- لنبدأ من تسعينات القرن المنصرم، عندما كنت أستاذاً ورئيساً لقسم الفلسفة في جامعة دمشق، وكنا طلاباً في قسم الفلسفة ومعهد الفنون المسرحية، أُقيم في ذلك الوقت الأسبوع الثقافي، وكان حدثاً استثنائياً في مدينة راكدة كدمشق. لماذا سمح لكم النظام وقتها بإقامة فعالية كهذه؟
صادق العظم: تلك كانت فترة ذهبية، بمعنى ما؛ كان حامد خليل عميداً لكلية الآداب وأنا رئيساً لقسم الفلسفة. نتحدث عن منتصف التسعينيات، كان الأسبوع أمراً كبيراً جداً وقتها في سورية، لم يحتملونا أكثر من خمس سنوات. لم يستطيعوا أن يلغوه ولكنهم طردوا حامد خليل من عمادة الكلية وطردوني من رئاسة القسم. وكما تعرف فإن النشاطات في سورية كانت مرتكزة على نشاط ومبادرة أشخاص، فكان طردنا كفيلاً بتعطيل الأسبوع الثقافي. أتذكر أنه في بعض المحاضرات كانت كثافة الحضور تملأ المدرجات. أتذكر السنة التي أتى فيها نصر حامد أبو زيد؛ كانت تلك المرة الأولى التي يعود فيها أبو زيد إلى العالم العربي بعد لجوئه إلى هولندا، كنا نحن من دعوناه إلى دمشق، اضطررنا يومها إلى وضع مكبرات صوت كبيرة خارج القاعة وشاشات تلفزيون ليتابع الحضور الذين لم يجدوا لهم مكاناً في قاعة المحاضرات. كان ذلك سنة 1999، بعدها ذهبت إلى هارفرد وبعدها بقليل توفي حامد خليل في 2001.
لا أستطيع أن أجزم عن سبب سماحهم لنا بإقامة الأسبوع، ولكننا في نهاية الأمر في جامعة، والجامعة هي المكان لإقامة محاضرات وفعالياتٍ من هذا النوع. وقتها كان حافظ الأسد قد بدأ بالتواصل ومحاورة المثقفين في البلد. حاولوا فرض سيطرتهم علينا، ولكنهم لم يستطيعوا. أتذكر كيف أتى إلي ضابط الأمن معاتباً كيف لا أقول كلمةً في حق الرئيس في أسبوعٍ كهذا. طبعاً لم نقل شيئاً من ذلك. في مرةٍ أخرى دعانا علي دوبا (رئيس شعبة المخابرات العسكرية) إلى الغداء. كنا نستضيف في الأسبوع الثقافي رفعت السعيد ومحمود أمين العالم اللذين يعتبران معارضةً مصرية. كنت متعباً يومها بعد انتهاء الجلسة الصباحية من النقاش، كانت أيام الأسبوع مقسمة إلى جلسة صباحية وأخرى مسائية، كنت أرتاح بين الجلستين عندما رنّ الهاتف وإذا بعلي دوبا يدعونا إلى نادي الشرق. لم نستطع التملص فذهبنا، ولكننا بقينا عند موقفنا أننا نعمل في الثقافة والفكر، وهذا ليس سبباً لتقديم الشكر لحافظ الأسد في الأسبوع الثقافي.
- كان كتابك (النقد الذاتي بعد الهزيمة) منصباً على نقد النخب السياسية وعبد الناصر والإخوان المسلمين، وعلى نقد أفكارهم الشمولية وعلاقتهم بفكرة الحرية. بمعنى آخر، لم يكن الكتاب نقداً ذاتياً لأفكارك، بل كان نقداً لنخب لا تشبه تفكيرك، كالقوميين والإسلاميين. هل هناك نقد ذاتي لفترة الستينيات وللفترة الراهنة، نقد ذاتي للأفكار التي تطمح إلى مجتمع مدني متحرر وقيم الديمقراطية؟
صادق العظم: النقد الذاتي بعد الهزيمة كان كتاباً عن اللحظة القائمة في ذلك الوقت، كُتب تحت وقع الهزيمة. كنا وقتها نعدّ الدبابات والطائرات، كم يملكون وكم نملك .. أبعد تصور كان وقتها (كانت الحرب الباكستانية الهندية قد وقعت قبل ذلك بقليل، نشبت الحرب طاحنة بين الطرفين حتى تدخل الأميركيون وفرضوا وقفاً لإطلاق النار) كنت أرجّح وقتها أن ما سيحدث سيكون مشابهاً لمثال الحرب الباكستانية الهندية؛ سنتحارب مع إسرائيل وسيتدخل الكبار ليفرضوا وقفاً لإطلاق النار ويرتبوا الوضع من جديد. عندما كنت أتحدث عن هذا التصور في ذلك الوقت كنت أعتبر انهزامياً ومتشائماً في حلقات دمشق وبيروت، بسبب الحماس العام للحظة تحرير فلسطين، كان الفلسطينيون وقتها يقولون: سنشم رائحة بيارات البرتقال. لقد كانت لحظة جنون من عبد الناصر؛ كان نصف جيشه في اليمن وذهب ليستفز إسرائيل، عبد الناصر من استفزهم عندما حرّك جيشه في سيناء. كانت المبادرة منه. لم يخطر في بالنا وقتها أن نسأل. تخيّل ما حل بتلك الحماسة والآمال العالية، لقد سقطت إلى أسفل السافلين بعد الهزيمة. كانت تلك اللحظة هي التي كُتب فيها الكتاب.
