ونحن على عتبات السنة الميلادية الجديدة 2017، طلع علينا الكاتبُ واسيني الأعرج بمقال له يحمل عنوان موضع تساؤل "حروب الوطن السعيد ضد المواطن البائس؟، نشرته صحيفة القدس العربي يوم الأربعاء 21 ديسمبر 2016، يستهلّه بوصف نوع الثقافة الراهنة، المهيمنة على ذهنية الفرد العربي وحياته الواقعية، يقول فيه: "هناك ثقافة غريبة أصبحت جزءاً حياً من لاوعي المواطن العربي، وتعطيه دفعاً داخلياً لكي يظل يدور حول نفسه، بلا جدوى، حتى الموت، ظنّاً منه أنه يتحرك ليتغيّر ويغيّر من محيطه. ثقافة انغرست حتى أصبح من الصعب على العربي التفكير خارجها. دائرة مغلقة كلّياً".
هل يعرف المواطن العربي البائس لماذا هو على هذه الحال الثقافية السلبية؟ كيف ما كان الجواب، فإنّ هذا المواطن المعنيَّ بالإملاق والأسى والويلات مباشرة في حياته العامة والخاصة، كان دائماً يتطلع إلى معرفة أسرار بؤسه وشقاوته، وهو اليوم- أكثر مما مضى- يطالب نفسَه وغيره، ومحيطه والساسة والمثقفين بتقديم تفسير يشرح له عوامل، إن لم نقل جذور، هذه التعاسة الراسخة في وجوده. ما هي إذن حقيقة أسباب هذه الثقافة الضيقة المنغلقة التي تكاد تكون تراجيدية في تكرارية مظاهر العنف ونتائجها القاتلة والانتحارية؟ هل هذه الثقافة السلبية أو الذهنية المأساوية، هي قضاء من الله وقدر كما كان الأمويون يروّجون لذلك في مقاربتهم لمقولة حرية الإنسان وإرادته وما يترتب عليها من مسؤوليات؟ أم أنّ عوامل أخرى، بشرية وذات صبغة مادية وصياغة سياسية وإيديولوجية تقف وراءها، كما كان يشير إلى ذلك الحسن البصري؟ يلخص واسني الأعرج الإجابة عن هذه الهواجس في الكلمات التالية: "الواضح جداً أن وجود نظام ثوري في العالم العربي كان سيقلب كل الحسابات الدولية والمصالح والموازين. وهذا لا يناسب الذين جعلوا من خيرات العالم العربي وخبراته حقاً استثنائياً لهم. فتم إجهاض هذه الثورات والتوجه بها نحو إيقاظ الخلايا الدينية النائمة منذ الحروب الصليبية، والحركات الإسلاموية المتطرفة، حتى التيارات المخبرية مثل داعش التي زُرعت في الجسد العربي لتنهشه بهدوء من الداخل، في أفق استراتيجية إجرامية مستقبلية، لمنعه من أي تطور أو إمكانية الحلم."
لكن المواطن العربي البائس لم يعد يكتفي بالعموميات. إنه يريد أن يعرف بالضبط من هم هؤلاء الذين جعلوا من ثروات العالم العربي الطبيعية، وطاقاته وخبراته البشرية حقاً خاصاً بهم، فقاموا بإجهاض الثورات العربية لأنهم رأوا فيها تهديداً لمصالحهم وقيمهم، بل لأنظمتهم ونظمهم ووجودهم، فتحايلوا عليها ووجّهوها نحو الدمار والخراب والموت. أهم فقط مِن أصحاب المنزل؟ أم هم أيضاً من غير العرب وغير المسلمين؟
وقبل أن يجيب المثقف واسيني الأعرج عن سؤال العربي التعيس، يستبقه هذا الأخير في حدسٍ، ساخراً ليس من المثقف أو الجناة المجرمين، بل من المعرفة نفسها: الاثنان ياسيدي الجنرال! أليس كذلك؟ المعرفة بمرتكب الجريمة لا تساعد لوحدها على ملاحقته وإصلاح الأوضاع الفاسدة. إنها لا تشفي قهر المظلوم المسجون في قفص ضيق لا هواء فيه ولا شمس تدخل إليه، ولا يمكنها أن تُسْعِدَ مَن ما زال يذوق مرارة الشقاء والبؤس، ويصرخ مُوَلْوِلاً!
