر منها سنون صخرية جردت الرياح جليدها. حاملا الإبريق والقزان المملوءين بالماء محدثا بخطواته أصواتا خفيفة وحذرة لئلا ينزلق، كما حدث له أول الشتاء، إذ انسكب الماء ولم يقض حاجته التي تعوّدها في أرض الوادي، مرحاضه الذي ينتخب. عادته، أن يلقي ملابسه على سن صخري يختبئ قربه ويبقى عاريا كما خُلق. يدخن حتى ينتهي من سيجارتين، يكون عندها قد أتم حاجته ولبس ملابسه التي لم تدفئه حتى يصل إلى الملجأ ليدثر جسده لأكثر من ساعتين كان مرضه وسعاله من هذه الطريقة غريبة الأطوار .

كانت تتركه نائما وتذهب للتبضع من أسواق السوبر ماركت. تأتي ومعها قائمة الحساب التي يمزقها حالما تعرضها عليه. تقترب منه لتقبله فيدفعها حتى تأخذ حماما وقد انتظرت المرحاض الذي لا ينتهي منه بأقل من سيجارتين.

لا أحد يعلم بأمره أو متى اتفق معهم، كيف تعرف عليهم..؟ لا يجيد اللغة الكردية أو التركية حتى أقام علاقة مع أحد المنتفعين من الفرسان وقد ساومه بمبلغ مغرٍ ليخرجه إلى الحدود الإيرانية أو التركية، المهم ليس بيد حكومة عسى أن يتمكن من الهرب إلى الخارج، أوربا حلمه قال يوما..

(على أقل تقدير أن أطفالي لم تشتمني كما أشتم جدي كل يوم ألف مرة، فهو الذي أتى بنا من الهند على ظهر سفن الحرب الإنكليزية إلى البصرة ثم ساقنا الوالد إلى بغداد بعد أن هرب وتزوج من عائلة من سحنتنا.. لا أستطيع البقاء بالجيش).

بالقرب من مرحاضه الصخري أو الثلجي وجدنا الإبريق والقزان الفارغين وأعقاب سجائر. لا أثر لصورة الملجأ.

المنســـي..

عند وصوله سكة القطار أيقن أن جهة اليسار هي وجهته، دخوله محلة الهادي التي تركها منذ نوفمبر عام 1988 وحتى هدوء العاصفة.. هو، أحد الذين انفتح السجن لهم ساعة انهيار يوم عاصف.

كانت نقطة المؤشر أو المحطة الأولى للقطار الصاعد من البصرة، المعقل إلى بغداد ومن بغداد إلى البصرة، خطوته البكر لشق المحلة التي تغيّر فيها وحولها كل شيء، السوق المسقوف بالصفائح أصبح مكشوفا. مراحات البقر والجاموس وبيوت الطين تحولت إلى بيوت طابوق تميّز تشيّدها حسب الطبقة الاجتماعية ولا غرابة إذا قلنا، الانتماء السياسي فالموقع والذوق المفروض لتصميم الكثير من المشيّدات، منح سِلف العقار بأشكال مختلفة. الآخرون بنوا بيوتهم هكذا لئلا يهربوا من الحرب، فمن أجلها بلطت شوارع. بعض الأهوار زودت بالكهرباء وعُبدت طرقهم الرئيسة. من أجلها جففت الشواطئ وتيبست القصبات، بل أُحرقت لعدم الوصول إليها أو للمقاومة الغريبة التي التحمت بالمدينة والمدن الأخرى لتعادل أطنان الكبت الموزع من أعلى قمة جبل حتى أسفل بئر، من إطلاقة تنوير أو لغة مدفع حتى أصوات الرشاش بيد النسوة أو الطلبة المنتفضين بسكاكين تمكنت على قتل المختار أمام دكانه غير متناسين تبجحه وأخذه المحل البسيط من سائس الخيول وسط السوق.

كانت أولى جثث المحلة التي علقت على سارية مؤشر المحطة مع جثة عقيد أحرق أمام الجميع صورة رمزهم الإنساني(رجل يضع سيفا بشقين مدببين على فخذيّه. يقف وراءه ولدان وأسد يجثو أمامه)لم ير الحرق لكنه يؤكد أن دم القتيلين طريّان. صمت كعادته دون أن يسأل أو كأن الأمر لا يعنيه البتة.

