أولا– حيثيات تأليف كتاب "روضة التعريف بالحب الشريف"
1- في سنة 769هـ أو قبلها بقليل فرغ ابن الخطيب من تأليف كتاب "روضة التعريف بالحب الشريف"، الذي جاء نتيجة طبيعية لتجربة صوفية عاشها في المرحلة الأخيرة من حياته، وطبعت جميع إنتاجه شعرا ونثرا.
وقد شرح المؤلف حيثيات التأليف بتفصيل في ديباجة الكتاب، ذلك أن كتابا لابن أبي حجلة التلمساني(1) وصل إلى الأندلس، فأحدث جدلاً فكرياً وصل صده إلى مجلس محمد الخامس بن الأحمر ملك غرناطة، الذي أمر الوزير بمعارضته، فلبى الأخير الطلب، لكن بشكل مختلف تماماً، إذ كان قد "علاه المشيب" و"قرب الرحيل" و"سلك طريق الاستعداد للمعاد"، "لما ورد على هذه البلاد الأندلسية" "ديوان الصبابة"، وهو الموضوع الذي اشتمل من أبطال العشاق على الكثير، واستوعب من أقوالهم القديمة والحديثة كل نظم ونثير، فعمر المحافل والمجالس، استجلس فلا يتوقف، .. وسما به الحد صعدا إلى المجلس السلطاني.. فخصته عين استحسانه –أبقاه الله- .. وصدرت إلي منه الإشارة الكريمة بالإملاء في فنه، والمنادمة على بنت دنه، .. لكنني امتثلت، .. وعن لي أن أذهب بهذا الحب المذهب المتأدي إلى البقاء، الموصل إلى ذروة السعادة في مدارج الارتقاء، .. حب الله المبلغ إلى قربه"(2).
* * *
2- أما الكتاب فهو "ديوان الصبابة"، وهو كتاب أراد له مؤلفه أن يكون سجلا للعشق والعشاق، ويجتمع أخبارهم ونوادرهم وأشعارهم وأعلامهم، مع ذكر ما يتعلق بالحب من عوارض وظواهر، وما ينتج عنه من آفات: "فحوى أخبار من قتل الهوى(3)، وسار بهم في الحب في كل مذهب .. فهم ما تعرفهم بسيماهم، قد تركهم الهوى كهشيم عقال المحتضر، وأصبحوا من علة الهوى على قسمين، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، فهم ما بين قتيل وشهيد، وشقي وسعيد"(4).
وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام:
المقدمة: في ذكر حد العشق واشتقاقه، وما قيل في وسمه ورسمه، وأسبابه وعلاماته، ومراتبه وأسمائه، ومدحه وذمه، وذكر اختلاف الناس فيه: هل هو اختياري أو اضطراري؟
الكتاب: ويتكون من ثلاثين باب، فيها عن الحسن والجمال وما قيل فيهما، والمحبين والظرفاء من الملوك والخلفاء، وحب النظرة، والسماع، والحمرة، والارتباك، والغيرة، والاستعطاف، والرسائل، وطيف الخيال، وقصر الليل، وطوله، والعذول، الرقيب، والواشي، والنمام، والعتاب، والهجر، والصبر، والخضوع، وانسكاب الدموع، والوعود، والأماني، واختلاط الأرواح، وذكر الحبيب. وذكر بعض من أصيبوا بحب النساء، والغلمان، والعفاف، إضافة إلى عدد من الموضوعات التي لها علاقة بالحب: كالغناء، وبعض مظاهر جمال المرأة، والحث على العفاف، وغيرها.
الخاتمة: وهي في ذكر من مات على وحبه، وقدم على ربه.
ولم يكن ابن أبي حجلة أول من صنف في الحب البشري، فقد سبقه إلى ذلك عدد من المؤلفين، كالجاحظ (ت: 255هـ) في رسالة "العشق والنساء"، "رسالة القيان"، وابن حزم الظاهري (ت: 456ه) في "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، وأبي الفرج ابن الجوزي (ت: 597ه) في "ذم الهوى"، وابن القيم الجوزية (ت: 751ه) في "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وغيرهم.
ولذلك كان في تأليفه لـ"ديوان الصبابة" يستند على تراث أدبي غني في هذا الباب، استفاد منه بشكل كبير، سواء على مستوى بناء الكتاب ككل، أو على مستوى المادة الشعرية، أو حتى بعض مصطلحات الحب؛ ولذلك تجد تشابها واضحا، وأحيانا تطابقا في كثير من هذه الجوانب بين ابن أبي حجلة ومن سبقوه.
