أيام جديدة
بول كاستيلا، فنان وشاعر فرنسي يقيم في المغرب منذ ما يزيد على العقدين، ولد عام 1948. كتب العديد من الدراسات في مجال علم النفس والهجرة والتفاعل الثقافي، نشر بعضها ضمن مؤلف صدر له في فرنسا تحت عنوان:’الاختلاف زيادة’. وصدرت له هذه السنة رواية تحت عنوان: صعاليك أشرار. يضم هذا الكتاب، نظرتين للعالم متشابكتين: ينفتح الشعر على فن التصوير. يدعونا الفنان، من خلال تمازج لغتين فنيتين، كي نكتشف لغة تعبيرية جديدة، أطلق عليها اسم بويطوغرافيا Poétographie.
يتماهى الخطاب البصري بالخطاب اللغوي، فتتشكل صور قصائد.. يندمج البعدان ويتوحدان داخل فضاء واحد. البويطوغرافيا عمل فني مركب: تتداخل الأبعاد وتمتزج الأجناس، فتنتج بعدا تعبيريا جديدا. تسهم القصيدة إلى جانب الصورة في انتاج المعنى. يعد كل واحد منهما امتدادا للآخر، يستمدان من بعضهما المادة والجوهر. ينصهران داخل كتلة واحدة. يتكاملان مثل وجهي العملة الواحدة.
تقدم هذه الأعمال منظورا فنيا خاصا: تتلاشى الحدود بين الصورة الفوتوغرافية والومضة الشعرية. يدرك القارئ المعنى الكلي للعمل من خلال فعل المشاهدة وكذلك القراءة. لا تقوم الدلالة الكلية للعمل بالوقوف علي عنصر دون الآخر. تدخل البويطوغرافيا، انطلاقا من هذا الجانب، في باب الفن المفاهيمي، الذي يعتمد تقنية الكولاج.
تصف القصيدة المشهد بعفوية، بعيدا عن كل زخرف لغوي. يخضع النص الشعري هنا للخصائص الفنية المتعارف عليها في شعر الهايكو، نقصد تحديدا طابع الكثافة والبساطة. تتشكل القصيدة من بيت شعري واحد، موزع على ثلاثة أسطر.. يكتمل مدلول الصورة إذن داخل القصيدة. يكشف الشعر أسرار الصورة. تتميز هذه النصوص بكثافتها الدلالية وإيحاءاتها المتداخلة. تكشف الصورة بدورها جوانب منسية من الحياة. يطوع الفنان هنا مجموعة من الوسائل والتقنيات حتى يصل للصيغة المبتغاة، ويعبر عن رؤيته للعالم. منح ذلكم التمازج الحيوي للعمل امكانات عدة لكشف ما تستره الأشياء.
تتشكل بنية البويطوغرافيا انطلاقا من تنائيات ضدية، تعكس إحساسا مركبا، الشيء الذي يفسر تأرجح العمل ما بين الوجود والعدم. يتأرجح الأفق بدوره و«كأننا في النقطة القصوى للعدمية». ويمكن ملاحظة ذلك خاصة في طريقة التعاطي مع فعل المستقبل، يقول بول كاستيلا في هذا الصدد: « في منتصف النهار، يكون أي أمل، دائما غير مجدي». يعكس ذلكم أكيدا أحاسيس مركبة..
في تناول سؤال الوجود، يطرح العمل علاقة الذات بالآخر، وهي هنا علاقة تماثل أكثر من كونها علاقة تباين. الذات هنا ليست إلا انعكاسا للآخر. نواجه هنا هوية مركبة؛ في هذا السياق يقول الشاعر: «وسط الحشد\ ننظر دائما\ للآخر».
يعد هذا العمل، من جهة أخرى، تأملا في الطبيعة والحياة. يحتفي العمل بجوانب منسية في الحياة المغربية: تبرز داخل العمل ألوان الصويرة الدافئة وطبيعتها الجذابة. يرصد أحد الأعمال بشكل بارع جدل البحر واليابسة يقول الشاعر: «أصوات المحيط، بالكاد تعبر، تلك الكثبان الرملية».