نوع النقد الذي تسأل عنه غائب في الكتاب، ولكن هناك نقد للنخب المثقفة من القوميين العرب، والناصريين، ويساريي تلك الفترة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين. هناك نقد لتلك الثورية، فهي ثورية على المستوى السياسي فقط، ولكن عندما يأتي الأمر إلى القضايا الاجتماعية والعائلية لا تجد تطبيقاً لتلك الثورية عند تلك النخب. وهناك كان التساؤل: إن كنتم تعتبرون أنفسكم ثائرين، فعلى ماذا أنتم ثائرون؟ على الاستعمار فقط؟ هذه هي النقطة الأساسية التي تجد فيها نقداً ذاتياً.
كتاب (النقد الذاتي بعد الهزيمة) هو نقد أيضاً لمنظومة ما كان يسمى الفئات البرجوازية الصغيرة. ومن هذا المنطلق لا أرى نفسي بعيداً عن هذه المنظومة. ومن منطق البرجوازية الصغيرة، أردت أن تكون هناك بقية باقية من أمل في الكتاب. كان هناك أمل بأن تستطيع هذه التركيبة الشعبوية الاشتراكية العربية أن تُرمم نفسها.
- إن أردنا سحب الملاحظة الأخيرة حول نقد الطبقات الاجتماعية البرجوازية أو الوسطى لقيمها الاجتماعية أو العائلية أو الدينية، إن أردنا أن نسحب هذا التقييم على لحظتنا الراهنة، هل سنجد مراجعة نقدية لهذه القيم؟ هل فرض الحراك السوري من 2011 إلى الآن مراجعة اجتماعية دينية فكرية للهوية السورية؟
صادق العظم: رأيت بعض الظواهر في المرحلة الأولى، مرحلة الحراك المدني، والتي لم نكن معتادين عليها، ولم نكن نعرفها في السابق في المظاهرات والاحتجاجات، دخل الغرافيتي والنكتة والرقصة. هذا شيء جديد. هناك أيضاً فكرة التنسيقيات؛ فكرة أن يتجمع شباب وينشئوا وكالة أنباء محلية. كل هذا كان جديداً. حتى شكل الجموع التي كانت موجودة، كنت ترى ابتسامة على وجوه الناس. هذا ما أتذكر أنني قلته لزياد وقتها، كنت تستطيع أن ترى الإشراق على الوجوه. في السابق كنت ترى الغضب والعبوس. إن قارنت صور المظاهرات السورية الآن مع مظاهرات الخمسينيات ومظاهرات فلسطين سترى الفارق. لكن ما أراه أن الأنظمة التي رُتِّـبت في المنطقة في مرحلة ما بعد الاستعمار، والحركات التي ازدهرت خلال الحرب الباردة ذات الطابع العالم ثالثي، كلها ذات طابع راكد، أما الآن فأظن أن هناك أنظمة جديدة ستظهر، هناك صراع واضح يطوّرها؛ دخل الإسلاميون ليمسكوا هذا الحراك وهناك من يقاوم تدخلهم هذا. التدين العفوي موجود عند الناس في المنطقة، وهذا ما يقوم الإسلاميون بأدلجته وتسييسه وتحويله إلى طاقة تعبوية، لكنهم لم يستطيعوا الذهاب أبعد من هذا. عندما حاولوا ذلك فشلوا، مصر مثال على ذلك، بينما تعلمت تونس الدرس من مصر، فأخذ الإسلاميون فيها خطوات نحو الخلف. الإسلاميون استنفروا الدين الشعبي المتمركز أساساً حول العبادات والمعاملات، طبعاً في بلادنا لا يوجد أفضل من الدين لتعبئة الناس نحو الصراع والقتال.
- هل النموذج السوري مختلف عن نماذج مصر وتونس والجزائر، ربما بسبب شكل التنوع الطائفي؟
صادق العظم: بمعنى أن الطوائف عبّأت نفسها ضد بعضها، لا أرى صراعاً طائفياً في سورية. لم يحدث مثلاً أن عبّأ الدروز أنفسهم ضد الحوارنة، على عكس ما حدث في لبنان والعراق. في سورية بقي الحزب والدولة القوى الفاعلة، وعمودها الفقري هو الطائفة العلوية، بينما العمود الفقري للثورة هم السنّة، هذا لا شك فيه. ولكن أن نقول إن مكونات الشعب السوري قد عبّأت نفسها ضد بعضها بعضاً فلا أظن أن هذه الصورة منطبقة على سورية بقدر ما هي منطبقة على العراق. في العراق، تم حل الدولة والحزب من قبل أميركا وبقي الأكراد والشيعة والسنّة في مواجهة بعضهم بعضاً. في لبنان، لم تكن هناك دولة أساساً، ربما ما عدا المرحلة الأولى، مرحلة فرنجية، لكن المكونات اللبنانية كانت معبّأة ضد بعضها بعضاً، خصوصاً الدروز والموارنة والفلسطينيين والشيعة.
هذه ميزة لسورية. عندما أُسأل هنا في أوروبا عما يجري في سورية أقول لهم إن أردتم نموذجاً لتفهموا من خلاله تذكروا الانتفاضة المسلحة في المجر سنة 1956 ضد الحكم الستاليني، لم يقل أحدٌ وقتها إن ما يجري هو حرب أهلية، قالوا إنها انتفاضة ضد حكم ستاليني، ما يحدث في سورية شبيه لما حدث في المجر وقتها؛ انتفاضة أو ثورة ضد مزيج من الحكم الستاليني والفاشي.