لم يستغرب من هذه الغوغاء فقد شهد بعضها إبان توزيع سيارات الشهداء (تيوتا ومتسيوبيشي)إلى العوائل التي استبدلت أبنائها ومشاكلها بصدمات وعطلات أودت بالكثير إلى الموت أو بسياراتهم إلى السكراب والهياكل المزنجرة أمام البيوت. أصبحت ملاذ القطط والكلاب من الأمطار إذا ما استخدمتها الأطفال للعب.

لا أحد ينتبه إلى دخوله. لا أحد يتذكره. هو غير مهتم بأحد، كأنه عائد من سفرة.. ألقمته التجربة خبرة كانت كفيلة لأن تنقذه من حربائهم المتلونة.

كان باب بيته الطيني مفتوحا إلى المنتصف. عتبته من الخارج نظيفة، ثمة آثار لأكثر من نقرة(دعبل) تلعب فيها الأطفال. لا أحد يهتم لمجيئه. أنه المنسيّ. بهدوء دفع الباب ولم يتحرك. طلَّ برأسه إلى الداخل فوجد القمامة تغطي الباحة الكبيرة وقد حظيت بغرفة واحدة أُغلق بابها وصدأ قفلها. مشى على تلال الأنقاض، قناني البيبسي كولا وصفائح الدهن وأكياس النايلون الممتلئة ببقايا الأغذية التي مزقتها القطط والكلاب. أغلفة السجاير الكبيرة والصغيرة. بقايا الرز والطماطة قشور البطاطا والأحذية الممزقة والنعّل وأكوام الأتربة وتلال كِسر الطابوق وما تبقى من البناء.

لم ينتبه إلى كلب دخل وراءه. تذكر أمه عندما يذهب إلى الجيش تترك المفتاح على خشبة باب الغرفة، بين حزمة القصب لتمكث عند أختها حتى يأتي بأجازة فيجدها أمامه. كانت تحسب له الدقائق والساعات. أما الآن، لا يصدق إنها حية فقد يأس منها منذ الأيام الأولى لاعتقاله. فيما بعد عرف أنها ماتت أثر امتناعها عن الطعام لخمسة عشر يوما. دفنت مع أهلها الذين لم يصلهم طوال حياته بعد أن أيتموه من جهة أبيه لأسباب لم تعرفها الرواة أو ما جُمع عنه كان مجهولا، قالو(أنه سُم بالزبيب وكفى).

من حُسن حظه لا أحد يعرف مكان مفتاح الباب. حاول أن يزيل الصدأ عنه، دون ن يفلح. كسر القفل بحديد سرير، قرب الباب فأنفتح بصعوبة أحدثت صريرا مكن القطط أن تهرب من درفة شباك الخشب المكسورة. ترك كل ما حوله وأتجه إلى لوحة علقت على الحائط. مملوءة التراب أو غائمة به. مسحها بيديه فظهر شكلها الجديد وآثار أصابعه على بقايا ماء اللوحة. عبرت ذاكرته إلى يوم رسمها صادق المجنون كما يسميه أحد أساتذته في كلية فنون بغداد. كانت الشمس الغاربة تدفع باللون الأصفر إلى الماء تاركة أمواجه الزيتية وزورقه البعيد منحرفا، دون أن يظهر سيدة البيت أو تَنورها المطفئ. الشجرات والمرأة، أعلى الجرف. مسح اللوحة ثانية لعله يجد اسم الرسام في ركنها..

 في آخر إجازة وقبل اعتقاله، سمع، أنه أنجز لوحة بمليون مربع متداخل الأبعاد والألوان فيما امتنع عن رسم صورة رجل البرنو.. هرب بعيدا.

استهوته هذه الذكريات الممحوة بطعم الأيام الكريهة والتي لم ير منها الطائر البعيد أو الكلب المنتصب على المرتفع والغيوم المتقطعة.

