إن الحديث عن التراث باعتباره قيمة إنسانية هو حديث عن الهوية وعمق الانتماء الذي يرسخ قيمة الفرد داخل المجتمع، وقيمة المجتمع داخل المنظومة الإنسانية الكبرى. والعودة إلى التراث بهذا المعنى هو عودة إلى الأصل الأول والأساس من أجل تثبيت الجذور وإسدال الفروع. لن نقف طويلا عند مفاهيم التراث اللغوية والاصطلاحية، ولكن لا بأس من التذكر بأن التراث قد جاء ذكره في القرآن الكريم بصيغ شتى، ومفاهيم عدة، كما ورد لفظ التراث في المعاجم القديمة مرادفاً للإرث والورث والميراث، وقيل الورث والميراث في المال، والإرث في الحـسب، وقد تعددت دلالاته اللغوية والاصطلاحية حسب ما يقتضيه المقام، ليبقى التراث عموما هو كل ما خلفه السلف للخلف، سواء أكان التراث ماديا أم معنويا.
والتراث بهذا المفهوم يتبدى في الكثير من الممارسات والسلوكيات الإنسانية كيفما كان نوعها، ومن ثم فإن الأدب باعتباره سلوكا إنسانيا فكريا إبداعيا فإنه قد دخل في علاقة وجدانية عميقة مع هذا الإرث الإنساني واستطاع الاستفادة منه قدر الإمكان عبر مستويات التوظيف المتعددة والمتنوعة.
والقصة باعتبارها فنا أدبيا له مكانته الخاصة ضمن الأجناس الأدبية، فقد استطاعت أن تنسج خيوط الوصل مع التراث، فاستفادت منه، كما استفادت باقي الأجناس، ولعل الأهداف الأساس لهذه العودة إلى التراث يتجلى في منح النص القصصي روحا أصيلا تربطه بماضيه، وإعطائه الأبعاد الفنية والإيحائية المتعلقة بالموضوع، فالتراث هو جزء لا يتجزأ من ثقافة المبدع المتشعبة والمتنوعة، ومن ثم تأتي هذه الورقة التي تحاول قدر الإمكان الوقوف عند بعض تجليات التراث في القصة في المنطقة الشرقية، انطلاقا من بعض نصوص الموكب الأدبي في نسخته الثالثة. ولعل أول ما يلفت انتباه المتلقي لهذه النصوص والمتتبع لهذا الموكب الأدبي هو التقاطع غير المقصود وغير المسبق بين موضوع هذه الورقة، والشعار الذي اتخذه الموكب الأدبي لهذه الدورة، "ألف قصة وقصة"، وليس هذا إلا ترسيخا لمبدأ الهوية التراثية في بعدها الحكائي الذي يحيلنا إلى كتاب الدهر في فن الحكي والسرد "ألف ليلة وليلة" الذي ترجم إلى جل اللغات العالية والذي يتخذه الكثير من كتاب القصة والرواية عموما مرجعا حكائيا أسلوبيا بامتياز. وانطلاقا من هذه المعطيات وغيرها سأصنف ورقتي هذه حسب المحاور الآتية:
1) استدعاء الشخصيات التراثية.
1-1) استدعاء الشخصية التاريخية.
1-2) استدعاء الشخصية الأدبية.
1-3) استدعاء الشخصية التراثية الشعبية.
2) استدعاء التراث الشعبي.
3) استدعاء الأمكنة التراثية.