تطرح بعض الأعمال طبيعة ميتة: قبعة حزينة، وبجانبها آلة النفخ، تلك ذكريات قديمة.. يتناول العمل الحياة من زاوية وبعد انساني. يبرز أحد الأعمال كيف ينعكس مشهد النخيل فوق صفحة الماء.. يتداخل الواقع بالخيال فوق صفحة الماء.. يلعب الماء هنا دور المرآة.
يزخر هذا العمل الفني بموضوعات عدة.. يشد انتباهنا ونحن نشاهد العمل، ذلك الحضور البارز لموضوعة الوقت. يظهر سؤال الوقت في الغالب متلازما مع سؤال الموت.. يتناول العمل مسألة الوقت بسخرية شديدة. نتابع مشهد الدجاج المذهول وهو يسير نحو حتفه. نرى في هذه الصورة ونحس رهبة الموت. يقول: « أعين تحدق مرعوبة،\ يمدد الناجون أعناقهم،\ وهم ينتظرون الدور». السخرية هنا هي أفضل علاج للموت.. ونقرأ في نص آخر: «لا دواء يعالج، تفكك الصلات، بين الموتى والأحياء». تسخر رؤوس الماعز المقطوعة، في عمل آخر، من الوقت، يقول الشاعر: « لا يعنيها المستقبل، لا أمل في العيون، عيون ترصد الماضي».
***
يتناول العمل موضوعة ذات رمزية كبيرة؛ نعني تحديدا موضوعة النافذة. تضطلع النوافذ داخل العمل بوظائف عديدة: تلعب دور الحواجز وكذلك الحدود. تمكننا النافذة من رؤية العالم الخارجي لما تكون مفتوحة، تعبر حينها الأصوات وكذلك الأضواء. نكتشف عبرها ما يوجد في الخارج، يقول الشاعر في ذلك: « ما وراء الواقع، يختبأ دائما، خلف النافذة». تفسح النافذة المجال للتأمل، والاكتشاف، وتؤمن من جهة أخرى التواصل بين الداخل والخارج. تحجب النافذة الرؤية لما تكون مغلقة.
يقدم العمل نظرة مزدوجة للأشياء: تبتهج الحياة في لحظات وسرعان ما تنتهي وتزول. الحياة لحظة لا بد أن تعاش. يتأرجح العمل بين شعورين. يضطرب الاحساس أمام سؤال الموت، ذلكم ما يفسر تلك الأحاسيس المركبة..
كراس المتوحد
***
طريقة للعيش قلما تحمل هم الغد والآتي
حوار مع بول كاستيلا
سيد بول كاستيلا، لو طلب منك شخص أن تقدم نفسك، ماذا تقول؟
إنه من الصعب على المرء أن يقدم نفسه، وذلك يرتبط بالظروف والمناسبات. في المغرب على سبيل المثال، غالبا ما يناديني الناس "مسيوه بول" كما هي العادة هنا بإعطاء الأولوية للاسم الشخصي. وهذا يذكرني بطفولتي، عندما أخذوني لزيارة مقاولة جدي، فصار المستخدمون يدعونني " مسيوه بول "، مثلما كانوا يدعون جدي " مسيوه كليمان" وأبي " مسيوه هنري". كان الأمر تقليدا معهودا في المقاولات العائلية. أما في أماكن أخرى، فكنت أقدم نفسي باعتباري مدرسا أو لسانيا أو فنانا فوتوغرافيا أو رحالة، أو فرنسيا مقيما في المغرب. ولدت في مدينة سانت إتيان، في مقاطعة نهر اللوار. كانت مدينة منجميين ذات تقاليد عمالية. وأنا طفل، كنت أقضي عطلة الصيف في الريف، في منطقة اللوار العليا، حيث كان والداي قد استصلحا مزرعة قديمة. هناك أحببت اللعب في الطبيعة مع بعض الأصدقاء من خلال تخيل مغامرات وشخوص عجيبة. تخيلت نفسي الهندي الأحمر والفارس والمستكشف، وكنت أجر معي رفاقي في سيناريوهات لا تخطر على بال. في باقي