وقد ذهب رينيه بيريس René Pérés إلى أن ابن الخطيب كان متأثرا على أبعد الحدود بابن أبي حجلة، وأورد على ذلك مجموعة من القرائن لا نراها كافية لإثبات التقليد(5).
ولا يعني هذا أننا ننفي كل شبه بين الكتابين، لكن ما نريد تقريره هو أن عناصر الشبه والالتقاء بينهما محدودة جدا، بحيث لا ترقى إلى مستوى "التقليد"، وإن أوجه الاختلاف بارزة وعميقة جدا بشكل يدعو إلى الاعتقاد بأن "ديوان الصبابة" لم يكن يمثل –بالنسبة إلى ابن الخطيب– إلا نقطة الانطلاق.
"فالروضة" تختلف بشكل كبير جدا عن "الديوان"، سواء في المنطق "الحب البشري=الحب الإلهي"، أو في المنهج "إخباري محض=تحليلي"، أو حتى في المادة المعتمد عليها "قرآن، حديث شعر، وأخبار، شعر، حكم، فلسفة..".
وعلى العموم، فإن الطريقة التي تناول بها ابن الخطيب قضية الحب الإلهي، في إطار رمزية الشجرة تبقى عملا متميزا في تاريخ التصوف لإسلامي.
* * *
ثانياً– المحبة كما تعرضها "الروضة"
تقرر في موضع سابق أن ابن الخطيب بنى كتاب "الروضة" على أساس فكرة "الحب"، معارضة لـ"ديوان الصبابة"، لكنه نقل هذه الفكرة من مجال الحب البشري، إلى الحب الإلهي: "حب الله المصل إلى قربه، المستدعي لرضاه وحبه"، وعرض القضية في صورة رمزية طريفة، وشاملة في الوقت نفسه، هي صورة الشجرة: "وجعلته شجرة وأرضا، فالشجرة: المحبة، مناسبة وتشبيها، وإشارة لما ورد في الكتب المنزلة وتنبيها، والأرض: النفوس التي تغرس فيها، والأغصان: أقسامها التي نستوفيها، والأوراق: حكاياتها التي نحكيها، وأزهارها: ثمارها التي نجنيها، والوصول إلى الله تعالى: ثمرتها التي نذخرها بفضل الله ونقتنيها.. شجرة لعمر الله يانعة، وعلى الزعازع متمانعة.. ظلها ظليل، والفائز بجناها قليل، وسمت إلى النجوم، وتنزهت عن أعراض الجسوم، والرياح الحسوم، وسقيت بالعلوم، وغذيت بالفهوم"(6).
وقد قسم المؤلف كتابه إلى أقسام ستة:
القسم الأول: خطبة الأغراس وتوطئة الغراس
وهو بمثابة توطئة مهد بها لوصف الشجرة؛ تحدث فيها عن الأرض وطبيعتها، وطبقاتها: "القلب، الروح، النفس، العقل"، وشعبها الكامنة، ومكوناتها، وأصنافها الصالحة لغرس "النفس المطمئنة، النفس الأمارة، النفس اللوامة"، والعوامل المشجعة على فلاحتها "من جذبة، ويقظة"، ثم الماء الضروري لسقيها "العقل، والنقل" ومقداره، والغبار المساعد على التكوين، وأنواع الحرث والتنظيف التي تسبق الغرس وغير ذلك.
فجاء هذا القسم عبارة عن دراسة تحليلية دقيقة للنفس البشرية، وقواها وحواسها، وطبائعها، وأمزجتها، وحدود مدركاتها، وما على ذلك من القضايا التي عكف على دراستها غير واحد من فلاسفة ومتصوفة الإسلام.
القسم الثاني: الأسباب في الحب اللباب
تحدث فيه عن عدد من الأصول التي تهدي الفلاح إلى الطريقة الأمثل لفلاحة الأرض، كالنبوة التي تناولها من حيث العقل، ومن حيث النقل، ثم الإيمان والاعتبار العامي، وما يتبع ذلك من اليقظة، والتوبة، والعناية، والتوفيق، ثم الموعظة والسماع.
وبعد ذلك، انتقل إلى العقل، والطبع، من خلال: الفلسفة، وسلامة الفطرة، ومعرفة الجمال والكمال، ثم السلوك بالفكر.
ثم يختم هذا القسم بالحديث المفصل عن الذكر، باعتباره أحد أهم أسباب المحبة، فيذكر ما قاله الحكماء والمتصوفة في فصله، وأثره على السالك، ثم أنواعه وأصنافه: من أدعية وأذكار وأسماء، وما على ذلك مما له علاقة "بالسيمياء".
