بين العراق وسويسرا، المغامرات العجيبة لإمرأة خالدة منذ خمسة آلاف عام
فصل إبتدائي
في البدء كانت القارورة
قبل الولوج في عوالم هذه الحكاية مع (امرأة القارورة) العجيبة، يهمني أن أعلمكم منذ الآن أني لست مسؤولا عنها ولم أشارك في أي من أحداثها وخيالي بريء منها. في الحقيقة إني أجبرت على نشرها من باب الواجب لا أكثر. منذ أن عثرت على هذه الحكاية بطريق المصادفة، قبل أسابيع، وأنا متردد في إحراقها أو رميها في البحيرة. وقد فشلت جميع جهودي لاكتشاف شخصية كاتبها الحقيقي. إني أنشرها ولم أحاول أن أغير في سطورها أية كلمة، تركت المخطوطة كما سلمتني إياها سيدة الحانة.
لعله من الضروري أن أحكي لكم باختصار عن ظروف حصولي على هذه المخطوطة، لكي تحكموا بأنفسكم على طبيعة علاقتي بها. وربما تساهمون معي في معرفة شخوصها وحقيقة أحداثها. تم الأمر عندما وصلت منذ أسابيع إلى مدينة (جنيف). أقول (وصلت )، إنما في الواقع، وجدت نفسي فيها. بعد تيه عظيم خلال أعوام في سوح الحروب وفقدان في عوالم الانفاق، خرجت من أعماق الأرض لأجد نفسي في فجر يوم بارد من شباط 1988، بين صخور شواطئ بحيرة (جنيف). خرجت مبللاً أبحث عن دفء، فقادتني أقدامي، انا المبهوت، في شوارع المدينة حتى دخلت إلى حانة مطلة على نهر (الرون ). هناك قدمت إلي صاحبة الحـانة كأس نبيذ أحمر وهذه المخطوطة.
لم أجد حتى الآن أي تفسير لكيفية حدوث هذه المعجزة. فجأة وجدت نفسي أنتقل من جبهة الحرب بين الأهوار والصحارى الى مدينة لم أعرفها إلا من خلال السمع والقراءة. فأنا ببساطة، كنت امضي عامي السابع في الحرب. منذ الشهر الأول على اندلاعها عام 1981، مسكوني في الشارع وحشروني في بدلة عسكرية، ودربوا يدي على استخدام السلاح، ثم وضعوني في شاحنة مع رجال من أشباهي. رمونا بين الأهوار وقالوا لنا:
ـ "هذه ارض الأسلاف احفروا فيها مواقعكم، وإن تراجعتم عنها فإننا سنرجعكم إليها مرة ثانية، ولكن على هيئة جثث لندفنكم فيها".
طيلة سبعة أعوام لم أكن أدرك من الوجود غير أهوال الحرب وذلك الشوق الدفين للهروب نحو حلم تملكني منذ صباي :(أوروبا)! ما مضى يوم إلا وكنت أرسم من عذابات ورعب الحرب لوحة لأوروبا، كإله تعس يصنع من أطيان كوارثه مخلوقاً سامياً قادراً على منح اللذة لخالقه. من شبقي المكبوت نحت جسد أوروبا، ومن تجارب حُبي الفاشلة صنعت قلبها، ومن حاجتي إلى الراحة والأمان رسمتُ ملامحها الخضراء، ومن توقي إلى العدالة والانعتاق خيطتُ لها ثوباً أبيض فضفاضا يرفرف كأجنحة فراشة ويضمني بين ثناياه كما تضمني أم في عباءتها السوداء. أوروبا صارت مخلصي المنتظر وأرضي الموعودة. حتى عذاباتها كنت أراها تختلف عن عذابات الشرق. جوعها وتشردها وعنصريتها وبؤسها، كان أكثر استساغة من أمثالها في بلادي.
* * *
خلال سبعة أعوام الحرب قمت بسبع محاولات هرب، انتهت ست منها بالفشل. أما السابعة فنقلتني إلى (جنيف)، لأنها لم تكن بالضبط محاولة هرب قدرما كانت تيهاً في أنفاق المجهول. وإذا كان الحظ قد حالفني في شيء، فذلك بأني خلال سبعة أعوام، تمكنت بأعجوبة من أن أنجو من حكم إعدام نفذ بحقّ الآلاف من الفارين مثلي. أعدموا وعُلقت جثثهم أمام منازلهم ليكونوا عبرة للآخرين، بل إن عوائلهم قد أجبرت على دفع ثمن طلقات قد أعدم بها أبناؤها.
يمكنكم أن تقولوا عني إني لم أكن شجاعاً في الدفاع عن بلادي، ولكن إذا كانت الشجاعة في عرفكم تعني التضحية بالنفس، فإني على العكس منكم تماماً، إذ تقاس شجاعتي بمدى تمكني من حفاظي على نفسي. ثم خبّروني باللّه عليكم، هل من الضروري أن تنسحق روحي وتتقطع أوصالي، لكي يجلس القادة المحترمون في النهاية إلى طاولة المفاوضات لتقاسم بضعة كيلومترات عند حدود ملطخة بدماء ملايين بائسة، ثم هل تضمنون لي أن هؤلاء القادة، بعد الانتهاء من مفاوضات الحدود، سيتفاوضون مع الرب لارجاع حياتي التي نهشتها دباباتهم وبعثرتها قنابلهم؟
أشد ما كان يقززني ويدفعني إلى التمرد والهرب، صورة شاذة كانت ترتسم في مخيلتي في أثناء تفاقم المحنة:
" إن قادة الدولتين يتناكحون فيما بينهم ونحن جحافل الجيوش عبارة عن حيامن معتقة يقذفونها في بعضهم البعض. ننسكب نحن شهداء ملذاتهم وهم يرتعشون شبقاً في خطبهم وشتائمهم وتهديداتهم لبعضهم البعض. بعد أن يتعبوا وينتهوا، ينبطحون على ظهورهم في سرير المفاوضـات ويمسحون جبهاتهم ومؤخراتهم من جثثنا، ثم يتعانقون بحب"!
"شجاع إذا ما امكنتني فرصة فإن لم تكن لي فرصة فجبان "..
كنت أردد قول (معاوية بن أبي سفيان) هذا خلال جميع أعوام حربي السبعة وجميع محاولات فراري التي بدأت من المصادفة ونمت إلى الضرورة لتنتهي بمعجزة لا واقعية تخطت قوانين الزمان والمكان. فجأة انتقلت من متاهات أنفاق التاريخ، مثخنا بجراح الآلاف من أسلافي وابناء جلدتي، لكي أخرج الى نور الحاضر وهو يغمر مدينة لا أعرف منها غير اسمها وهذه الحكاية العجيبة التي سأعرضها لكم في فصول قادمة.
* * *
قبل معجزة انتقالي إلى (جنيف) كنت امضي سنتي السابعة في جبهة الأهوار. بعد فشل محاولة فراري السادسة، رموني هنا وقالوا لي :
ـ "انت هنا لن تحارب، إنما عليك ان تشبع بطون المحاربين. رصاصات البندقية لن تنفع دون رصاص الطعام الذي ستحشو به بطونهم".
كنت لا اريد من حياتي غير السكينة والنوم. وبينما خطوات العسكر تضرب في رأسي، كنت اتوهم اني لن أستيقظ إلا بعد أن يكون العالم قد غط في نومه الأبدي.
كان مطبخنا قاعة كبيرة في أعماق الأرض. جدارها الصخري مليئاً بنقوش أثرية لملوك قدماء وهم يصيدون ويقتلون ويتسلمون شرائع ويخوضون حروباً ويتناسلون. بجانب حوض غسيل الصحون اتكأ على الجدار نصب امرأة بالحجم الطبيعي. كانت واقفة بشموخ وهي تمد اليد اليمنى بقارورة صغيرة بحجم كأس، وقد التفت على ذراعها اليسرى أفعى، محشور رأسها بين نهديها. سمعت الجنود يقولون إنها قاعة ملوك قدماء عثروا عليها في اثناء حفر الخنادق.
وكرر أحدهم حكاية (ملاّ يوسف ) عريف المطبخ، عندما تلمس لحيته المصبوغة بالحناء، وتعوذ من الشيطان، وكشف لهم سر هذه القاعة، محاولا أن يضفي على لهجته الجنوبية بلاغة اللغة الفصحى. قال:
ـ "إنهم ملوك شعب من الزناة، لم يفرقوا بين عشيقة وأخت وأم، فلطشهم الله على الحجر، وها هي آثارهم عبرة لمن يراهم. أما هذه التي ترونها أمامكم فهي ملكتهم وأمهم وعشيقتهم جميعاً. منها تعلم البشر الفسق، وقد صنعها الشيطان من لحم الأفعى التي تنكر بها لإغواء آدم وحواء، لتكون أول غاوية في التاريخ. نجحت في إغواء حتى الأنبياء والحكماء، منذ قابيل وهابيل وإبراهيم وسليمان ولوط ويوسف، ولم يقف بوجهها إلاّ (الإمام علي ) الذي عندما عرضت عليه جمالها غضب وضربها بسيفه (ذو الفقار) هنا قبل أن تهرب".
صَمتَ (ملاّ يوسف ) مرتعباً وهو يشير إلى أثر الجرح الذي تركه السيف على امتداد بطنها كفطر طويل غير مرئي يشبه الجرح، امتد من العنق حتى اسفل البطن. ثم بعد أن استغفر وتعوذ وبسمل استطرد بحكايته عن كيف أنزل الله عليها عقابه ومسخها مع عشاقها وأسلافها إلى حجر، إذ ضجت الأرض والسمـاوات بأدعية المؤمنين وشكـاواهم ليخلصهم الله من فسقها. أغمض (ملاّ يوسف) عينيه، وفرك مسبحته السوداء، واتخذ وجهه المحروق بالشمس والحرب هيئة بلوطة ناضجة، وكشف السر الأكبر:
ـ"رغم تحولها إلى حجر فإنها ما زالت قادرة على التأثير على القلوب والاستجابة لنذور العشاق وأتباع الغواية".
صحيح أن الكثير من الجنود قد سخروا من حكايتـه بإعتبارها محض خرافات، وادعوا أن هذه القاعة ما هي إلا آثار من بقايا ملوك سومر واكد. لكن الزمن كان يبدو لصالح تصريحات (ملاّ يوسف )، إذ مع مرور أعوام الحرب وما تخلفه في قلوب المحاربين وابدانهم من جروح وعاهات وكوابيس ونكبات، شاع بينهم ما يشبه طقوس التقديس لتمثال هذه المرأة التي راحوا ينادونها بـ(سيدة القارورة)! لم يقتصر الأمر على مصدقي الخرافات والمتدينين وحدهم، بل حتى المعتنقين لمبادىء علم وحداثة. جميعهم ساهموا دون قصد أو بقصد في خلق نوع خفي من الطقوس الصامتة والسرية أحياناً من دون أن يدركوا بالضبط من هو المسؤول!
