أهم ما في كتاب الدكتور سمير خلف، كبير أساتذة العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية في بيروت، الذي صدر مؤخراً بعنوان «من وقت إلى آخر» ان العنف لا يحل أي مشكلة سياسية أو اجتماعية في دول ومجتمعات العالم من دون ان ترافقه معالجة جذرية وعميقة لهذه المشاكل وعلى رأسها الفئوية والطائفية والقبلية، وخصوصا في بلد كلبنان.
هذا الكتاب، الذي يشمل مجموعة مقالات كتبها خلف في العقود الثلاثة الماضية وتطرقت إلى مواضيع عديدة أهمها تأثير الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) على المجتمع وعبر ذلك تأثير ممارسة العنف السياسي السلبي في توجهات منطقة الشرق الأوسط برمتها، يشكل مرجعاً مفيداً جداً لقراءة الأوضاع الراهنة للمنطقة.
يؤكد خلف في الصفحة (13) من كتابه (وهي جزء من مقدمة الكتاب) ان معالجته للمشاكل السياسية والاجتماعية في العالم العربي في السنوات الخمسين من عمله الفكري قادته إلى العودة إلى أفكار ونظريات واضعي أسس علماء الاجتماع كدوركهايم وفيبر وماركس وخصوصا إزاء شكّهم وتحفظهم في اعتبار ان ما حدث في زمنهم من تطورات في المجتمعات الأوروبية الغربية في حيز الثقافة والمجتمع كان أمراً إيجابياً فحسب وبشكل حصري وكونهم جميعا أبدوا تحفظات كبيرة حول خطأ مفهوم تحليل هذا التقدم من منطلق فكري سطحي ومبسط.
فمن منطلق هؤلاء الكبار ومَنْ تبعهم من كبار علماء الاجتماع في العالم على شاكلة المفكر الأمريكي (سي.رايت.ميلز) ان من الصعب جداً على المجتمعات والأفراد تخطي حالات اجتماعية استمر فيها العنف لوقت طويل من دون بقاء رواسب ذات أثر سلبي في تصرفاتهم، بعد انقضاء فترة العنف داخل هذه المجتمعات. وهذا في رأي خلف ينطبق على لبنان وسكانه بعد الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) وحتى الساعة.
صحيح ان المقالات الواردة في الكتاب متنوعة في فحواها، ولكن معظمها، وخصوصاً في القسم الأول، تركز على مظاهر التفتت والانحلال الأخلاقي في الحياة العامة في لبنان خصوصا بعد الحرب الأهلية فيه 1975ـ 1990 والتي ازدادت وتضخمت نتيجة لهذه الحرب مع ان ركائزها كانت موجودة قبل ذلك بسبب النظام الطائفي والفئوي الانقسامي في البلد، الذي تحول بعد الحرب إلى ما يشبه النظام القبلي العشائري، تكره فيه المجموعات الاجتماعية أي مجموعات تختلف عنها ومعها وتزيل عنها صفة الإنسانية وتعتبر التخلص منها أو حتى قتلها مُحللاً وخصوصا إذا كان هذا الأمر ممكناً من دون محاسبة.
وبالتالي، أصبح قمع وقتل الضعفاء عسكريا وغير القادرين على الدفاع بالسلاح عن انفسهم وعن مواقفهم الفكرية والاجتماعية أمام الممسكين بالسلطة والسلاح وبأدوات القمع شبه طبيعي وأكثر ممارسةً لسهولة استخدامه ضدهم عوضاً عن مواجهة الأقوياء من خصومهم. وهذا التحليل الذي يعتمده خلف في كتابه في أكثر من مناسبة متأثر (حسب قوله) بفلسفة المفكر الفرنسي رينيه جيرارد الذي أورد في كتابه في سبعينات القرن الماضي «العنف والمقدس» ان الراغبين في ممارسة العنف نتيجة لمعتقداتهم المتعصبة وأوضاعهم المضطربة يمارسونه ضد مجموعات لم تقم بتعديات عليهم بدلاً من مواجهة خصومهم الفعليين لكونهم غير قادرين على مواجهة هؤلاء الخصوم الأقوياء. ويقول خلف ان هذا ما فعلته وما تزال تفعله إسرائيل في فلسطين وما فعلته سوريا في لبنان خصوصاً في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. ويشير في الصفحة (17) من مقدمة كتابه أن «هؤلاء يقتلون ليس مَنْ يرغبون في قتلهم، بل من يستطيعون قتلهم». ثم يضيف ان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005 شكّل أحد أهم الظواهر السلبية في تاريخ لبنان الحديث.