القسم الثالث: العمود المشتمل على القشر والعود، والجنى الموعود
وفيه يتحدث عن معنى المحبة، واشتقاقتها ومرادفاتها، ودلالاتها عند العرب، لغويا وأدبيا، ثم إثبات مشروعيتها عقلا ونقلا، وأنها أصل الوجود كله؛ ليصل في النهاية إلى المحبة الإلهية "وهي بيت القصيد"، فيذكر تعريفاتها، ومقوماتها، وما ينتج عنها من أحوال ومقامات لدى المريد.
القسم الرابع: وهو الفرع الصاعد في الهواء على خط الاستواء من رأس العمود القائم إلى منتهى الوجود الدائم.
وتحدث فيه عن "فرع" شجرة المحبة، وهو المعرفة، فيفصل الكلام حول: مفهوم المعرفة، وما قيل فيها، وأوصاف العارف وعلومه، وتفضيله، هذا ما يتعلق "بالقشر".
أما "الجرم"، فقد قسمه بدوره إلى: ظاهر/ وباطن/ وقلب.
1- فالظاهر: يشمل الأخلاق، ومنشأها، وإفراطها، وتفريطها، بحسب الطباع البشرية، واعتدالها، وعلاجها، إضافة إلى المجاهدات والرياضيات الصوفية المفضية إلى تلك المعرفة.
2- والباطن: يشمل قضية علاقة رؤية الله بالسعادة الكبرى، وما قيل في ذلك.
3- والقلب: يتضمن الرياضة، والمجاهدة، والسلوك، وما ينتج عنها من مقامات.
وتتفرع منه عشرة غصون:
1- غصن فروع البدايات.
2- غصن فروع الأبواب.
3- المعاملات.
4- الأخلاق.
5- الأصول.
6- الأودية.
7- الأحوال.
8- الولايات.
9- الحقائق.
10- النهايات.
ثم ينتقل إلى كيفية السلوك بالذكر، ويختم بالحديث عن الولاية التي هي الجني والثمرة والمقصودة من كل هذه العملية.
فظاهر العمود: الأخلاق والمجاهدات الصوفية، وباطنه: النظر إلى وجه الله، وقلبه: المقامات التي يمر بها العارف في طريقه نحو الولاية، وهي ثمرة الحب الإلهي على الإطلاق(7).
القسم الخامس: تفرغ ضخام الغصون من شجرة السر المصون:
وقسمه على أربعة غصون كبيرة:
1- غصن المحبوبات:
ويشمل أربعة أفنان: فنن الرب المحبوب، وفنن العبد المحبوب، وفنن الدنيا المحبوبة، وفنن الآخرة المحبوبة.
2- غصن المحبين وأصنافهم:
ويشمل آراء المفكرين القدماء، كالفلاسفة اليونان، والإشراقيين، والفلاسفة الإسلاميين، والمتكلمين، وأهل الوحدة المطلقة، ثم الصوفية، الذين فضلهم على جميع الأصناف المذكورة، واعتبرهم المحبة وشواهدها:
وقسمه أيضا إلى ثلاثة أفنان:
* ما يرجع إلى حقوق المحبوب.
* ما يرجع إلى باطن المحب.
* ما يرجع إلى ظاهره.
4- غصن أخبار المحبين:
وهذا الغصن يعتبر خزانة أدبية فريدة، جمع فيها المؤلف تراثا ضخما مما يتعلق بحكايات العشاق، وأخبارهم ونوادرهم، وجعلهم أصنافا ثلاثة:
- المجاهد المكابد.
- الجريح.
- القتيل.
القسم السادس: حوائج الشجرة، ومضار فلاحتها المعتبرة.
وقد جاء هذا القسم على شكل خاتمة تحدث فيها عما يعتري هذه الشجرة بعد استوائها من مضار تتعلق إما بالماء، أو التربة، أو الرياح، أو غفلة الفلاح، فتعترض طريق السالك، وتعوق سيره نحو الله.
وفي الأخير، وضع المؤلف على رأس الشجرة طائرا يتحدث بلسانه، فيعترف بالتقصير، ويعتذر عنه بالشواغل السياسية والاجتماعية.
أما المبدأ الأساس الذي انطلق منه ليصل في النهاية إليه، فهو أن أصل الوجود كله محبة(8)، وأن كل البشر محبون عشاق للذات الإلهية، لكن لكل طريقته الخاصة في السلوك؛ وسواء كانت الطريقة موصلة أو مضللة، فإن الهدف عند الجميع واحد، فكلهم "فراش يدور حول ذبال الحق".