* * * *
1) استدعاء الشخصيات التراثية
إن من بين أهم مقومات السرد هي حضور الشخصية التي تلبس لباسا متعدد الخلفيات والمرجعيات تؤثثها رؤية الكاتب للنص، فالشخصية إذا بواسطتها يتبين فعل الحكي، وتتضح المحكيات عبر سلوكاتها داخل النص وحركيتها، وتحول نفسياتها وانفعالاتها، وحضور الشخصية التراثية داخل النصوص القصصية تكسب النص مجموعة من الامتيازات النوعية والفنية، فهي إضافة إلى حمولاتها التراثية، فهي بالتأكيد تكتسب دلالات معاصرة بلباس جديد، ويمكن لنا تصنيف الشخصيات التراثية في هذه المجاميع القصصية إلى أصناف متعددة من بينها:
1-1) الشخصيات التاريخية:
لقد حضرت بعض الأسماء التاريخية في بعض نصوص الموكب القصصية، سواء العربي منها أم المغربي، وأيضا العالمي، ويمكن لنا أن نصنف هذه الشخصيات التاريخية إلى تصنيفات داخلية، فمنها ما هو سياسي ومنها ما هو أدبي ومنها ما هو تراثي. ونقف في هذا المقام عند شخصية تاريخية تم استدعاؤها في نص عبد الله زروال بعنوان" زحزحة القارات"، يقول:
رنا إلى البحر قائلا:
لست طارقا، لست فاتحا، إنما أنا عاجز رمت به قلة الحيلة.
فالنص حديث عن طموح شاب يحاول أن يقفز إلى الضفة الأخرى من البر، مبديا ضعف قوته وعجز قدرته على مواجهة الحال في بلاده، فلم يجد أمامه إلا التفكير في قطع البحر، وهنا وجد القاص نفسه أمام شخصية طارق بن زياد ذاك الفاتح للأندلس، إلا أن استدعاء الشخصية جاء في سياق مناقض لسياق الحد الأصلي، فإذا كان طارق قد قدم رجلا وألحق الثانية بالأولى، فإن الشاب نفى عن نفسه أن يكون طارقا، ومن ثم فإن استحضار الشخصية كان ضمن سياق النفي لا الإثبات، وقد وجدت هذه الشخصية مكانها أيضا، وفي سياق مماثل، عند السعدية سلايلي التي انطلقت من موضوعة العقم الاجتماعي والسياسي الذي يعاني منه المجتمع المغربي، فتصور حالة مأساوية لمركب عليه ثلة من الشباب يسعون إلى المجهول، في نص "البحر وراءكم": فتتعالى أصوات الجيل المحاصر بالماء:"لماذا أحرقت كل القوارب يا ابن زياد؟ قلت كلامك المعلوم البحر وراءكم، البحر أمامكم"، فقد قامت الساردة بمحاورة طارق عبر شخصيات نصها، التي وجدت نفسها محاصرة بكثبان المياه المتلاطمة، فتحولت مقولة ابن زياد من "البحر من ورائكم والعدو أمامكم" إلى "البحر وراءكم والبحر وراءكم".
ومن التاريخ المعاصر نجد القاص عادل التكفاوي قد استحضر شخصيات سياسية تاريخية مجسدة في هيتلير وموسولوني، في نص "المناضل" وقد أسعفه هذا الاستدعاء في رسم بعض ملامح هذه الشخصية المناضلة التي تدعي الالتزام السياسي في مقال اختلالات أخلاقية متعددة.
2-1) الشخصية الأديبة:
إن الأدب باعتباره خاصية إنسانية فإنه مفتوح على كل التجارب التي يسعى من خلالها القاص إلى إنتاج تجربته الإبداعية، وانطلاقا من هذا فإن بعضا من نصوص الموكب قد حفلت باستدعاء شخصيات أدبية إن على مستوى استدعاء الاسم أم على مستوى استدعاء بعض من لوازمه أو أقواله. ومن بين التقنيات التي وظفها بعض القاصين في استدعاء الشخصيات الأدبية نجد تقنية التصدير مع التصريح بالاسم كما فعل القاص محمد حماس في نص "رحيل السيد سين" الذي افتتن بنص عبد الرحمان منيف والذي يتقاطع مع موضوع القصة التي تتحدث عن روائي مهووس بالكتابة والإبداع ومراقبة الآخرين لنسج خيوط حكاياه، فكان التصدير "ربما كان علي أن أجعل كل جزء في حياتي يحوي جزءا من كل جزء في حياة الأناس الآخرين، كما في الرواية حيث كل جزء يتصل حيويا