هكذا كأنهم ورثوا هذه الطقوس عن أسلافهم، فترى التمثال قد استحال مع الزمن إلى لوحة خط عليها الجنود كلمات عشقهم وشتائمهم وحكمهم ورسومهم الفاحشة. الفنانون منهم، فطريون وأكاديميون، كانوا يلطخونها بألوان إبداعاتهم المتنوعة، وقد رسموا لها ثوباً شفافاً تبرز منه جميع تفاصيل جسدها حتى المخفي منها عادة في عريها. يوماً تراها شقراء كممثلة خليعة بعيون زرق أو خضر حسب زاوية النظر، بعدها بأيام ينهض احدهم وهو ثمل ويحيلها إلى سمراء بعيون داجية وشفاه راقصة غجرية.
في شهر رمضان وأيام عاشوراء وعيد نيروز يعمد الجنود إلى إضفاء الوقار عليها وغسل المكياج عنها وإلقاء نوع من الحجاب الأسود الشفاف عليها، فتبدو كأمّ حزينة. وفي أعياد الفصح ورأس السنة، يعمد الجنود المسيحيون إلى إضفاء بعض الألوان الخفيفة وإشعال الشموع في قاروتها وفي فم أفعاها وعلى نهديها ثم تنثر عليها أغصان الآس والزيتون لتصبح أشبه بعذراء سريانية. خلال سبعة أعوام قد زين الجنود عنقها ورأسها وذراعيها، بل حتى كاحليها، بأنواع من مزق قماش أخضر وحُلي رخيصة، بعضها صنعوه بأنفسهم من أسلاك دبابة إيرانية محطمة.
* * *
لقد شاء القدر أن تكون لي هذه المرأة ملجأً وحيداً، استمد من وجودها بقربي ذلك الدفء اللذيذ الذي ما عرفته إلا أني أدركت وجوده الغامض. فرشت بطانيتي قربها على الأرض، وجعلت وسادتي بين قدميها، وأمضيت جميع ليالي سنتي السابعة وأنا أرقب هيبتها وأتنصت إلى دقات قلبها حتى أغفو. في بعض الليالي عندما تشتد وحدتي بين رعب القتلى والجرحى والمنتحرين، كنت أغافل الجنود وهم نيـام لكي أحتضن معبودتي وأهمس لها بعذاباتي وبأسرار محاولات هربي الست التي لو علم بها قادتي لاستحق علي حكم الاعدام ست مرات متتالية. وكانت هي تواسيني خِفيَة بعينيها وتهمس لي بكلماتها.
إني على يقين من أني وحدي بين الجنود وافقت المرأة على ان تكشف لي أسرارها. قالت إن حكاية (ملا يوسف ) هي شذرات من حقيقة، أما جوهر الحقيقة الذي لم يكتشفه أحد غيري فهو أن التي مسخها الرب إلى تمثال هي شذرة من وجود أعظم.. شذرة من روح أنثى شاملة تمكث حية في شهوات الرجال.
أخبرتني بسر لم يكتشفه قبلي إلاّ القلائل :
" إني اعيش عالم حلم في رأسها. الوجود بأجمعه ما هو إلا خيال في رأس هذه المرأة التي تعيش في عالم آخر هو ايضاً خيال لكنه في رأس كائن أعظم. كل هذا التاريخ من آلاف وآلاف الأعوام والأقوام والأوطان ما هو إلا دقائق من الحلم في رأس امرأة تمارس رعشتها الأولى في احضان عشيقها. هما يعيشان في عالم آخر من حلم يدور في رأس الكائن الأعظم. إننا حلم رعشة، بعنفها وهمجيتها والمها وبهجتها وترددها بين تلاحم وتناء. شعوب تولد وتفنى.. حروب تخاض وحضارات تقام وبشر يمارسون لذة وتناسل، وارتعاشة هذه المرأة ما زالت تمنح الحياة لحلم وجودنا. في دمها وتلافيف رأسها يعيش جميع أسلافنا، رحلوا إلى الأعماق لينقلوا إشارات لذتها في أنحاء جسدها. خالدون في أعماقها بين عوالم بدنها الشاسع، يمضون خلودهم في رعشة ابدية وتناسل سرمدي وتناسخ في أبدان الأحفاد".
يا ترى، كم من لحظات رعشة قد استغرقتها سنوات حربي ومحاولات فراري الست؟ لا أتذكر من حياتي غير الحرب، وقد تحددت مراحل عمري بمحاولات فراري. لم تجبني المرأة عن سؤالي إن كان لي ماض آخر؟ جلبوني هنا دون أن يعرفوا عني حتى اسمي. اندمجت في تقمصي لدور الرجل المعتوه، مسخرة الجنود، الأخرس، المجهول الهوية والأصل.
* * *
لا أتذكر من حياتي السابقة غير سبعة اعوام حرب امضيتها طريداً بين خنادق موت وأهوار وصحارى وجبال. أتذكر انه بعد بضعة اشهر من اندلاع الحرب، كنا في طريق البصرة الصحراوي عندما هاجمت الطائرات شاحنتنا وفجرتها مع جميع الجنود الذين تخلفوا فيها ولم يتح لهم الهروب معنا. انتثرنا كوحوش كسرت أقفاصها، بين رمال وصخور ومرتفعات، بعيداً عن أعين طيار أحمق تخلف عن جماعته، وظل يلاحقنا برشاشه بإصرار عجيب كأنه يعرفنا شخصياً.
شاءت المصادفة أن تمر من هناك قافلة من البدو قادمة من الحدود الجنوبية في طريقها إلى الحدود الغربية. التجأت إليهم عندما وجدوني هائماً في الليل وقد عزمت أن أظل أجول في الصحراء حتى الموت ولا أعود إلى الجبهة. استغثت بشيخهم :
ـ"أنا دخيلكم.. خلصوني الله يخلصكم.."
الآن، وأنا في (جنيف )، يمكنني أن أجزم بيقين أن شيخ القافلة ذاك، رغم بساطة مظهره، كان ذا هيبة ملوك ووقار أنبياء. تلوح في ذاكرتي الآن صورة مشوشة لذلك الشيخ الذي تناديه عشيرته (أبو يحيى). كان كمرآة احتفظت بآثار أماكن وعصور وأقوام انعكست فيها صورهم. إنه ساحر خرافي وحكيم متفقه وبدوي متمرس. عندما أصغى إلى حكايتي هز رأسه محدقأ في خطوط رمال رسمتها أصابعي. قال لي أشياء كثيرة لم أصدقها إلا بعد أن عشت أحداثها. أخبرني بجميع ما سيحصل لي في سنواتي السبع القادمة : محاولات فراري وانتقالي، بل إنه كشف لي شيئاً أعظم من هذا: حكاية (امرأة القارورة) التي سأتعرف عليها بعد سبعة أعوام في جنيف.
لم أصدقه.. نخوته أن يوصلني إلى الحدود. سأحاول عبور الفرات والتسلل إلى سوريا ثم إلى لبنان لتدبر جواز للسفر إلى أوروبا. قال إنه من أجل خاطري سيحاول. لكنه بعد ثلاثة أسابيع، كما تنبأ، اضطر إلى تسليمي إلى فرقة عسكرية أوقفتنا في الطريق. اكتشف ضابط الفرقة ذو الشارب الأحمر والعينين الزرقاوين اني غريب بين العشيرة. في البدء رفض الشيخ أن يسلمني إليه. وكادت بسببي ان تنشب الحرب بين الطرفين، لولا أن اكتشف الضابط أخيرا أن هؤلاء البدو هم فرع من عشيرة أخواله.
رأيت الضابط يختلي بشيخ العشيرة خلف بقايا معبد مهجور، ليقررا مصيري. عندما عادا، اقنعني الشيخ أن أسلّم نفسي إلى العسكر بعد أن تعهد الضابط بشرفه ان يضمن حياتي وينجيني من حكم الإعدام بتسليمي إلى السلطة على أني كنت تائهاً في الصحراء ولست فاراً.
* * *
بعد أقل من عام قمت بمحاولة فراري الثانية. ذات يوم خريفي أخرجت رأسي من الخندق، فرأيت شمساً غاربة تفرش على الأهوار حلَة ذهبية وتنشر في الفضاء رائحة عفن. إزاء ذلك الصمت الموحش أحسست بصخب في أعماقي بين حشود بشر تتجادل وتسخرمن بعضها البعض. قلت لأهرب عسى أن تسكت، فزحفت على بطني وتوغلت في أحراش البردي. كانت الخنازير الوحشية وأفاعي الماء والطيور والجواميس لا تزال تعيش صدمة استقبالها لنا، نحن أحفاد سادتها قد عدنا بحيوانات حديدية ووسائل دمار حديثة، حفرنا خنادقا ورحنا نعبث بلعبة جهنمية. حتى هذه الحيوانات الوحشية قد صُدمت مشاعرها وفقدت شجاعتها وراحت تهرب من أية حركة حتى لو كانت صادرة عن حيوان آخر.
قلت أهرب وألتجىء إلى العشائر النائية عسى أن أجد فرصة للتسلل إلى الخارج، لكن جنود الجيران انبثقوا فجأة من الأحراش مثلما يحدث في سينما المغامرات. كانوا يصرخون : "اللهو أكبرو"، وارتموا فوقي. رغم استسلامي، شاء أحدهم لكي يضمن خضوعي تماماً، أن يطعنني بالحربة في كتفي، وجرّوني ورائهم مقيداً ككلب.
الآن وبعد أعوام على هذ ا الحادث، إذ طالعت حكاية (امرأة القارورة)، يمكنني القول إني في يوم هربي ذاك قد عشت جوّاً غرائبياً شبيها بأجواء هذه الحكاية. بينما كانوا يقودونني بين الأهوار إلى موقعهم، كان المساء قد حل وجراح كتفي ما زالت تنزف. حشود روحي راحت تصحو من غيبوبتها وتتمطى وتطرح علي أسئلتها التي استفحلت بسرعة إلى شكوك وعتاب وشتائم ودق على جدار صدري. شرعت بذرة من الكآبة تكبر وتتكور وتستحيل إلى لهيب يحرق أحشائي ويمتد إلى رأسي وأطرافي.