وكان خلال كل ذلك يعرض بدقة أصناف هؤلاء العشاق، ومراتبهم، وآراءهم، وأساليبهم في السلوك(9).. إنها محاولة جريئة للتعامل مع جميع أشكال الفكر البشري تحيلنا مباشرة على "نونية الششتري" الشهيرة:
أرى طالبا منا الزيادة لا الحسنى * * *بفكر رمى سهما فعدى به عدنا
وهي قصيدة تتكون من 69 بيتا، غريبة المنزع، خاملة من باب اللسان، أشار فيها إلى مراتب الأعلام من أهل هذه الطريقة، وكأنها مبنية على كلام شيخه ابن سبعين"(10).
والملاحظ، أن الششتري لم يقتصر فيها على ذكر أعلام مدرسة الوحدة فحسب، بل ذكر على جانبهم عددا من المفكرين الذين ينتمون على مدارس أخرى، كأرسطو، وابن سينا، والغزالي، وابن طفيل، وابن رشد..الخ.
إن ما يريد الشاعر الوصول إليه، هو أن جميع هؤلاء أخذوا في السير –كل واحد بطريقته– مشدوهين منجذبين نحو نور الحق.
ويلاحظ الباحث في أندلس القرن الثامن أن قصيدة الششتري هذه مارست تأثيرا كبيرا على المعاصرين، وهو تأثير نستطيع أن نلمسه عند صاحبنا ابن الخطيب نفسه، "فقد أورد هذه القصيدة، وعلق عليها مرتين، إحداهما في "الإحاطة"(11)، والأخرى في "روضة التعريف"(12)، وعند معاصره عبد الرحمان ابن خلدون في كتاب "شفاء السائل لتهذيب المسائل"، حيث سجل بدوره مرونة كبيرة في قراءة جميع أشكال الفكر البشري "فالطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"(13).
ثم إن كتاب "روضة التعريف" في حد ذاته، لم يكن في الحقيقة سوى تكريس للمنظور الششتري سالف الذكر، في تداخله مع نظرية وحدة الأدباء عند ابن عربي في أبياته الشهيرة:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة * * * فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف * * * وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت * * * ركائبه فالحب ديني وإيماني(14)
وكما هو واضح، لقد عبر المؤلف في الغصن الثاني "غصن المحبين وأصنافهم" عن تساهل كبير مع أرباب الملل والأديان الأخرى بشكل يوحي بالتحرر من أحادية المرجعية الدينية الإسلامية، وبإعطاء مشروعية من نوع ما لبعض المذاهب الفكرية غير المقبولة في المنظور الإسلامي: "المجوسية، اليهودية، المسيحية، الوثنية..".
ولعل هذا بالذات ما أثار ضده المواقف الفقهية المتشددة التي أفتت بإلحاد ابن عربي، والششتري، وابن سبعين، وابن قسي.. أيضاً، إذ اتهمته "بالقول بالحلول والاتحاد، والذهاب مذهب الزندقة والإلحاد، والوقوع في الجناب النبوي بما لا يليق، وإنكار بعض ما أثبته الدين كالجنة والنـار"(15)، حسبما جاء في صك الاتهام الموجه إليه من قبل أبي الحسن النباهي سنة 773هـ، وهي التهم التي ستؤدي إلى الحكم عليه بالإعدام، وإحراق جثته بعد ذلك سنة 776هـ.
* * *
ثالثاً– رمزية الشجرة:
بنى ابن الخطيب كتابه "روضة التعريف" على أساس صورة رمزية تمثيلية هي صورة "الشجرة؛ والواقع أن هذا الأسلوب الرمزي كان حاضرا بقوة في عدد من كتاباته الصوفية، مثل رسالة "استنزال اللطف" التي أسسها على "رمزية الأسر"(16).
كما أنه وظف رمزية الشجرة أيضا في "بستان الدول"، وهو من المؤلفات التي صدرت عنه في المرحلة الأولى من حياته، وضع منه حوالي 30 (ثلاثين) جزءا، ثم قطعه عنه ما وقع بغرناطة من الثورة ضد الغني بالله سنة 760هـ، وما أعقب ذلك من منفى وفتن.
ورغم أن الكتاب لم يصلنا منه شيء، فإن المؤلف قدم عرضا مختصرا عن محتواه، وعن شكل بنائه:
"يشتمل على شجرات عشر: أولاها شجرة السلطان، ثم شجرة الوزارة، ثم شجرة الكتابة، ثم شجرة العمل، فشجرة الجهاد، وهو فرعان: "أسطول، وخيول"، ثم شجرة ما يضطر باب الملك إليه من الأطباء، والمنجمين، والبيازرة، والبياطرة، والفلاحين، والندماء، والشطرنجيين، والشعراء والمغنين، ثم شجرة الرعايا".
