تمهيد:
تعتبر النبوة مسألة مركزية في تراث بني إسرائيل الديني، وهم )أي بنو إسرائيل( دون غيرهم من الشعوب من خُصَّ بأكبر عدد من الأنبياء والرسل، امتدت نبواتهم على مدى أربعة قرون بعثوا خلالها في أعقاب بعض )830-435 ق.م( أولهم يونس ويوئيل وآخرهم ملاخي الذي جاء بعده يوحنا المعمدان، والمسيح عيسى عليه السلام. ولأجل هذا فالمفكر الجزائري مالك بن نبي لا يتنكب عن المنطق حين يضفي على نبواتهم توصيف "الحركة النبوية"[1]. وتتبين معالم هذه الحركة أكثر بالعودة إلى كتاب العهد القديم، والقرآن الكريم اللذين عنيا ببني إسرائيل وأنبيائهم عناية خاصة، مع فروقات في التناول تكبر تارة، وتصغر وتلطف أخرى.
ونحن متحدثون في هذه الورقة عن نبيين مهمين من أنبياء بني إسرائيل، وهما مهمان بالنظر إلى وضعهما الاعتباري داخل العهد القديم، ولما حظيا به من الاهتمام في القرآن نص المسلمين المؤسس. واخترنا لورقتنا أن تكون في أربعة مطالب، نتحدث في الأول منها عن داود في العهد القديم، من خلال آراء بعض المفكرين والكتاب، نردفه بالحديث عنه )أي عن داود( في القرآن الكريم وهو المطلب الثاني، وفي المطلب الثالث نتحدث عن النبي سليمان من خلال العهد القديم، وأخيرا نرصد نظرة القرآن الكريم إلى النبي سليمان، ما وسعنا ذلك، ثم نضع خاتمة نسجل فيها أهم الخلاصات والاستنتاجات بخصوص الموضوع.
1- داود في العهد القديم من خلال آراء بعض الكتاب:
لقد كان داود جنديا في صفوف جيش طالوت الذي هو صمويل شاؤول، وقد رصد طالوت هذا مكافأة مالية للذي يقتل جالوت، وكذا تمكينه من شرف مصاهرته. ورشح الجندي داود نفسه للاضطلاع بهذه المهمة، وتمكن من قتل جالوت بالمقلاع في مبارزة شخصية، فسال دمه ثم زهقت روحه، وفاز داود بالمكافأة، فتزوج ابنة طالوت، وتربع على قيادة الجيش، وكبر في أعين بني إسرائيل الذين قدروه وأجلوه أيما إجلال، وعُيِّنَ ملكا على مملكة بيت المقدس بعد وفاة طالوت[2].
وبالإضافة إلى نعمتي الملك والنبوة اللتين حبا الله بهما داود، كان حسن الصوت رخيمه، فصوته يأسر القلوب ويهز المشاعر ... ولم يكن الناس وحدهم من يطربون لسماع صوته، بل طربت له أيضا الجن والوحوش والطيور والكائنات جميعها، وكانت الريح الشديدة تسكن احتراما، والماء المتحرك يركد خشوعا، وأضحى صوت داود مضربا للمثل، حتى ليقال للمتمتع بحسن الصوت، إنه مُنح مزمارا من مزامير داود[3].
هذا ويحزِرُ القارئ للكتاب المقدس – نعني سفر راعوث – ودون كثير إنعام نظر، أن داود مطعون ليس في إسرائيليته فحسب، بل في شرفه و حصانته، فهو، وكما يحكي ذلك الكتاب المقدس، ينحدر من جهة أمه من مؤاب، وجدته راعوث هي الأخرى مؤابية، وكلنا يعلم أن نقاء النسب وخصوصا من جهة الأم مسألة بالغة لأهمية في التراث اليهودي، إذ لا يعد يهوديا خالصا من كانت أمه غير يهودية[4].