فجأة، دون أن أدرك كيف، هزت الكون صرخة ما سمعت مثلها قبلا، ومادت الأرض من تحتي وقدح ضوء كبرق ثم لا أدري بعدها ماذا حدث.. كأنني تفتت وتبعثرت في الوجود؟! بعد تيه في عوالم من نور وألوان وأشباح، كانت تتوضح على هيئة جنان خضراء فيها منازل بيضاء كالثلج تنتثر بين حدائق وأعشاب وغدائر تصب في بحيرات تطفو على سطحها مواكب عشاق وحوريات كقديسات وملائكة كأطفال. وأنا كائن بدائي مثخن بجراح وعار هزيمة، أزحف على الشاطىء أريد أن ألحق الأصحاب في مواكبهم، لكني كنت أغرق في دوامة ماء.. أغوص وأغوص و... لحظة لفظت رمقي الأخير، فتحت عينَي!!
صحوت على نفسي في شاحنة وجندي مخدَش الوجه، ممزق الثياب، قاسي الملامح، يصب على وجهي ماءً. خاطبني وهو يفك بندقيته ويمسح حربته من الدم: "شوف كيف حررناك منهم.. الحمد الله القنبلة ما قتلتك.. هم، بعثناهم إلى جنتهم كلهم دفعة واحدة..".
وعندما أردت ان أتحرك، تجمدت اطرافي إذ شعرت بقطع لحمي المحروق تتساقط وتلتصق بأسمالي.
* * *
ما مضت أشهر حتى قمت بمحاولة فرار ثالثة. قبل ان تتيبس حروقي وتلتئم جروحي ارجعوني إلى الجبهة. منذ أن البسوني بدلتي العسكرية من جديد، هبت فجأة حشود روحي التي كانت غافية في أثناء فترة العلاج. من جديد وبعنف أكثر نطت إلى رأسي فكرة الفرار.
في حزيران 1984، لم تكن قد انتهت بعد السنة الثالثة على الحرب عندما شرعت في الاتصال ببعض الأصدقاء من المهاجرين المصريين. بعد مداولات ومحاولات عديدة عرفوني بشاب قال ان نصفه صعيدي ونصفه تونسي، لهذا فانه كان يمتلك جوازين بإسمين شبه مختلفين ومن دون علم الدولتين. من حسن الحظ ان هذا الشاب كان يشبهني الى حد مدهش، حتى ليبدو انه شقيقي التوأم! بسبب هذا التشابه تعاطف معي ومنحني ثقته من اول لقاء. قرر اعارتي الجواز التونسي على امل ان ارجعه له بعد استقراري في اوربا. وخلال ايام علمني مفاتيح اللهجة التونسية التي لم تختلف كثيرا عن اللهجة العراقية.
كان حلم (اوروبا) يستحيل في أعماقي إلى صرخة تمرد راحت تنشدها حشودي وهي تدق على جدار روحي. كان مساء خميس عندما نزلت في إجازتي من الجبهة. الساعة الخامسة وصلت إلى موعدي مع صديقي المصري التونسي، وفي الساعة السابعة كان الجواز بحوزتي. الساعة العاشرة كنت في الباص الراحل إلى اسطنبول.
لم يكن يشغلني ماذا سأفعل هناك. المهم أن أخرج من الجحيم وبعدها لا يهم أين. طيلة ساعات الطريق وحتى أيقظني رجال الأمن في الفجر، عيناي كانتا مغلقتين على آخر أنوار بغداد، وقد انبجست في رأسي صورة مدينة متلألئة تتوسطها بحيرة تفرش مياهها بين سلسلتين جبليتين، عرفت بعد سنين انها جنيف!
شاء سوء الحظ أن يكتشفوا تشابها بين اسمي في الجواز واسم أحد المطلوبين، فاوقفوني. في الليل، قبل ان يستجوبوني ويكتشفوا حقيقة هويتي، تركت لهم الجواز وهربت من النافذة. عدت إلى وحدتي العسكرية دون أن يكتشف أحد محاولتي.
* * *
المحاولة الرابعة كانت في شتاء1985. هربت مع أحد الأصحاب إلى أعماق الهور، وانضممنا إلى جموع عصاة فارين من الجيش. كان صاحبي هذا مهووساً بممارسة اللذة على خيال نساء أعدائه. ابتدأ عندما كان صبياً على صورة وهمية صنعها لـ(غولدا مائير)، ثم بعدها انتقل إلى (مسز تاتشر) ليجعلها تصرخ كل ليلة بين ذراعيه!
كان يفوقني بجنونه ولهفته إلى (أوروبا). التجأنا إلى عصاة الأهوار أملا في العثور على طريق خلاص. رحنا نمارس حرباً أخرى لا من أجل الأرض بل من أجل اغتصاب قوتنا اليومي. كنا نتنكر برتب عسكرية كبيرة، ونوقف القوافل لنسلبها بأوامرنا المزيفة. كنا نتنقل مجموعات مجموعات، بعيداً عن أعين الطائرات المروحية التي كانت تقذف برشاشاتها الحارقة على أحراش مأوانا. كنا كحيوانات كاسرة مهددة من جميع الأنحاء بمصير الانقراض الزاحف : عسكر بلادنا من الغرب، وعسكر الجيران من الشرق، ومن الداخل هناك عملاء السلطة من أبناء عمومتنا.
ضربات الطبيعة ونكباتها كانت لنا بالمرصاد: بعوض، ملاريا، ولسعات افاع وعقارب ونهشات خنازير، وما تجلبه لنا السماء بين حين وآخر من قنابل وصواريخ قد أخطأت اهدافها لتسقط على رؤوسنا. وقعت أنا فريسة لسعات البعوض وانتشرت في دمي جراثيم ملاريا، فكنت في نوبات الحمى أغمض عيني وأشاهد دواخلي قد لوثها الموت وصارت مثل الأهوار قد امتزجت مياهها ببارود ونفط وجثث عسكر.
صاحبي مات بجانبي وهو يواسيني. انحنى على الشاطىء فجائته رصاصة وهي ترن واخترقت الرقبة. بهدوء استلقى على ظهره كأنه قد تهيأ كعادته لتخيل صورة زوجة قاتله، وابتسم بألم وهمس بلهجة معتذرة :
ـ "ماشي الحال.. هذا نصيبي.." ومات...
عدت منتكساً إلى بغداد بعد أن شتتت الطائرات والخيانات الكثير من جماعاتنا، واستهلكت الملاريا دمي. عدت، لا لكي اموت بين أهل وأصحاب لا أتذكرهم، بل لأني لم أكن امتلك خياراً آخر. لكنهم لم يعدموني. لا ادري لحسن حظي ام لسوئه، اعتبروني مشمولا بعفو صادر عن الفارين. ادخلوني المستشفى وعالجوني حتى شفيت واعادوني إلى الجبهة.
* * *
المحاولة الخامسة كانت ذات ليلة من ربيع 1986، عندما قررت أن أقطع ذراعي بتفجير قنبلة يدوية في كفي. تبا لذراعي.. سوف اضحي بها قربانا لخلاص بدني وروحي.
بالحقيقة ان الفكرة ما أتتني صدفة، صحيح اني سمعت عنها هنا وهناك، لكن ثمة ذئب شجعني على اتخاذ قراري. نعم ذئب قد رأيته ذلك المساء يزحف امام خندقنا وهو يأن ويعوي بنشيج اشبه بنشيج البشر. انكسر قلبي عليه فزحفت خارج الخندق من دون علم اصحابي واقتربت منه. عندما رآني لم يخف ولم يغضب بل راح يرمقني بألم كأنه يطلب الرحمة. عرفت ان لغما قد انفجر به إذ كانت الدماء تنزف من انحاء جسمه. رغم مشاهد الموت والجراح التي عايشتها مع رفاقي طيلة سنوات الحرب، الا اني لسبب اجهله حتى الآن، شعرت بتعاطف مع ذلك الذئب لم اعرفه من قبل! اخترقتني نظراته المحتضرة كأني ارى فيها نفسي. بدت ملامحه بشرية اكثر من البشر، قريبة، اليفة، وكأني عايشتها لحقب طويلة مجهولة. من دون تفكير انحنيت عليه واحتضنته ورحت ابكي. لم انتبه الى الساعات التي مرت، بل صحوت على نداءات اصحابي وهم يفتشون عني في البرية. كان الذئب الجريح قد مات والليل قد خيم.
عدت الى الخندق وفي رأسي فكرة واحدة وحيدة : ان اقطع يدي لكي اهرب. قلت لا يهم الأمر، سوف اسافر بعدها الى اوربا واضع ذراعا صناعية افضل من ذراعي الاصلية. في آخر الليل أخرجت يدي اليسرى إلى حافة الخندق ورجوت احد الأصحاب أن يسحب المسمار من القنبلة لأن يدي الأخرى قد شلها الرعب. أتذكر، رغم انه وافق وسحب المسمار، ارتمى فجأة علي وراح ينحب كطفل، ليثنيني عن تفجير القنبلة في اللحظة الأخيرة.. لكنها انفجرت. ولأنها كانت نصف فاسدة، فهي لم تنهش مني غير إصبع واحد!
ادخلوني المستشفى وعالجوني ثم أرجعوني إلى الجبهة بعد ان اخبروني أنهم يشكون في ادعائي بالحادث. لولا شهادة الأصحاب لأعدموني. أنذروني ان أي تكـرار لمحاولتي فإنهم سوف يلبون رغبتي بأنفسهم بوضعي في مدفع وتفجيري على مواقع العدو.
* * *
محاولتي السادسة تمت رغماً عني. كانت هروباً من الموت أكثر من كونها هربا إلى الحرية. كانوا قد رموني في جبهة (الفاو) في موقع أرضه من أطيان وقبور جماعية سرية، تجعل الأرض تنز دماً حينما تمر فوقها شاحنة أو دبابة. يوماً بعثني ضابطي إلى الخندق المجاور، وما أن خرجت حتى قصفته الطائرات. ركضت إلى خندق اخر، فطردني الضابط وأمرني بالعودة، وما أن خرجت منه أيضا حتى قصفته الطائرات! أربعة خنادق متتالية لا تقصفها الطائرات إلا عندما أتركها!؟ سمعتهم يتشاورون بينهم بأني إما نبي وإما جاسوس، فهربت.
عدت إلى بغداد. وعن طريق صديق قديم كان سياسيا وتحول إلى مهرب محترف بعد أن بزغت مواهبه المنسية يوم قبضوا عليه فتنكر لقضيته لقاء ضمان حمايته. تمكنت من عبور الجبال للالتحـاق بالعصاة في شمال الوطن. أخبروني في بغداد أني سأستطيع من هناك التسلل الى تركيا ومنها سأشق طريقي إلى أوروبا. في مثلث الحدود العرا قية ـ التركية ـ الإيرانية، في أودية محاطة بجبال صخرية تهابها أعتى الجيوش، كان ينتشر آلاف الرجال المسلحين مع عدد أقل من النساء، يقيمون في كهوف وتحت سقوف صخرية لا تفتتها أشد القنابل فتكا. آلاف من الحـالمين، أكراد بغالبيتهم ومعهم عرب وسريان وتركمان، مسلمون ومسيحيون وصابئة ويزيديون وملحدون، طلاب وعمال وفلاحون وعسكريون، في طبيعة قاسية من ثلوج وأمراض وقنابل طائرات ومؤامرات خفية.