بالكل"، وفي النص نفسه يستدعي الكاتب الأمريكي ارنست همنجواي الذي أبدع رواية "العجوز والبحر" فصوره وهو يحمل بندقية والده ويفرغ ما بداخلها في جوفه منتحرا، وباستخدام التقنية نفسها، تقنية الاستدعاء بالاسم، استحضر القاص ميمون حرش في "ريف الحسناء" الشاعر محمود درويش، في نص ثوري بامتياز، فالسارد يتحدث عن شخصية تتجول بين زقاق المدينة وشوارعها وهو يتصفح الأرامل والأطفال المتشردين، متأملا كل أنواع البؤس والغبن الاجتماعي لتجد نفسها تردد مع محمود درويش"أمشي وعلى كتفي نعشي"، فتتماهى الشخصية مع الشاعر وتعتبر نفسها أيضا معنية بالمعنى الشعري، "لست وحدك يا محمود"، ومنه يتضح أن القاص قد استحضر الشخصية بالاسم، إضافة إلى استدعاء سطر شعري دلالته تستجيب لأفق الرؤيا الاجتماعية للنص القصصي، كما استدعى أيضا "موبي ديك" رواية الأمريكي هيرمان ملفل وهي قصة الحوت الكبير الذي حطم السفينة ودمر كل أجزائها، هذا الفعل التدميري والإجرامي هو الذي جعل القاص يستحضره في نص "ليس منا من يصالح منكم" حيث يسرد السارد قصة البطل وهو يتذكر جدته التي تكن كرها جامحا للبحر لأنه التهم زوجها الغالي، وتعتبر كل من تصالح معه ومع حيتانه وأسماكه متصالحا مع العدو مهما كان انتماؤه للعائلة، أما نور الدين كرماط فقد استدعى شخصيتين أدبيتين إحداهما غربية وتتمثل في الكاتبة الانجليزية أغاتا كريستي، والثانية عربية وتتمثل في الكاتب المصري نجيب الكيلاني، فإذا كانت الأولى متخصصة في الأدب البوليسي والكتابة الإجرامية، فإن نجيب الكيلاني هو الكاتب الملتزم بقضايا المجتمع والأخلاق إلى درجة تصنيفه ضمن مجموعة الأدب الإسلامي، حيث تستحوذ الشخصيتان الأدبيتان على فكر ذلك المهووس بالأدب والروايات، حيث تحضر الروح الفتية في روايات كريستي وتحضر الشخصيات الطيبة والرغبة في التكوين الفكري في نصوص الكيلاني.
ويبدو أن استدعاء الشخصيات الأدبية قد اتخذ منحى جديدا عند امباركي الذي جعل أحد شخوصه تنتحل صفة أحد عمالقة الفن الروائي في أمريكا اللاتينية "كولومبيا" والعالم كله، إنه ذاك المبدع الذي يتحدث عن انجازاته الأدبية وفتوحاته الروائية، معتزا بتوقيع روايته لإحدى المعجبات باسم "غابرييل غارسيا ماركيز". ويتبدى لنا ماركيز مرة أخرى في نصه "صبي في ليل البحر" حيث تتصفح الشخصية الساردة أحوال الناس في مدينة السعيدية ليلا، بعد أن تصفحت نهارا رواية "مائة عام من العزلة" التي تحكي عن قرية ماكوندو التي تغلغلت في أعماقه، فتبدت له القرية المنكوبة الفقيرة مجسدة في منظر صبي بئيس على رصيف السعيدية ليلا، وبتقنية المؤتلف والمختلف يستدعي أحمد العتروس فان كوخ، وأمل دنقل والحلاج في نصه "غرفة باريسية" حيث الشخصيات بأمكنتها الخاصة تدخل في علاقة تصادمية مع مكان الشخصة التي تعيش في غرفة في باريس، إضافة إلى استدعاء الشخصية باسمها، فقد تم اعتماد تقنية استدعاء الشخصية بأحد لوازمها، كالأقوال مثلا كما فعل محمد حماس عندما جعلنا نستحضر الشاعر امرؤ القيس في قوله: تراجعت مرتعشة خائفة مثل أرنب كادت مخالب صقر هوت عليه من عل تنغرس بين أضلعه".
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
والأمر نفسه عند نور الدين الصغير وهو يستحضر أحمد شوقي من خلال بيته المشهور:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
إذ قال: "قام لهما وفاهما التبجيلا"، مع اختلاف بل تناقض في السياق العام بين النص الشعري والنص القصصي.