لبنان ما بعد الحرب الأهلية بدلاً من ان يتحرر من العوامل التي أدت إلى حدوث هذه الحرب، حسب خلف، انتقل إلى فترة فوضى اجتماعية وأخلاقية تصاعدت فيها الشهوة للمال والاستهلاك المفرط. كما اتجه الشباب فيه إلى قيادة السيارات بسرعة فائقة والإفراط في الشرب والتدخين والاستهلاك غير المتوازن بالنسبة لقدراتهم الشرائية حتى وصل المجتمع إلى ما سماه العالم الاجتماعي البارز اميل دوركهام الـ(Anomie) أي الخلل والتفكك الاجتماعي الناجم عن عدم القدرة على تلبية طموحات أبناء المجتمع غير المحدودة وغير الواقعية مما قد يقود إلى الانحراف. ويفرز هذا الوضع الاجتماعي حالة تدفع الناس إلى الاستمرار في السعي إلى تحقيق أمور من المتعذر عليهم الحصول عليها وبالتالي يقودهم هذا نحو الفساد والإخلال بالقوانين لتحقيق رغباتهم. كما ان وسائل الإعلام، قد تُساهم في تصعيد هذه الرغبات والدفع نحو الانحراف.
وبالرغم من كل ذلك، فان خلف يقول إن فئات واعدة من الشباب اللبناني بدأت تدرك خطورة هذا الوضع ونفذّت مؤخراً حركات مدنية إيجابية في شكل مسيرات سلمية تحاول المؤسسات التقليدية في المجتمع اللبناني قمعها بشتى الوسائل.
ولكن، حسب أحد المقالات الواردة في الكتاب، إذا نجحت المؤسسات التقليدية في منع هذه التطورات الإيجابية في المجتمع اللبناني فإن المجتمع سينقسم، ليس سياسياً فقط بل اجتماعياً، وستبدأ قيم الإيمان بالوطن بالتزعزع خصوصا لدى فئة الشباب. وهنا يقول خلف جملة هامة جداً هي: «من الأسهل إعادة بناء دولة على إعادة بناء مجتمع… فالدولة يمكن إعادة بنائها عن طريق سن القوانين والاتفاقات الموقعة والمعاهدات ولكن من الصعب جداً إعادة بناء المجتمعات». (ص 29).
ويعتبر ان جيلاً كاملاً من اللبنانيين خضع لعملية تربية اجتماعية سلبية على ممارسة الفساد الأخلاقي والعنف. وهذا يدفعه في أقصى الحالات إلى ممارسة ضرب من العنف غير المبرر ضد خصومه أو ضد الأبرياء وإلى ارتكاب الجرائم الأخلاقية.
ويشير خلف إلى ان الأزمات السياسية المنتشرة في المنطقة وفي لبنان ليست وحدها مسؤولة عن انتشار العنف فيه، بل ان شيئا من إنعدام الأخلاق والمواطنة في البلد تواجد قبل حدوث هذه الأزمات، وبالتالي، فان إعادة تأهيل لبنان يحتاج إلى أكثر من حلٍ للأزمات السياسية فقط. فالمطلوب معالجة انتماءات اللبنانيين على طوائفهم وقبائلهم وعشائرهم قبل انتمائهم إلى وطنهم، وهذا أمرٌ لا يتحقق بالشرائع والقوانين فقط، ولا بالخطابات الرنانة، وقليل من القياديين يتحركون في هذا المجال.
لبنان، في رأي خلف، يميل أكثر فأكثر نحو القبلية والفرد يضطر للركون إلى هذه مجموعات فئوية لتحقيق أجزاء من مطالبه.