أيام العام، كنت أجد في الكتب مجالات تحفيز وإثارة لخيالي. كان جدي يمتلك المجموعة الكاملة من مغامرات جول فيرن العجيبة. كنت تحت الأغطية أنير بضوء مصباح بطارية ووندر حتى لا ينتبه والدي لنور الغرفة، وأسافر في باتاغونيا في آسيا الوسطى مع ميشيل ستروغوف، وعبر البحر الأحمر رفقة هانتيه دو مونفريد، وفي الصحراء مع فريزون روش، وفي التبت مقتفيا أثر خطى الاسكندر ديفيد نيل. وفي وقت لاحق، كنت أعيش خلال رحلاتي لحظات نشوة قصوى إذ أجد نفسي حقيقة وسط مشاهد قراءات طفولتي. كنت أبحث في القواميس والمكتبات عن معلومات حول اللغات البعيدة بحيث كان أفراد أسرتي يندهشون وأنا استظهر جملا كاملة تعلمتها باللغة العربية والصينية وغيرها من اللغات. في حقيقة الأمر كنت دائما شغوفا بالمختلف وبالاكتشاف، سواء ما يتعلق بثقافات الشعوب والأمم أو بمناظر البلدان الطبيعية الخلابة. أحب بالخصوص المدن والعواصم والموانئ، لما فيها من خليط السكان، ومن حرية تمنحها معرفة أنماط الحياة المختلفة. أحببت روما، ونابولي، وبرشلونة، والقاهرة، ثم مراكش بشكل كبير. عندما توفيت والدتي في عام 1998، لم يعد لدي ما كان يدفعني إلى العودة من الأماكن البعيدة، إذ كنت أعود لأحكي لأمي عن رحلاتي وأريها الصور التي التقطها. قررت أن أستقر بعيدا. بعت البيت الذي كنت أملك في الجبل بالقرب من سانت إتيان، واقتنيت رياضا في مراكش. أحببت بشغف هذه المدينة التي منحتني لحظات غنية بالفرح أو بالألم. وأنا اليوم أعيش في الصويرة، في ما يشبه حلما قديما بتحية البحر المحيط كل يوم.
ما أصل علاقتك بفن التصوير الفوتوغرافي؟
مرة أخرى سأعود لجدي. لقد كان في منزله مختبر تصوير يعالج فيه بنفسه صوره الخاصة. في ذلك الوقت كان استخراج الصور الأولية يتم على لوحات من زجاج. كنت دائما مفتونا بتلك الأشياء التي نرى فيها نساء ورجالا من الأيام الخوالي. وكانت أول آلة تصوير حصلت عليها صندوقا من نوع كوداك. كنا نلتقط الصور من خلال تحريك ذراع متصلة بواسطة لولب بغطاء متحرك يغلق العدسة. كان الأمر أشبه بسكين يقتطع من الزمن قطعة ويدخلها إلى فخ الصندوق على لفة الفيلم. مازلت أذكر كل مرة انفعالي وعواطفي عند فتح الغلاف الذي يحتوي على فيلم الصور. وفي وقت لاحق، عالجت صوري بنفسي ، وكان ينتابني دائما انطباع أني آتي عملا من السحر يٌجمد على الورق لحظة هاربة من لحظات رؤيتي للعالم.
ما هي معارض الصور الفتوغرافية التي سبق لك تنظيمها؟
نظمت في مسقط رأسي سانت إتيان، وفي ليون وجنيف، معارض صور حول رحلات قمت بها في مناسبات مختلفة إلى الصين، ومنغوليا، وراجستان. في الواقع، لم يكن ما يثير اهتمامي في اتصالي بثقافات بعيدة جدا عن ثقافتي هو الجانب الاغرابي أو المشاهد الخلابة الجديرة بالتصوير، بل كان نوع من البهجة أن أنبهر بجمال الاختلاف. أنا لا أحب تصوير البؤس والآلام والقبح؛ على الرغم من أن موضوعات صوري تكون في بعض الأحيان قاسية، مثل صور رؤوس أغنام مقطوعة.