- أريد أن أسألك عن مرحلة الستينيات. أينما ذهبت هناك جيل الستينيات، من أيام غيفارا إلى فيتنام إلى وودستوك وحركة الروك، في اليابان، في باريس، وفي منطقتنا أيضاً. حصل جيل الستينيات في دول العالم على مكاسب مهمة، إلا جيل الستينيات العربي كان هو الذي مُني بالهزيمة الأقسى على جميع المستويات. أنتجت تلك الهزيمة دكتاتوريات العالم العربي وظهور التيارات الإسلامية، خسرنا فلسطين كاملة وأجزاءً من بلاد عربية أخرى، هل كانت الستينيات في العالم العربية حركة أصيلة؟
صادق العظم: هذا يعتمد على ما تقصده بكلمة أصيلة. كانت شيئاً جدياً، مثلاً على مستوى الأدب كان هناك شيءٌ ما بالتأكيد، في سورية ومصر على سبيل المثال. كانت هناك حركة على الصعيد السياسي لدى جيل الستينيات منها مسألة فلسطين والنضال ضد الاستعمار وتفكيكه، الجزائر وحرب التحرير ... إلخ. هذه الحركة لم تستمر ولم تمت ميتةً طبيعية، لقد بترت بشكل فج تماماً ولم تُعطِ ثمارها، أتت هزيمة 67 لتخلق فراغاً ثقافياً وأيديولوجياً وسياسياً. هذا الفراغ ملأه التيار الديني، وأعتبر أن هذا القطع الفجائي هو الذي منع حركة جيل الستينيات من أن تُعطي نتائجها، أو أن تموت ميتةً طبيعية مثل حركة مناهضة الحرب في أميركا التي ماتت ميتةً طبيعية عندما انتهت حرب فيتنام. حتى الحركة الشيوعية والاشتراكية ماتت ميتةً طبيعية أيضاً وليس على طريقة الانقطاع الذي حصل لدينا.
ولكن هنا يجب أن ننتبه إلى مسألة تصب أيضاً في أزمة الفكر الديني، فمثلاً عندما وصلت الشيوعية إلى مرحلة الانسداد في السبعينيات والثمانينيات أفرزت عنفاً إرهابياً مثل الألوية الحمراء في إيطاليا وأكسيون ديركت في فرنسا والجيش الأحمر في اليابان. عندما وصلت الشيوعية إلى نقطة الانسداد التاريخي خرجت قوى اعتقدت أنها عبر العنف تستطيع كسر حالة الانسداد تلك وتحريك المجتمع وتحريك موقف الأحزاب الشيوعية الانتظاري الذين كانوا ينتظرون أن تنضج الظروف الموضوعية. الشيء ذاته حصل مع الإخوان المسلمين كانوا أيضاً ينتظرون أن تنضج الظروف التي تُعيد الخلافة، وهناك دائماً أشخاص ينفد صبرهم سريعاً. لدي تصور حول العنف الذي تستخدمه داعش، بأنه موازٍ للإحساس بالانسداد والأزمة. كل محاولة من الإسلاميين تبوء بالفشل، وكلما فشلوا كان التصعيد أعنف. يعتقدون أنهم إذا زادوا العنف هذه المرة سيحصلون على نتائج مختلفة. إنها طريقة أرييل شارون؛ "ما لا تستطيع تحقيقه بالقوة يمكنك تحقيقه بقوةٍ أشد" هم يسيرون على هذا السياق. هذا يبدو واضحاً عند النظر إلى تاريخ عنف الجماعات الإسلامية وإلى عنف القاعدة الدولي إلى إعلان الخلافة.
- سأل النظام السوري ما هي هذه الحرية التي تريدونها؟ جيجيك يسخر من مسألة الحرية في الغرب ويقول إنها أمرٌ مجزّأ. وهناك ملاحظة يوردها الكثير من الناشطين السوريين عن أيام المظاهرات في سورية: كنت تستطيع الحديث في أماكن التظاهر عن أي شيء على المستوى السياسي من دون أن تثير أي تحفظ اجتماعي، ولكنك ستجد حتماً المنطق المحافظ في التعامل مع الأنثى أو مع تعاطي الكحول، إضافة إلى حضور الرمز الإسلامي في المظاهرات، في الوقت نفسه ستجد عند النظام انفتاحاً في التعامل مع الأنثى وغياباً للرمز الإسلامي في مناطق سيطرة النظام. هل يتجزأ مفهوم الحرية؟
صادق العظم: هذا مستوىً معقد من التعاطي مع مسألة الحرية. فعندما يتحدث العبد عن مسألة الحرية شيء، وعندما يتحدث عنها الحر شيء آخر. عندما تتحدث عن شيءٍ زائف في الحريات في أوروبا هذا نوع من النقد الذاتي لطبيعة الحياة هنا. إنه أمرٌ معقد، ومقارنة غير عادلة أن نطلب المقارنة بين الحرية الأوروبية ومطلب الحرية في العالم العربي. مثلاً بالنسبة لسورية كان يكفي أن تنزل المخابرات عن ظهرنا حتى نشعر أننا أحرار!