ويلاحظ أن لسان الدين وظف هنا كذلك كثيرا من العناصر الجزئية المكملة لصورة الشجرة، الموجودة في "الروضة"، كالشعب، والأصول، والجراثيم، والعمد، والقشر، واللحاء، والغصون، والأوراق، والأزهار، والثمار، وغيرها. يقول:
"وتقسيم هذا كله غريب يرجع إلى شعب، وأًصول، وجراثيم، وعمد، وقشر، ولحاء، وغصون، وأوراق، وزهرات مثمرات، وغير مثمرات"(17).
وبديهي أن اختيار لسان الدين لهذه الصورة الرمزية لم يكن سابقة، فقد وظفها عدد من الكتاب السابقين في مؤلفاتهم، وتجدها كذلك في الكتب السماوية، وقد أشار إلى ذلك في ديباجة "الروضة":
"فالشجرة المحبة مناسبة وتشبيها، وإشارة لما ورد في الكتب المنزلة وتنبيها"(18).
وواضح من خلال هذا النص أن المؤلف لا يشير إلى القرآن فحسب، بل أيضا إلى التوراة والإنجيل.
ففي القرآن هناك عدد من الآيات توظف رمزية "الشجرة"، وخاصة الآية التي لا نشك في أن ابن الخطيب –مثل غيره من الصوفية– كان ناظرا إليها عند تأليف "الروضة" وهي: "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها"(19)، إضافة إلى نخلة مريم(20)، والزيتونة المباركة(21)، وسدرة المنتهى(22)، وغيرها. وقد وظفها كثيرا في الكتاب.
وفي التوراة ورد الحديث في مواضع متعددة عن: "شجرة الحياة"(23)، وعن "شجرة معرفة الخير والشر"(24)، كما وظفت الأناجيل أيضا رمزة الشجرة باستمرار للتعبير عن الكلمة الطيبة ذات الثمر(25)، إلى غير ذلك من المعاني التي تشبه أحيانا ما ورد في القرآن.
أما عند العرب القدامى فقد أشار المؤرخون إلى عدد من الأشجار التي قدسوها، وعبدوها، وحاكوا حولها الأساطير، كشجرة غيلان، ونخلة نجران، وذات أنواط، والسمر، والطرفائي، ولعل ذلك ما جعل عمر بن الخطاب يأمر بقطع شجرة الحديبية، خوفا من أن تعبد. بل يذهب بعض الباحثين إلى الربط بين قدسية بعض الأشجار في الموروث الشعبي الجاهلي وقدسيتها في القرآن، "كسدرة المنتهى" وغيرها، ويعتبرون الشجرة عموماً في الحضارة العربية رمزاً للإنسان الكامل، وللتجدد والخلاص، والنزوع نحو الخلود والاستمرار(26).
وعند المتصوفة فقد اكتسى رمز الشجرة طابعا فريدا في كتاباتهم، واكتسب أبعادا دلالية عميقة جدا، مرجعهم في ذلك –طبعا– تدقيق النظر في الآية القرآنية المذكورة: "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة"، وغيرها من الآيات:
- فالجنيد شبه الحياة بشجرة، ورمز بها إلى الهجرة نحو المطلق(27).
- وأبو يزيد البسطامي يقول: إنه رأى شجرة الوحدة، ويصفها.
- وأبو الحسن النوري يتحدث عن شجرة المعرفة في قلب العارف، ويصفها كذلك.
- وابن عطاء ذكر أن المحبة أغصان مغروسة في القلب.
- والغزالي شبه المحبة كذلك بالشجرة المغروسة في أرض نقية.
- وابن قيم الجوزية قال: إن المحبة شجرة في القلب ذات عروق، وشبه المؤمن بالشجرة، ونص على أن الكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد، التي تنبت في قلب المؤمن فتصير شجرة.
- وعبد القادر الجيلاني قال: إن الإيمان شجرة ذات أوراق وبذرة وثمار مغروسة في قلب المؤمن(28).
- ومحيي الدين بن عربي تحدث عن شجرة الكون والشجرة النعمانية(29).
يتضح إذن أن لسان الدين ابن الخطيب لم يكن أول من استعمل هذه الصورة الرمزية في التعبير، وأنه استند في ذلك إلى تراث أدبي وصوفي ضخم.
وسنرى في موضع آخر أنه اطلع فعلا على عدد كبير من المؤلفات الصوفية، واستفاد منها، وتأثر ببعضها.