أما القاص أبو نزار فقد استحضر الشاعر أبا تمام في بيته المشهور:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
من خلال عنوان نصه "الرقص أصدق أنباء من الكتب".
3-1) شخصية تراثية شعبية:
نقصد بالشخصية التراثية الشعبية، تلك الأسماء التي بصمت بوجودها على المجتمع بمواقفها ومكانتها، بفعل أو سلوكات أو أقوال، سجلها المجتمع الشفهي فتحول إلى تسجيل تاريخي، ثم تحولت بعد ذلك إلى رموز ودلالات يستحضرها المبدع لأسباب فنية وموضوعاتية متعددة تستجيب والتجربة الإبداعية. ويصبح بذلك البحث في عمق هذه الشخصيات التراثية، في الحقيقة، بحثا في عمق التاريخ والهوية الشعبية والمجتمعية. ومن بين الشخصيات التراثية الشعبية التي أرخت لحضورها في هذه المجاميع القصصية، والتي لا تزال المنطقة الشرقية تحتفظ بذكراها نجد"عمي بوجمعة البوكسور" الملاكم، الذي وجد فضاءه ضمن نص القاص خالد مزياني، فأهداه إلى الشخصية نفسها، يقول: "مرفوعة إلى روح عمي بوجمعة الملاكم، وجدة". أما النص فهو عبارة عن نوستالجيا، تعود بالذاكرة المتلقية إلى التاريخ الذي احتضن هذه الشخصية التراثية فيبدأ كلامه بـ"كان بطلنا المفضل وربما بطلنا الوحيد"، فيخوض إذاك القاص في سرد تفاصيل عمي بوجمعة وحكاياته مع التي كانت حافلة بالانجازات. فحضور الشخصية هنا اتخذ بعدا سرديا حكائيا عنها، وتشهد الحلقة في باب عبد الوهاب عن تجمعاته رفقة محبيه ومرافقيه.
كما تحضر أيضا من ضمن الشخصيات التراثية الشعبية شخصية عيشة قنديشة، هذه الشخصية الحقيقية التي تحولت بفعل تنامي المحكيات عنها إلى شخصية أسطورية خرافية. وقد استحضرها القاص محمد حماس في نصه "موديل" معتمدا في ذلك على الصورة التي يستدعيها المجتمع، وهي صورة المرأة المخيفة التي تثير الرعب والفزع بمجرد ذكر اسمها، إلى درجة تحولت إلى جنية، جاء في النص:"قصتك تخيفني وتبعث الفزع في قلبي وهي تذكرني بعيشة قنديشة، لالة عيشة المجذوبة، مولاة الواد". فكتب التاريخ والمقاومة بالخصوص تشير إلى نضال المرأة المغربية وبسالتها في المواقف البطولية، من بين النسوة نجد عيشة، عائشة" التي عرفت بجمالها الفائق، وحفاظها على شرفها وشرف المرأة المغربية عموما، إلى درجة وسمت بعائشة القديسة، وقد طال اللحن لتصبح قنديشة، وربما السبب في ذلك أيضا راجع إلى أن بعض الروايات تقول أن عايشة كانت تقوم بتشويه صورتها وتزييف جمالها حتى لا تكون مطمعا للجنود الفرنسيين فيكتشفون ما تخفيه من أسلحة تزود بها المقاومين في السهول والجبال والوديان.
أما القاص ميمون حرش فقد استدعى في مجموعته "ريف الحسناء" شخصية تراثية تنتمي إلى زمن الحكاية الخرافية، إنها شخصية "الغولة ثامزا" وهي شخصية خيالية نسجتها الجدات الريفيات منذ الغابر من الأزمان قصد ترهيب الأطفال وتخويفهم إن هم حاولوا الخروج عن العرف، أو الإخلال بنظام التأدب وطقوسه، يقول "كانت تحكي بنبرة حزن غريب، لكن دون صراخ، ولا بكاء، الشاب كان يصيخ السمع كطفل يسمع حكاية جدته حول "ثامزا" التي كانت تأكل الأطفال الأشقياء"60، فحضور هذه الشخصية جاء في إطار تشبيه بين سياقين، إذ تشابهت وضعية الشاب المتلقي لقصة المرأة، ووضعية الطفل المتلقي لقصة الغولة "ثامزا".
