لئن لم تتطرق رواية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» (منشورات الاختلاف ودار ضفاف) للكاتب الجزائري سعيد خطيبي للأحداث المأسوية التي شهدتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي، وطبعت عقداً بكامله بوحشيتها، إلا أن بنية الرواية والتصور السردي للأحداث والجو العام للنص، بدت انعكاساً لها في صورة أو أخرى، وكأنما السياسي هنا يقترح شكل كتابته. بدت أشباح الحرب الفاحشة حاضرة، حتى قبل أن تندلع شرارتها الفعلية. فالجو المتوتر في الرواية، السرد المتلاحق، وضبابية الرؤية، إضافة إلى العنف في التحولات على مستوى الشعور والسلوك، أمور ساهمت في جعل الرواية نصاً مفصلياً يتعاطى مع أطروحة أكبر من مجرد مدينة هامشية، يختارها الروائي فضاء للأحداث وحركة الشخصيات.
لقد وفّر دنو آلة القتل الرهيبة التي ستحصد آلاف البشر مناسبة لتكثيف السرد وارتكازه على العلاقة التي تجمع جوزيف بكتابات إيزابيل من ناحية، وبسليمان تلك الشخصية التي لا تخلو من غرابة من ناحية ثانية. وثالثاً بالمدينة وتحولاتها، إضافة إلى هاجس الكتابة وتدوين يومياته.
يأتي التحول في المشاعر والموقف من الآخر كمقدمة للأحداث ونتيجة استباقية لها في الوقت نفسه. هذا التحول الذي أضحى يحكم حياة جوزيف ومعه سليمان، رفيقه وقرينه، إنما هو صنيعة الحرب التي لم تقع بعد في شكل كامل وفي ضوء الثقل غير المرئي للحدث، الذي سيكشف هويات بعض شخصيات الرواية ويعلن مراوغة تأخذ وجوهاً عدة.
في زمن ما قبل الكارثة تتفكك الشخصية المركزية، ويظهر السرد مخاوفها التي تتحول رعباً وكابوساً مستمراً لا يمكن القضاء عليه، حتى بعد عودة جوزيف إلى فرنسا. لا تتحول الشخصية فحسب، خلال هذه الأيام المأزومة، إنما تصبح موضوعاً لتحولات المدينة وسكانها. تحولات تكشف الخلل في علاقة مريرة بالمدينة التي يشبهها السارد بحفرة، ويبقى هاجس الكتابة لدى جوزيف، هو في شكل أو آخر، وسيلة للتشبث بالحياة، أو صناعة أثر يذكر به بعد مماته.
يبدو جوزيف شخصاً مأزوماً، وأزمته مركبة. بشر قاسمهم الهواء والصلاة يخونونه في لحظة، ومدينة كانت ظنينة بكل شيء، وأضافت لهذا عدوانية تفجرت ضد الآخر في صورة عامة وليس فقط الأجنبي، إنما حتى الجزائري الذي يختلف برأي أو سلوك.
صورة المجاهد
في الرواية يبدو سليمان، رفيق جوزيف في الحرب والعيش، مستلباً ومقهوراً ومفرغاً من الفاعلية، بعد رفض الحزب الوطني الإقرار بدوره في حرب التحرير. فلم يحصل على بطاقة مجاهد مثل بقية الرفاق، والسبب وصف أحد قادة المجاهدين له بـ «المخنث» بعدما أظهر قدراً من اللطف يتعارض مع صورة «المجاهد،» التي أضحت مقدسة يستحيل المساس بها.
حوّل المجاهدون سليمان إلى ضحية نتيجة تطرف نظرتهم المثالية لأنفسهم. لم يعد سليمان سوى مجرد ظل للفرنسي. في الواقع تبدو كلتا الشخصيتين، سليمان والفرنسي، ضحية المجاهدين إذ أصبحا منبوذين ولا يتمتعان بالمميزات التي ينالها المجاهدون أو قدامى المحاربين، يعيشان على هامش مدينة تعادي حتى نفسها.
تصور الرواية المجتمع وهو يتداعى إلى أطراف وأجزاء. مجتمع يودع تماسكه ويتخلى عن وحدته، ويبدو الوجود في حال من الهشاشة. فالكاتب الجزائري يعود إلى أواخر الثمانينات الميلادية، إلى الأيام القليلة التي سبقت الانتخابات البرلمانية وكانت تميل إلى كفة حزب «العدالة» الذي وعد أنصاره بحياة رخية والعزم على تأميم ممتلكات الأجانب وإعادة توزيعها عليهم بالعدل.
تسرد الرواية الأحداث من وجهة نظر جوزيف الفرنسي الذي يترك منزله في الضاحية الباريسية لينتقل للعيش في مدينة بلا ملامح. يشهد الفرنسي تغير المشاعر حيال الأجانب، تبدل المواقف من الذين يحملون رأياً يخالف الجماعات الدينية. تظهر المدينة نائية إلا أن الإشارات الأولى للأحداث الوحشية تتجلى بوضوح فيها.