ويلحظ القارئ للإصحاح الأول من سفر الملوك الأول، أن داود بالرغم من نبوته، ليس إلا إنسانا شبقيا ينشغل بالجنس وفي هرمه بشكل يَلفت النظر، ويجعله هذا أصغر من أن يرشحه الله للقيام بمهمة التبليغ والرسالة. نقرأ في الإصحاح الذي سبقت الإشارة إليه ما نصه: "وشاخ الملك داود وكبر في السن، وكانوا يكثرون عليه الأغطية فلا يدفئ، فقال له رجال حاشيته، دعنا نبحث لسيدنا الملك عن فتاة عذراء تخدمه وتؤانسه وبين ذراعيه تنام، فيدفئ (...) فوجدوا أبيسج السونمية، فجاؤوا بها إليه، وكانت الفتاة رائعة الجمال، فكانت تؤانسه وتخدمه لكنه لم ينم معها[5].
وإن قال قائل: إن النص لا يصلح حجة على شبقية داود بدليل أنه برأه في الأخير من رذيلة النوم مع أبسيج، نقول: إنه مع هذا أيضا لا ينبغي اللمز والطعن في داود وهما ثاويان في النص، وإذا كان هذا تلميحا، فواضع العهد القديم يعتبر -على سبيل التصريح- النبي داود زانيا ببتشبع زوجة الجندي أوريا الحتـي[6].
ويذهب الباحث نبيل خالد الأغا، دون جزم وتأكيد، إلى أن حكم داود استمر مدة أربعين سنة، سبعة منها أمضاها ملكا على حبرون/ مدينة الخليل(!!)*، وتوفي عن عمر يناهز مائة سنة وستة أشهر في يوم سبت، واختُلف في المكان الذي ووري فيه جثمانه التراب هل في القدس، أم في قرية المزار الشمالي في محافظة إربد بشمال الأردن؟[7].
2- داود في القرآن:
يعتبر القرآن الكريم مرجع المسلمين الأول، فهو الفيصل فيما اختلف فيه، وهو المبين لما استغلق من حياة الأمم والأنبياء قبلنا. وقد عرض القرآن الكريم لحياة النبي داود في غير ما سورة، يختلف فيها خطابه كثيرا عن خطاب الكتاب المقدس، إذ يجلو الغبش والضباب الكثيف الذي يلف شخصية النبي داود في كتاب العهد القديم، ويصحح الكثير مما أُلصق به ولُفق له. يصف القرآن النبي داود بأنه "أواب"، أي كثير الأوب والرجوع إلى ربه، يقول تعالى:"واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب"[8]، ويورد ابن كثير في تفسيره قولا لقتادة يذهب فيه إلى أن داود عليه السلام، أعطي قوة في العبادة وفقها في الإسلام، وأنه كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر[9]. ولا يُهِمُّنا نحن في هذا القول صحته، وإنما الذي يمكننا قوله هو إن هذا القول ينطوي على بعض المبالغة، يتناغم ويتساوق مع صيغة المبالغة الواردة في الآية الكريمة.
ومن النافل القول إن القرآن الكريم ما فتئ يلح على أفضلية داود، ويذكر بها، يقول تعالى:"ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا"[10]، أفضلية وتفضيل يزدادان اتضاحا في قوم تعالى:"ولقد آتينا داود منا فضلا، يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد"[11]، وشد الله تعالى ملكه وقواه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب[12]. ولأن كل هذه الصفات تحققت في داود عليه السلام كان أهلا لاتباع "منهجية الخلق الكوني"، التي هي عماد خلافته، وهي الخلافة الثانية بنظر المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد[13].
3- سليمان في العهد القديم:
لقد نُصِّب سليمان بن داود بعد وفاة أبيه ملكا، وامتدت فترة حكمه نحو ثلاثين عاما، وإليه ينسب الهيكل الذي بني على جبل موريا حوالي عام 960 ق.م[14]. ولم يرث سليمان عن أبيه الملك فقط، بل ورث النبوة أيضا، والفهم، والحكمة والعلم بمنطق الطير، إلا أنه بالرغم من هذه الآلاء العميمة التي أغدقها الله على سليمان، يظل بنظر "العهد القديم" ابن زنا، فهو ابن بتشبع زوجة أوريا الحثي التي زنا بها أبوه داود!! وقد أشرنا إلى شيء من هذا في المطلب الأول. ويرسم العهد القديم سليمان صورة تنحط به عن مقام النبوة والملك، صورة يَسِمُها اللهو والبهيمية؛ فنساؤه كثيرات، مؤابيات، وعمونيات، وأدوميات، وصيدونيات، وحتيات وهذه الأجناس محرم على بني إسرائيل الدخول إليهم، لأنهم يُميلون قلوبهم وراء آلهتهم، إلا أن سليمان لما فرغ من إقامة ملكه تكالب على طلب اللذة، وانغمس في رذيلة الدعارة، متمردا بذلك على وصايا ربه له، غير حافظ لعهده، الشيء الذي جعل الرب يغضب عليه ويمزق عليه مملكته تمزيقا[15].