* * * *
2) استدعاء التراث الغنائي الشعبي
إن قيمة الحكي تستمد من أمور عدة، منها ما هو موضوعاتي ومنها ما هو أسلوبي، فإذا تم حبك الموضوعات بفنية عالية تمكن المبدع من الأخذ بتلابيب عقل المتلقي ووجدانه. وهذا ينطبق على الحكاية الشعبية التراثية التي تفننت جداتنا في سردها إن ترهيبا وإن ترغيبا، سواء غنائيا أم سرديا، والقاص علي عبدوس يبني نصه على بنية تراثية شعبية بامتياز، تدخل القارئ من عنوان النص "الحاجة" إلى عالم مليء بالأسرار الشعبية والحكاية، فمن تراها هذه الحاجة؟ النص يقوم على وصف دقيق لتفاصيل عرس مغربي تراثي قائم على إيقاعات منبعثة من البندير، وتمايلات الجسد الأنثوي المتناغم مع الإيقاعات، هذه التفاصيل ما كانت لتتسرب إلى الوجدان إلا بوجود مقطع غنائي شعبي يرسم تفاصل قصة شعبية تراثية يقول مطلعها:
شربنا من راس العين
منين كان الما زين
منين كثرو ليدين
تخلط الما والطين
ودائما مع التراث الشعبي الغنائي، فان القاص عبد الله زروال يجعلنا أمام أغنية شعبية راقية تدخل في إطار الغناء الملتزم الذي خطته مجموعة ناس الغيوان لنفسها، وهو خط الالتزام بقضايا المجتمع وهمومه الحياتية المعيشية، والتي رددتها ولا تزال ترددها إلى الآن الأجيال المتلاحقة:
"يا أهل الحال
امتى يصفى الحال"
لكن القاص قد قام بتحوير القضية من موضوعة اجتماعية سياسية إلى قضية شكلية ترتبط بمظهر الشخصية وهي تتطلع إلى نفسها في المرآة وقد انتشر البياض وطغى على السواد، مما يفتح المجال أمام تأويل الدلالة بين المقطع الغنائي والحالة النفسية والاجتماعية للشخصية.
وضمن التراث الشعبي أيضا، يعود بنا عادل التكفاوي إلى مرحلة الطفولة والمراهقة عبر سمفونية الزهرة التي كانت تفقد في كل لحظة وريقاتها بدافع معرفة الحظ، سأنجح، لن انجح، تحبني، لا تحبني، يقول القاص مستحضرا هذا الفعل التراثي الذي ربما لم يعد الجيل يعرفه بفعل تنامي الظواهر الالكترونية الحديثة: "محظوظ، لست محظوظا،يا فم تلعثم واخطئ النطق، يا زهرة اكذبي".
* * * *
3) استدعاء الأمكنة التراثية:
المكان في العمل الإبداعي ضرورة فنية وجدلية، وهو يتخذ أبعاده من خلال علاقته بالعناصر الأخرى المكونة للعمل الأدبي، مثل الشخصية والحدث، والموضوع. في هذه المجاميع القصصية تنوع المكان وتوزع عبر تيمات مختلفة، إلا أن المكان التراثي قد حضر بقوة، ولعل أول مكان يؤكد حضوره في نص ينتمي صاحبه إلى الجهة الشرقية هو "باب سيدي عبد الوهاب وساحته" التراثية التي عرفت عبر التاريخ باعتبارها حاضنة لأهم مقوم من مقومات فنون الفرجة وهي الحلقة، باب سيدي عبد الوهاب الذي لا يزال صامدا، إلى جانب باب الغربي، وشامخا في وجه التحولات العمرانية المهيبة، وقد استحضره كثير من القاصين في هذه الأعمال، وإذا عدنا إلى شخصية عمي بوجمعة، فإنه كان مرتبطا بالباب وساحته، باعتباره الفضاء الذي كان يمارس فيه طقوس الحلقة والملاكمة الفرجوية، يقول خالد مزياني، "لا زلت أذكر باب عبد الوهاب، الحلقة وأبطالها التي تركت بغيابها نهائيا شرخا وفراغا في الهوية الوجدية". هذا المقطع يجعلنا نقف عند العديد من الدلالات المتعلقة بالمكان، فهو مكمن الهوية الوجدية، وهو تاريخ المدينة، ومكان تجمهر الناس، وهو مكان الاستمتاع، وهو أيضا مكان لكسب القوت اليومي، والباب هو المنفذ إلى الداخل وهو أيضا السبيل إلى الخارج، فهو الملاذ وهو الانفتاح أيضا، وهو مكان الحلايقي الذي تسلح بكل أنواع الحكي والسرد وتقنياتهما، مازجا ذلك بحركات جسدية خفيفة رشيقة مموجة بإيقاعات موسيقية تراثية بآلات قديمة، فيبهر ويمتع المتفرج الذي يجود ببعض الدريهمات بطريقة عفوية لا غصب فيها، وهو المكان نفسه أيضا التي استحضره القاص نفسه في نص سابق عنوانه"لا جديد تحت السماء".