فاللبناني لم يعد متقوقعاً نفسياً واجتماعياً في هذه المجموعات فحسب، بل انتقل إليها جسديا وجغرافياً وسكن مناطقها المحددة فأصبحت المناطق الجغرافية شبه مقسمة إلى مجموعات سكنية طائفية وأثنية وقبلية. ونسي كثير من الناس الحياة الاجتماعية التي عاشوها في فترة ما قبل الحرب الأهلية حيث كانت تتواجد خلالها مناطق تفاعل وانخراط اجتماعي واندماج سكني تتجاوز هذه الانتماءات.
فاللبناني، يحاول أن ينسى هذا الماضي الاندماجي الاجتماعي والسكني مع مواطنيه من المجموعات الاجتماعية الأخرى ولكنه يتوق إليه في الوقت عينه ويحترم المناطق التي حافظت على اندماجها الاجتماعي، كمنطقة رأس بيروت التي تفاعلت مع وجود الجامعة الأمريكية منها إذ بثت روح التفاعل الحضاري والاجتماعي بين تلامذتها وسكان المنطقة، حسب ما ورد في أحد مقالات الكتاب.
وينتقد خلف تركيز الحكومات اللبنانية المتعاقبة على إعطاء الأولوية للاتفاقيات والمعاهدات السياسية والانتخابية وحدها على حساب توفير الخدمات الأساسية للمواطنين من أجل حياة طبيعية وفي سبيل إرساء قيم المواطنة والقيم الأخلاقية والإنسانية ومواجهة الزيادة في التعلق بالمظاهر الفارغة وقشور الحياة والهَوس الوسواسي المفرط ببعض تكنولوجيات التواصل والاتصالات التي تحولت إلى نوع من الإدمان في القرن الـ21 على حساب شؤون الحياة الأخرى الأكثر أهمية.
من الصعب مراجعة كتاب خلف هذا الذي (باعتراف كاتبه) يشمل العصارة لما يمكن تسميته «مدرسة سمير خلف الفكرية» هذا الأستاذ المخضرم، الذي دَرسَ وحاضر واحتل مناصب أكاديمية بارزة في أهم جامعات أمريكا والعالم قبل انتقاله إلى التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت حيث ترأس قسم علم الاجتماع فيها لسنوات عديدة ثم أشرف على نشاطات وأبحاث «مركز الدراسات السلوكية والاجتماعية» وأصدر خلال عمله الأكاديمي عدداً كبيراً من الكتب حول مواضيع مختلفة. فإذا نظرنا فقط إلى الفصول المتنوعة في هذا الكتاب، سندرك إلى أي مدى وضع الكاتب خلاصة الجزء الأكبر من نتاجه الفكري فيه. فالفصول الأولى تتناول تأثير الحرب الأهلية اللبنانية على أخلاق وتصرفات اللبنانيين، والثانية تتحدث عن تأثير السكن الاندماجي جغرافيا في مقابل السكن غير الاندماجي على تعامل السكان مع بعضهم الآخر. أما الفصول التالية في الجزء الثالث فتتناول حياة الفنانين والمبدعين في لبنان خلال الحرب الأهلية. والرابع يتطرق إلى دور الجامعة الأمريكية في بيروت وتفاعلها مع اللبنانيين عموماً وفي منطقة رأس بيروت خصوصاً.
ويكرس خلف الجزء الخامس من الكتاب لتقييم أهمية صداقته وتفاعله الثقافي والإنساني مع المفكرين الكبيرين غسان تويني وأدوارد سعيد والمهندس المعماري المبدع بيار الخوري، بالإضافة إلى فصول أخرى عن شؤون عائلية خاصة.
إذن، في الإمكان القول ان هذا الكتاب يشكل موسوعة عن أستاذ ومؤلف لبناني وعالمي بارز، ربما يكتب رسالته الأخيرة الوجدانية قبل تقاعده عن حياته المثمرة أكاديمياً وإنسانياً.
سمير خلف: «من وقت إلى وقت آخر»
دار النهار للنشر ومؤسسة ميقاتي، بيروت 2016
294 صفحة.