تغور الكاتبة العراقية في نصها العميق في معنى الكلام وفعله في النفس البشرية، ومن خلال شخصيتها القصصية، المرأة العاشقة المحبة والمخلصة والتي أفنت أيام عمرها في محبة الشريك المتمرد الكاتب غير الآبه أو المنتبه لوقع مشاعر الآخر في نص يدعو القارئ للتفكير طويلا قبل الكلام مخافة جرح الأحباب.

حُكمَ بالمؤبد

ناهدة جابر جاسم

مَنَحَتهُ عمرها منذ صباها حتى لحظة سماعها جملته التي وخزت قلبها الموجوع ولمرات عدة وبمناسبات مختلفة أنه “حُكِمَ عليه بالمؤبد”, أو يتساءل مخاطباً مَن حولهِ: 
- ماذا يفعل من حُكمَ عليه بالمؤبد؟
باتتْ تردد مع ذاتها بصوتٍ أخرسَ:
 - بَدِلْ حياتك!. لماذا الصبر وتحمل الألم!. من أجلِ ماذا؟
بَدِلْ حياتكَ يا روحي،! طيرٌ نَمَى جناحاه ويريد أن يحلق في سماءِ الله، ولكنه غير واثق من جناحيه.
* * *
كانا في حفلةِ عيد ميلاد صديقة عراقية بالغتْ في البذخِ على المدعوين!.
سألتها مستغربة: لماذا هذه التكاليف؟!.
وهي تتأمل قسماتها الضائعة بعمليات التجميل المتكررة مفكرةً بمدى ضيق معنى الحياة والجمال لدى نساء هذا الزمان.
وأضافت:
- لم يكن عيد ميلادك الخمسين!.
قالت ذلك في إشارة إلى مبالغة الأوربيين ببلوغ هذا العمر إذ يكمل الإنسان نصف قرن.
أجابتها في ضحكة تموت بطرفي وجنتيها التي أبرزتهما وصخرتهما العمليات
- عندي مفاجئة أخرى.. سأعلن عنها بعد لحظات.  
* * *
أخذتها اللحظة وهي المتيمة بمحبته وكأنه طفلها الأبدي والتي تتمنى أن لا يكبر ويبدأ الحبو.. الوقوف على قدميه والتحرر من حضنها.. أخذتها وهي تسمع جملته عن حكمه بالمؤبد إلى عام ١٩٧٩ حينما عادَ لها من بيروت ومعه فستان أبيض طويل وأساور وخواتم فضية هامساً في غرفته ببيتهم القديم:
- عدتُ لأجلك فقط!.
هو الذي كان عازماً على عدم العودة، واتفقا في آخر لقاء قبل سفره على التحاقها به، حال حصولها على جواز سفرٍ، إلى ايطاليا التي حصل على “تأشيرتها”.
أيامها كانت سلطة الدكتاتور تشن حملة تصفية الشيوعيين وكل من لا ينتمي إلى حزبها، وكان طفلها الجميل مستقلاً لم ينشط ولديه موقف من تحالف البعث والشيوعي 1973 ، يحمل ويبشر بأفكار جيفارا الثورية وهذا ما زادّ من جذبها إليه
كانا يقفان وسط غرفته المعتمة العبقة برائحته ورائحة مكتبته وفراش سريره، ألبسها خاتم الفضة، وحبستْ بنصره بالخاتم، كانت تسمع همسه رغم ضجيج عائلته في الغرف المحيطة، وتكاد تطيرُ فرحاً:
 - هذا نيشانك!. من أجلكِ عدتُ.. من أجلكِ يا ملاكي. أنتِ خير من يعرف مدى تدلهي بكِ، بجرأتكِ، بكيانكِ، الأذن تعشق قبل العين أحيانا هذا ما قيل، صوتكِ الذي سحرني منذ لحظة سماعك أول مرة وأنت تحاورين أمي في صالة البيت قبل عام.
صوتكِ الواشي بثقتك بنفسك، بعذوبة روحك.
ألبسها الفستان الأبيض الطويل وبدأ يراقصها، يدورّها ماسكاً بذراعها المرفوع، ومستمراً في الهمس العَذب:
- بشرتك السمراء أخ.. أخ.. روحك.. أنت فريدة لا تشبهين أية أنثى تعرفتُ عليها أو حلمتُ بها. أنت دُنيتي التي تعبتُ حتى عثرت عليها.
عانقها وشدها بقوة قائلاً بصوت غادر الهمس:
- أنت نبوءة صديقي الشاعر، الذي قال "ستأتيك جّنية تنسيكَ الدنيا وما فيها وتأخذكَ منا”.