هنا يسأل العربي البائس مثقفَه من جديد وفي شيء من الرضوخ والإذعان –إنه رغم كلّ شيء يريد أن يعرف: هل يمكن اعتبار هؤلاء الذين أخرجوا من مختبراتهم ظاهرة مثل داعش التي تقول أنتَ عنها أنها "زُرعت في الجسد العربي لتنهشه بهدوء من الداخل، في أفق استراتيجية إجرامية مستقبلية، لمنعه من أي تطور أو إمكانية الحلم"، أنهم داعشيّون في تصوّراتهم للانسان والحياة والدين والسياسة والقيم والأخلاق؟
يتخيّل العربيُّ البائس المثقفَ واسني الأعرج يجيبه وعلى محيّاه ابتسامة تأكيد ومرارة: لا شك في ذلك، إنهم داعشيّون! نحن اليوم أمام مشروع راجت ريحُه وخطاباتُه منذ بضع سنوات، ويعمل على نشر تيار اسمه الداعشيّة أي الهمجية الجديدة، وحشية بدأت تنفث سُمومَ فكرها ورؤيتها، وتخرج مخالبَ ممارستها وأفعالها في بداية قرننا هذا. الكل يدّعي أنه يحارب هذه الوحشية الجديدة، لكن الواقع يتكلم بعكس ذلك. أنظر إلى هذا الغنى الفاحش، والجشع المتزايد، والولع بالاكتساب الصاعد. أنظر إلى طبقة الحاكمين، ومَن بيدهم زمام الاقتصاد والمال والسلاح. أنظر إلى تضافر الجهود بين السياسة والمال، بين الإعلام والمال، بين السياسة والدين والأسلحة. لماذا نُحِرت استقلالية السياسة والإعلام والدين على محراب المال فأصبح له رأساً بل رؤوساً؟ ويالها من رؤوس، إنها تشتغل كما هو الحال في تركيبة الصواريخ بطاقة عضوية قابلة للانفجار في إي لحظة والتسبب في قتل البشر وتدمير البنيان وتحطيم الإرادات. كل هؤلاء يروّجون، بوجه أو بآخر، للداعشية لأنهم يبيحون لأنفسهم كل الوسائل التي تمكنهم من شرعنة وممارسة الضغط والمراقبة والتسلط على رقاب الناس وحرياتهم وكرامتهم وأحلامهم.
يتابع العربي البائس أسئلته المشروعة المعقولة التي يجب على كلّ إنسان حرّ نزيه أن لا يرميها في سلة المهملات: هل سيبقى جورج بوش وطوني بلير ونيكولا ساركوزي وآخرون من أمثال برنار هنري ليفي، ومن أدخلهم من العملاء والخونة من بني جلدتنا إلى داخل الدار العربية لكي يفجّرونها؟ هل سيبقى هؤلاء أحراراً طلقاء يمرحون ويرقصون على ما دمّروا وخرّبوا، وما أراقوه من دماء ودموع، وفتحوه من جراح وأحقاد؟ أيمكن لنا أن نتصوّر في يوم ما وقوفَهم أمام العدالة يجيبون عن أفعالهم وسياساتهم الإجرامية في حق المواطن العربي البائس؟
اسمحوا لي أيها القراء إن كنتُ أعبّر لكم هنا عن حلم المواطن العربي الذي يسكن العالم ويعاشر إخوة له في الإنسانية، هنا وهناك، بيضاً وسوداً وصُفراً، شرقيين وغربيين يشاطرونه نفس الحلم لأنهم يؤمنون بأن حرية الإنسان وكرامته لا جنسية لها، ولا لون ولا دين ولا ولا ... أعرف مسبّقاً ما سيقوله المثقف لي، وسوف تصادقون على اعتقاده: كيف يمكن محاكمة الجاني وهو القوي وهو القاضي؟ كيف يمكن تحقيق العدالة التي يحلم بها المواطن العربي البائس مع العلم أنّ القوي القاضي له قدرة خارقة على قلب الحقائق بتكوين ملفاتٍ وجمع حججٍ وخلق تحالفاتٍ تتهم من يتقدّم بشكوى ضد اعتداءاته وجرائمه بأنه ينتمي إلى قطب الشر ضد قطب الخير؟ أنسيتَ أيها العربي البائس قول شاعرك الذي تنبّأ بما سيصيبك: يا أعدل الناس إلا في معاملتي/ فيك الخصامُ وأنت الخصمُ والحَكَمُ؟ هذا الذي تحلم برؤيته أمام العدالة يجيب عن أفعاله التي كانت وراء الدمار والقتل، ينتمي إلى نظام من الحكام والحلفاء والوكلاء والخبراء كلهم مستعدون لإلحاق الإنسانية بالفناء، إن واجهوا ملاحقة من مؤسسة عدالة أو أحسوا بالخطر يحدّق بهم.