أما القاص محمد حماس، فقد استحضر مكانا شبيها له إن لم نقل هو المكان نفسه والطقوس نفسها ولكن في مدينة مراكش، إنه "جامع الفنا" حيث يستدعي هذا المكان في حديثه عن السيد سين" وهو يطل من برجه المعزول على ساحة جامع الفنا، التي تعج بالخلق في حركات متنافرة ومتصارعة ومتآلفة ومنسجمة، تتعالى صيحاتهم، يقول:"ثم ينهض يغادر مكتبه يحضر بعض القهوة ثم يقف قبالة النافذة المطلة على جامع الفنا" بينما أكتفي بالنظر إليه من مكاني، انظر إلى كل هؤلاء القوم إنهم يختزلون واقعهم كله هنا في هذه الساحة".
* * * *
خلاصات وملاحظات:
إن التراث إذاً، هو هذه المرجعية التي يستمد منها القاص المبدع رؤيته للنص وللمجتمع على حد سواء، والنصوص التي كانت مجالا للدراسة هي جزء من مجموعة قصصية توزعت وتنوعت.
انطلاقا مما سبق يتضح أن المبدع المغربي لا يزال يربط صلته بالتراث على اختلاف أنواعه، والسبب في ذلك راجع إلى مجموعة من العوامل. لقد أفضت بنا هذه الدراسة إلى رصد مجموعة من الملاحظات من أهمها:
- توظيف التراث في النصوص القصصية كان نتيجة رغبة القاص في إكساب النص القصصي صبغة الأصالة والانتماء المحلي والأدبي والفكري.
- إن العودة إلى توظيف التراث هي عودة إلى الهوية سواء في بعدها المحلي أم العالمي.
- تنوع استدعاء الشخصيات الأدبية والشعبية والتاريخية مابين استدعائها بالاسم أو بأحد قرائنها كأقوال أو أفعال.
- استدعاء الأمكنة التراثية، إضافة إلى استدعاء الحكاية الشعبية والأغنية التراثية والأمثال الشعبية أيضا.
- تنوع صيغ توظيف التراث وأساليب استدعائه، بين التوظيف السطحي، والتوظيف العميق لإكسابه معاني جديدة ودلالات مستمدة من روح الواقع المعيش، زيادة على توظيف اتخذ بعدا نوستالجيا تذكريا.
- بعض الشخصيات التي تم استدعاؤها ثم توظيفها بشكل عكسي لا ينسجم مع صفاتها الأصلية، والسبب في ذلك راجع إلى رغبة المبدع في إكساب الشخصية بعدا فنيا موضوعاتيا مناسبا لروح العصر.
* * * *
(الدكتورة إلهام الصنابي باحثة أكاديمية مغربية، عضو اللجنة العلمية للمقهى الأدبي لاميرابيل وجدة، لها عدة إسهامات في مجال النقد الأدبي ومتابعة مستمرة للمنتوج الأدبي نظما وسردا ونقدا خاصة بالجهة الشرقية، تشتغل بسلك التدريس، الناظور)