- هل فكرة الثورة الآن هي نفسها التي كانت موجودة خلال القرن العشرين؟ أشعر أن المفردات التي في قاموسنا قاصرة عن توصيف ما يجري. في السابق كنا نتحدث عن العمال والفلاحين والطبقات الكادحة كالحوامل الأساسية للثورة، أما الآن فالمهمشون هم الحامل الأساسي. نحن الآن أيضاً في عصر التواصل الاجتماعي الافتراضي والذي سينتج بالضرورة علاقات وحركات مختلفة عما سبق. وبالذهاب إلى مستوىً أبعد في السؤال، هل نستطيع فهم داعش بأدوات التحليل التي لدينا أم أننا نحتاج لأدوات تحليل جديدة؟
صادق العظم: ما زالنا نبحث عن الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن تعبّر أو تستوعب ما يجري بشكل مطابق أو قريب لما يجري، ولكن في الوقت نفسه أنا لا أريد أن أختزل ما يحدث فقط لمجال الإنترنت وفيسبوك. تقوم الانتفاضات أو الثورات في كل مرحلة باستخدام الأدوات المتوفرة. أيام الخميني استخدموا الكاسيت، كانوا يتحدثون عن الكاسيت كأنه السبب في الثورة الإسلامية الإيرانية، قبل الكاسيت كانت جريدة الحزب. ولكننا بحاجة لبلورة آليات جديدة للتعاطي مع الواقع الجديد.
ولكن ما أعتبره أهم من داعش أو القاعدة، كمنشأ تاريخي، هي الجماعات في مصر التي بدأت في الثمانينيات، تلك المستندة في تأسيسها على كتب وتنظيرات سيد قطب وعبد السلام فرج (الفريضة الغائبة) وشكري مصطفى (التكفير والهجرة) أعتقد أن التنظير للحركة الإسلامية عند هؤلاء أعلى مستوى من بضاعة داعش أو القاعدة. عند جماعة داعش خرج أحدهم بكتاب اسمه (إدارة التوحش) يحكون بشكل علني عن التوحش، هذا تنظير للتوحش والمراحل التي يمر بها.
أرى أن هذه الظاهرة برمتها هي رد دفاعي على الحداثة، إنها مزيج من الحركة الرومانسية وحركة إصلاح الكنيسة. تستطيع أن تقرأ سؤالاً بين أسطر منظري الجماعات الإسلامية: إن استمرت حياتنا على هذا الشكل، فما الذي يمنع أن يحل بالإسلام ما حلّ بالمسيحية في أوروبا؟ هل سيخرج الدين كلياً من الحياة العامة وضبط حياة الأفراد والناس؟
لنضع الأمر بشكل نظري أكثر؛ نجد عند ماكس فيبر نظرية نزع السحر عن العلم، مفادها بأن العالم الحديث قد تحرر من الخرافة. تستطيع أن تجد الفكرة نفسها عند غوته في فاوست؛ باع الغرب روحه المسيحية مقابل السيطرة على العالم المادي. ما أعتقده أن مزيجاً من الرأسمالية والحداثة والعلم كفيل بتحرير أي ثقافة من الخرافة، وما أجده أن التحرر أو فك الارتباط هذا يجري على قدم وساق حتى في منطقتنا.
- يقال إن ما حمل روح عصر النهضة الأوروبية هي أسئلة شخصيات أدبية مثل فاوست ودون جوان ودون كيشوت وسانشو وهاملت. كلها أعمال أدبية كانت عناوينها هي أسماء الشخصيات ذاتها. لماذا لم تستطع النهضة وحركة الفكر العربية أن تخلق شخصية تحمل أسئلتها الوجودية؟
صادق العظم: عصر النهضة في أوروبا يعتبر بداية عصر الفردية وتفكك الهويات الجمعية، المثال الأوضح على هذا هو مسرحية روميو وجولييت لشكسبير، كانت بداية الحب الفردي خارج الترتيبات العشائرية والقبلية، كانت فجر القرار الفردي، كان هذا موثقاً في تلك المسرحية. حدث لدينا شيءٌ مشابه، ولكن ككل شيءٍ آخر بقي باهتاً وفي نطاق ضيق. هناك مثال توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف". ظهر في مدينة القاهرة شيءٌ اسمه القانون المدني وفكرة المحاكم. ويتحدث الحكيم عن شخصية هي النائب عن المدعي العام إلى الريف لتطبيق القانون المدني على مجتمع ريفي محكوم بما يسمى الأعراف والعادات والتقاليد. يُظهر توفيق الحكيم المهازل التي تحدث مع الشخصية وفي الوقت نفسه يظُهر كيف أن فكرة القانون المدني تغزو الريف ببطء وتحل محل الأعراف والعادات والشريعة. يمكننا اعتبار "نائب في الأرياف" بداية لهذه الفكرة. في تقديري لم يكن توفيق الحكيم واعياً لهذا الأمر، كان يسجل تجاربه الحياتية كأديب، ولكنني الآن وبنظرة استعادية إلى هذه التجارب، أرى كيف شكلت هذه الرواية وأمثلة أخرى سجلاً لامتداد القانون المدني إلى الريف وحلوله مكان ما كان موجوداً هناك من عادات تقليدية. طبعاً هناك قوى ستقاوم هذا الأمر وسيُخلق الصراع. نجيب محفوظ أيضاً لديه الكثير من هذا، إن قراءة من هذا النوع لأعمال نجيب محفوظ ستظهر لنا الكثير من جوانب هذا الصراع.
- عندما نتحدث عن عصر النهضة العربي في أواخر القرن التاسع عشر أو مرحلة الستينيات نجد أن النخب المثقفة والمفكرين لدينا على قطيعة أو عدم اطلاع كافٍ على المنجز العلمي. فعصر النهضة العربي فاقد للعلاقة أو قليل الاطلاع على منجز التطور العلمي كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك.