كنت من قبل في حرب نظامية بين جيشين متجابهين، أما الآن فأني في ساحات حروب بين جيوش سرية وعلنية، قبائل وعوائل ومشايخ ومهربون وتجار، يرتدون اثواب ثورة ويرطنون بمدن فاضلة، ويخوضون حروباً فيما بينهم. بعضهم مع دولة وضد اخرى، وبعضهم ضد هذه ومع تلك، وبالنتيجة فإن الجميع يتعاملون مع الجميع وضد الجميع!
ذات يوم كنت منحدراً في واد مع مجموعة من الأنصار، مسربلين بأشعة نحاسية غمرت المكان. ثمة شيء ما غامض كان يضفي على المشهد شحوبا غريباً ينبىء بكارثة، وقد ارتسمت على وجوه الجبال ملامح ترقب وحذر. لقد تعمق لدي هذا الشعورعندما لمحت مجموعة غربان سوداء تحوم فوقنا بين اغصان البلوط. لا ادري أية قوة غريبة دفعتني إلى ان اتلكأ في مشيتي ووقفت لأتبول خلف صخرة. فجأة لعلع الرصاص في الغابة وتقطعت الأغصان واختلط نعيق غربان مع صرخات بشرية جريحة. عندما ركضت وقع علي رفيق جريح. سقطتُ وسقط هو فوقي. كان وجهه فوق وجهي وقد جحظت عيناه في عيني ونزفت دماء من ثقب في جبهته. رغماً عني تسربت قطرات من دمه إلى فمي وامتزج طعمها حاراً حامضا مع لعابي، فأحسست لحظتها بتقزز كما لو ان آلاف الثعابين قد تسللت إلى احشائي. كنت أصرخ وأنا لا أفكر إلا بشيء واحد : كيف أزيل دم رفيقي من احشائي. لقد شربت دمه وهو يموت!
لم اعد أدرك شيئاً من الوجود. تلاشت لعلعة الرصاص وانفجارات القنابل. رحت اركض واركض وأنا أبصق. بصقت حتى دمي.
* * *
بقيت هائماً بين جبال وغابات أياماً لم احسبها، اقتات على أعشاب وثمار، وأتحاشى البشر وقد تمزقت عني ثيابي وصار لوني بلون الأرض. كنت ملتزماً صمتاً مطبقاً لكي أصغي جيداً إلى حوارات صاخبة جارية بين حشود بشر روحي. رغم كثرتهم فإني كنت أراهم حشدين متجابهين في جدال يمزج بين خصام وتفاهم، واحد من حكماء وآخر من معتوهين، وجميعهم قد اثملتهم الأحداث وانهكتهم.
ذات نهار ربيعي عثر علي أحد الرهبان. كنت مستلقيا في غدير، والماء يغطيني حتى أنفي. عيناي مغمضتان وأنا أصغي إلى صخب حكمائي ومجانيني ممتزجاً بخرير الماء. فتحتهما لأرى مصدر صوت بشري صدح في الوجود. عبر الماء الشفاف، شاهدت وجهاً نورانيا مرسوما على صفحة السماء!
لم اتحرك، كنت أنظر إلى الوجه وأنا في خدر ولا مبالاة مطلقين. كنت أحس بنفسي في انفصال عن الواقع، كأني في ذاتي طائر غير مرئي أحوم مراقباً حشود حكمائي ومجانيني وهي تضطلع بعملية إدارة بدني على الأرض.
قادني الراهب إلى ديره القريب من مدينة الموصل، وهناك اطعمني وآواني. كنت امضي وقتي بمشاركة الرهبان في تراتيلهم، وحينما اشعر بالملل كنت اصعد الى السطح حيث تنتشر اعشاش طيور اشاركها مناجتها.
عرفت ان راهبي ينادونه(عمو توما)، لكنه لم يستطع ان يعرف مني اسمي، فراح يناديني بـ (آدم)! رغم انه كان يتميز ببشرته الحليبية وشعره الفضي، الا انه كان يشبه في شخصيته كثيرا (الشيخ ابو يحيى) الذي التقيته في البادية. ظل راهبي الطيب حتى يوم فراقنا في حيرة أمام نحيبي كلما صدحت في الدير تراتيل الرهبان. والحقيقة أني لم كن أكثر معرفة منه بذلك!
اتى اليوم الذي أمسكني فيه العسكر قرب الدير. فشل (عمو توما) في تخليصي. لم تكن بحوزته أية أوراق تثبت هويتي. كبلوني ولم يكلموني بعد أن عرفوا بخرسي وخبلي. قادوني من موقف إلى آخر ومن معسكر إلى آخر وهم يعلفون بي بلا سؤال. بعد أيام، أتاني ضابط ذو صوت طفولي غير منسجم مع وجهه المكون من شارب فاحم كث وبضعة ثقوب اقل وضوحاً من النجوم الملتمعة على كتفيه. تحسس بعصاه لحمي وهز رأسه إلى (رئيس العرفاء). أدركت أنه أمر بضمي إلى القطيع.
* * *
ذلك اليوم، أعادوني إلى الجبهة بعد ان رموني في الحمام وحلقوا شعري وألبسوني بدلة عسكرية مرقمة ثم حشروني في الشاحنة بين الارزاق. منذ ان وصلت قبل اشهر إلى هذه القاعة المحفورة في الأرض، وأنا يوماً بعد يوم أرقب بحذر انتفاخ بطن تمثال (سيدة القارورة)! كنت في أثناء صمتي وخرسي المخبول، ارقب عيون الجنود لأقرأ فيها ما يعبر عن شكوكهم فيما يخص انتفاخ بطن المرأة. لعلهم كانوا يتحاشون الفضيحة لأنهم كلهم مشتركون فيها مثلي! لا ادري ماذا سيفعلون حينما يأتي اليوم الذي سيصبح فيه من المستحيل إخفاء الأمر، ثم من يعلم أي مولود سيخرج من بطن مجروح بسيف؟
ذات ليلة من شهر شباط 1988، وبعد مرور تسعة أشهر على وجودي معها، كنت احدق في البدر المتوهج من فتحة في الجدار خلف رأس المرأة. كنت أشكو لها حيرتي أمام مصيري المجهول بعد ان فشلت جميع محاولات هربي الست. كنت وحيداً بين آثار اسلاف من الزناة، أخرس، اطرش، فاقداً للذاكرة. أهمس لها بصلوات الرجاء لتعينني على الخلاص من عالمي هذا. لتنقذني إن كانت هي حقاً سيدة وجودي وصانعة حياتي من حلم ارتعاشتها. كيف لي أن امضي العمر وانا لا احمل في دمي غير ذكريات سبعة اعوام من حروب وتيه بين أهوار وبواد وجبال من أجل فرار من جحيم حاضر نحو عالم سام ومجهول؟
كانت حشود حكمائي ومجانيني تدفع بجسمي نحو التمثال وتشدني إلى أحضان المرأة وكأني أكاد ألتحم بها وأغور في دواخلها. فجأة اهتزت القاعة بإنفجارات متتالية امتزجت بأصوات الطائرات وصرخات الجنود. عندما انهار السقف وتعالت من اطراف القاعة صرخات الأصحاب، ميزت بينهم عريفنا (الملاّ يوسف ).
في الوقت الذي أخذت فيه الأحجار فوقي بالإنهيار، كنت أكور نفسي على صدر المرأة، ورحت بالتدريج انزلق في فجوة أحضانها. انهارت صخور بطنها من جرح نازل من العنق حتى أسفل البطن وإنكشف نفق عجيب يمتد من جذعها إلى أعماق الأرض خلال الجدار!
* * *
أجهل حتى الآن كم من زمن قد مر علي وأنا أزحف بين متاهات أنفاق قادتني إلى عوالم وعوالم عشتها خلال آلاف الأعوام. كأني استحلت إلى طاقة من نور، أطوف بين عصور وأوطان وأقوام. مئات المرات إنولدت، ومئات الشخصيات عشتُ ومن ثم مت. أمضيت حُقباً وحُقباً من تاريخ رعشتها، وكانت هي صانعة حيواتي وحافظة نسلي ومديمة تناسخي في تلافيف حلمها. حتى وجدت نفسي أخرج من بين صخور شواطىء بحيرة (جنيف).
ليست معجزة انتقالي وحدها ما يثير عجبي، إنما كذلك ادعاء سيدة الحانة أني صاحب مخطوطة هذه الحكاية، وأني نسيتها عندها منذ أيام، وأنها تعرفني من رواد الحانة منذ سبعة أعوام، وأني غريب الأطوار، وأني وأني... ولم أعقل منها كلمة واحدة، لأني بكل بساطة لم أكن هنا أبداً ولم أعرف هذه المدينة إلا منذ أيام، ولقد أمضيت السنوات السبع السابقة في جبهات الحرب والفرار، بدليل أني لا أتذكر سواها لأني عشتها هي وحدها لا غير.
لكي اجنبكم متاعب شكواي وإسهابي، اعرض عليكم الحكاية، كما وجدتها في المخطوطة، لتحكموا أنتم بأنفسكم.
فصل اول
إنبعاث"سيدة القارورة"
منذ أعوام، بدأت حكاية الشاب (آدم ) مع تلك المرأة العجيبة : (امرأة القارورة).. حكاية ستبدو لكم لا معقولة واندهاشية الى حد بعيد، لكنها رغم ذلك حقيقية. من الصعب التأكد إن كانت المصادفة البحتة وحدها التي جمعتني بأبطال هذه الحكاية أم هي قوة القدر المتلبس بهيئة مصادفة بريئة؟
قبل أن يلتقي (آدم ) بحورية قارورته، قبل هذا الحادث بأكثر من تسعة أعوام، بالضبط في شتاء عام 1978، قرر الرحيل عن بلاده ومدينته بغداد. كان عمره قد تجاوز العشرين بعامين. مثل معظم أبناء جيله، كان يعيش وضعاً قلقاً بسبب الأوضاع السياسية المربكة والعنيفة، إضافة إلى فشله في مشاريعه الحياتية، وتفاقم خيباته مع النساء. هذا ما رسخ قناعاته بإستحالة تحقيق أحلامه بالحرية والمجد إلاّ خارج الوطن.
