يكشف هذا العرض لكتاب عن الكاتبة السورية المرموقة كيف استطاع الكتاب بطبيعته التوثيقية أن يقدم لنا أوجها متعددة لنشاطاتها المختلفة، وآراء بعض الذين امتدحوا أعمالها، وحوارا مفيدا معها.

أوجه متنوعة لقراءة غادة السمان

السيد نجم

هالة من الحب والجمال تطغى على كل من يقرأ كتاب "غادة السمان .. امرأة من كلمات"، مع السطر الأول عليك أن تترك بل عليك أن تذبح كل الهموم والأفكار الجاهزة، كن مستعدا لإستقبال كل هوام الكائنات المضيئة الغامضة التي تجلبها الحالة الشعرية، وأكرر الحالة الشعرية وليس الشعر الموثق وحده، تلك الحالة التى تستشعرها مع بدايات الصفحة الأولى وحتى الأخيرة، بعد 130صفحة من الكتاب، بالحجم المتوسط.

نجح الشاعر والناقد العراقى "عذاب الركابى" فى تشييد تلك الحالة من الشعرية الشعورية والتوثيقية والحوارية بل وحتى النقدية .. فكانت الأوجه المتنوعة التى تم قراءة غادة السمان بها. فمن خلال أربع قراءات نقدية، تشكل بها القسم الأول من الكتاب .. ثم ثمان شهادات (نقدية) فى إبداع غادة السمان، تشكل بها القسم الثانى من الكتاب .. ثم ذلك الحوار الذكى الشجى، حيث تحاور الكاتب/ الشاعر عذاب مع الشاعرة والروائية غادة، فكان القسم الأخير من الكتاب مزيجا من الخيال الشعرى الطازج والجميل لكليهما، وإن تناولا قضايا جد شائكة ومعقدة، هون منها وطرحها ببساطة تلك الحالة الشعرية التى طغت.

مع قراءة العمل الأول للكاتب لديوان غادة "عاشقة فى محبرة"، يغوص بنا فى عالم يصفه فيقول: "إذا كانت الشاعرة –العاشقة امرأة مثل غادة السمان، فطبيعى أن يليق بها موكب النوارس والورود، وأن يحضر حفلة زفافها الإبداعية البحر وأسماكه وطيوره، تاركا تحت وسادتها لآلىء زرقته، وأغانيه، وأسراره .. ترى أنحاور نصها المميز أم نحاورها فى بيتها المخملى- الشعر، المسور بالأحلام والأسئلة، وهى جديرة بعبارة "يوسف إدريس":

"لها القدرة على العزف بالكلمات!"

تلك الكلمات فى المبتدأ هى التي مهدت لمجمل الأفكار والتحاليل بقلم الكاتب وهو يغزل عالمه مع غادة لحالة شعرية خاصة، يصعب الفكاك منها منذ السطر الأول حتى الأخير من الكتاب. ومع ذلك لا تخلو تلك الحالة الشعورية من الطرح الفكري والبناء  الذهني لعدد من الأفكار الجوهرية في أشعار الشاعرة والروائية وفى تحليل وتقديم وعرض الناقد والمحلل والمحاور عذاب الركابى.

رصد الناقد ما يمكن أن نصفه معه بـ"المشهد الشعرى"، كما فى "البحر يحاكم سمكة" ص9، حيث تقول الشاعرة: "أريد أن يظل حبنا غريبا/ كمشهد صبية، تحمص بشرتها تحت الشمس/ وقد تمددت عارية فوق قبر رخامى وقور/ أريد أن أحدق فى ابتسامتك/ كما فى وردة نبتت من رغيف./ أريد أن يظل لقاؤنا مدهشا ومثيرا/ كزرافة جالسة في دار للسينما/ أو عصفور يقرأ صحيفته في المقهى/ ويدخن لفافته .. ويصبغ حذاءه". تلك المشهدية تتوالى على ترتيب زمنى حينا ونفسى حينا آخر، وبذلك تتشكل القصيدة، وتتضح إحدى الملامح الفتية فى قصيدة غادة السمان.