صادق العظم: لولا الثورة العلمية في القرن السابع عشر لبقيت النهضة الأوروبية في حدود الرسم والإنسانيات والنثر والشعر والموسيقى. الثورة العلمية استوعبت كل ذلك ونقلته إلى مستوىً آخر. وما هو غائب كلياً في النهضة العربية هو بالتحديد العلم. هناك كتابات كثيرة عن العلم وأهميته، ولكنها كتابة على طريقة شهرزاد. والنقطة المهمة في هذا الأمر هي أن العالمين العربي والإسلامي لم ينتجا خلال السنوات الألف الماضية معرفة ما في الطبيعة أو المجتمع أو الإنسان أو الفلك. ليس هناك إنتاج للمعرفة. فعصر النهضة العربي كان مليئاً بالكثير من الأفكار بعضها تطوّر، ولكن الفكرة الوحيدة التي لم تتطور هي الفكرة العلمية. وأعتقد أن جماعة الدين والمشايخ قد حاربوا هذه الفكرة. تحمل النصوص التي تحدثت عنها في مصر ازدراءً واحتقاراً للعلم، حتى إن شكري مصطفى يقول بما معناه أن النبي كان أميّاً، لم يكن مهتماً بالرياضيات أو الفلك أو ما شابه، ونحن أمة أميّة لا نحتاج لأكثر من الإسلام.. هذا نصٌ صريح. هذا خوف واضح من العلم الحديث.
- أريد أن أعود إلى مسألة أدوات التعبير التي شهدناها في ثورات الربيع العربي إن كان في الثورة السورية أو الثورة المصرية. هل استطاعت الثورات أن تطور خطاباً مغايراً مستقلاً عن خطاب الأنظمة الحاكمة التي ثارت ضدها أم أن الخطاب الذي تُنتجه معتمد على مبدأ العدو. هل لدى الحراك في سورية مثلاً إمكانية تطوير هذا الخطاب المستقل المغاير؟
صادق العظم: على مستوى الخطاب واللغة يمكن تطوير خطاب يقوم على قطيعة كاملة مع السابق. لنأخذ نموذج أردوغان؛ بدأ بداية واعدة جداً، ولكنني فكرت وقتها أن المجتمع التركي ما زال مجتمعاً سلطوياً، على صعيد الثقافة اليومية العادية، بمعنى سلطة الأب والمدرسة والجامع. على هذا الصعيد فإنه ما زال سلطوياً، ربما يكونون أفضل منا بقليل، لكن هذه السمة عادت لتنعكس في سلوك أردوغان التسلطي و"السلبطجي" الذي وصل إليه. الشيء نفسه ينطبق على فكرة سورية الفدرالية وما قام به الأكراد. أخاف أن ينشأ في كل نقطة فدرالية في العراق أو سورية حافظ الأسد صغير، لأن الثقافة السلطوية معتادة على الزعيم، وتحتاج إليه. لن يكون التغيير سهلاً على الإطلاق. يحتاج الأمر إلى جهد ووقت. انظر إلى فدرالية أو كانتون الأكراد في العراق، على رأسه حافظ الأسد آخر. تخوفي أيضاً أنه بعد الثورة ستعيد الثقافة السلطوية إنتاج نفسها، أرجو في ذلك الوقت أن يكون النموذج أخف مما شهدناه ونشهده حالياً أن يكون مُسيطَراً عليه قليلاً.
- كيف تترجم كلمة الزعيم إلى اللغة الإنكليزية؟ أحاول كثيراً التطرق إلى هذا المفهوم في حديثي مع غير العرب عن أردوغان وحافظ وعبدالناصر لأشرح شكل العلاقة بين السلطة والمجتمع. الزعيم ليس قائداً فحسب. ولم ترغب الأسماء السابقة في أن تكون قادة فقط، كانت رغبتهم أن يكونوا زعماء. لم أستطع أن أجد مرادفاً لهذه الكلمة في اللغة الإنكليزية؛ المرادف الشعبوي لهذه المفردة!
صادق العظم: إن أردت أن تجد مرادفاً عليك أن تعود إلى فترة كرومويل، ماذا كانوا يطلقون على كرومويل في أيامه؟ كرومويل لم يكن فقط محرراً وقائد ثورة، كانت لديه خصائص الزعيم. بعيداً عن الأوصاف التي أعطاها له المؤرخون، سأعود لأبحث عما كانت جماعة كرومويل ينادونه به، ما كُتب عنه في الشعر أو الجرائد. كانوا يمجدونه في القصائد أيضاً. هناك ربما ستجد كلمة مرادفة لكلمة الزعيم التي ستكون كلمةً ميتة في القاموس الأوروبي المعاصر. إن جزءاً من أهمية كلمة زعيم يأتي من الشحنة العاطفية التي تحملها، والتي من الصعب أن تجدها في أوروبا. يمكن أن تبحث في الفرنسية مثلاً عما كان يُوصف به دانتون أيام الثورة الفرنسية.