اخترت البويطوغرافيا باعتبارها وسيلة تعبير، وهو جنس لم يدرج بعد في التصنيفات الأكاديمية؟ ما هي البويطوغرافيا؟
القصائد القصيرة تشترك مع التصوير الفوتوغرافي في كونها تبرز في لحظة نوعا من الوجدان المكثف. جعلت لبضع سنوات صوري مرفقة بنصوص قصيرة. ثم فكرت لاحقا في دمج النص نفسه في الصورة بفضل الوسائل الرقمية. "البويطوغرافيا" هي في البدء صورة فوتوغرافية، أضم إليها قصيدة قصيرة ترتبط من جانب المعنى بالصورة ومن جانب الخط والرسم بالألوان المهيمنة. يمكن القول بشكل من الأشكال أن النص هو الصدى المتردد في الكلمات للانفعال الوجداني في اللقطة المصورة.
لكل مجال تقنية خاصة به: تتكون القصيدة من كلمات وأصوات، ويكمن جوهر التصوير الفوتوغرافي في الصور...
يعكس الشعر العلاقة بين اللغة والواقع. هذا هو ما يسميه اللساني رومان جاكوبسون "الوظيفة الشعرية" للغة. لا تحيل الكلمات والأصوات ضمن قصيدة إلى العالم الحقيقي بغية نقل خبر إلى المستمع أو القارئ، بل إنها تسرب إلى داخله عواطف وانفعالات توجه نظرته وإدراكه نحو عالم متخيل. بالنسبة إلي الأمر نفسه ينطبق على التصوير الفوتوغرافي، فأنا لا استخدمه لنقل صور واقعية، بل لإنتاج لوحات شعرية انطلاقا من حالات حدس. صوري هي بشكل من الأشكال "إشراقات"، في المعنى الذي يذهب إليه الشاعر آرثر رامبو. أما النص المرافق فينسج الرابط بين الصورة واللغة.
هناك شكلان من التعبير الفني يتحاوران ويختلطان، ويلتقيان ويتحدان في جسم واحد. هل يتماهى الشعر بالتصوير الفوتوغرافي؟ كيف يمكن تفسير هذا التقارب؟
باعتبارنا بشرا نعطي لأعمالنا بعدا وجدانيا ونعطي لوجداننا شكلا لغويا: هذا ما يميزنا عن الكائنات الحية الأخرى. عندما التقط صورة، ففعل الضغط على زر التصوير يرتبط بالعلاقة بين الانفعال العاطفي تجاه ما أرى وبين نوع من الاستباق القبلي لما ستكون عليه الصورة. وغالبا ما تخيب النتيجة الأمل المرجو. لكن يحدث في بعض الأحيان أن تكون مشاهدة الصورة بوتقة لانفعال عاطفي جديدة، ويمكن أن نقول ببهجة ومتعة أني قبضت على ما يستعصى على القبض من لحظة رؤية. ويكون هذا الانفعال الوجداني هو ما يحثني إلى منحه تجسيدا في اللغة؛ ومن تم إلى خلق اندماج الكلمات بالصورة.
"أيام جديدة"، هو عنوان أعمال بويطوغرافية . عنوان ينفتح على المستقبل، وفي الوقت نفسه على الماضي. يتعايش النور مع الموت...
هذا العنوان يأتي في الواقع بعد أضمومة صور مصحوبة بنصوص، كانت على شكل يشبه مذكرات، وكنت وسمتها "مجرى الأيام". قادتني أحداث حياتي بالإضافة إلى اقتنائي لأدوات جديدة إلى إنتاج هذه البويطوغرافات. يلعب فيها الضوء دورا أساسيا، بما أنه هو ما يدفعني غالب الأحيان لالتقاط صورة في بلد مثل المغرب. ولكن الضوء يدخل في حوار مع الظل. فالزمن الذي يجري يتبع طريقا تمتلئ بالأشواك والجثث. يتداخل الفرح والحزن.