كما التقط الناقد "الركابى" ميزة أخرى فى قصائد "السمان" وهى ميزة الصورة الشعرية الخاصة أو نسيج الصورة الشعرية الخاصة فى قصيدة الشاعرة، كما هى ها هنا ص27 من القصيدة السابقة، حيث تقول: "حين أموت، لا توسخوا الأشجار بالبكاء/ دعونى أمضى بهدؤ قلم/ همس أسراره حتى نقطة الحبر الأخيرة فيه/ حين أموت، أكتبوا على قبرى: هنا ترقد غلطة مطبعة،/ لم تسقط سهوا، بل سقطت (صحوا)./ وكنت أكثر صدقا من بقية السطور" (ص27)

فيما توقف الناقد مع ميزة تتميز بها الشاعرة، ألا وهى ميزة اختيار المفردات المعبرة المتميزة والدالة، تحت مظلة الخيال أو قلعة الخيال كما يصف الخيال في تحليله، وبهما تنسج بل تفتت شراسة غربتها بسريالية جارحة. كل ذلك فى غير تكلف، حيث تقول ص47: "كأننى عقدت قرانى على محبرة/ وشهودى أوراقى،/ أسبح معك حتى آخر الدنيا/ فأكتشف أننا لا نزال داخل محبرتى.." كما تبدو الشاعرة أحيانا تمتلك طوق النجاة وتعويذة الخلاص، إذا ما شعرت بالظلم أو الإختناق، أو تألمت بسبب الهجر والضياع.. أى أننا أمام شاعرة تمتلك أدواتها للتعبير عن ذاتها المتكاملة غير المتشظية، وهو ملمح هام من ملامح قصائد الشاعرة، كما فى "البحر يحاكم سمكة" ص53 حيث تقول: "ها أنا ضالة بدونك، أهيم فى الفضاء/ مثل بالون أفلتته يد طفل فى العيد.. ونسيته،/ ها أنت تلتصق بذاكرتى كصدلع نصفى،/ وتنهش زمنى كسمكة قرش مثالية،/ ها أنا أقفز خلفك../ على عكاز الأبجدية / وأكاد أسقط على سلالم سؤ التفاهم../ دلنى على الدرب إليك لأعود".

يقول الناقد "إنها كعاشقة ترتدى ثوب الدهشة والترقب أبدا .. وهى السمة والملمح الذى رصده فيما تقول الشاعرة: "تلك الطفلة،/ وجدت نفسها فجأة  متنكرة داخل جسدى،/ متنكرة داخل عمرى واسمى وشهرتى/ ساقطة فى شرك أدوارى/ تجلدها أمزجتى الزئبقية، وحكايا حبى الغامضة/ لكنها لا تزال كل ليلة/ تهرب منى حين أنام/ وتفتح باب الكهف/ لتهرول وحيدة فى كوكب الحلم/ دون أن تضل الطريق الى القمر" ص102 ويخلص الناقد إلى أن غادة السمان الغارقة فى بحر من الكلمات لها حزنها الخاص.. تعرف كيف تنتصر عليه.

يجىء قسم الشهادات النقدية لبعض النقاد والأدباء والشعراء، ومن أجيال متعددة تعبيرا عن مكانة مضيئة تحتلها الشاعرة وشاء "الركابى" وضعها فى مقام مناسب لمقام "السمان"، فكان القسم الثانى من الكتاب، وتلك المقولات:

الشاعر محمد مهدى الجواهرى يقول: "أنا معجب جدا بما تكتبه غادة السمان، قرأت لها فدهشت، وافتخرت بنفسي، وبأن يكون للأمة العربية كاتبة مثل غادة السمان." .. الشاعرة العراقية وفاء عبدالرازق تقول: "أنا أخذت غصنا صغيرا من هذه الشجرة الفارعة وتحدثت عنه باختصار، ربما اقترابى منه كونى مثلها، بل أتمنى أن أصبح أكثر جرأة وتحد فى أعمالى القادمة، وأرث من غادة السمان روحها الشجاعة"! .. يقول الروائى والناقد محمد عطية: "ذلك الحس الذى تثيره دلالات الكتابة عند غادة السمان ومفرداتها المستمدة من شعور جارف بالحنين الى تجسيد الهوية والانطلاق فى سماوات الحرية من خلال معانقة المكان، وإن كان أثيريا."