ويذهب بعض الباحثين في هذا الإطار على ابن الخطيب، ربما يكون قد استفاد أيضا من كتاب "شجرة المعرفة"، وكتاب "شجرة المحبة" لرايموند لول R. Lull (توفي 1315م)، اللذين اعتمد فيهما صاحبهما على كثير من العناصر والمكونات التي وظفها كذلك لسان الدين في "روضة": "العروق، الجذع، الأغصان، الأفنان، الأوراق، الزهور، الثمار.." في تشابه مثير بينهما(30).
وعلى العموم، فإن صورة الشجرة معروفة في القرون الوسطى، سواء لدى المسلمين أو المسيحيين. ومن ثم، لم يكن بدعا أن يستعملها لسان الدين، الذي اجتهد كثيرا في محاولة تمثيل ثقافة عصره، وكانت روضة التعريف نتاجا لهذه المحاولة.
وجدير بالإشارة هنا أيضا أن "الطائر" الذي أضافه صاحب "الروضة" إلى صورة الشجرة في خاتمة الكتاب يعتبر في حد ذاته رمز للروح، والخيال، والفكر، والنفس، خصوصا في بعدها الفلسفي، ورمزا للمحبة كذلك(31)، وله أيضا حضور في الكتب المقدسة(32) وفي التراث الأدبي العربي، فالقطاة، والحمام، والهديل، وساق حر، وطيف الخيال، والهداهد.. الخ طيور أصبحت رموزا ذات دلالات خاصة، وترتبط دوما بمعاني العشق والحب(33).
* * *
رابعا– كتب الحب التي سبقت الروضة:
سبقت الإشارة في موضع المحبة بشكل عام أثار اهتمام المؤلفين العرب القدامى، فظهر لذلك عدد من المصنفات في هذا الباب، استفاد منها ابن أبي حجلة، وابن الخطيب بالضرورة، في اقتباس بعض المادة الأدبية والتاريخية، والتحليلية، "كرسالة العشق والقيان" لأبي عثمان الجاحظ، و"طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي، و"ذم الهوى" لابن الجوزي، و"روضة المحبين" لابن قيم الجوزية..الخ.
أما على مستوى الحب الإلهي فإن أول مصدر ديني عربي تحدث عنه هو القرآن الكريم، في قوله تعالى: "يحبهم ويحبونه"(34)، وقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم"(35)، وغيرها من الآيات، ثم الأحاديث القدسية، والنبوية، وهي كثيرة جداً.
وكان أول من تحدث في فكرة الحب الإلهي إبراهيم ابن أدهم الصوفي الشهير (توفي سنة 161، أو 162 أو 163هـ)، وله في ذلك أقوال شهيرة وكثيرة، كقوله: "لا تنال ولايته إلا بمحبتـه"(36).
ثم نماها عبد الواحد بن زيد (توفي سنة 177هـ)، الذي أدخل مصطلح العشق إلى التصوف، لتصل مع رابعة العدوية (توفيت سنة 175هـ) إلى مرحلة متطورة جداً.
ثم تتالت بعد ذلك سلسلة من المصنفات تناولت القضية، وحللتها تحليلا وافيا؛ فصار موضوع "الحب" من أبرز الأسس التي يقوم عليها التصوف، بعد أن تم التوسع في أصنافه، وأشكاله، ومظاهره، وعلاماته، ومراتبه، واشتقاقاته ومصطلحاته، وعوائقه، وما ينتج عنه، فظهر كتاب، "الرعاية لحقوق الله" للحارث المحاسبي، (توفي 243هـ)، وأولى فيه عناية كبيرة للحب، ثم كتاب "قوت القلوب في معاملة المحبوب" للشيخ أبي طالب المكي، (توفي 386هـ)، وهو كتاب مبنى أصلا على أساس قاعدة الحب الإلهي، وكتاب "التعريف لمذهب أهل التصوف" للكلاباذي، (توفي سنة 390هـ)، "فتحلية الأولياء" لأبي نعيم، (توفي 430هـ)، و"الرسالة القشيرية" الشهيرة لأبي القاسم عبد الكريم القشيري النيسابوري، (توفي سنة 464هـ)، وقد تحدث فيها عن عدد كبير من أعلام العشاق والمحبين، وأخبارهم، وأقوالهم، وخصص بابا سماه "باب المحبة"، وآخر سماه "باب الشوق"، وكتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، (توفي 505هـ)، وخاصة في فصل "المحبة والإرادة"، ثم كتاب "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الحاتمي، (توفي 638هـ)، وكتاب "مشارق أنوار القلوب ومفاتيح أسرار الغيوب" لعبد الرحمن بن محمد الأنصاري المؤرخ، الشهير بابن الدباغ القيرواني، (توفي 696هـ)، وهو يقوم أساسا على فكرة المحبة، طريقها، أقسامها، أقسام العشاق، وكتاب "المحبة: لابن خلصون"، اللذين اعترف ابن الخطيب بالأخذ عنهما.