صورت أثناء رحلاتك في آسيا وأفريقيا: صورت الأسواق والشوارع والأزقة والمدن، والطبيعة الميتة، والمناظر الطبيعية، والبحر. صورت في الصين، ومنغوليا، وراجستان (شمال غرب الهند)…
منذ ما يقرب من أربعين عاما اخترت أن أسافر لوحدي؛ أولا لتجنب الخلاف حول الوجهة التي يجب إتباعها، وأيضا لأن السفر في مجموعات، مهما قل عددها، يقوم أكثر على تجوال أسر في فضاء أكثر من الذوبان فيه لاكتشاف أسراره. أنا أحب أن أحس بالحاجة للقاء الناس. وفي الأساس يمكنني أن أصنف الدول اعتبارا لدرجة السهولة والصعوبة التي منحتني في التعرف إلى الناس. كانت رحلاتي في غالب الأحيان ممتعة، نسبيا لأن إمكانيات إيجاد وسائل النقل بأسعار منخفضة كانت متاحة لي، ولكن أيضا ارتباطا بالمهام ذات الصلة بالأنشطة الأكاديمية التي كنت أقوم بها. الصور التي التقطتها خلالها تشهد على دهشتي، على حد سواء أمام مناظر مدهشة بالنسبة إلي، كما السهوب المنغولية والصحراء المغربية ووديان جبال الهيمالايا العالية، وأيضا أمام سلوكيات الناس وخاصة في المدن.
ما السبيل في الصين، إلى تجاوز عقبة اللغة؟ كيف يكون التواصل مفيدا بالنسبة إلى العمل الفني؟
عندما التقي إنسانا لا يتكلم نفس لغتي، أعرف أنه يلغو في لغته كما ألغو في لغتي. ويمكننا استخدام كل أشكال قنوات الاتصال التي نفترض أن الآخر من خلالها سيٌكون معنى من المعاني. هذا يحفز الخيال. في بعض الأحيان نقع في الخطأ، يمكن أن تكون أصناف سوء الفهم التي تترتب على ذلك مناسبة لحدوث كوارث أو كشوفات. على سبيل المثال نقوم بحركات نعتقد أنها حاملة لمعنى ما لكن الآخر لا يدركها، أو يدركها بشكل مختلف. هذا الشكل من مشاكل التواصل يمكن أن يصير حدا معرقلا، كأن تقول "هؤلاء القوم أغبياء"، أو بالعكس من ذلك يمكن أن يكون مناسبة لاكتشاف طرائق أخرى في التصرف، وفي رؤية العالم، أو لإعطاء مجرى الأحداث بعدا وجدانيا. أذكر على سبيل المثال، إن لم أكن مخطئا، أن الفنان هانس فيرنر غيردتس Geerdts قد أسس مذهبه في الرسم الذي يقتفي أثر الحشود في حلقات جامع الفنا في مراكش إلى حد كبير لأنه تعلم فن الخط الياباني. فالانبهار أمام الاختلاف يعد عاملا قويا للابتكار. أما بالنسبة إلي فالعيش في المدينة العتيقة، سواء في مراكش أو في الصويرة، هي بهجة لأن كل خطوة أخطوها فيها تمنحنى فرصة للمفاجأة، والانبهار والتعجب، بل وحتى للصدمة؛ في حين أن العيش في مسقط رأسي يقودني في غالب الأحيان، بحكم قوة التعود، أن أكف عن الانبهار امام شيء. لهذا السبب أحب السفر، والعيش بين أناس ذوي ثقافات مختلفة.
