خلال حوار صحافي، أبدى نعوم تشومسكي استغرابه من عدم اندلاع أي تحرّك شعبي ملموس عام 2008 إثر الأزمة المالية الخانقة التي شهدها النظام الرأسمالي، إضافة إلى سلسلة الأزمات التي طوقته سابقاً. في ذلك الحوار أيضاً، تساءل عن عدم حصول أي ردود فعل مثلما حصل في أزمة الكساد العظيم عام 1929. وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة «غارديان» اللندنية أخيراً، يشير عالم الاجتماع والاقتصاد السياسي الألماني فولفغانغ شتريك، إلى أنّ الرأسمالية قبل أن تذهب إلى الجحيم، ستظل معلقة في المستقبل المنظور، محتضرةً أو ميتةً، بسبب الجرعة الزائدة التي تولدها بشكل ذاتي، غير أنّها ستبقى ملاصقة لنا، لأن لا أحد يملك القدرة لإزاحة جثتها المتعفنة بعيداً عن الطريق. وكانت المناضلة الماركسية روزا لوكسمبورغ قد استعارت فكرة أنغلز ودوّنت ــ كردة فعل على اندلاع الحرب العالمية الأولى ـــ أن المجتمع البرجوازي يقف على مفترق طرق حاد، إما نحو التحول إلى الاشتراكية أو الانحدار إلى الهمجية.
ويبدو أن المجتمعات الصناعية انتقت الخيار الثاني، لتدخل في نفق طويل من التخبط السياسي والفوضى الاقتصادية والانهيارات المالية المتواصلة، في ظل تبلور ظاهرة اليسار الجديد وشيوع الاستياء الاجتماعي على امتداد قارات عدة، إلى جانب غياب زعماء مفصلين في آلية الفكر الرأسمالي. في المقابل، فإنّه في ذروة الأزمة المالية الأخيرة، شكّك المفكّر السلوفيني سلافوي جيجك في انهيار النظام الرأسمالي، مردّداً ما ذكره فريدريك جونسون قبل سنوات خلال الهيمنة النيوليبرالية، بأنه ليس من المنطق أن كل هذا البناء سينهار بسهولة، مؤكداً أن احتلال «وول ستريت» لا يعني البتة الوصول إلى نهاية الرأسمالية.
عن النهاية الحتمية للرأسمالية كنظام اقتصادي، يتساءل بيتر فريز في كتابه «أربعة خيارات مستقبلية... حياة ما بعد الرأسمالية» الصادر حديثاً عن «دار فيرسو» (لندن – نيويورك)، عما إذا كان الرأسمال سيعلن نهاية عصره بسهولة ويسر، فاسحاً الطريق لبدائل سياسية واقتصادية أخرى. يحاول فريز الإجابة عن هواجس إنسانية تبدو قديمة، معززاً التكهنات السياسية التي طالما طرحت فكرة تقاطع التكنولوجيا مع الحياة، خصوصاً مع فوران قيم الثقافة الرقمية على مستويات حياتية عدة.
يطرح فريز أربعة خيارات لمستقبل البشرية ما بعد الرأسمالية، واصفاً اثنين من الخيارات بالجحيم، والخيارين الآخرين بالنعيم لما يمكن أن يشكلا مستقبلاً واعداً. هكذا يحدد الذكاء الصناعي (الإنسان الآلي) باعتباره سمة العصر المقبل، إلى جانب المصادر التي تعتمد عليها التكنولوجيا، وتغير المناخ، مضيفاً أن الطوبائية الفكرية ستكون خياراً، بينما ستكون «الروبوتية» محور مجتمعاتنا، وستنفد إلى كل تفاصيل حياتنا. خلال الأعوام القليلة المقبلة، ستغدو أجهزة الكومبيوتر أكثر نفوذاً في الحياة، وستخترق الروبوتات منازلنا وغرف نومنا، وستحل أماكننا في العمل. لا يبدو هذا السيناريو بعيداً بل لا مفر منه، في ظل لهاث الشركات الكبرى نحو توظيف أجهزة الذكاء الصناعي بديلاً من العمال، في محاولة للتملص من مطالبهم لتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور، والأهم... عضويتهم في النقابات.
آلية الاشتراكية موجودة لكن الإبداعات التي تنتج الطاقة غير متوافرة
تقف مقاربة فريز على الضفة الأخرى مما تطرحه بعض أهم الأفكار المستقبلية، التي تروج لمفهوم حياة الدعة التي ستعيشها البشرية، أو أغلبها، إذ سيتحرر الإنسان من المهمات اليومية غير المثمرة، وسيتحول الكثير منا إلى ما يعزز اهتمامه الذاتي على صعيد الثقافة والفن والعلوم والمعرفة والترفيه. لكن الاحتكار سيظل قائماً بعد أن تسيطر حفنة قليلة من أصحاب رؤوس الأموال على هذه الثروة ومصادرها.