ودونكم بعض ما ورد في نشيد لإنشاد مما يشير إلى تعهره ومجونه، يقول "سليمان" متغزلا بحبيبته:
"ما أجمل خطواتك بالحذاء
يا بنت الأمير،
دوائر فخديك حلي
صاغتها يد ماهرة،
سرتك كأس مدورة،
مزيج خمرها لا ينقص
وبطنك عرمة حنطة
يسيجها السوسن
ثدياك توأما ظبية
صغيران بعد
عنقك برج من العاج
(...)
ما أحلى دلالك
قامتك مثل النخلة
وثدياك كعناقيدها
قلت أصعد النخلة
وأتعلق بأغصانها
فيكون ثدياك لي
كعناقيد الكرم
عبير أنفك كالتفاح
وريقك خمر طيبة
تسوغ رقراقة للحبيب
على الشفاه والأسنان"[16]
وبالإضافة إلى عصيان سليمان لربه، ونزوله عند رغبات زوجاته الوثنيات ببنائه لآلهتهن بيوتا وهياكل مقابل هيكل الرب في أورشليم، فقد كان أخا للشيطان بتعبير القرآن الكريم، أي مسرفا مبذرا[17].
4-سليمان في القرآن:
ذُكر النبي سليمان في القرآن الكريم ست عشرة مرة، وفي سبع سور هي: البقرة، والنساء، والأنعام، والأنبياء، والنمل، وسبأ، وص. وأغلب الآيات التي قاربت سيرة سليمان تصب في اتجاه واحد هو استعراض أنعم الله سبحانه وتعالى عليه. وقد ورث سليمان عليه السلام عن أبيه داود نعمتي الملك والنبوة، فضلا عن الكثير من الفضائل، والمحامد، يقول تعالى:"ولقد آتينا داود وسليمان علما، وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود، وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين"[18].
فقد سخر الله لسليمان الطير والجن يعملون تحت إمرته والريح، وهي ركائز ملكه الذي لم ينبغ لأحد قبله، ولا نعتقد بنظرنا، الذي يظل قاصرا عن فهم منطق التقدير الإلهي، أنه ينبغي لأحد من بعده، يقول تعالى: "فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب"[19].
هذا "التسخير الكوني"[20] في درجاته القصوى هو ما يدعم نبوة وملك سليمان المؤمن بربه، غير الكافر به كما يزعم الكتاب المقدس، يقول تعالى مبرئا ساحة سليمان:"وما كفر سليمان"[21]. وبالإضافة إلى الذي ذكرناه آنفا من أوجه التسخير، فقد أوتي النبي سليمان الحكمة حتى لقب بالحكيم، ويذهب الباحث نبيل خالد الأغا إلى أنه نُبِزَ الحكيم مذ شارك والده في حل المشكلة التي حدثت بين خصمين اعتدت غنم الأول على مزرعة الثاني فأكلت فاكهتها والتي حكم فيها بحكم أرضى الطرفين معا[22].
وقد جاء في "المرويات" مما يسمى في الدراسات الشرعية "حديثا نبويا" قول للراوية أبي هريرة يومئ إلى حكمة سليمان، يدور عن قصة المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن إحداهما، فادعت الأخرى أن الذي بقي ابنها، فاحتكمتا في بادئ الأمر إلى داود الذي كان حكمه مجحفا في حق صغراهما، فأخبرت سليمان، فقال: إيتوني بسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: متنازلة عن ابنها مفضلة بقاءه على قيد الحياة: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، ففطن سليمان بحكمته إلى أنها أمه فقضى به لها[23].
خاتمة:
وبعد نخلص مما تقدم إلى أن كلا التناولين؛ التوراتي والقرآني لقصة داود وسليمان، يختلفان كثيرا، ويرسمان لداود وسليمان، صورتين ميسمهما التناقض والتقابل، "صورتين (...) لا تلتقيان ولا تتقاربان كما لا يلتقي الإيمان والعز والطاعة والإمامة والطهر مع الشرك والصغار والتسفل والمجون"[24].