ويُعاد السؤال بطريقة أخرى: إذن يستحيل اليوم تحقيق هذا الحلم، حلم العدالة التي يجب عليها أن تنظر في قضية يقرّ بها الكون كله بين قوي حاكم ظالم مجرم فتاك، وبين المواطن العربي البائس المقهور المظلوم والمقتول أو المشرّد الغريق أو اللاجىء؟ يعطي المثقف مباشرة ودون تردّد نفس الجواب: خذ العبر من التاريخ، واستعن به إن شئت في بحثك عن العدالة والحقيقة، وسعيك لفهم المظالم والأحداث والمآسي والحروب. لكن، يستحيل اليوم تحقيق هذه العدالة، ما دامت المؤسسات الدولية التي تسهر على أمن العالم وحقوق الإنسان وكرامته تخضع لمنطق ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، مهملة تطور العالم والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية التي تلعب أدواراً مصيرية في حياة الفرد والمجتمعات وطنيا وإقليميا وعالميا. يصرخ المواطن العربي البائس في وجه المثقف، ويريد منه جوابا، إن لم يكن مقنعا وفي الحال، فعلى الأقل مخفّفا من حدة الآلام وشدة التعاسة: ما العمل إذن؟ هل من حلّ آخر؟
كما يستحيل على المثقف الحقيقي الذي يؤمن أولا وقبل كل شيء بالإنسان، أن يسير على منوال فقهاء السلطة أو يستغل بؤس المواطنين في سبيل المصالح، فكذلك لا يستسلم أبداً لواقع الأمر لأن وَعْيَه بقيمة الكتابة كمسؤولية اتجاه الإنسان والحياة والأخلاق العظيمة يحتّم عليه قول الحقيقة. لهذا لا يتردّد في الاعتقاد بأنه لا بد من الصبر والمثابرة في تمديد حياة الحلم. إنه ليس أو طوبيا خارجة عن المكان والزمان الإنساني، بل هو جزء لا يتجزأ من إنسانيتنا والعمر الذي نقضيه على وجه الأرض. لا يبدأ الحلم في رسم ملامحه وخطوطه على وجه الواقع إلا إذا كانت أنفاسُه طويلة واستطاع باستمراره في طموحاته أن يرسّخ قدميه في تربة الإمكانيات التي تهديها لنا الحياة بفعل الإرادة والاختيار.
من هنا، وأثناء قراءتنا لمثقفين عرب أمثال واسيني الأعرج وإلياس خوري، نسمعهم يحثون المواطن العربي البائس على الصمود في طلب سلعة كريمة، لا غش فيها، بالعمل والجد والمثابرة : تابع في حلمك، إنك في الطريق لتحقيقه.
وفي سياق مأساة عالمنا وأزمة إنسانيتنا اليوم يقتبس المثقف العربي ما تركه لنا أبو حيان التوحيدي: "نحن نساق بالطبيعة إلى الموت، ونساق بالعقل إلى الحياة"، فيكتب هذه التنويعة المأساوية التي تفرضها علينا حضارة القرن الواحد والعشرين في وجهها الهمجي المتوحش المُتدعْوِش، وسيحفظها التاريخ في ذاكرته العميقة الدائمة كحقيقة - وليست أسطورة أو نسيجاً من خيال - سَطّرَتْها دماءُ ودموعُ، وجراحُ وآهاتُ المواطن العربي البائس. وأمالُه وطموحاتُه أيضاً: "نحن نساق بالمال والسياسة والأسلحة إلى الحقد والخراب والقتل، ولكننا نساق بالحُلم والإرادة والعقل إلى الحب والبناء والحياة."