في يوم قائظ، تحت سماء صافية باهتة الزرقة تسافر ريح " الشرقي " في مساربها مولولة مصفرة ، فتقلب الطاولات والكراسي في باحة مقهى " شنجن " على ضفة واد حار ، لم يعد حارا بعد معالجته ، على الأقل عند انتهائه إلى كورنيش طنجة حيث المقهى تربض على واجهتين، واجهة شارع محمد السادس، وواجهة الحديقة الصغيرة الخضراء الجميلة المكومة تحت باحة المقهى على طول شارع يمتد على يسار الوادي في اتجاه خليج طنجة تصطف فيه سيارات زبائن المقهى أو الراغبين في التجول على رصيف الكورنيش الجميل الممتد صعودا إلى مالا باطا، في هذا الجو المزعج للنادل المتعب من جمع الكراسي والطاولات البلاستيكية وإعادة ترتيبها كلما بعثرها الريح في تشكيلة متناسقة مع ارتفاع الباحة وانحدار الحديقة والبحر، جلس على كرسي وطاولة في زاوية يتقاطع فيها سياجان من نباتات لبلابية ممسكا بقلم، فاتحا كراسة، غير آبه بالريح والزبائن، سوى إدراكه من بدلاتهم السوداء وقمصانهم البيضاء وأحذيتهم الملمعة ومن أحاديث الأمس وقبله أن غالب هؤلاء الزبناء سائقون مستأجرون لشخصيات سعودية تزور طنجة لحدث ما ، شيء ما حول المناخ، قيل ترأسه وزيرة البيئة التي تستورد الأزبال السامة من إيطاليا لتحرقها في أفران الإسمنت في بلدها، أو حفلة أمير سعودي أو إجازة يقضيها أوغيرها مما تتناقله الألسن.
لم يكن يهمه الأمر كثيرا بقدر ما كان يهتم لقصيدة كتبها ذات أوقات عصيبة ، لكنها ضاعت منه في مكان ما من مدينة تحولت في عشر سنين ونيف من أميرة الأحلام إلى عاصمة الضياع ، إلى عاهرة تغطي ندوبها المساحيق كمدن الغرب الغبية، حيث تختلط الوجوه وروائح العطر والبيتزا والشاورما بعوادم السيارات، وتختلط ألوان المثلجات وأصناف الصخب وازدحام الناس والمركبات، وتتعالى المباني وتتبرج الفنادق والمقاهي المصنفة، وتتنافس العاهرات القادمات من مختلف مدن المغرب يبحثن عن طالب متعة ثري من أهل المشرق في فنادق قيل حجزت عن آخرها هذا الصيف فاستعانوا باستئجار الفيلات لاستيعاب كثرة الوافدين، وكثر الأمن بأصنافه ليفرض النظام ويخفف من وطأة الازدحام ويظهر للزوار الكرام أنهم في بلد متحضر ينعم بالأمن والأمان . كان الجالس لا يعبأ بكل ذلك، تذكر السطر الأول من قصيدته، رسمه على الورقة، قرأه مرارا عديدة كأنما يحاول أن يمسك برأس الخيط من سورة أجهد نفسه في حفظها لكن الذاكرة تخونه كلما أراد استظهارها، ليس له من عدو اليوم إلا الذاكرة. عصر رأسه مرارا حتى كاد قحف رأسه يشتعل، وبدأ الصداع يدب إلى مقدمة رأسه، تذكر يوما ما في الطفولة البعيدة كان والده الفقيه يحمله على استظهار سورة الرحمن، وهو جالس مادا رجليه مجبرا، وكلما نسي حرفا أو كلمة أو بدل حركة ألهب الوالد أخمص قدميه بثلاث ضربات سريعة أو أربع من عصا نحيفة وطويلة قطعت من شجرة زيتون تتثنى ولا تنكسر، ثلاث أو أربع في كل خطأ كأنهما شواظ من نار سريعات لا تحس بأثرها إلا عندما تتخيل أسفل قدميك وقد صارتا كشقي إست قرد أحمرين دعكتا بمسحوق فلفل لاذع.
طار كرسي وتدحرجت طاولة، فأصابه منهما ما أخرجه من هذه الذكريات، ودلف كل الزبائن إلى داخل المقهى وارتدت إثرهم الأبواب الزجاجية الناصعة الكثيرة التي تفتح وتغلق تلقائيا، وتوسل النادل إليه أن يدخل إلى القاعة الفسيحة أو يصعد الذي الدور الثاني حيث يتراءى البحر والشارع أكثر جمالا، لكنه لم يأبه له، قال له إنه يعشق الريح، إنه هو الريح وابن الريح، وإنه مرتاح في مكانه، وطلب منه فنجان قهوة سوداء معصورة احتساها على عجل بدون سكر وأردفها بكأس ماء كبير وهو يرتعش، ويحاول أن يمسك بركبتين ترتعدان، ويوقف بقايا أسنان عن الاصطكاك وقلبا يدق في صدره كعود يضرب الطبل، إنه حزين ومغتاظ ومنفعل، قصيدة لم يعثر عليها ولا يستطيع أن يتذكر غير سطرها الأول، يحاول بلا جدوى كأنه سيزيف، يستعرض وجوه أبنائه وبناته فلا يرى أجمل من قصيدة خرجت من أحشائه وتاهت في المجهول. إن ما يقلقه كثيرا أن وليدته الساحرة ستقع بين يدي سفاح يقطع أوصالها، يلف بها " الزريعة " أو يؤذي نبض حروفها بحرارة درهم من "كالنطي" يبيعه منزو أمي في ركن ما من سوق " كاساباراطا"، ثم لا تلبث أن تطير مع الأوراق و"الميكات" التي تذروها رياح "الشرقي". تذكر أيضا أن والده في الابتدائي كان يحمله على استظهار نصوص " التلاوة" أو "القراءة "، لم يعد يذكر، شيء ما يشبه هذه العناوين من مؤلفات أحمد بوكماخ المدرسية، ولأن الوالد لا يحفظ هذه النصوص كما يحفظ القرآن عن ظهر قلب، فقد كان يشحن من قدرته على التعبير النص بما ليس فيه بسلاسة واسترسال لا يشك معهما الأب المغالب للنعاس من أثر يوم عمل شاق أن ابنه حافظ عظيم.
مسك القلم، قرأ السطر الأول من القصيدة للمرة الأخيرة، ثم استرسل في الكتابة، انهالت عليه الصور والمعاني واضطرمت نفسه وازداد ارتعاشه وارتفع ضغط دمه، وغاب ساعة وكأنما يقتلع العبارات من قلبه وكبده اقتلاعا ثم توقف لحظة وقرأ ما كتب، وخط على أعلى المكتوب عنوانا، وأحس بشيء كالبكاء والفرح، كالموت والميلاد، كالغياب والحضور. كانت قصيدة أخرى ليس لها من قصيدته الأولى إلا المطلع، وكان الريح مع تباشير الغروب قد بدأ بالخفوت، فخرج الهاربون إلى الداخل من جديد إلى الباحة الفسيحة المطلة على الكورنيش، لكن الجالس نهض، دفع ثمن القهوة وغادر في اتجاه الريح متأبطا كراسته.
طنجة 20/07/ 2016