كان يحاول التخفيف من حزنه على بنت أحبها لكنها هزمت في أول معركة اجتماعية ووافقت عائلتها على أول خاطب وكان أستاذها في الجامعة، كان يعتقد أنها ستحارب الدنيا من أجل حبهم.
طارتْ من الفرح، مَلكت الكون والسماوات السبع في حينها، من كلماته وهو يقدم نيشان خطوبتها المتواضع جداً في نظر أعراف وتقاليد المجتمع. هي الصبية بنت الثامنة عشرة شمعة التي لم تخرج من شارع أهلها والمحلة إلا للمدرسة. وبيتهم يقع وسط المدارس في محيط ثلاثمائة متراً، الابتدائية تقع في ركن شارع عام وتبعد خمسين متراً، المتوسطة والإعدادية تقعان في الطرف المقابل لبيت طفولتها، ودكان أبيها في السوق، هذه جغرافية مكانها.
هواء ورائحة شارع طفولتها  ومشاكستها لإقرانها من الصبيان والصبيات تتلمسها وتتحسسها بقوة في لحظة ألمها حين تسمع جملته وهو يردد
” حكم علي بالمؤبد”
فترى أمها الطيبة تأتى إلى باب المدرسة لتجلب الطعام الحار والماء البارد لها ولأختها التي تكبرها بعامٍ. تستنجد بعبق الطفولة والعائلة كي تتوازن.
تدوخها جملته، تصيبها بالبؤس وتشعرها بالإهانة، فتحس بلا معنى قصتها، ومثل خنجرٍ حاد يطعنها سؤاله الذي يلقيه لمن حوله ضاحكاً، لا بل مقهقهاً بمناسبة وبدون مناسبة:
- ماذا يفعل من حُكم عليه بالمؤبد؟!.
تَبرق في رأسها كلمات رسائله، فتهرع حينما تكون وحيدة في البيت وتخرج حزم رسائله تعيد قرأتها للمرة التي لا تعد فيخنقها الألم والشجن، فتنشد مفرداته بصوت مسموع لتحس وقعها في السمع والقلب:
"يا حبي
“أنتِ أول الأغنية … وأخرها
أنتِ منبع المحبة… ومصَبها
أنتِ إلهام لحظتي … ومعناها 
أنا دونكِ هباء
يا أغنية عمري وسره وعمقي
أسمعي
أنا دونكِ سأكون حزيناً إلى لحظةِ وداع الدنيا
وأنتِ كذلك
قد تدركين أو لا تدركين
مدى شدة تعلقي بكِ وجنوني"
* * *
هي خير من يعرفه، فوضوي، متمرد، مجادل، مشاكس، وجودي وصعلوك حقيقي وغير مبال، لا يطيق القيود.. المسؤولية والعائلة!. لكنها شاركته تفاصيل الحياة منذ لحظة التعارف وتَحملت عنه عبء العائلة والمسؤولية في المنفى, لا لسبب، إلا لكونها عاشقة له!. تجد نفسها تهذي في الغابة القريبة، وفي غرف البيت، في الحافلة وسط الناس، تهذي في رأسها:
“ماذا جرى لكَ يا حبيبي؟!.
أنتَ الحساس المهتم بالكلمات والمعنى، في القول والكتابة.
لماذا أصبحت قاسياً؟!. تتجاهل وقع كلاماتك السوط وهي تجلد مشاعري بصمتْ. وكلما أعاتبك تقول ضاحكاً:
- ما جرى لكِ أنتِ!! أنني أمزح!.
أي مزاحٍ هذا!.
ما هذه القسوة؟!.
من أين أتيت بها؟
هل فترة غيابي عنك حين كنت مضطرة للسفر من أجل إنقاذ حياة طفلتنا المعوقة حينما كنا مشردين في معسكرات اللاجئين غيرتكَ وكشفت قسوة قلبك؟!.
ماذا أصابك؟ ماذا حلَ بقلبك الرءوف؟
أين العّلة؟
داختْ. دوختها أفعاله الشاذة والغريبة عن تاريخ علاقتهما!. وجعلتها تضرب خبط عشواء وتذهب من الحياة إلى الكتب وتهذي:
- هل ما قراءته في رواية صديقك الشاعر التي فلسفَ فيها عمر الإنسان وصورها ما هي إلا لحظة لابد له أن يقتنص لذتها الآتية، وجعل بطلها يحلم بالخلاص من العائلة وطوقها، ليعاشر النساء العابرات.
هل تغيرتْ أحلامكَ؟!.
هي لم تعتبر علاقتها به طوقٌ يحد من حريتها في معنى الحياة واحترام كيان الآخر!. بل كانت تظن أنها مختلفة عن بنات جنسها إذ شاركتهُ تكاليف الزواج كي تثبت له إنها مختلفةً لا تبغي سوى الحب وديمومته، لا بل لم تطلب منه شيئاً يثقل كاهله الرجولي في المجتمع الشرقي!
بل كانت محبة ومانحة.
سامحته على نزواته، التي كادت تحطم، ما كان بينهما من قصة حياة شاركته مرارتها وعذاباتها قبل حلاوتها، وتجاهله مشاعرها ووجودها حينما كانت بحاجة إلى سماع أنفاسه قربها وهي مريضة!. سامحته وحاولت بناء ما تهدم من مشاعر.
- هل أنت ليس غير ماجنٍ بالنساء والخمر واللهو؟.. وهل، وهل، وهل وألف هل؟!
أسئلة لم تدوخها وحسب بل أصابتها في الصداع في الروح قبل الرأس!.
لماذا لا ترحل عن حياتي؟، وتدعني وشأني فأنا إنسانة صافية كنبعٍ، متوهجة كشمس ظهيرة مدينتنا الصحراوية. 
أرجوك.. أتركني وشأني!
كانت تحدث نفسها في دوامة داخلية لا تهدأ كلما كرر جملته ضاحكاً:
- محكوم مؤبد.. موبد هههههههههههه!.
لكن هيهات أن يتنازل عن عرشه وصورة الزوج والأب الناجح!. لا يتنازل عارفاً وسع قلبها الذي أحتوى كل تناقضاته وفوضاه.
هي الحرة والمتشهية كالطبيعة كما هتف "والت ويتمان"
هي القديسة والعاشقة والتي رغم طعنات ضحكته سعيدة في الحكم المؤبد عليَها حيث عثرت على من تمنى الحكم المؤبد معها!.

 تشرين الثاني 2016