فهذه الكتب كلها وغيرها كانت تمثل مرجعية معرفية، أدبية وتاريخية، أفاد منها ابن الخطيب "واعترف بنفسه، بالإفادة من بعضها"، فجاءت "روضته" تحمل مؤثرات عدد من المؤلفات التي سنحاول الكشف عنها في موضع لاحق.
ومن ثم، فإن أي تحليل "للروضة" لا يمكن أن يتم إلا عبر عملية استقراء شامل لها على المستويين المعرفي والمنهجي.
ولم يكن الشعر بمعزل عن هذا الخطاب، فقد وجدنا عددا من الشعراء، عبروا عن فكرة الحب الإلهي، وتبنوها في شعرهم، كابن الفارض، وابن عربي، والششتري"، وغيرهم.
* * *
خامساً- مصادر الروضة:
الواقع أنه من الصعوبة بمكان الكشف عن المصادر التي اعتمد عليها المؤلف، فقد كان الرجل ذا ثقافة موسوعية بشكل يستحيل ضبطه بدقة، وهي ثقافة متنوعة بشكل مثير. ثم إن أسلوب الاقتباس، دون تحديد المصدر المعتمد عليه، يزيد المسألة تعقيدا، خصوصا أن بعض النصوص ترد في أكثر من كتاب، وأكثر من سياق، يرويها الواحد عن الآخر، فلا يتبين بالذات عمن أخذها ابن الخطيب.
ونستطيع من خلال "الروضة" أن نأخذ صورة مجملة عن بعض هذه المصادر، نذكرها بإيجاز، "لأن هذا الموضوع يحتاج في حد ذاته إلى بحث خاص". فإلى جانب كتاب شيذلة "لوامع أنوار القلوب في جمع أسرار المحبوب"، و"رسالة" ابن واطيل، و"رسالة" ابن الدباغ القيرواني "مشارق أنوار القلوب ومفاتيح أسرار الغيوب"، و"كتاب ابن خلصون في المحبة" وقد اعترف ابن الخطيب نفسه بالأخذ عن هذه الكتب الأربعة في ديباجة "الروضة"(37)، ثم كتاب "ديوان الصبابة" لابن أبي حجلة "الذي عارضه، واستفاد منه إلى حد ما".
هناك عدد لا يحصى من المصادر التي تبتدئ من كتب الفلاسفة اليونانيين، وقدماء المصريين، والفرس، والهنود، وغيرهم؛ مرورا بمفكري الإسلام من متكلمين، وفلاسفة، وزهاد، وفقهاء، وغيرهم، بمختلف فئاتهم ومذاهبهم، وانتهاءا بعدد كبير من أعلام الصوفية على اختلاف آرائهم ونحلهم.
وقد قدم لسان الدين في "الروضة" عرضا دقيقا ومفصلا لجميع هذه الملل ولنحل، مع بسط مركز لآراء وعقائد كل نحلة، وأسماء أشهر أعلامها، في الغصن الثاني، من الحرم الشريف، وهو "غصن المحبين" وأصنافهم المرتبين"(38)، بطريقة تنم عن اطلاع واسع على أغلبها، إن لم نقل على كلها بدقة متناهية.
لكننا مع ذلك، نستطيع أن نلاحظ تميزا واضحا بالنسبة على بعض هؤلاء المفكرين، خاصة منهم أبي علي بن سينا (توفي سنة 428هـ)، الذي أبدى ابن الخطيب إعجابا كبيرا بفكره، وكان كثيرا ما يستشهد بآرائه وأقواله، ويفضلها على غيرها، والغزالي (توفي 464هـ)، صاحب "الرسالة" وابن سبعين (توفي 669هـ)، صاحب: "بد العارف" وأبي الفرج بن الطيب البغدادي (توفي 435هـ) الذين كان يردد أقوالهم بين الفينة والأخرى.
وإضافة على هؤلاء، لا بأس من أن نشير إلى رجلين لا نشك في أن ابن الخطيب اعتمد عليهما في المعلومات الفلاحية التي أوردها في "الروضة"، وبناها على أساسها وهما: أبو زكريا يحيى بن هذيل، الذي أخبر صاحب "النفح" بأنه كانت له ثقافة فلاحية واسعة، وأبو عثمان ابن لبون التجيبي الذي كان أيضا من علماء الفلاحة وألف فيها كتابا، وكلاهما كان شيخا لابن الخطيب.