- في سورية لدينا مسألة الأقليات التي حاولوا الضغط بها على الحراك الثوري. أنت شخصياً كتبت نقد الفكر الديني، وانتقل اهتمامك بعد ذلك إلى نقد الفكر الإسلامي. هل ترى أن الأقليات بحاجة إلى نقد فكرها الديني أم أنها الآن في أكثر فترة تحتاج فيها إلى التمسك بالدين لتحافظ على وجودها؟
صادق العظم: إن أرادوا الحفاظ على وجودهم فهم ليسوا بحاجة إلى النقد، أما إن كانوا يريدون خلق وجود جديد يدخلهم في المجتمع بمنطق المواطنة والمساواة فلا بد لهم من النقد. وحالياً أي شيء عدا ذلك هو تحقيق للسيناريو الأسوأ على الأرض. قد يكون النقد في هذا الوقت صعباً، ولكن هناك بيانات تتحدث عن تصحيح، وإعادة نظر، وتوضيح، وأعتقد أننا نستطيع أن نعتبرها بوادر تتجه نحو النقد الذاتي. ومن هنا كان اهتمامي بما يصدر عن الأقليات من مراجعات وانتقاد ذاتي. وعلى هذا النسق كان اهتمامي على سبيل المثال بالأقاويل التي تتحدث عن وثائق لفئات علوية تفكك وجودها الديني عن سيطرة بشار الأسد، لكنني لم أستطع العثور على أيٍ من تلك الوثائق. يتطلب الحفاظ على الهوية عملية تكيّف وتوافق وتعايش، بدلاً من التشبث والتمسك والبقاء على الحال. في هذه الحالة تحتاج الأقليات إلى نقد فكرها الديني، جميع الطوائف وليس العلويون فقط.
عملياً، كتاب (نقد الفكر الديني) هو نقد الفكر السنّي ولذلك لم ينزعج الشيعة من الكتاب في تلك الأيام. المسيحيون انزعجوا أكثر. كان مصدر تخوفهم هو الرأي التالي: إن كنت أتعاطى مع ديني بهذا الشكل، فما الذي سأفعله عندما أتعاطى مع المسيحية. وقتها كان موضوع نقاش الدين والعلم في مصر ولبنان على أشده، في سورية لم يكن على ذلك المستوى. وكان هناك ترويجٌ لفكرة أن الإسلام والعلم توأمان سياميان لا ينفصلان. وتحديداً في لبنان، كانوا قد أقاموا الحوار المسيحي الإسلامي، طبعاً كانوا يكذبون في مسألة الحوار، وهذا ما قلته في الكتاب، فبدلاً من أن يكون حواراً تبيّن أنه تحضير للحرب الأهلية. لم أدخل في (نقد الفكر الديني) في الفقه، كان كتاباً عن نقد اللحظة الراهنة تلك. كان سائداً في ذلك الوقت مسألة التوفيق بين العلم والإسلام، فأخذت نماذج عن ذلك التوفيق ونقدتها. وقتها أدونيس تبنى الكتاب ودافع عنه في مجلة مواقف، ولكنه سكت بعد ذلك عندما أُثيرت قضية سلمان رشدي بعد ثورة الخميني. على ضوء هذا الأمر راجعت نفسي واعتبرت أن أدونيس كان باطنياً، بمعنى أنه يعمل ضمن مواقف الحرية والتغيير والإبداع، ولكن عندما أتت ثورة الخميني اعتبرها هي الإبداع والتغيير، ثورة ولاية الفقيه. فوصلت إلى قناعة أنه وقف مع كتاب نقد الفكر الديني لأنه عملياً نقد الفكر السني.
أريد أن أشير إلى نقطة أخرى في معرض حديثنا عن (نقد الفكر الديني). عندما كتبت "مأساة إبليس"، لم تكن مسألة نقد الفكر الديني حاضرة كثيراً في ذهني. ما كنت أفكر فيه وقتها هو أن لدي كل هذا التراث من القصص والأساطير الذي لم أعد أستطيع الاعتقاد به، ولم يعد هذا التراث يعنيني على المستوى الإيماني أو الاعتقادي. ولكن ماذا سأفعل به؟ أفضل ما ارتأيته هو أن أحوّله إلى أدب ... دراما ... أعطيه معنى مستمداً من وضعي الآن. وأنا أعرف المسرح وقرأت سارتر وابسن وشكسبير .. إلخ. أخذت قصة إبليس في القرآن وأعدت صياغتها على شكل تراجيديا، أو مثلما فعل سلمان رشدي عندما أخذ قصة الغرانيق وحولها إلى رواية. كان همي وقتها ألا تستأثر بي هذه الثروة، إنما أريد تطويعها حسب وضعي الحالي وموقفي من العالم الذي أعيش فيه واهتماماتي الراهنة. لا أعني بذلك اهتماماتي الشخصية بالضرورة بل الثقافية العامة. تلك كانت الفكرة من العمل على مأساة إبليس.
- هل سيؤدي ما يقوم به داعش إلى مراجعة الفكر الديني السنّي؟
صادق العظم: داعش وضع الفكر الإسلامي، إن كان سنياً أم شيعياً أمام امتحان حقيقي، بمعنى النصوص التي يستند إليها داعش، هي نصوص القرآن. مثلاً اسأل شيخ الأزهر عن العبودية: هل هي حلال أم حرام؟ لن يستطيع تحريمها، سيلف ويدور. موضوع السبي، داعش يسبي، اسأل أيضاً عن هذا الموضوع، إن كان حلالاً أم حراماً ما حكمه الآن؟ سيلف ويدور أيضاً لأن النبي كان لديه سبايا. موضوع العقوبات، عندما أحرق داعش الطيار الأردني غطوها بآية من القرآن، آية الحرابة، الطريف في الموضوع، أن الأزهر الذي دان حرق الكساسبة استخدم الآية نفسها ليعاقب داعش بها؛ من أحرق الكساسبة جزاؤه الصلب والحرق والتقطيع. عدا عن ذلك، في كل ما قيل عن داعش لم يخرج أحدٌ من المفتين ليقول إن الصلب ممنوع في هذه الأيام. انظر إلى المناهج التي تدرّس في كلية الشريعة أو في الأزهر، ستجد المستند النظري لما يقوم به داعش الآن ولما قامت به طالبان سابقاً عندما هدمت تماثيل بوذا على اعتبار أنها أصنام.
