غالباَ ما يحتفظ التاريخُ الكبير للأمم والشعوب بكلمات وجمل تصمد في وجه الزمن، وتعْبُر الأجيال والثقافات والحضارات بالرغم من نسيان السياقات والأحداث التي أفرزتها. واليوم، ونحن نعيش وحشية التعامل الذي فُرِضَ على كثير من الشعوب العربية عموما، ومواطني سوريا وحلب على وجه الخصوص - من طرف الأنظمة والحلفاء، ولاعبين آخرين غربيّين وشرقيّين من القوى العظمى عالمياً وإقليميّاً-، تفرض علينا عبارةٌ تاريخية مشمئزة نفسَها بقوّة وإلحاح. إنّها جملة "أقتلوهم جميعاً، والله سيتغمّد برحمته المخلصين له منهم"
متى ظهرت هذه العبارة وأين؟ من تلفّظ بها؟ إلى من يتوجّه فعلُ القتل بصيغة الأمر؟ ومن هم الضحايا؟ وكيف تُرجِمت على أرض الواقع إلى درجة أن احتفظت بها ذاكرةُ التاريخ الانساني كمثال للأقوال والأوامر التي تفوح منها رائحةُ الدماء البشرية المستباحة باسم الدين والله لخدمة أغراض دنيوية؟
أثناء سقوط مدينة بيزيي الفرنسية في الحرب الصليبية الأولى سنة 1209، قام قائد الصليبين آنذاك، وهو أرنو أموري، بإدلاء تصريح يُعزى له – خصوصا من طرف المؤرخ والراهب الألماني سيزير دو هسطرباش الذي يؤكد هذا في ديوانه 'حوارات المعجزات' المكتوب ما بين 1229 و1223 – يقول: "أقتلوهم كلّهم فإنّ الربّ سيتقبّل المخلصين له منهم قبولا حسناً". وهو كلام قام تراثُ أعمال المؤرخين بنقله تحت شكل العبارة الشهيرة: "أقتلوهم جميعاً، والله سيتغمّد برحمته المؤمنين به منهم".
تضاربت الآراء بين المؤرخين حول مسئولية أرنو أموري في المجزرة التي أودت بحياة المئات بل الآلاف من السكان حينئذ. لكن، يقرّ أكثرُهم على أنّ أرنو أموري فرض، في بداية الحصار، على كلّ المسيحيّين الكاثولكيّين أن يخرجوا من المدينة حتى لا يكونوا ضحايا المذبحة التي كانت تنتظر من يُسمّون 'الكاطار' les cathares. وهو ما يذهب إليه ميشيل روكبير في دراسته 'بيزيي في 22 يوليوز: تشريح مجزرة معلن عنها سلفا' حيث يعتقد أنّ قتل السكان ربّما كان مدبَّراً ومخططا له عن سابق نية، قصد زرع الرعب في صفوف المدن المعارضة التي كانت محاصَرة، وتحضير مرحلة الاستسلام للصليبيّين.
ما علاقة هذه المذبحة الجماعية والمقولة المنسوبة لأرنو أموري "أقتلوهم جميعاً فإنّ الله سيرحم أحبابَه" بما يحدث في العالم العربي والإسلامي؟ الجواب يكمن في التعليق الذي أدلى به بشار الأسد على الوضعية المأساوية التي تتخبّط فيها سوريا ومدينة حلب التي دُمّرَتْ بعد حصارها من طرف جيش النظام وحلفاءه الروس والإيرانيين. فبعد استرجاع حلب في نهاية دسمبر 2016، رحّب بشار الأسد لأوّل مرة بمقابلة صحفية أجرتها معه القناة الإعلامية 'فرانس أنفو' يوم الأحد 8 يناير 2017. وردّا منه على سؤال حول القتلى المدنيين بالآلاف يعترف بأنّ كلّ الحروب قبيحة ومقيتة لكن أحيانا تكون هذه الحروب هي الثمن الذي يجب تأديته، على حدّ قوله.