كتب رولان بارت يوما، قائلا: "إن الفوتوغرافيا تكرر بشكل ميكانيكي ما لا يمكن أبدا أن يتكرر في الوجود" ... ما الذي تمثله الصورة الفوتوغرافية بالنسبة إليك؟
التصوير الفوتوغرافي بالنسبة إلي ليس وسيلة لتجميد الوقت، بل لخلق صورة انطلاقا من لحظة حياة، تتحول بالنسبة إلى الذي يشاهدها إلى لحظة حياة جديدة. أنا لست صحافيا، أنا صانع صور وانفعالات. فالصورة التذكارية كالتي يلتقطها الناس في شكل "سيلفيات" لا تهمني.
هل لك أن تشرح لنا حكاية صورة من صورك ؟
في كثير من الأحيان وأنا أتجول، تتجلى لي صورة في ما أشاهد. لكنه لا تكون بين يدي دائما كاميرا لتحويلها إلى صورة فوتوغرافية. على سبيل المثال، في صورة (الأيام 19)، أرى الغيوم وراء أشجار النخيل تبدو كأن رسمها نتج عن تزاوج حركة سعف النخل والريح. انبهار وتعجب من معيش يومي لا يتطلب غير الإفتتان به. في هذه المرة لم تخيب الصورة أملي ولم تخلف وعدها معي، حيث ينتابني الشعور نفسه كلما نظرت إلى الصورة. تبدو لي الغيوم خطوطا عربية لكلمات غير ذات تفسير، متلعثمة، على لسان لم يحسن نطقها. ومن هنا جاءت القصيدة الصغيرة التي تندمج مع الصورة.
ما الذي تسعى إلى بلوغه وأنت تضغط على زر التصوير؟
في الحقيقة، أنا لا ابتغي الحصول على شيء، فقط أشعر بالحاجة القاهرة إلى تكوين صورة من خلال ما أراه. في غالب الأحيان عندما أسافر بالسيارة، لا بد أن أتوقف لالتقاط صورة كما لو أن الأمر ضرورة حيوية. في بعض الأحيان، يٌترجم الأمر بشعور متعة جمالية، أو بالمفاجأة بشكل آو بتركيبة ألوان، أو بالغضب من شيء سيء الشكل والتشكيل. منذ ابتكار التقنية الرقمية، أصبح بإمكاني التحقق على الفور ما إذا كانت الصورة المحصل عليها توافق الانفعال الذي دفعتني إلى تكوينها أم لا. وهذا يحرمني من الإثارة التي كانت ترافق انتظار العودة إلى المختبر، ولكن هذا التحقق الفوري يجمع بين النظرة التي تثير الصورة الفوتوغرافية وبين النظرة التي تعيها. تأتي القصيدة في وقت لاحق، في ما يشبه التمتع بتذوق طبق أعددناه.
طبع البحث العلمي والأكاديمي مسارك وحياتك المهنية. كتابك "الأختلاف زيادة" ، يطرح مسألة الهجرة وتلاقي الثقافات انطلاقا من منظور علم النفس؟
أكثر من ذلك يستند كتابي على قضية تلاقي الثقافات ليتساءل بخصوص الطريقة التي يدرك بها الناس العالم، بغض النظر عن اختلافاتهم، من خلال الأعمال التي ينجزونها في هذا العالم. على مدى ما يقرب من أربعين عاما اشتغلت في جامعة ليون وجامعة سانت اتيان، لتعليم اللغة الفرنسية للطلاب الأجانب الآتين من كل الآفاق في كل الشعب والاختصاصات، وكذا تدريس ديداكتيك اللغات لمكونين من جميع أنحاء العالم. أذكت العديد من المهمات والبعثات التي كلفت بها في آسيا وأفريقيا، إضافة إلى أسفاري الشخصية، في لوعة تذوق الاختلاف الثقافي. وعلاوة على ذلك، قادتني بحوثي إلى العمل والتعاون مع علماء نفس نسقيين حول قضايا المعنى والدلالات. وقد تكونت أنا بنفسي في التحليل النسقي على يد عالم الأحياء الشيلي الكبير، ذي الشهرة الدولية الكبيرة، أومبرتو ماتورانا، الذي قمت بترجمة كتابه "من تطور الأنواع إلى الانجراف الطبيعي" عن اللغة الإسبانية. ومن بين الأسئلة التي أطرحها في كتابي سؤال بخصوص الطبيعة الثقافية لإدراكنا وتصورنا للعالم.