- هل سيبقى مفهوم الدولة، بشكله الذي نعرفه؛ الجيوسياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، صالحاً كي يكون شكلاً للتجمع أم ستصبح الدولة مفهوماً بيروقراطياً بالنسبة للناس أكثر منها حاملاً للهوية؟
صادق العظم: لا أرى أنه سيكون هناك إعادة نظر في مفهوم الدولة من جهة العامل الجغرافي. أعتقد مثلاً أن العراق، كجغرافيا عامة، سيبقى عموماً هو العراق. ولكن كيف سيُقسّم من الداخل وإلى آخر ما هنالك فهذا أمر على المحك الآن، شيءٌ ما يحدث فيه الآن. سورية كذلك ولبنان والأردن، لا أرى أن تحولاتٍ كبرى ستحصل. ربما سنشهد دولاً فاشلة، هذا لا يمنع. لدينا العقدة القديمة المرتبطة بالتقسيم، كلما جاء الغرب فإنه سيقسّم المنطقة. ولكن هذه المرة لا أعتقد أنه سيكون هناك تقسيم، رغم الانقسامات الحاصلة حالياً. إحساسي أن الدول الكبرى تفضّل أن تتعامل مع شيء اسمه سورية بوضعه الجغرافي الحالي على أن تتعامل مع كانتونات متفرقة. أتوقع أننا سنشهد في سورية عملية إعادة بناء شبيهة بما حصل في لبنان، سيخرج حريري واثنان وثلاثة في سورية، سيكون مزيجاً من رأس المال الخليجي السعودي ورأس المال المحلي، إن كان رأس مال جديد أو رأس مال البرجوازية القديمة السورية. أظن أن المرحلة القادمة هي مرحلة ستلعب فيها البرجوزاية هذا الدور.
- هل تظن أن هناك صعوداً جديداً للبرجوازية ودورها في المنطقة؟ البرجوازية السورية من خمسينيات القرن المنصرم من عبدالناصر إلى حافظ الأسد إلى بشار الأسد هي من أكثر طبقات المجتمع التي شهدت دراما تحولات وتغيرات وصعوداً وهبوطاً وإعادة إحياء.
صادق العظيم: مع حافظ الأسد وبشار كانت برجوازية دولة. ولولا الدولة، لما استطاعت البرجوازية الجديدة المتمثلة برامي مخلوف وأشباهه تجميع ثرواتهم ومراكمة رأس المال. إن حصل تغيير ما، فالاحتمال الذي أتصوره هو غياب برجوازية الدولة، وستظهر البرجوازية التقليدية، ربما سيكون للدولة وقتها دور في إعادة توزيع الثروة. ما أتحدث عنه الآن هو تنبؤات من الصعب تأكيد أيٍ منها، ولكنني أرى أنه عندما تهدأ سورية لن يكون الاقتصاد موجهاً، هذا قد انتهى مع نهاية الحرب الباردة.
- في إحدى السهرات في دمشق عام 2006، وكان فيها مجموعة من المثقفين والسوريين إضافة إلى أحد الضباط المقربين وقتها من بشار الأسد، يومها قلت للضابط: "لقد نجوتم من قضية مقتل الحريري، ولكنكم على وشك تلقي ضربة أقسى من التي نجوتم منها، هل أخذتم حذركم أم لا؟" رد الضابط باستعلاء: "نجونا وسننجو من أي شيءٍ قادم أيضاً!" من أين لك بهذه المعلومات في ذلك الوقت حول احتمال وجود ضربة أخرى قادمة؟ على ماذا استندت حتى ارتأيت أن هناك ضربة أقسى من موضوع الحريري؟
صادق العظم: لهذه الحادثة مرجعية يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار؛ قبل مقتل الحريري بقليل كان كيري في زيارة إلى دمشق، وأقامت له السفيرة الأميركية وقتها حفلة عشاء وكنت أحد المدعوين. كان الموضوع وقتها قضية إميل لحود وفرضه على لبنان بالقوة. حفلة العشاء هذه كانت قبل مقتل الحريري بأسبوعين تقريباً. ركز خطاب أحد مسؤولي الحكومة السورية الذي كان حاضراً في العشاء على عدم وجود مشكلة بين سورية ولبنان، وتكلم عن روابط أسرية بين البلدين وما إلى ذلك.. يومها رددت على كلام ذلك المسؤول، إنه يتفّه المسألة، وإن المشكلة كبيرة جداً، وإن كان ثمة خطرٌ قادمٌ على سورية فسيأتي من لبنان. سألني كيري يومها بماذا تنصح أنت؟ قلت له إنني أرى وجوب إعادة انتشار للجيش السوري في لبنان؛ انسحاب من المدن إلى البقاع، وبشكل تدريجي يتم سحب الجيش السوري من لبنان بالكامل. قلت لكيري: غداً ستقابل الرئيس السوري أرجو أن تُناقش هذه المسألة على أعلى درجات الجدية. طبعاً ليلتها وصل تقرير إلى الأسد بأن صادق العظم يحرض كيري كي يضغط لسحب الجيش السوري من لبنان. وقتها ضجت البلد بهذه القضية.