تقول الشاعرة الفنانة نوال الغانم: "ليس هناك مثقفة عربية إلا وركبت في عربات قطار غادة السمان، وإلا أضاعت أسماء المحيطات التي مرت وستمر بها". .. القاص الليبى محمد المسلاتى يقول: "غادة السمان إبداع متواصل، ونص منفتح، وعالم ثرى بكل ما هو ممتع وساحر ومؤثر!" .. الناقد المصرى شوقى بدر يقول: "كانت غادة السمان مفاجأة شديدة الرهافة لجيلها من الكتاب والكاتبات، حيث قدمت نموذجا جديدا على الحياة العربية المحافظة وجديدها الإبداعي في الفكر المنظم." .. القاص والشاعر الليبى جمعة الفاخرى يقول: "لقد ظلت غادة السمان اسما حركيا للتمرد .. وأيقونة مباركة للفرح والحب والسلام .. مدرسة للجرأة .. ملكة جمال الكلمة .. وقائد ثورة الأدب النسوى العربى فى كل عصوره." .. الشاعرة والمترجمة فاطمة ناعوت تقول: "من يركع فكريا ولو لمرة واحدة، ينسى كيف يقف ثانية" هكذا قالت غادة السمان، لتقدم ما يشبه المانفيستو الطلقة، لكل شريف يدرك أن الإنسان موقف، وفكرة، وكلمة."

يجىء الفسم الثالث كوجه مختلف لقراءة "السمان" وإن حمل عنوان "حوار مع الكاتبة والروائية الكبيرة غادة السمان" حاورها: عذاب الركابى .. بينما إتسم الحوار بالطزاجة والحنكة الحوارية الثقافية التى لا تعتمد على الشكل التقليدى للحوار ما بين السؤال وإجابته، بل تعداه إلى موتيفات ثقافية مضافة فاكتسب شكلا ومضمونا جديدا ومختلفا: تقدمه تضمنت  مقولة للسمان (الرقص مع البوم/ ص158) تقول: "أنا امرأة عربية عمرها الف عام من الحروب والغزوات والحرائق والأحزان والفجائع .. تعبت من الموت، وحضارة الموت، وأعلامه وأصواته المعولة .. أريد أن أعانق حياتى، لا موتى"

:كما تضمن القسم بعض مقولات الأديبة مثل: الكتابة هى انتحار الأليف فينا من أجل حياة الأبجدية! أكتب لأننى لا أصلح لشىء آخر! العالم مظلم وكئيب من دون شعر.. وشعراء!

:السمة الثالثة اللافته أن عنون المحاور كل سؤال بعنوان يوجز السؤال والإجابة معا ويقدم فهما لغويا وفكريا للقارئ، مثل عنوان "الكتابة هى الموت الذى يجعلنا أحياء" للسؤال و"الإجابة حول رحلة الإبداع ما بين القصيدة والرواية عند غادة السمان".. وهكذا بقية الأسئلة وهو ما جعل من هذا القسم الشكل الأدبي والصحفي معا.. من خلال 28 سؤالا!

 خاتمة:

يعد الكتاب من تلك الكتب التوثيقية فى الأدب، حيث تتضمن جوانب متعددة ومختلفة حول المبدع موضوع الكتاب، وهى مهمة غير تقليدية للناقد الذى يسعى إلى رصد مبدع ما. وهنا قدم عذاب الركابى وجبة دسمة من المعلومات حول رؤى الشاعرة والمبدعة غادة السمان، كما قدم نظرات نقدية لشعرها. ذلك من خلال ثلاث أوجه هى: القراءة النقدية لبعض دواوين السمان. ثم شهادات تقريرية من بعض النقاد والمبدعين العرب. ثم ذلك الحوار المصاغ فنيا بشكل مختلف، وقد قدم السمان بشكل مباشر وتقريري على لسانها، بما يبرز وجهة نظرها ورؤيتها للعالم مباشرة!

الكتاب هو احتفالية جادة لمبدعة جادة، والكاتب "عذاب الركابي" هو شاعر وناقد نجح في التقاط الخفي والظاهر من عالم "غادة السمان" الإبداعى.

*"غادة السمان امرأة من كلمات " – عذاب الركابي – دار نشر غراب القاهرة 2016م.

 

Ab_negm2014@yahoo.com