هل يمكن أن نصنف عملك على انه فن متعدد التخصصات؟
يمكن القول بذلك. فمنذ طفولتي، كنت أجمع بين متعة القراءة، وخصوصا الشعر، وبين متعة مشاهدة الصور. لو كنت أعرف الرسم، لرسمت دون شك رسوم حكايات. فالقراءة هي خلق صور وأحاسيس من خلال كلمات. لما كنت شابا مراهقا، تخيلت نفسي أركب الخيل في البادية وأنا أطالع مغامرات ميشيل ستروغوف، حيث إن رسوماتها المنقوشة في طبعة هيتزل كانت تجعلني أحلم. وتذوقت رائحة الرمال الصحراوية عندما كنت أقرأ فريزون روش، وأبحرت عبر البحر الأحمر في رفقة عبقرية هنري مونفريد. وفي وقت لاحق، سافرت حقيقة بين المشاهد التي كنت أتخيل نفسي فيها، في منغوليا، ومصر، وفي الصحراء. كتبت عن ما شاهدته. وأنجزت صوري. إن دمج مجهودات الكتابة والتصوير تبدو لي طريقة أخرى للاشتغال بالموسيقى.
نشرت أيضا في فرنسا رواية، «صعاليك أشرار»
صحيح. لكنه مجال آخر مختلف تماما. هي حكاية تروي بطريقة جافة، من دون تعليق، سلسلة من الأحداث المأساوية، كلها متخيلة. وكما كتب عنها أحد المعلقين هي "أصبع الديناميت داخل حزمة حلوى". أتحدث فيها عن عالم يقوم فيه طلاب بالقتل من دون سبب واضح، وحيث يتم قتلهم باسم مبدأ العقل. وربما كان ذلك دون شك صدى لمرحلة شبابي الطلابية، حيث كنت أنشط ضمن الحركة الاحتجاجية لسنوات السبعينات.
تقودنا خطوط الإبداع هذه إلى الموسيقى؟ باي شكل من الاشكال؟
أنا عصامي في عزف الجاز. ويمكن القول بنفس القدر إنني أرتجل على شاكلة أطباق طائرة غريبة في الموسيقى. بشكل عام، هذا النشاط هو بالنسبة لي للترويح عن النفس وتسليتها، أعزف لنفسي فقط. ولكن العواطف والانفعالات التي يثيرها في نفسي الإيقاع والألحان تماثل تلك التي تنتابني وأنا أزاوج بين الصور والقصائد.
"أنا كريشة في مهب الريح" هي العبارة التي تقدم عملك. ما هو الدرس المستفاد من السفر والترحال؟
كان والداي مسيحيين مؤمنين؛ لذلك أعطوا أبناءهم أسماء تحمل بالنسبة إليهما معاني دينية. كان بولس هو الرسول. المسافر. كانا قد اشتريا من مكتبة كاثوليكية صورا تمثل كل قديس من قديسي أبنائهم، مع نص صغير مرفوق بها. فكان فوق سريري طيلة طفولتي، رسم القديس بولس وهو يمشي متكئا على عصاه، مع هذه الجملة: " أنا كريشة في مهب الريح". فجعلت منها شعارا لي. في الواقع، هذا يوافق طريقتي في الحياة. وإذا كنت أقمت نهائيا في المغرب، أولا في مراكش، ثم في الصويرة، "مدينة الرياح" إن صدق التعبير، فبدون شك لأنني وجدت هنا طريقة للعيش قلما تحمل هم الغد والأتي، وهي ما يناسب شغفي باللحظة الحاضرة.