باحث في الأديان وفي الحِجاج في اللغة والخطاب
لائحة المصادر والمراجع
1-القرآن الكريم
2-أنبياء الله في فلسطين، نبيل خالد الآغا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2001م
3-حول أطروحات كمال الصليبي، التوراة في اللغة والتاريخ والثقافة الشعبية، دار الحداثة، الطبعة الأولى، 1989م
4-الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، (د.ط) (د.ت)
5-نقد موسوعة اليهود واليهودية، صقر أبو فخر.
6-العالمية الإسلامية الثانية جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، محمد أبو القاسم حاج حمد، دار المسيرة، بيروت، 1979، (د-ط)
7-العقائد الوثنية في الديانة اليهودية، حسن الباش، (ط.2) دار قتيبة، 1413هـ/1992م.
8-في مقارنة الأديان بحوث ودراسات، الشرقاوي محمد عبد الله، دار الجيل، بيروت، مكتبة الزهراء بحرم جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، 1410هـ/1990م.
9-الظاهرة القرآنية، مالك بن نبي، في: مشكلات الحضارة، ترجمة عبد الصبور شاهين، تقديم محمد عبد الله دراز، ومحمود محمد شاكر، بإشراف ندوة مالك بن نبي، دار الفكر، دمشق، سورية، الطبعة الرابعة، 1407هـ/1990م.
[1]- ابن نبي، مالك، الظاهرة القرآنية، ترجمة عبد الصبور شاهين، تقديم محمد عبد الله دراز، ومحمد محمود شاكر، دار الفكر سورية ، 1407هـ/1987م، ص.4.
[2] - الآغا، نبيل خالد، أنبياء الله في فلسطين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2001، الصفحات: 171، 174، 179، 180.
[3] - نفسه، ص.180.
[4]- الشرقاوي، محمد عبد الله، في مقارنة الأديان، بحوث ودراسات، دار الجيل بيروت، مكتبة الزهراء بحرم جامعة القاهرة، [ط، 2]، 1410هـ/1990م، ص.216.
[5] - سفر الملوك الأول، الإصحاح الأول، المقاطع من: 1 إلى 4.
[6] - الشرقاوي، مرجع مذكور، ص. 219-224، وللمزيد من التفصيل ينظر سفر صمويل الثاني، 11/2–24.
* تعجبنا لهذا الإسقاط المتعسف لأسماء أماكن وردت في العهد القديم على أسماء مدن فلسطينية، ولعل القارئ الكريم على علم بالخلاف الدائر حول البيئة التي نزلت فيها التوراة، وكمال الصليبي أشهر من نار على علم في هذا الموضوع، وللمزيد من التفصيل ينظر: فرج الله صالح ديب، حول أطروحات كمال الصليبي: التوراة في اللغة والتاريخ والثقافة الشعبية، دار الحـداثة، [ط.1] ، 1989م، ص.17.
[7] - الآغا، نبيل خالد، مرجع مذكور، ص. 190-211.
[8] - سورة ص، الآية: 17.
[9] - تفسير ابن كثير، ج. 7، ص. 49، نقلا عن الشرقاوي، ص. 221.
[10] - الإسراء، 55.
[11] - سبأ، 10.
[12] - سورة ص، الآيتان17 و 20.
[13] - أبو القاسم، محمد حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، دار المسيرة، بيروت، 1979. ص.106 وما بعدها.
[14] - الآغا، ص. 211.
[15] - الشرقاوي، دار قتيبة، [ط.2] 1413/1992، ص.81،83.
[16] - نشيد لإنشاد، الإصحاح:7، المقاطع: من2-10، وانظر أيضا: الشرقاوي، ص.227، 228.
[17] - الملوك الأول، الإصحاح:5، المقاطع: من2-8.
[18] - النمل، 15-16.
[19] - سورة ص، 40، وانظر أيضا: الأنبياء، 81-82، وسبأ، 12-13.
[20] - أبو القاسم، محمد حاج حمد، مرجع مذكور، ص. 121.
[21] - البقرة، 102.
[22] - الآغا، ص. 195.
[23] - صحيح البخاري، ج. 4، ص.198، نقلا عن: الآغا، ص.197.
[24] - الشرقاوي، ص. 229-230.