وهو يعيش هذه الأيام الصعبة، يدفع جوزيف الخطر الوشيك بالتدوين السريع لحياته، سعياً إلى التخفف من حدة القلق. لم تخطر له الكتابة من قبل، هو الذي وهب سنوات حياته بعد الحرب، للحفاظ على علاقته بسليمان وتربية القطط والرسم ورمي ما يرسم في سلة المهملات. سنوات امتدت من العام 1951 تاريخ قدومه بدعوة من سليمان الذي سيصير رفيقه وشريك وجوده في مدينة صهباء ومتوحدة، بعدما تعرّف إليه جندياً في الكتيبة التي يقودها في الحرب العالمية الثانية، ومن حينه سيتلازمان، حتى توحدا وصار الناس لا يفرقون بينهما. أربعون عاماً يعيشها جوزيف في مدينة تعادي حتى نفسها، أربعون عاماً من الشك والارتياب ومن الأسئلة الوجودية: «لماذا أنا هنا ولست هناك»؟
لعلّ المهم في حياة هذه الشخصية هو حضور المستشرقة إيزابيل إيبرهارت الخاطف في حياته، يستدعي صورتها ونتف من حياتها وشظايا من مغامراتها في هذه المدينة، قبل أن تلقى حتفها في صورة غامضة، إذ تجرفها مياه الوادي. سيرتبط بكتاباتها بعد أن عثر على مخطوط نادر لها، تحكي فيه جزءاً معتماً من يومياتها الصاخبة. سيقوم بتحويل فصول المخطوط إلى لوحات تشكيلية. تؤثر إيزابيل في حياته وتلقي بظلال ملتبسة عليها، ويصبح كأن لم يكن، سوى بعدما عثر على مخطوطها الذي سيرافقه طوال حياته. على العكس من رفيقه سليمان الذي لم ترقَ له هذه المسترجلة ولم يرَ في حياتها شيئاً مهماً يجعل من رفيقه يتعلق بها على هذا النحو المرضي. لن يعرف جوزيف على وجه التحديد، هل أحب نصوص إيزابيل فقط، أم أحبها هي أيضاً؟ هي التي لم تكن مغرية جنسياً، مجرد جسد نحيف يفتقر الى التضاريس اللافتة، ومع ذلك عرفت عشاقاً وخاضت علاقات في الجزائر وتونس وفرنسا وسويسرا. اكتشف إيزابيل بعد مجيئه بمدة، وبقي أربعين عاماً يقرأ لها وعنها ويحاول تخيل حياتها، لو عاشت بجنونها وشغفها حتى الأربعين. يشعر أن إيزابيل، التي عرفت بقلقها المزمن وبرغبتها في التغير والتجدد، صورة مؤنثة منه هو، نصرانية متأسلمة، قلقة وملعونة، جرفها الوادي وتوارت تحت الأرض.
مدينة تتكوّر على نفسها
لا يكف جوزيف عن مراقبة مدينة تتكور على نفسها، تتداخل في ذهنه الذكريات، ويفكر هو الذي بلغ السبعين وخاض حربين أنه يستحق مكاناً يليق بعجزه، وليس حفرة تحمل صفة مدينة، طالما بدت له تجاهر بخياناتها، تنقلب على محبيها تماماً كما فعلت مع إيزابيل.
سليمان هو كل ما يملك في هذه المدينة العاقة والقبيحة كما يراها، المثيرة للاشمئزاز، هو عائلته وأهله، سبب خصوماته وبوصلة مباهجه. يحرص جوزيف على ألا يثير انتباه أحد، هو الذي لا يرى نفسه سوى بصفته فرنسياً تافهاً، لا تربطه بوطنه أكثر من بطاقة هوية. هو فرنسي قرر أن يعيش في هذه البقعة الموبوءة بالخلافات القبلية.
يعتقـــد أنه يعيش في حلم سيئ النهايــات وهو يشاهد كل شيء ينهار أمام عينيه بينما يستولي عليه شعور طاغٍ بالغــربة. حلم بدأ قبل أربعة عقود واستحال كابوساً. يتحايل على الزمن وعلى النسيان بالكتابة والرسم، ولكن مع الوقت يتحول الى رجل ميؤوس، وحطام كائن حي. لا أحد بجواره في لحظة شديدة القتامة، سوى سليمان وطيف إيزابيل الشرهة للترحال وللجنس السادي والمازوشي، والتحول من دور المسيطر إلى المسَيطر عليها. يعيش جوزيف بذهنية محارب يرفض التنازل عن بندقيته حتى في لحظات السلم. عنيف مع نفسه وفظ وتافه مع الآخرين. ولكن لم يكن أسوأ من إيزابيل، التي كانت أكثر تطرفاً منه في علاقاتها مع عائلتها.
ستنتهي الأيام الجحيمية ولم يصل حزب العدالة الذي توعده وأمثاله من الأجانب بسوء العاقبة إلى كرسي الحكم، إذ ألغيت الانتخابات بعد مغادرة الرئيس منصبه في استقالة، تصفها الرواية بالاستعراضية، ليعود كل شيء إلى نقطة الصفر مع عودة الرجل الأسمر من المغرب. كان جوزيف يعتقد بأن الخطر زال، لكنّ الموت بات وشيكاً، ويكتشف أن الطرد من البلد أصبح أرحم، فيقرر العودة إلى فرنسا هو الذي لم يتعود على الحياة الفرنسية التي غادرها شاباً، سيكتب وصيته ويوصي أن يدفنوه في مربع المسلمين في مقبرة «شيز» الباريسية.
«أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» ليست رواية شخصيات تعيش ضياعاً وقلقاً في الهوية، إنما تحمل أيضاً مقداراً ليس هيناً من النقد المضمر لـ «المجاهدين» المتطرفين، النقد الذي ينزع الأسطورة التي أحاطت بنضالهم، ويبدد الهالة التي سترافقهم طويلاً.
جريدة الحياة