بينما التفت إلى أتربة ورائحة كريهة تنبعث من دولاب مكسور وسرير مملوء بنجاسات قطط وبطانية سقط نصفها على الأرض. آية قرآنية أضاعت ملامحها أمطار الشتاء وخريره الواضح الأثر من السقف والحائط المائل قبالة الباب.

(أين أنتِ..؟)

لاحظ أن لا وجود لصورته أو صورة أمه، غير أنه أستمر يحدثها..)

(أمي.. أنا جئت.. ألا تعرفين إنني سأخرج من السجن.. نعم لم أُقتل في الجيش ولم..)

اهتز من أعماقه. أراد أن يتكلم، صمت فجأة لسماعه الجواب(أنا بعيدة عنك.. أنا حية أُرزق.. عليك أن لا تعود ثانية. ادفن نفسك بينهم. اجعلهم يقولون مات مهدي.. أريدك أن تمتهن الجنون أو هكذا.. المهم أن تبقى حيا.)

ضحك في سره لأنه صدّق هذا الشبح أو صدق هذا العالم..

ترك الغرفة وخطا إلى باحة الدار، كان واسعا ومحاصرا ببيتين مشيّدين من الطابوق، أحدهما بطابقين، فيهما حنفية ماء مكسورة ومحكمة بخشبة لئلا يندفع منها الماء. مرحاض وحمام عاريان، بينما الحمام خُلع بابه كان المرحاض بلا باب. اندفع إلى الباب الرئيس، حاول أن يفتحه إلى الآخر. رفع بعض الأوساخ قربهـ، أمسك تقويما ممزقا. كان التقويم مقطوعا من صورته العليا التي تدون فيها السنة، غير أن الأشهر والأيام مازالت واضحة. أنتخب لا على التعيين يوم جمعة وشهرا ما ليكوّن تقويمه الخاص. ضحك في سره بعد أن أزاح حبات رز علقت على يومه الأول، بل ضحك بصوت أسمع الأطفال التي تلعب في الشارع غير مهتمة بأطلاقات المنتفضين على النظام وعويل أهالي القتلى أو هروب العسكر من ساحات حرب الخليج الثانية، كانوا يلوذون من مكان إلى آخر لعلهم يجدون من يشتري بنادقهم لقاء لقمة تسد رمقهم أو أجرة سيارة أو ملابس مدنية تنجيهم من الطريق التي سُحق عليّها الأخضر واليابس. تذكر أنه جائع وأن القطط تهاجم بعضها بعضا لتحصل على فضلات ألقتها النسوة من الخارج. طردها قبل أن تلتهمه أو يسبقهن النمل أو الفأر إذا ما جاء الليل وقد بقي منه ثلاث ساعات. أكل دون أن ينتبه إلى نفسه الشرهة أو إلى صبره منذ اعتقاله حتى(منتصف شعبان)اليوم الثاني من آذار عام1991. بعد أن اكتفى بتقليب أكياس وأكوام العلب الفارغة والأواني المستهلكة والخرق البالية وقناني الزجاج المكسور وصفائح الدهن وإطارات مثقوبة ولا يستغرب إلى أغلفة اطلاقات المدافع الفارغة وقد استخدمتها بعض العائلات زينة للبيوت..

أندفع إلى ركن الدار، مكان كلبه. أحس بحرقة في صدره. أراد البكاء لكنه عدل إلى الخارج. وجد الكلب أمامه، تحت سيارة عاطلة، عرفه من لونه الأبيض وغرّته السوداء، حيث تركه جِروا كثير النباح. الآن، وقد كتم الكِبرُ نباحه اندفع بين يديه. ضرب قدمه الأرض، تشممه، لاحظ الذباب والقراد حول عينيه. الجرب الذي نهش قدميه وأسقط بعض الشعر من بطنه، أعاده إلى أيامه الأولى مع أُمه ومنطقته التي انفتحت أمامه. كيف أنقذه من كلاب أرادت تأكله بعد أن سحقت سيارة (الأيفا) العسكرية أمه وبقية جرائها، الحديثيّ الولادة. كان السائق ثملا وقد تجاوز بسيارته آخر المنطقة، قرب سور الطين المتروك ليلتقي عشيقته بعد عودتها من بيع الحليب والقيمر(لم يعرف مهدي، أن ابن عمها قتلها في ذلك المكان وقد نجا من السجن بعد أن وجدوها حاملا من مجهول.. لا شك أن العسكري انقطع عن الدخول أو انتقل إلى قاطع آخر بينما صويحباتها بقين يبعن القيمر والخاثر و...).