يوم رحيله، كان (آدم ) مرتبكاً قلقا بسبب خوفه من حدوث أي طاريء قد يؤدي إلى منع سفره واعتقاله. بعجلة جمع أغراضه في كيس بلاستيكي، وخفية ألقى نظرة وداع أخيرة على أمه واخوته. قبّل اخته بسريّة لأنها الوحيدة التي كانت تعرف بقرار رحيله.
ما أن شرع في خطوته الأولى نحو الباب، في تلك اللحظة لم يدر اي نداء سحري رجّ بين جدران صدره يدعوه إلى أن يعود أدراجه. كالمجذوب، اتجه مباشرة إلى الغرفة الكبيرة. من تحت سرير والديه أخرج صندوقا خشبياً عتيقاً يحتوي على بقايا ذكريات أبيه الذي توفي العام الفائت. كانت هناك اكوام ذكريات مُغبرة، تختصر حياة رجل هجر أهوار الجنوب وهو فتى في بدايات القرن بعد حكاية غرام خائبة. أتى إلى بغداد ليصبح عسكرياً يخوض الحروب ضد قبائل الوطن المتمردة، حتى هدّه العُمر ليموت على سرير محاطٍ بأبناء وبنات، نظراتهم ذكّرته بزعماء القبائل التي حاربها.
كان (آدم) حائرا، لا يدري عما يبحث. هناك صور شاحبة وخنجر يمني معقوف ومسدس انكليزي وحربة عسكرية على حواشيها دماء صدئة وقطع نقدية من عهود بائدة وأصداف بحرية وتعاويذ دينية ولوحة فطرية تمثل(الإمام علي) محروساً بأسدين، ثم مفاتيح وأقلام وتماثيل أثرية تعود إلى حضارات الوطن المختلفة... هناك وقعت عيناه على القارورة! كانت قارورة جميلة منحوتة من خشب الصاج الأحمر، ذات هيئة متماوجة كجسد أنثى. دون تفكير امتدت يده إلى القارورة. وضعها في الكيس ورحل خارج البلاد.
فاتني أن أخبركم أني كنت أعرف (آدم) منذ أن بدأنا معاً ندرك الحياة. لا أعتقد أن ثمة شيئأ في الوجود يحيطه الغموض بالنسبة إلينا مثلما يحيط علاقتنا. ربما سيتاح لكم فهم ذلك في مجرى الحكاية. المهم أننا كنا في وضعية خاصة، نعيش معا، لكن في فصام دائم وصراع حاد يكاد يصل إلى العنف، لولا قوة مصير جبارة كانت تحتم علينا حباً وتعاوناً. سافرنا معاً، ومعاً خضنا تجربة اغتراب وتفتيش عن حلم. كنا كعنصرين سالب وموجب، بإندماجنا نصنع كهرباء وجودنا.
في طفولتنا كنا عندما يحل المساء، نحن اطفال احياء الطين المنتثرة كبثور في جسد بغداد، بعد ان نكون قد أمضينا نهارنا في قتل عصافير وكلاب وقطط، وتعاركنا بحجارة، وغرق أحدنا في مستنقع أو في نهر دجلة القريب، وسرقنا وتمرغنا بالأتربة وتعفرت أجسامنا بخدوش وجروح وامراض، وتعلمنا شتائماً فاحشة جديدة اثناء مزاولتنا لـ"برائتنا" بحرق قوافل النمل، في المساء نهرب إلى بيوتنا لتستقبلنا (أحضان) أمهاتنا بصفعات واعقاب نعل بلاستيكية مصحوبة بلعنات ومشاجرات بين الجيران والإستغاثة بسلطة الله واب جبار. في الليل نغفو في عراء على رؤى سماء تتوهج بأقمار ونجوم تشبه عيون الحيوانات التي قتلناها.. نغفو ولم تزل ملتهبة عنيفة ذكريات نهارنا وحكايات امهاتنا عن سعلوات وطناطل وكائنات ممسوخة وجن قاطنين في طبقات أرض سفلى، يخرجون لنا متنكرين بهيئات قطط وأشباه بشر! كم من ليال أمضيناها مختنقين تحت أغطيتنا خوفاً من (عزرائيل) ملاك الموت ومن جهنم، حتى نستيقظ في الصباح مبللين بعار ورعب عقاب منتظر.
شاءت المصادفة أن أكون سبباً في إنقاذ القارورة. كنا في الباص الراحل من بغداد إلى اسطنبول، وما أن رأى (آدم ) رجال الأمن عند الحدود حتى استبد به خوف وأراد أن يرمي القارورة خشية أن يجدوا فيها دليلاً ضده ويقتادونه مثل كبش عيد بأيدي حجاج متعجلين. أخرجها من حقيبته وكاد يرميها عند خرائب الحدود. لا أدري أية قوة خفية دفعتني إلى أن أتشبث بها، كما لو كانت بطاقتي الحزبية المحشورة في بطانة سترتي. أمسكت يده المرتجفة وتناولت منه القارورة من دون كلمة ووضعتها في حقيبتي، وتوكلت على الشيطان. بعد أن اجتزنا الحدود دون متاعب تذكر، أخرج (آدم) القارورة، قبّلها وقبلني ثم دمعت عيناه كطفل.
* * *
دون أن اطيل عليكم سرد التفاصيل، ولكي تكونوا على بيّنة بظروف العلاقة بين (آدم) و(إمرأة القارورة) هذه، فإنه قبل أن نصل إلى جنيف كنا قد أمضينا أعواماً من الترحال بين مدن الشرق الأوسط وشرق اوروبا. مشاغلنا أنستنا تماماً تلك القارورة القابعة في أعماق حقائب عتيقة وغرف فنادق رخيصة ومخيمات تدريب عسكري وقطارات وغابات وقصور مهجورة. بعد ثلاثة أعوام ترحال بين بلدان وتجارب خائبة، استقر مقامنا في مدينة جنيف ببحيرتها المتموجة بفضة زرقاء خضراء، والراقدة بين سلستي جبال الألب وجيرا.
وصلنا صيف 1981، أوائل اندلاع الحرب. ثلاثة أعوام عربيدة من البحث والتجوال حتى قادنا قطار الزمن إلى هذه المدينة المهذبة. اختلفنا أنا وإياه كثيرا وتصارعنا كثيراً، وتحالفنا وتعاونا كثيراً. قد يصح القول إنه كان الفكر والتعقل والخوف والإنطواء، وأنا كنت الروح والشهوة والتهور والاندفاع. للخلاص من منفى وطن اخترنا أوطان منفى، بعد ان غدت حياتنا كقطار سريع يفرض علينا التعرف إلى أناس والمرور بمُدن وتعلم لغات جديدة وأسماء مزيفة وأفكار وأحلام وثورات وانتكـاسات، مندفعين إلى الأمام بلا عودة إطلاقا. تعلمنا لغة السلاح، خططنا لثورات خائبة، تشردنا وجعنا وسرقنا وسجنا. امضينا ليالي في قطارات وبيوت مهجورة ونحن نحلم بسجن نظيف لعله سينقذنا من الموت برداً في حدائق أوروبا، حتى استقر بنا المقام هنا.
منذ ان وصلنا إلى جنيف اختار هو الزواج والاستقرار والعزلة وتكريس كل شيء من اجل المستقبل. أتقن اللغة وتعلم إدارة الحاسوبات واشتغل. يحلو له احياناً أن يهمهم أمامي بعبارة مكررة:
ـ "ماضيّ موحش وقاسي كالدغل، كلما اقتلعته، رغماًعني ينبت في حديقة حاضري"!
لا أدري إن كان يعتبرني أنا أيضاً من بين ذاك الدغل؟
قبل أن تظهر لنا (سيدة القارورة) وتفتننا بخوارقها وعجائبها، كان (آدم) يمضي حياة هادئة في شقة صغيرة مع زوجته (مارلين)، فتاة وديعة من بنات هذه المدينة. كانت تشاركه ذلك الشغف العظيم إلى الجمال المقدس. لعله قد وجد فيها الكثير مما حرم منه في حياته: بتواضعها ورقتها وصفاء روحها وجد بعضاً من توقه إلى حنان الأم وشفقتها. في ملامحها الطفولية وعينيها الخضراويتين المندهشتين وجد صورة (ايمان) معبودة طفولته إذ لا تزال جذورها حية في أعماقه. في ذكائها وفضولها للمعرفة والبحث وجد فيها رفيقاً أنيساً يشاركه في لعبة السؤال والجواب السرمدية. خصال زوجته هذه كانت كافية لكي يعشقها ويخلص لها، لكنه ظل أبداً يحس بحرقة نيران التوق إلى (سجينة) رأسه، تلك المرأة الغامضة التي سوف احدثكم عنها فيما بعد. منذ عشرين عاماً وهي تقطن روحه. منذ أن فارقته لتدفن حية لبثت في ذاكرته لتقض مضجعه وتسبب له كآبة وحيرة مشاعر إزاء جميع النساء!
هكذا اكتفى (آدم) بحياته العائلية وإنقطع تماما عن كل ما يمت الى الوطن بصلة. رغم تعاظم الفرقة بيننا، إلا اني كنت الشخص الوحيد من أبناء بلده الذي يلتقي به، وبين فترات متباعدة.
أما أنا، فقد تفاقم عبثي وتعاظمت شهواتي لكل ما هو ممنوع ومحرم في حياتي السابقة وحيوات حتى أسلافي. كنت أنا دائماً ذلك المراهق الطائش، الشهواني العربيد المتشبث بتلابيب الحاضر حتى يرد إليّ أضعاف وأضعاف ما اغتصبه مني في الماضي. انغمست بعنفوان قياسي في عوالم من نساء وخمرة وحشيش ورقص حتى الفجر. جربت كل المحرمات ومبدئي أن أفعل كل ما اشتهيه ما دام لا يؤذي الآخر.
مع الأعوام وتطبع(آدم) على الحياة الجادة المنظمة، كانت روحه تهرم أكثر فأكثر حتى صار اشبه بشيخ عاقل بعد ان يأس من حلم نبوّته وثورته الفاضلة. يبدو انه وجد في عوالم حاسوبه (الكومبيوتر) تعويضاً عن فلسفات التغيير ونظريات تعقيم الشعوب، وفي حنان زوجته ما يعوضه عن دفء أحضان القضية!
كان يحلو لي احياناً أن أمزح معه بوصف معضلتنا بأننا كنا سمكتين بلون واحد هو الأحمر، ثم إنحدر بنا الزمن إلى نهر ماؤه أصفر وسمكه أصفر. أنا احاول البقاء بلوني الأحمر وهو يحاول أن يستحيل إلى أصفر، بينما الواقع يفرض اكتسابنا لوناً برتقالياً ينتج عن امتزاج الأحمر والأصفر. إننا كما يقول الروس، خرجنا من الريف ولم نصل إلى المدينة. ربما يكون (آدم ) مثل معظم الأخلاقيين والمحافظين، يستغنون عن الشيء ويتجنبونه، لا لأنهم يمقتونه أو يرفضونه، بل لأنهم يئسوا من امتلاكـه والسيطرة عليه!