ولعل هذا، ما جعل "الروضة" تتخذ طابعا انتقائيا متنوعا، فجمعن بين التصوف، وعلم الكلام، والفلسفة والأدب، والموسيقى، وشيء من الفلك، والطب.. وبذلك نستطيع اعتبارها وثيقة كاشفة عن ثقافة مؤلفها الذي كان في حد ذاته نموذجا لثقافة القرن الثامن الهجري بالأندلس.
* * * *
الهوامش
1) شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر التلمساني (725–776 هـ) شاعر فقيه أديب صوفي من أهل تلمسان، سكن دمشق، وولي مشيخة الصوفية بـ"صهريج منجك" بالقاهرة، ثم "بخانقاه سعيد السعداء" التي أرسل غليها ابن الخطيب نسخة من روضته، ومات فيها بالطاعون. من مؤلفاته: "سكردان السلطان" و"الطارئ على السكردان" و"ديوان الصبابة". اشتهر بهجومه على أصحاب وحدة الوجود وخاصة ابن الفارض، وبانفتاحه على أوساط غير صوفية، فكانت له علاقات مع السكارى والمجرمين "الدور الكامنة" –ابن حجر العقلاني: 1/ 331، شذرات الذهب– ابن العماد: 5/ 241".
2) روضة التعريف، 1/ 72.
3) رد ابن الخطيب على هذه العبارة بقوله: وهو يعني طبعا الحب الإلهي.
أنا لا أهيم بذكر من قتل الهوى
ولكن أهيم بذكر من أحياه
"روضة التعريف، 1/ 97".
4) ديوان الصبابة: لابن أبي حجلة، ص7.
(5 La Rawdat Al Ta’rif Bil Habb Al charif, Traité de mystique musulmane sur l’amour de Dieu de Lissan ADDIN Ibn Al-Khatib, par M. René Pérés.
6) روضة التعريف، 1/ 101–102.
7) د. محمد الكناني (تحقيق)، روضة التعريف، 1/ 43.
8) روضة التعريف، 1/ 358.
9) نفسه، ج2، ص533 إلى ص620.
10) الإحاطة، 4/ 211. روضة التعريف، 2/ 609.
11) الإحاطة، 4/ 208.
12) روضة التعريف، 2/ 609.
13) شفاء السائل، ابن خلدون، ص87.
14) ديوان ابن العربي، ص351.
15) أزهار الرياض، المقري، 1/ 212.
16) استنزال اللطف، ابن الخطيب، دعوة الحق، عدد 319.
17) الإحاطة، 4/ 460. وانظر أيضا: شجرة النور الزكية، ص230.
هدية العرفين، 6/ 167، لسان الدين بن الخطيب، حياته وتراثه الفكري، عنان، ص268.
مقدمة تحقيق "الروضة"، د. محمد الكتاني، 1/ 18.
18) روضة التعريف، 1/ 101.
19) سورة إبراهيم، الآية: 24.
20) سورة مريم، الآية: 25.
21) سورة النور، الآية: 35.
23) العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح: 2/ 9. والإصحاح: 3/ 24.. إلخ.
24) العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني: 9–17. وأيضا: سفر إرميا، الإصحاح: 17/ 7–8. وسفر حزقيال، الإصحاح: 47/ 12.. إلخ.
25) انظر مثلا: العهد الجديد، إنجيل متى، الإصحاح: 13/ 31–32. وإنجيل مرقس، الإصحاح: 4/ 30–32. وإنجيل لوقا، الإصحاح: 1/18–19.. إلخ.
26) انظر مثلا "الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم"، للدكتور علي زيعور: ص: 210–216.
27) نفسه، ص: 210.
28) فتوح الغيب، أبو محمد مجي الدين عبد القادر الجيلالي، ص55–56.
29) التيار الصوفي والمجتمع في الأندلس والمغرب أثناء القرن 8 ه، د. محمد مفتاح، ص400.
(30 R. Perés.
31) الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، زيعور، ص149.
32) مثلا: حمامة وغراب نوح في التوراة، سفر التكوين، إصحاح: 8/ 6–20. وأيضا:
R. Perés. P. 215.
33) انظر "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها"، د. عبد الله الطيب، 3/ 911 إلى 952.
34) سورة المائدة، الآية: 53.
35) سورة آل عمران، الآية: 31.
36) التصوف الإسلامي، د. عبد الرحمن بدوي، ص234.
37) روضة التعريف، 1/ 98.
38) روضة التعريف، 1/ 98.