 ***

 ملمـح غير نهائـي

قلنـا...

وهكذا مثل كل الحكايات التي لا تنتهي نقتص جزءا من حكايتنا..... إفترضنا البداية أولا، حيث لا بداية لها. ثم الزمنا التيه.. ربما، تنتهـ .. لا، لم ولن تنتهي..، لكننا سوف نكتفي بجنونه الذي استظل به أو تمكن من خلاله أن يبتعد عن سياطهم الداكنة، والأصوب ليتسنى له أن يكمل ما كتبه لنا من أوراق لعلها تفلح أن تقلّب مواجعه.. فهروب الأسطر وتبعثر حروفها، علاماتها أو حركاتها كانت ومازالت تطالبنا بالانتهاء لاسيما وقد عجز عن مواصلة جنونه الذي أمتهن.

كان مهدي مثل كل المجانين، يفترش الأرض. يأكل من بقايا القدور أو يمزق ثوبه ليضمّد جرحا أدماه صبي بحجارة بعد أن امتنع عن إعطائه صمونة أو خيارة ناضجة.. فهو يعرف أيّ الصبية يحتاجها..

في صيف قائظ حمل أكياسا مملؤة ومضى تتبعه بعض رجال الأمن. كان لباسه يشبه لباس الشرطة أيام الفيصلية. قبل وصوله(كراج)الهادي - عشار، سياراته المارة بمحطة القطار الرئيسة. عند الشارع الرئيس الذي يؤدي إلى مدينة ألعاب البصرة، قرب تجنيد المعقل، كان يقصد كلابه التي عوّدها(منذ شهر ،خروجه من السجن)على الانتظار وساعة قدومه وهو يقدم لهن اللحم المقطع والخبز المنقوع بماء الطبخ. قبل أن يصعد فتشت أكياسه مجموعة، غير التي تراقبه، بعضهم يرتدي الزي العسكري وآخرون.. لم ينتبه إليهم، بل حدق في البعيد جاعلا من يديه مرقابا بعد أن استظل بهما عن أشعة شمس الصباح الحادة. كان حذاؤه المحكوم بسلك ناعم بدل قيطان أسود ملطخا بدم الذبائح التي يجمع بقاياها من محلات الجزارة. أحدهم سأله:

(ماهذا الدم؟)

(أريد أن أصبغه.)

رد عليهم وقد حمل أكياسه ومضى تاركا قناعتهم بجنونه الذي نفذه أمام الكلاب.

كانت تتسابق للقائه. ترفع قوائمها على كتفه وهو يمضي على رسله وقد أعياه حمل الأكياس التي وضعها أمام الجميع، طاردا الكلبة التي تتجرأ على النَيّل مما جلب قبل أن يدفع بإرادته لها. إحداهن اندفعت وراء لحمة رماها إلى الأعلى فاستقرت على أغصان شجرة متيبسة. همّ إلى أن ينزلها فعدل قائلا في نفسه لتكون طعام الدود أو الطير قبل أن...

استظل إلى الشجرة المتيبسة. مدد جسده ونام. بينما الكلاب لا تفارقه بعد أن أشبعها وأوردت أنفسهن الماء من نهر قريب، جاءت سيارة(الجيب)الموكلة على حماية القاطع، وقبل أن يقترب أصحابها منه ارتفع النباح وهمّت قوائم الكلاب بالركض باتجاه القادمين. أحدهم رمى إطلاقة في الهواء فززت مهدي، بل جعلته ينسحب قليلا قرب النهر. بعد دقائق هربت الكلاب وكأنها متأكدة من غياب المجنون الذي بحثوا عنه في كلّ مكان.. وجدوه قرب منزله يقود بغلة ألبسها حذائه وقد تجمع حوله الصبية.