مهما فكرت يصعب علي تحديد الفوارق بيني وبين (آدم ). لم يكن تناقضنا وحده هو الفارق بيننا، إنما لأن في كل منا تناقضات تجمعنا وتشتتنا في نفس الوقت، أشبه بجيوش مهزومة قد ضاعت فيها الأمجاد والمراتب. يحدث أحياناً أني أنعته بأوصاف أجهل بأني احملها ايضا! من الصعب تكوين رأي بخصوص بعض الفوارق الحياتية الواضحة بيني وبينه. كان يكافح ماضيه بنسيانه وتجنب كل ما من شأنه أن يذكره به، وخصوصأ ابناء وطنه.. أما انا فكنت اعرف جيدا ان ماضيّ وحش يلاحقني اينما رحلت، وليس هنالك من حل غير الإلتفات اليه ومراوغته واللعب عليه لعلي انجح بتدجينه وتحويله الى كلب وفي!
* * *
ذات يوم، أعتقد في شتاء 1988، هبط (آدم ) إلى القبو ليجلب أدوات التزحلق على الجليد ليمارس رياضته المعهودة مع زوجته. أثناء نبشه الأغراض المتراكمة في الزحمة، لمح القارورة! كانت مركونة في زاوية مثخنة بعتمة ورطوبة وخيوط عنكبوت، متكئة على حائط كأنها تستريح من انتظار. رغم عجلته وانتظار زوجته، فإن رعشة تأنيب ضمير سرت ببدنه واشتعلت في قلبه جمرات حنين إلى ماضيه. تذكر موت أبيه وحاجياته العتيقة. تخيل مشهد أمه وحيدة في دار خوت من أبناء وبنات. الذين لم يخطفهم الزواج والقبر والمنفى، فإن الحرب قد أتت وأتمت خطف الباقين. أعوام تسعة مضت على فراقهم، صورهم امتزجت بصور حرب كان يتحاشى حتى الإنصات لأخبارها. سبعة أعوام الحرب قد فاقمت في ذاكرته شحوب صورة الوطن وقتامته. لم يرث من تاريخه غير الخوف. في طفولته، كان يمضي ليالي أرق خوفاً من الموت، ان ينام ولا يستيقظ. كان يخاف جهنم بعد أن وصف أبوه انواع عذاباتها التي تجعل (حتى شعر الأصلع ينبت ويقف)، هكذا علقت بذلك امه ذات مرة وهي تشير إلى رأس ابيه. كان(آدم) في حقيقته يتمنى الموت مبكراً. لأنهم قالوا إن الله يغفر ذنوب الطفل حتى سن السادسة. طريقه مضمون إلى الجنة! منذ ذلك اليوم تعرف أحدنا إلى الآخر، هكذا كأننا توأمان في بدن واحد. هو عاشق للموت من أجل نسيان بؤس الحياة ولبلوغ الجنة، وأنا من أجل نسيان الموت كنت اخلق لذة الجنة في لحظات الحياة.
امتدت كف (آدم ) إلى القارورة، وراحت أصابعه تمسدها وتمسح عنها الغبار. تساءل من أين حصل عليها أبوه: هل ورثها عن أهله أم اشتراها أم غنمها في حرب.. من يعلم؟ فكر في السّر الذي جعله يجلب هذه القارورة ويحملها معه عبر تلك المدن والأعوام. رغب ان يأخذها ليضعها بين تحفيات بيته، لكن يداه ترددتا بلمسها. خشي أنها ستكون عذراً للآخرين لأن يسألونه عن بلاده. الماضي يرعبه. كان مثل سجين هارب يتحاشى لقاء سجانه. لكني أعرف جيداً أن (آدم) مثلي، لم يمر أسبوع دون أن يعيش كابوس عودة مرعباً: حلم خانق، يجد فيه نفسه قد عاد إلى الوطن.. لا يعرف كيف حدث هذا؟ إنه بلا أوراق شرعية والجميع يطاردونه.. حتى عائلته تتجنبه لأنه سيجلب لها الدمار! لحظات من كابوس تعادل في عذاباتها ورعبها ساعات يقظة.. دماء وخوف وعيون جاحظة وحواجز عسكرية وضياع وسؤال صارخ :
"كيف عدت وكيف أهرب مرة أخرى؟!"
انه كابوس جميع من في المنفى. نجحنا في الهرب من سجن الماضي، ولم ننجح في جعله يهرب منا.. انه يصرخ فينا ساعات صحونا، ويستولي علينا ويحبسنا في زنازينه ساعات نومنا!
على اي حال، بينما هو في القبو أمام القارورة، انتبه إلى أصابعه تتلمس حافة غطاء قابل للتحريك. لم يكن يخطر في باله أن للقارورة جوفاً وغطاء! حرّكه واداره حتى تراخى وأخذ يرتفع. انتابه إحساس غامض من الرهبة كأنه مقبل على لقاء عزيز ينتظره منذ اعوام. كان في لهفة بدائية لإكتشاف جوفها. قال إنه سيحولها إلى مزهرية تتدلى منها وردتان، واحدة بيضاء كحليب، واخرى حمراء كنبيذ.
فجأة، اندفع الغطاء بقوة خارج القارورة! نفذت أولا رائحة بشرية مألوفة، تشبه مزيج تعرق وعطر... ثم بششش... شـ.. شـ.. وإهتزت القارورة!!
خرج منها شيء ضبابي مصحوباً بصفير خافت وحزين!!
غاب عنه بصره، وتراجع. تحاشى سقطة، وتداعى على صندوق كارتوني انفطس به وحشره بين الأغراض!
قبل أن تتضح له الرؤية، سمع صوتاً إنسانياً كهمس في حلم، بث فيه قشعريرة وأفقده قواه على النهوض :
ـ "سيدي.. لا تخف.. أني لك، ولأجلك.. جسدي لجسدك وروحي لروحك.. ملذات عشرات القرون والأسلاف أمنحها لك..."
تدريجاً، مع همس أنثوي ناضح بغنج ورجاء، انبجس مشهد حلمي وتكشف:
أنثى بجسد عار وشعر منثور وقامة باسقة كنخلة في صحراء! خصيلات ليلكية متوهجة تجري سواقي على نهدين وحلمتين نديتين!
دهشته عقدت لسانه وجمدت تفكيره، لكنه ما فقد قدرته على إدراك الجمال:
خصرها ووركها كانا كأساً بلورية ترسبت في قعرها قطرات نبيذ حمراء.. فخذاها كانا طويلين بضين مخضبين بحمرة مداعبات شرسة!
رغم العتمـة، فإن (آدم) أبصر وجهها بوضوح: شفتين رطبتين كشريحتي بطيخ أحمر، وعينين مسبلتين برمشين كثين اسودين يحميهما حاجبان بهيئة سيفين معقوفين!
من يرى (آدم) في تلك الساعة سيتعرف بسهولة إلى ملامح غريبة ارتسمت على وجهه: حالة من يعيش خوفاً وشهوة في ذات الوقت.. كذئب يلتهم فريسته وعيناه على طلقة صياد قادمة. لكن خوف (آدم) لم يكن من موت بل من خطيئة. تجمد في حيرته. روحه استحالت إلى حلبة صراع همجي بين خوفه أن تنمسخ هذه المرأة الخرافية إلى أفعى تلتف عليه وتقصمه وتدنس بسمومها دماءه، وبين شهوته المتصاعدة لإلتهام هذا الجمال الذي تجاوز أشد الأحلام إغواءً.
إطمأن قلبه قليلاً وهو يراها تتحرك مثل بشر وتتضح بهيئة حورية في لوحة عارية من عصر النهضة. فتحت عينيها ورسمت إبتسامة طفولية ثم أمالت رأسها بغنج وأسبلت كفاً بين فخذيها وغطت بذراع نهديها. كانت قديسة حين تسبل رمشيها وتستحي، اما حين تفتح عينيها لتلتهم ما حولها فإنها ملكة داعرة!
هيئتها العجيبة جعلت (ادم) يسترجع صورة الحورية التي رسمها في خياله مع حكايات طفولته. ابوه كان يحكي عن جنة عرضها السماوات والأرض، فيها أنهار عسل وخمر ولبن، لكل مؤمن قصر فيه اربعون غرفة، وكل غرفة فيها أربعون سرير، وعلى كل سرير هناك أربعون حورية، وكل حورية من شدة جمالها وشفافيتها فإن الماء يبان وهوينساب في بلعومها! امضى عمره وهو يحلم بهذه الحورية لتمنحه لذة إحساس بالمطلق.
راح (آدم) يتفحص بدنه والأشياء حوله، عله يتيقن من حقيقة وجوده وعدم غوصه في وهم. فتح فمه وأصغى إلى صوته، انطلق كصراخ مكتوم في كابوس خانق :
ـ من أنتِ؟!
جاءه صوته نشازاً كأنه يسمعه عبر مذياع. انه في اعماقه، لم يكن ينتظر جوابها، فأحس بنوع من الأسف من سؤاله خوفا من ان يكون صوته سبباً في اختفائها. لكن شكوكه بواقعية ما يحدث امامه قد تعززت عندما رآها ترمقه بعينين خمريتين، وتفتح شفتيها وتتكلم بصوت ذي نبرات حلوة كضحكات طفل، وحادة ذات رنين كقعقعة سيوف:
أنا ياسيدي منذورة لك ولذريتك. أسلافك جميعهم امضوا شطراً من حياتهم معي ... كنت عشيقتهم السرية ورفيقتهم في ملذاتهم وانتصاراتهم، وفي متاهاتهم ونكباتهم وساعات احتضارهم. آخر رجالي كان أباك، ورثني عن أبيه وأسلافه.. منذ قرون لا تحصى وأنا أمضي خلودي في هذه القارورة، يتوارثني أبناء عن آباء. من يمتلك قارورتي يمتلك أسرار روحي وجسدي...
ظل مبهوتاً، وقد تدلى لسانه في فم فاغر! كل شيء كان يمكن أن يخطر على باله إلا هذا...! إمرأة خالدة الشباب والجمال طوع أمره ولإرضاء ملذاته! الآن فقط قد رأى بأم عينيه حورية أحلامه التي استقرت في أعماق طفولته. كان (آدم) عكسي، توقـه إلى الموت يمتزج بلذة خلود روحه في الجمال المطلق، بينما انا خوفي من الموت يذوب في ارتعاشات الجسد وملذات الحياة. كم مرة منعته من الإنتحار ليتخلص من جسده الفاني وليطلق عنان روحه نحو أعالي كون متسام عن وضاعة الدنيا ودونيتها! وكم مرة منعني هو من ارتكاب خطايا تبتغي الإنتقام من المسؤولين عن بؤسي.