في الوقت نفسه كانت هناك معطيات تدعو من يراقب الوضع في المنطقة إلى التوجس، فقد كانت أميركا قد استصدرت القرار 1559 من مجلس الأمن الذي يدعو لخروج كل القوات الأجنبية من لبنان. شرح الأميركان موقفهم وقتها، إنهم لزّموا لبنان لسورية مدة الحرب، والآن انتهى التلزيم. كان جورج بوش في أيامها يعطي كل يومٍ تصريحاً عن سورية ولبنان. بنيت جزءاً من قراءتي وتصوري لما سيجري على الضغط الذي اشتغل فيه الأميركان على هذا الموضوع. كان ضغطاً غير طبيعي، هذا ما جعلني أتوجس أن هناك شيئاً مخفياً أكثر بكثير مما ظهر لنا.
هناك تفصيل آخر يحضرني عن ذلك العشاء بعيداً عن الشأن اللبناني، سأل كيري المسؤولين السوريين الموجودين وقتها: "ماذا تفعلون في هذا الأيام؟" فأتاه الجواب من إحدى الموظفات الحكوميات إنهم بدأوا مشروع القروض الصغيرة، فاستغرب كيري وأربك الموظفة برده: "ألا يتنافى هذا مع كونكم دولة اشتراكية؟" لم تعرف الموظفة بماذا ترد على ذلك السؤال، فعقّب نائب رئيس الوزراء الذي كان حاضراً وقتها على السؤال، إن لدى الحكومة حالياً خطة خمسية لتحرير الاقتصاد، فأجابه كيري: "تحرير اقتصاد وخطة خمسية؟! كيف هذا؟ إما أن يكون لديكم خطة خمسية أو أن تحرروا الاقتصاد وترفعوا القيود عنه! هذان أمران لا يتماشيان مع بعضهما بعضاً". فأجابه نائب رئيس الوزراء بشكل صارم: "يجب علينا أن نسميها هكذا". كان تعبير تحرير الاقتصاد يُرضي أميركا، والخطة الخمسية تُرضي تسمية سورية كدولة اشتراكية. عقّبت على كلام نائب رئيس الوزراء: إذاً فأنتم تضحكون علينا! كان هذا جزءاً من المناخ الذي أوصل في النهاية إلى اندلاع الثورة.
- سنختم هذا اللقاء بالشتات السوري، ما الذي سنحصل عليه، إن قارنا الشتات السوري بالشتات الفلسطيني؟ هل تجد هذه المقارنة جائزة؟ من جهة تكوين ثقافة المنفى أو هوية المنفى؟ هل تتشكل هذه حالياً عند السوريين؟
صادق العظم: ليس لدى السوريين إحساس أنهم فقدوا بلدهم بشكل دائم، بينما ستجد هذا الإحساس عند الفلسطيني.
عند السوري أمر فقدان سورية مرتبط بمن يسيطر على سورية، وبأنها بلد لم تعد صالحة للحياة في هذه الظروف، مثل العراقيين أيام صدام حسين؛ العراق موجود وسنعود إليه، ولكن عندما يرحل الطاغية. قناعتي أن القسم الأكبر من السوريين سيعودون. أنا أتساءل بالنسبة للفلسطينيين مثل شرابي وأبو لغد .. النجوم الفلسطينيون الذين لمعوا في أميركا، هل كانوا عادوا حقاً لو سنحت الظروف؟ إدوراد سعيد مثلاً، كتب "خارج المكان" ولكني سألت نفسي، وأعرف إدوراد جيداً، أين مكان إدوارد الصحيح؟ من يعرف إدوارد يعرف أن مكانه الصحيح هو جامعة برينستن وهارفرد وكولومبيا وليس رام الله أو نابلس. سيكون هناك سوريون على هذا المنوال، سيكون مكانهم الصحيح هو باريس أو واشنطن أو برلين، ولكنهم سيكونون النخبة أو يكونون مثل الذين يذهبون للعمل في السعودية، أي مهاجرين اقتصاديين يرسلون نقودهم إلى عائلاتهم في بلادهم الأصلية ويبنون فيها.
- هل بقي هناك شيء اسمه سورية الآن؟
صادق العظم: (يضحك طويلاً) على الخريطة نعم.
- وعلى خريطتك الشخصية؟
صادق العظم: أنا لدي ولاء للبلد. كانوا في السابق قد منعوني من مغادرة سورية، وكلما أردت السفر كان علي أن أطلب إذناً من المخابرات، كان علي مراجعة ضابطٍ محدد. كان يقول لي وهو يعطيني إذن السفر، إن هذه عبارة عن بطاقة ذهاب بلا عودة، إن عدت فستعود إلى حالة منع السفر ذاتها وستعود إلي. كانوا يضيّقون عليّ كي أذهب ولا أعود. في إحدى المرات أجبت ضابط الأمن، إن بيت العظم هو الشام، سأعود. لو كنت أريد أن أكون مثقفاً عربياً في المهجر لفعلتها منذ زمن بعيد، مع احترامي لمثقفي المهجر، هم اتخذوا قرارهم وتصالحوا معه وأنا اتخذت قراري وتصالحت معه.
- ستعود الآن إن هدأت الأحوال؟
صادق: لا أظن أنني سأعيش حتى تلك اللحظة بسبب وضعي الصحي، لا أظن هذا ممكناً، ولكن إن حدث هذا فإني بالتأكيد سأعود.