(لنتركه ..)

قال أحد المراقبين.

(مَن يُصدق أنه عاقل؟)

قال آخر.

 كانت البغلة تائهة وآثار الضرب المبرّح أدمى جسدها. حاول أن يدخلها إلى البيت بعد أن فرّق الصبية ملوحا لأصحاب السيارة المنسحبين. بعد أربعة أيام جاء رجل إلى البيت ليأخذ بغلته وقد وجدها معافاة، لكنه رمى الحذاء عليه.

فجرا اعتادت الناس على مهدي وهو يجمع أكوام النفايات وسط بيته بعد أن كانوا يرمونها أيام زمان بنفس الدار، يجمعها ويفرق بعضها ينقلها إلى البعيد.

أحدهم ، والأصح أنا(ونقلا عن أمي أيضا) انتبهت إلى بعض تصرفاته، قبل أن يزورني في منتصف ليلة ممطرة، لم يُسمع فيها غير أصوات الرعد ولم يتابعه أحد. استقبلته جالسا على أرض الغرفة الرطبة بعد أن تركت عربتي بيد أمي لتنظفها وقد دفعني الفضول لمعرفة قدومه أو جنونه، كان قد ضحك مني وسلمني أوراقا مختلفة الأحجام والخطوط والألوان. كانت الأوراق ملفوفة في كيس نايلون سحبه من تحت قميصه المبلل وضعه بين يدي وقال:

(أعرف أنك حريص و.... وصمت لحظة، دون أن يكمل..)

.....

((بز..بز....)) بخفة طرد القطط التي تجمعت حول قمامة عزاء رجل ولد خطأً(كما روت القرية)عاش كسير الحال ومات ولم يمنحه القدر لقمة سائغة أو سيدة توسّع له صريفته المرمية بأطراف القرية.

نظّف خضرواتٍ ملقاة في القمامة وأفرد رزا ممزوجا باللحم ومرق الباميا، وضعه في صندوق من البلاستك، متوسط الحجم ورفع بقايا اللحم أو العظام في كيس نايلون.. ركض إلى سكة القطار هاربا كما اعتقد الجميع أثر إطلاقات البنادق التي تدوي أصواتها كلّ حين لاسيما عزاء رجل أدركته القرية. صعد على السكة تاركا جمعا غفيرا من الناس وقد تركوا السردق واتجهوا إلى البيرق القادم لمجاراة عزائهم، وكعادتهم بدأوا بتلويح البيارق في الهواء وقد أنشدوا القصائد والموالات التي تمجد الرجال دون النساء.

كان مهدي يردد من مكانه الأهازيج والموالات التي لا تعني أحدا بل لا يفهمها غير الصغار وهي تدور معه، صاحت باسمه وكأنها تنادي سيد الجمع ولا يُبالغ مَنْ يذكر أن البيارق بأصحابها قد جمّعهم صوته فوق سكة القطار وتركتهم أقدامه لتفر هاربة بالأكياس.

ليلا.. أحدهم رآه يوزع فتاة خبز على حيطان القرية الرطبة وعلى مسارب الديدان بينما لاحظه آخر يتوضأ من ماء حنفية (السبيل) القديمة دون أن يقترب من ماء المسجد، بل لم يصلّ فيه البتة، كان يفترش الأرض ويتخذ من المرتفعات محرابا متغيرا وعلى طريقته. ثمة مَنْ ذكر؛ أنه أعان عابري ليل وراء سكة القطار..(لم يَذكر عنهم شيئا).

الآن، وأنا لم أحسن ترتيب أوراقه التي دفعتني لأن أدونها كيفما اتفق، لا أنكر أنني تجاوزت على بعضها أو أكملت ما لم يتعب نفسه لإنجازه ورغم ذلك تركت الكثير منها مبتورة ولا أعرف، هل وفقت في حمل أمانته إليكم والتي أسميتها كيورش أو قال لي(قبل أن نعثر على قميصه في بيته وقد لطخته الدماء - لا أثر لجثته)أنها في لغة الأكراد الجبل الأسود.

 

 أيلول 2007