استطردت المرأة بعد ان وجدت منه الصمت:
ـ تمهل واسترح... هاك تلمسني وتيقن مني. إني بأجمعي لك فلا تخشني. دعني أدنو منك لأمسح عنك غبار العمر بحكاياتي عن أسلافك. هم كانوا ماضيّ، وأنت الان حاضري، وذريتك مستقبلي.. ديمومة نسلكم سر خلودي و...
وانقطع كلامها بصوت (مارلين). كانت تهبط درجات القبو وهي تنادي على (آدم) أن يستعجل قبل فوات موعد القطار. تلبك في حيرته وكاد يصرخ بزوجته أن تأتيه لتشاركه المعجزة، إلا أن المرأة ارتمت عليه بسرعة مستغيثة به هامسة أن لا يفضحها.. حياتها له وحده وكشفها للآخرين يعني نهايتها. قالت إنها ستعود إلى قارورتها حالاً، وعندما ينوي لقائها يكفيه أن يفتح غطاء القارورة فتخرج له. ثم أغمضت عينيها وكورت نفسها حول القارورة كأفعى في لهيب. طفق جسدها يتلوى ويهتز ويتمطى ويتقلص، ثم غابت في القارورة مثل زوبعة ابتلعتها صحراء في حلم صامت.
* * *
طبعاً، أنتم تتوقعون ما يمكن أن يقوم به صاحبنا. في اليوم نفسه وصل مع زوجته إلى قرية (ناندا العليا) الراقدة بين قمم الألب المثلجة. بعد منتصف الليل تسلل تاركاً اياها نائمة في المنزل الجبلي. حمل حقيبته السوداء الصغيرة حيث تختبىء القارورة، ووضع تحت إبطه سكينة مطبخ، تحسباً للمفاجآت السيئة. مضى خارج القرية يطبش بين ثلوج ذاب بعضها بأشعة شمس عابرة.
بلغ باحة مرتفعة ينتصب في وسطها عمود بث تلفزيوني. كانت باحة مفتوحة وآمنة ونظيفة ومتنعمة بنور تتخلله التماعات حمراء قادمة من قمة العمود. أخرج القارورة من حقيبته ووضعها على حافة السياج الإسمنتي المطل على الوادي. اختار هذه النقطة ليسهل عليه عند الخطر دفع المرأة من الحافة لتسقط في أعماق الهاوية. كانت السكين بيده بينما أصابعه تجهد لفتح الغطاء. عادت إلى قلبه ارتعاشات اللذة باللقاء المرتقب، والرعب من أن مارداً جباراً قد ينبثق ويمسك به من شعره ويرميه كحجر في اعالي الفضاء!
انفتح الغطاء، ونفدت إلى أنفه رائحة انثوية مألوفة، واندفع فحيح خافت! تراجع (ادم ) بعيداً عن السياج وقبضته تشتد على السكين.. ثم، هكذا، عارية متوهجة وقفت أمامه من جديد، كما لو أن يداً إلهية خفية متمرسة بنحت الثلج والقمر قد امتدت وصنعت تلك المرأة العجيبة!
هيئتها وصوتها بثا تراخياً في قبضته...لأول مرة في حياته تدمع هكذا عيناه ليس حزنا ولا فرحا، بل انبهاراً!
ـ "د..ثر.. ني... ارجوك..الثلج يؤذيني.."
عندما أدرك أن نبرات الصدق في صوتها موشاة بنغمات مريبة مغرية، تفاقم تردد مشاعره بين شيمة شجعان وحذر مخدوعين. في أثناء ارتجافتها كانت المرأة تقترب منه منسابة على أطراف قدمين حافيتين، جاعلة الحصى الناعم يصدر صوتاً كحفيف حيوان زاحف. راحت بهدوء تلقي بذراعيها على كتفيه، واضعة قدميها على حذائيه حتى التصقت به. آنذاك فقط،خضع (آدم) لشيمته وخلع سترته الجلدية ودثرها بها. أحس بعريها عندما امتدت كفاه دون قصد إلى ردفيها. لم تنتابه رعشة لذة بل رعشة ترقب وتساؤل، كصانع مبتدىء يتفحص بضاعته. كان ينصت لأنفاسها المتقطعة ويتساءل إن كانت أنفاس برد أم شهوة. عبقت في أنفه رائحة شعرها خليطا من حناء وأنواع عطور شعبية شائعة لدى ريفيات الوطن. لعن في سره نساء بلاده. راودته أحاسيس هي مزيج من ضغينة وأخوة، تنتابه في كل مرة يلتقي بإمرأة قادمة من الوطن.
لعلي أفضح لكم سراً: إن (آدم ) حتى رحيله من الوطن لم يتمكن من ان يضاجع ولا مرة واحدة طيلة حياته. السبب ليس له أية علاقة بقدراته الجنسية. إنه يعود إلى سبب غامض ومجهول، من الصعب التكهن به. مرة وحيدة حاول بها حقاً، كانت قبيل هجرتنا. في الصيف، بعد إلحاح أقنعته أن يرافقني بسفرة إلى البصرة. هناك اصطحبته إلى أطراف المدينة، حيث تنتشر بيوت غجر طينية في (حي الطرب). بعد دقائق من انزوائه مع واحدة، قفل راجعا إلي وهو يبصق ويلعن. لم يحتمل مشهد عُري البغي، ولم يفعل شيئا. اعاد على مسامعي نظرياته عن جسد طاهر وحب مقدس وأن الجنس يجب أن لا يقترن برذيلة مال وقوانين سوق، وأن روحه في هذا الوضع تنفر من فعله وتتقزز من جسده وتجعله خامدا بلا شهوة ولا قدرة. بسببه ضاعت تلك السفرة هباءً. من خيبتي به فقدت أنا أيضاً شهوتي ورجعت معه.
حتى يوم تركنا الوطن، قام بمحاولات عديدة فاشلة لإقامة علاقة طبيعية مع امرأة. كم مرة دفعته إلى مغازلة زميلة في العمل أو رفيقة في التنظيم، إلا أنه كان يأبى. رغم إيمانه بأفكار الحرية فقد ظل دائماً ذلك النبي الطامح إلى الصفاء في كفاح وإخلاص عذري للمبدأ. كان يتفادى كل ما كان يعتقده إساءة إلى سمعة القضية ولو مجرد علاقة حب مع رفيقة. ظل بكراً حتى وصل إلى أوروبا.
الأعوام الثلاثة التي أمضيناها في الترحال كانت أعوام حرمان أسود حولته إلى متصوف ثوري لا يضاجع من الوجود غير نظريات حرب العصابات وصراع الطبقات وبناء المجتمع الفاضل. هنا في اوربا، وقبل أن يلتقي بزوجته صادف بضع مغامرات سريعة مع نساء من مختلف الأوطان ليست بينهن أية إمرأة من بلادنا. يأس من تكرار محاولاته لتذوق جسد إحداهن. جميع اللواتي التقى بهن كن، رغم شغفهن به وتعلقهن بمصاحبته، يمانعن في ممارسة الحب معه. ليست العفة وحدها كانت سبب تمنعهن، فالكثيرات منهم لم يتمنعن مع غيره لا من قبل ولا من بعد، لكن معه ثمة مانعا مجهولاً حتى هن كن يستغربن تأثيره الخفي!
ـ "خبرني أين نحن.. لما ودعني أبوك كانت هناك شمس غاربة وشتاء يطرق أبواباً. منذ قرون ما شفت مثل هذا الثلج!"
صار همسها أكثر إلفة واختلطت فيه نبرة غنج وفتنة ذلك النوع من النساء اللواتي يفرضن هيمنتهن على الرجال بإظهار ضعفهن وحاجتهن إلى الحماية. شفتاها كانتا تلامسان اذن(آدم) بأنفاس همسها، فتسربت قشعريرة خدر طفولي لذيذ، ذكرته بلمسات اصابع أمه وهي تفلي شعره، ثم إنسابت القشعريرة في لحمه وتركزت أسفل بطنه.
كأنه أراد أن يكافح مشاعر خجل وتأنيب ضمير أحسها دون سبب واضح, خاطبها بصوت مبحوح نابض بلوم واعتذار:
ـ"انتِ... أرجوك خبريني من أنتِ! ؟"
روحه المتصوفة التائقة الى التسامي، كانت تحوم مرفرفة كحمامة تسللت افعى إلى عشها. هكذا هو (آدم ) منذ أن وعينا الحياة ظلت الخطيئة بالنسبة إليه رديفاً للشهوة. تجارب حياته زرعت فيه هذا الأحساس العميق بالإثم مع الشهوة. كم هي عميقة في ذاكرته تلك الليالي التي كان يصحو فيها وهو طفل مرتعب من أنين أمه وفحيح أبيه. مرت اعوام حتى أدرك أن أباه لم يكن يؤذيها بل يمنحها لذّة! في عمر العاشرة وقعنا في هوى تلك (السجينة) التي ما فارقت صورتها روحينا، وظلت كغيمة خالدة في سماوات جميع تجارب عشقنا. قبل عمر المراهقة وقع في حب (إيمان)، صبية موصلية شقراء لها وجه يشبه تفاحة مطعمة بعنبتين وحبة رمان. قرر أن يحبها حتى الموت مباشرة بعد خروجه من فلم هندي عن حبيبين، غنية وفقير، ماتا حزناً على فراش الحب.
خلال أعوام، لبث في أعماقه لا يصدق ان الأنثى يمكن أن ترتكب خطيئةَ أَنْ تصير عادية مثل البشر. إنها رمز الطهر والسمو عن عاديات الحياة وشهوات الجسد وحاجاته المتدنية. حتى بعد أن اكتشف الجنس ظلت تراوده تنهدات والديه ممتزجة بصرخات (السجينة)! صارت الخطيئة جزءاً حيوياً من لذته. اما انا فخطيئتي إن لم ارض شهوتي. عاماً بعد عام كان صراعنا يشتد ومسافة خلافنا تتسع. كان يؤنبني بعنف ويسخر مني كلما ضبطني أمارس لذتي على خيال خادمة الجيران.
رغم ذلك فإن حسا مشتركاً ظل يجمعنا: ذلك الشغف الأعظم بالجمال. هو، كان شغفه يحلًق في الأعالى، في الروح السامية. أما أنا فشغفي يكمن في الأرض، في أحشاء الخليقة وثنايا الشهوة، في تجسدها ونكهتها وفرقعة نيران احتراقها!
