قبل اليوم كنت مشغولا بأفق القراءة، لماذا نكتب ما دام القارئ سيفعلها ثانية؟
لماذا نمعن في تهشيم رأس هذه اللغة مادام القارئ، أيا كان القارئ، سوف يعيدها سيرتها الاولى... لقد كادت هذه الورقة أن تكون عن الانزياح.. مستويات الانزياح في ديوان رماد اليقين.. قبل أن أكتشف حين وقفت وجها لوجه امام المرآة.. مرآة الموت أن كل ما كتبته كان عن يقين الرماد لا عن رماد اليقين.
لم أكن في الطريق الصحيح إلى أول الحريق... الشعر- يقول محمد بلمو- يهجو المعنى الواحد.. كل ما كتبته عن انزياح هذه العبارة وتجذرها في الميتا شعر كان يستحق التمزيق، وحتى ما حررته عن الشاعر العضوي، والنص العضوي وشعرية الانخراط كان هراء... كان وصفات نمطية جدا للخروج من النمط. لقد كان ورقات مرتبكة ضد الوقت !
هل سيحضر الشاعر؟ هل سوف يطفح جسده فوق المآتم والبكاء.. بل أي الجسدين هو؟ جسد الموت أم جسد الحياة؟ جسد الحكمة أم جسد الشعر؟ يقول:
" الحكمة خيمة المجانين
حينما تسرقها عواصف مع الغبار..
نتعذر بالموت ونبكي."
إذا كنت اقرأ هذه الورقة الآن فإن الشاعر قد قرر الانخراط بجسده في لحظة الشعر، وترك الحقيقة التي تضيع دائما - كما يقول- تركها تذهب الى لا مكان.
إن مجرد الانخراط في العالم يهدم كل ادعاء للنقاء، والذات الصافية تماما من انحطاط العالم، إما تجن أو تنتحر، فتحقق بذلك شرط نظافتها وطفولتها، أما الاستمرار في الحياة فمصدر ثري للخزي والدنس. بل وباعث على جلد الذات التي انخرطت، ولهذا يختار الشاعر الطفحان بجسده على المراثي والبكاء بواسطة الشعر، إنه فشل لذيذ في اختبار التطابق المطلق مع ما يعتقد وما يشعر به ...
"هل يحدث ان تبتهج
ولا تعرف ما السبب
وتبكي بلا جدوى
وتكتب للهباء
وتنام واقفا
وحين تستيقظ تجدك في نفس المكان."
انها حاجة وجود وحالة انوجاد، بحث عن الاصالة في جسد فان ومتحول، معركة شريفة أكثر من اللازم، لدرجة أنها لا تنتهي.
هكذا هو الشعر، لم آلفه يوما حالة استنفار لِمَلَكَة، بل حالة استسلام، طيرانا بلا أجنحة، وطائرا أبكم في قفص.
يسأل الشاعر:
"هل يحدث ان تتزاحم الصور والكلمات على باب قلمك،
فينسد عنق الكتابة على الكآبة؟ّ"
يجيبه في رأسي هايدغر: الشعر ينكتب من أقاصي الصمت، ينكتب حين تنسد أمامه كل منافذ الهرب... ثمة كل شيء.. طبق الحروف، ملح الكآبة. ولكن شيئا ما ينقص.. حجرتان نائمتان في حضن بعضهما لا يكفيان لتشتعل النار، اللهب ابن الاحتكاك. والرماد أيضا.
الشعر يعني ان يحفك المكان، وترتديك القداسة، الشعر ان تصمت صمتا هادرا ومتجددا.
أحببتك تعرف الشعر بكونه يهجو المعنى الواحد، وكذلك يفعل، إنه هوية جمالية سابقة عن الادراك، وعلى المتلقي ان يستجيب لها ولخصوصياتها، هي من تفرض عليه شروطها الاستطيقية التي انْبَنَتْ بها ومن أجلها.
الشعر لعبة ادراك يا صديقي.
حر في نظامه وسلطان في نسقه.
في اللعب وفي المتعدد يكون هناك شيء ما مقصودا من حيث هو شيء ما، حتى وان لم يكن هذا الشيء مقصودا ونافعا وغرضيا. فقط تنظيم خالص للحركة..
رماد يقين، وخريف حقيقة.
إن التعرف على شاعر جديد يعني تقويضا تاما لكل ما تعرفه عن الشعر.. ومجال تأويل شعره، رهين بقدرة المأوِّل على التعامل مع المأوَّل في ماهويته، من حيث هو احتواء للمعنى لا دلالة عليه.
يضيف الشاعر:
"الشعر يهجو المعنى الواحد،
يتبادل الحديث مع الريح،
على رصيف مقهى البياض."
يا لها من دافعية حرة، تدعو إلى تمثلها في ذاتيتها كشرط أساس في فهم اللاشكل الذي تتمظهر به.
لقد قطع الشاعر عطلة قلمه، وجعله يعود الى بستان الحروف. ترك الحزن للحزن والمآتم للمآتم...
"لن تحظى بالفاكهة اذا لم تحضر كرنفال الحطب".
لا فصح لمن لم يحضر عيد الفصح. ولا رماد لمن لم يحضر طقوس أربعاء الرماد.
لهذا سنضع جسده في الأرض...
الأرض للأرض، والرماد للرماد، ومن التراب إلى التراب.
انا سعيد لأني هنا.
شكرا للموت الذي أفلتني من مطب الخوض في يقين الرماد.
ممتن للشبكة التي جعلتني أخرج من الرماد الى لعبة الرماد..
وآسف لأني فشلت في الخوض في لعبة اليقين:
اليقين ليس لعبتي!
* نص القراءة التي القاها الشاعر عمر الازمي بمناسبة حفل توقيع الطبعة الثانية لديوان الشاعر محمد بلمو "رماد اليقين" مساء يوم السبت 31 دجتبر 2016 بمدينة صفرو، والذي نظمته شبكة تنمية القراءة بصفرو وشبكة المقاهي الثقافية بالمغرب.