دون غموض، رئيس سوريا يقبل بمسؤوليته في قتل السكان المدنيين ويفسّر ذلك بأنّ "كلّ الحروب تؤدي إلى الخراب وتقود إلى الموت. ولا يمكن لأحد أن يصف حرباً ما بأنها حسنة وأنها تمثّل الحلّ الأمثل حتى ولو كانت من أجل أسباب معقولة مثل الدفاع عن الوطن". اللافت للانتباه هنا أنّ بشار الأسد يثبت فشل الحرب في إيجاد حلول سياسية، ويعترف بأنها آلة قاتلة مدمّرة لا تسمح بتسوية الوضع الداخلي، وتهدئة حالة الغليان التي عليها ما يسميه بـ'الوطن'. وإذن فلماذا يلجأ إلى هذه الحرب اللعينة، وهو يعرف يقيناً أنها تحصد الأرواح وتخرّب الديار وتحرق الأرض وتزيد في العنف وزرع الفوضى، وتساهم في تعميق الأزمة وتكريسها؟
يتطرّق بشار الأسد للدوافع التي اضطرته إلى القصف الجوي للأحياء الآهلة بالسكان من أطفال ونساء وشيوخ، ورميها بالقنابل والبراميل المتفجرة، فيتسائل: كيف يمكن تحرير المدنيين من يد الإرهابيين في هذه المناطق (الأحياء التي يسيطر عليها المعارضون)؟ هل نتركهم تحت قيادة تفعل بهم ما تشاء، تقطع رؤوسهم وتقتلهم؟ هل من واجب الدولة أن تقف متفرّجة على ما يحدث؟ لا، بل يجب تحرير هؤلاء المدنيّين. وهذا هو الثمن الذي يجب دفعه أحياناً. وفي النهاية، يتحرّرون من الإرهابيين".
حسب ريمون آرون، الفاعل الحقيقي الغالب في أحداث التاريخ ليس هو العقل بل الجنون. يقول العقلُ هنا شيئا من قبيل: إنّ قتل وتدمير وتشريد الأبرياء من المدنيين الذين شاءت الأقدار أن تسقط الأحياءُ التي وُلدوا فيها وعاشوا في منازلها وشوارعها وبساتينها ومدارسها وأسواقها في يد المعارضين، هو فعلٌ غير مقبول ولا يمكن تبريره لأنّ المدنيين ليسوا مقاتلين. أمّا وصفه بالتحرير فهذا غير مفهوم أي مِمّا لا يفهمه عاقل. كان بالأحرى نعتُ قتلِ وتدمير وتشتيت المدنيّين بـ'العقاب' إذا ما ثبت تحالفُهم مع المعارضين المقاتلين وتقديم المساعدات لهم. وحتى في هذه الحالة فلا يمكن القبول بعقاب الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، بل وبالعقاب في صورة المحرقة الجماعية.
لكنّ الجنون، جنون السلطة والنفوذ، والتفرّد بالحقيقة وفرض الرأي الواحد يقول شيئا عبثيا ولامعقولا من قبيل: يمكن للتحرير أن يُفرَضَ على المحاصرين بالقتل وإراقة الدماء وتحطيم العمران والنفوس. وقد يبدو لكثير من القرّاء أنّنا أمام تصور جديد للتحرير. وهنا موطن الخطأ، لأنّ التحرير عن طريق طائرات الموت هو تصوّر يستمِدّ معناه من 'البشارة' القديمة التي كان أرنو أموري قد وعد بها ضحايا برنامجه الصليبي من المسيحيين الكاثوليكيين الذين كانوا يعيشون مع المسيحيين الكاطاريين كسكان، ينتمون معا لنفس المدينة (بيزيي في جنوب فرنسا)، لكن يختلفون معهم في رؤيتهم للدين المسيحي وتعاليمه وطقوسه التعبدية وعقيدة الكنيسة الرسمية في روما. كان الكاطاريون معارضين لهذه العقيدة وقاموا بتقديم قراءة نقدية للنصوص المسيحية مثل الأناجيل، واختلفوا مع عقيدة الكنيسة الرسمية في مقاربتهم لمفاهيم حول الربّ وطبيعة المسيح وقضية الخلاص ومسألة الصليب ومسائل أخرى.
وفي كلتا الحالتين، لا يخفى على أحد وجودُ توافُقٍ بين كلام بشار الأسد المعاصر ومقولة أرنو أموري الوسيطية. إنّه توافق الرئيس 'بشار' وأرنو أموري 'الصليبي' في الرسالة 'التبشيرية' التي تحمل النبأ السعيد أي 'البُشْرى' (الانجيل) لضحايا المجازر، وهم السكان المدنيون في حالة مدينة حلب السورية الشقية، والسكان الكاثولكيين في حالة مدينة بيزيي الفرنسية التعيسة.