يعدد الكاتب الخيارات الأربعة جاعلاً منها فصول كتابه، مفتتحاً الكتاب بالخيار الأول: «الشيوعية... مساواة ووفرة» محاولاً إعادة الكلمة إلى معناها الفكري الأول الذي سنّه كارل ماركس، ولا تعني بطبيعة الحال هيمنة الحزب الواحد، وإنما التحولات الجذرية التي ستطرأ على المجتمع ليغدو الأكثر إنتاجاً، وستكون المساواة الصفة الأبرز، تأكيداً لمقولة ماركس الشهيرة: «كل حسب طاقته، كل حسب حاجته».
«الاستئجار... هرمية السلطة والوفرة» هو الخيار الثاني الذي يصف فريز محدداته بالوفرة التي ستكون محتكرة من قبل فئة صغيرة تتحكم بمقتضياتها ومساراتها. ستسيطر تلك النخبة ليس على الإنسان الآلي فحسب، بل على شيفرة المعلومات التي تحدد طاقته ومهام الأعمال الموكلة له، في ظل عالم يكون فيه الروبوت قد استحوذ على كل شيء تقريباً، وستعمل شريحة خاصة من المبرمجين والفنيين على إدارة هذا النظام. ولعل الفاصل الأهم في هذه المرحلة يتمحور حول برمجة الإنسان الآلي التي ستكون حكراً للنخبة ضمن حقوق الملكية. أي بمعنى آخر، عليك أن تدفع للحصول على امتيازات الإنسان الآلي، ولكن كيف لك أن تحصل على المال الكافي في الوقت الذي تكون قد شغلت فيه «الروبوتات» أغلب الوظائف، مما سينتج، بلا شك، مجاميع كبيرة من العاطلين الذين ليس بإمكانهم تأمين أثمان الاستهلاك.
في الخيار الثالث المعنون «الاشتراكية... المساواة والندرة»، يشير فريز إلى أنه ليست للاشتراكية طرق مختصرة لتحقيق ما تصبو إليه، فالآلية موجودة، غير أن الإبداعات التي تنتج الطاقة غير متوافرة. لذا تسعى الدولة عادة لإعادة ترتيب البنية التحتية وأنماط الاستهلاك في محاولة للوصول إلى توازن بين العرض والطلب بما يتوافق مع متطلبات المجتمع الأساسية، عبر نسخة من اشتراكية غير مرتبطة بالشيوعية، إلى جانب أحد أشكال التخطيط الاقتصادي المعاصر المناقض لتخطيطات القرن الماضي. كذلك، يمكن للاقتصاد في الاشتراكية أن يوظف التخطيط العقلاني في ما يخص علاقة السوق مع الإنتاجية، وتحديد مستويات الاستهلاك وتحديد الأسعار وفقاً لمداخيل المستهلكين. لكن ثمة مشكلة تكمن في الحفاظ على البيئة، إذ سيتم تحديد مبالغ جزائية في ما يتعلق بانبعاثات الكربون، إضافة إلى الصراع القائم بين الأجيال في ما يتعلق بالإنتاج المعروض في الأسواق ونوعيته.
«الإبادة وهرمية السلطة» هو عنوان الفصل الرابع والأخير، الذي يمثل الخيار المرعب، حيث انعدام المساواة وشيوع الندرة. والنتيجة ستكون عصراً إقطاعياً جديداً، يحتمي فيه الأغنياء في مقاطعاتهم الخاصة والمحصنة، فيما ستضع السلطات الحاكمة الفائض من البشر في سجون ومخيمات للاجئين، باعتبار أن هذا الكم الكبير منهم غير منتج وغير مستهلك أيضاً، لذا فهو غير ضروري. وربما ستجد النخب الحاكمة طرقاً مبتكرة لإبادة الفقراء لانتفاء الحاجة إليهم. وهو ما يؤكده فريز، موضحاً أن الإبادة هي الحل الأكثر احتمالاً في خيارات المستقبل بالنسبة إلى سلطات تحدد أهمية الإنسان وفقاً لحجم ونوعية استهلاكه، وستكون الحروب المحلية والإقليمية والأوبئة والمجاعات، إحدى صور تلك الإبادة.
ويبدو أن للمسألة برمتها أكثر من خيار اقتصادي وسياسي؛ إذ كيف يمكن للبشرية، أمام هذه الانتقالات المفصلية، أن تحلّ أزمة ندرة المواد والقدرة على إيجاد مصادر رخيصة للطاقة، واستخراج أو إعادة تدوير المواد الخام... وما قدرة الأرض على توفير كل هذه المتطلبات لبني البشر لتحقيق مستوى معقول لحياتهم؟ أما على المستوى السياسي، فما نوع المجتمع الذي سنكون، وكيف ستكون أقدارنا. وما هي خصائص الأواصر التي ستربطنا مع بعض في أنظمة ستتحكم الآلية بمصائرها؟
جريدة الأخبار اللبنانية