نقطتان في ختام هذه العجالة يلزم التذكيرُ بهما. الأولى عامة: إنّ التاريخ بأخطائه وويلاته يُعيد نفسَه حتى ولو كان البشر لا يستحمّون مرّتيْن في نفس المياه. هذه هي الحقيقة التي تثبتها مأساة سكان حلب السورية. أمّا النقطة الثانية فهي خاصة: لا يمثل أرنو أموري وبشار الأسد إلا بعضَ تمظهرات الوجه البشع للإنسانية في زيها الإيديولوجي والطائفي والحربي، وهو شيء سعت -دائما وفي كلّ زمان- إلى تبريره عبارةُ 'هناك حروب عادلة' خصوصا حين تُستعمَلُ من طرف القوي القاتل المتغطرس ضد الضعيف المظلوم الذي تُستحَلُّ قيمُه ودماؤه وأوطانه وثرواتُه الطبيعية في وضح النهار. لاحِظوا أنّ نفس العبارة ممنوعة الاستعمال على هذا الضعيف المظلوم كلّما أراد الدفاع عن قضاياه العادلة، لأن مقاومته للعدوان الخارجي وصموده في وجه الاحتلال تُقدّم إلى الرأي الداخلي عند الغربيين على أنها ليست ردَّ فعلٍ، أو موقفا عادلا مشروعا وقانونيا حسب المعاهدات والمؤسسات الدولية، بل رفضاً لقيم الحرية وحقوق الإنسان تحفّزه كراهيةُ الدين والمعتقدات الإسلامية للآخرين.
وأترك القارئ، في نفس السياق، يتمتّع بما كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما ختم به خطابَه عند تسلّمه جائزة نوبل للسلام حيث كرّر على مسامع العالم أنّه فعلا توجد "حروب عادلة"، وأنّ بلاده تخوض بعضاً منها في المنطقة العربية والإسلامية، وبالخصوص في العراق وأفغانستان. يالها من مفارقة عجيبة: الحائز على أكبر جائزة سلام في النظام الدولي يبرّر الحروب، أي قتل الأبرياء وتدمير الأوطان وتمزيق النسيج الإنساني والثقافي والوطني لعديد من الدول في العالم، بكلمتيْ 'حروب عادلة' يعرف الجميعُ أنها جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الذرائعية لأمريكا التي يختزلُ المفكر نوام تشومسكي بحق، سياستها الخارجية في البعد العسكري والحربي. هل الرئيس أوباما داعية سلام أم يكون قائداً عسكريّاً أو مثقفا عضويا يدافع عن العقيدة الإيديولوجية للحزب الواحد عالميا هو 'أمريكا'؟ ألقت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في حقبة ولايتيه الاثنتين 26.171 قنبلة، على سبعة بلدان عربية وإسلامية هي سوريا والعراق وأفغانستان وليبيا واليمن والصومال وباكستان. هذه الآلاف من القنابل كانت تلقى على هذه البلدان حسب عقيدة جديدة أمريكية وغربية لم يكن يعرفها أرنو أموري قائد الجيش الصليبي تقول بـ'العمليات النظيفة'، وتضيف في استدراك منها تدّعي أنه أخلاقي يعترف بأنّ عمل القنابل النظيف ليس نظيفا مائة بالمائة، إذ هو عرضة لما يُسمّى كذبا "الأخطاء الجانبية'.
إنّ عقيدة "أقتلوهم جميعاً فإنّ الرب سيتغمّد برحمته من هو مخلص منهم له" أفرزت تاريخيا العديد من مظاهر القتل والتدمير والتهجير باسم الدين والله، وهي اليوم تأخذ –على مرأى ومسمع الجميع- أشكالا حربية وعدوانية أكثر وحشية وبربرية مما سبق، ويسعى مرتكبوها إلى تبريرها بصيغ عسكرية وعبارات سياسية خادعة مثل 'الأخطاء الجانبية'. وإنّ كلام بشار الأسد الذي يؤكد فيه أنّ الحروب قبيحة ولكن أحيانا لابد منها حتى ولو دمّرت البُنى الفوقية والتحتية للشعب والوطن لأنها ثمن تحرير المواطنين ممّن يُسمّيهم 'الإرهابيين' ، لهو كلام من نفس عقيدة الصليبي أرنو أموري بالأمس، وعقيدة التكفيريين وأمريكا وروسيا بوتين اليوم.
كاتب عربي وأكاديمي من فرنسا