* * *
ساد صمت لوقت بدا طويلاً. كان صمت ثلوج مطبق، حيث تتدثر الحياة في أعماق الأرض. اتكأت المرأة على السياج ورفعت وجهها إلى السماء، فحط بدر في حدقتيها. كان بدراً أبيض ينضح بقطرات حليب. لم ينتبه (آدم) للحظة انطلاق صوتها. كان جزءاً من صمت الجبل. خُيل إليه أن همسها ينبعث من غابات وبيوت القرية وقمم الجبال. انتشر صدى كلماتها في الفضاء وأضفى انبهاراً سحرياً على ليل مدن الوادي السابحة في شذرات مصابيح متوهجة وقمر ساطع. راحت تحكي له عن عشاقها من أسلافه: ملوك وقطاع طرق وقادة جيوش وأمراء فاسقون وخونة وجلادون وأنبياء وفلاحون وعشاق وشعراء وخصيان ومرتزقة. حـدثته عن امجادهم وهزائمهم، عن محاسنهم ومساوئهم. منذ آلاف الأعوام يتوارثونها ابناء عن آباء، عاشروها وتنعموا بخلود اللذة في جسدها وروحها..
حكت وحكت له حتى الفجر. كانت كلماتها تدخل في أعماقه وتحمل ذرات كينونته لتسمو به إلى أقاصي الكون، تجتاز حدود المكان والزمان، ترحل به عبر عصور التاريخ، تنسخ روحه في أبدان الأسلاف وتنقله بين شعوب وأوطان وتجارب وذكريات ما زالت آثارها تحيا في كل ذرة من دمه وروحه.
فصل ثان
ماضي القارورة
لو أصغيتم إلى جميع حكاياتها لما كفاكم العمر. عوالم تنبجس من عوالم، تواريخ تقود إلى تواريخ، بلا نهاية.
حكت أنها كانت فتاة طبيعية مثل باقي البشر. اسمها(هاجر) وكانت تعيش بين شعبها في مملكة قديمة من أرض الجنوب تسمى (أور)، في حقبة أعقبت الطوفان الكبير الذي أغرق الأرض جمعاء. كان ابوها أميراً من سلالة الملك المقدسة. امضى حياته في محاربة قبائل الغزاة القادمة من الحدود. أما امها فكانت ابنة أمير إحدى القبائل المنحدرة من بادية الشام. منذ حقب طويلة استوطنوا أرض الجنوب وانصهروا بشعب الأهوار واشتركوا في ديمومة المملكة. شاءت الظروف أن يقع في حبها (تموزي) ملك دولتهم ويهيم بها رغم امتلاكه العديد من النساء والجواري. تزوجها وتولع بها وصار يغار عليها من أي بشر آخر، حتى من نساء وحاشية قصره! أسكنها وحدها في قصر منعزل بين الأهوار لا يتصل بها إلا بعض خدمها.
بلغ العشق بهذا الملك أنه منعها من الاحتفاظ بولدها الذي أنجبته منه، وأرسله الى قصره الرسمي ليعيش هناك بعيداً عن أمه. كان يقول لها إنه لا يحتمل أن يراها مثل باقي النساء، تلد وتعتني بالطفل وترضعه، ويترهل جسمها، ويرسم العمر خطوطه على وجهها. يريدها خالدة الشباب والجمال، ومنبعاً ابدياً للشهوة الطبيعية، محصنة من تشوهات الحياة وحماقات العمر. يريدها له وحده لا يشاركه بها حتى الزمن!
كان هو الوحيد الذي يلتقيها. يمضي الوقت بإحتساء العرق معها بينما أنغام قيثار سومري تصدح في أرجاء القصر. كان يغيب في عوالم صوتها وهي تنشد أغاني البادية التي تعلمتها من أمها. يتمعن في جمالها، ويتمرغ بجسدها، ويذوب في النشوة إلى حد التعبد والتصوف وذرف دموع الوجد. كان يكلمها متضرعاً بين أحضانها:
ـ " ليتني نبي طوفان وأنتِ سفينتي.. ليتني كلكامش وأنتِ حلم خلودي.. ليتني معبد وانتِ إلهتي..إني فناء وأنتِ ابدية"!
اخذ رعبه يتفاقم من فكرة أن معبودته ستهرم يوماً، تفقد نضارة شبابها، ويخطفها الموت إلى عوالمه السفلية المظلمة. قرر أن يدعو جميع سحرة وحكماء مملكته والممالك المجاورة. تعهد بمنح نصف ثرواته لمن يجد شراب الخلود لمعشوقته، ويحميها من آثار الزمن.
* * *
خلال أعوام من العروض والتجارب، فشل جميع السحرة والحكماء في العثور على سرّ الأبدية. هيمن اليأس على الجميع، وكاد شيطان الحزن أن يسيطر على روح (تموزي) لولا أن أعلن أحد الحكماء نصيحته الأخيرة :
ـ "على جلالته أن يرحل بنفسه، يتوغل في أعماق البادية، يبحث ويتصل بالشيوخ والحكماء المنعزلين في الواحات وكهوف الجبال الصخرية، لعله هناك يحصل على ما يبتغي".
رحل الملك بجيش من خيرة فرسانه، بعد أن وكّل وزيره وصديقه إدارة المملكة. إصطحب معه معبودته (هاجر) ومعها كل ما يوفر لها الرغد والراحة ويقيها لهيب البوادي وجفافها. ظلوا يجولون ويتوغلون في الأعماق، يتصلون بقبائل البدو، يستشيرون النساك وحكماء الصحراء. كل حكيم كان ينصحهم بالإتصال بالحكيم فلان القاطن في الواحة الفلانية أو الهضبة الفلانية على بعد مسيرة كذا يوم أو أسبوع.
كاد يغلبهم اليأس بعد عامين من التجوال دون جدوى. حتى أتى يوم التقوا شيخاً يقطن مغارة عميقة في جبل صخري احمر. كانت تشع منه هيبة أنبياء، طويل القامة، أسمر البشرة، جبهته عريضة بارزة وأنفه طويـل ناتىء، عيناه كحيلتان متوهجتان بخمرة إيمان، لحيته بيضاء، وشعر رأسه أبيض، تغطيه طاقية بيضاء، على كتفيه عباءة سوداء فوق ثوب فضفاض أبيض.
تقدم منه الملك وحدثه عن بحثه الشاق. دون ان ينبس الشيخ بكلمة، نظر إلى الملك وكأنه يقول له امنحني ثقتك وكفى. اشار إلى (هاجر) أن تتقدم منه ثم مسكها من معصمها وتوغل بها في أعماق مظلمة، وغابا عن عيني الملك المترقبتين المندهشتين!
بعد مسيرة وقت طويل في ممرات معتمة وجدت نفسها في باحة واسعة، أرضها من عشب اخضر فضي. الناظر إلى الأعلى يشاهد فتحة في وسط قبة عالية جداً، كأنها سماء يهبط منها شلال من شعاع شمسي وماء.
ظل الشيخ واقفاً عند العتبة ويلقي بإشارات صامتة إلى المرأة. اطاعته بخشوع، تعرّت ووطأت أرض الباحة. تقدمت من الشلال المتساقط في قارورة خشبية صغيرة بحجم الكف موضوعة على الأرض. رفعت القارورة وضمتها إلى صدرها ووقفت محلها تحت النور والماء. نظرت حولها وانتبهت لأول مرة: عبر الشلال شاهدت جدراناً مبنية من حشود خيول جامحة، حمراء سوداء بيضاء، صفوف فوق صفوف تشكل بناء ثابتاً. رغم جموح داخلي، كانت تركض متجهة إلى السماء، إلى الفتحة لترتوي من نبع النور والماء!
رفعت (هاجر) القارورة، وأغمضت عينيها، وراحت تشرب وهي تنصت لصهيل خيول متناغم كنشيد وحشي يصدح بالإرتواء. انتابها احساس غريب لم تعرفه من قبل! لأول مرة في حياتها تحس حقاً بوجود جميع مكونات بدنها: دمها وقلبها ورأسها وباقي أعضائها.. تدرك وتتحكم بكل حركة تقوم بها كما لو كانت أصابعها.. أحست أنها بذاتها تسبح في داخل بدنها.. كانت تعوم مع مجرى دماء هابطة من رأسها إلى صدرها وبطنها حتى تصل إلى ملتقى عجيب لعدد هائل من الأنهر.. كان مصباً عظيماً تمتزج فيه ألوان أنهار الحياة والشهوة لتشكل بحيرة هائلة، مياهها تتموج بكائنات هلامية من نور، تسبح وترتوي وتمارس الاندماج!
تركت هاجر نفسها تذوب بين تلك الكائنات، وراحت تغرق وتغرق حتى غابت تماماً عن الوعي...
بعد انتظار طويل أقلق الملك وأتباعه، ظهر الشيخ من أعماق الظلمة مجللاً ببياضه وبسواده. عندما شاهده الملك قد عاد وحيداً، كتم خوفه، ومسك سيفه. تريث عند رؤيته ملامح الشيخ ناطقة برضى وعيناه تشعان ببشارة. اقترب الشيخ من الملك، وبصمت وقور قدم له القارورة!
في تلك الليلة، وسط خواء البادية وعلى قمة جبل أحمر، فرشوا لـ(تموزي ) سريراً بأبسطة وملاحف من حرير. نصبوا كلة واسعة سقفها مفتوح على سماء زاهية، وتركوه وحده مع القارورة. خرجت له معبودته وهي لا تزال تعيش غيبوبة ذوبانها في البحيرة. دون أن ينبسا بكلمة التحما مع بعضهما، وغرقا بلذة جنونية حتى هامت صرخاتهما في السماء، وجعلت القمر يصبح بدراً والنجوم تتوهج أكثر والليل يكتسي بحمرة الحياء.
* * *
هكذا امضت (هاجر) حياتها الأولى مبتهجة بخلودها. يخرجها ملكها كل ليلة ليمارس معها طقوس عشقه وملذاته. امر نحاتي (اور) أن يصنعوا من هيئتها صنم (انانا - عشتار) إلهة الارض والخصب والجمال. كان يترنم أمامها بصلوات خشوعه لخلودها. يستعطف بركتها لحروبه، وعندما تشح الأمطار يقدم لها نذور الاستسقاء.
في عهده عمّ الرخاء البلاد، وتتابعت عطاءات نهري دجلة والفرات بغرينهما الأحمر، وغدت سنبلة القمح رمز بركة الملك وخصبه. وصل الأمر بالكهنة ان رفعوه إلى مرتبة إله.
في هذه الفترة تمكن الأكديون، اخوال (هاجر) من أن يحصلوا على مشاركة أكثر مع السومريين في إدارة الدولة والمجتمع، فكانت أولى الخطوات توحيد المعابد ومجمع الآلهة. كونوا ديناً واحداً تحت حماية (تموزي) الملك والإله، وعشيقته إلهة الحب والخصب والجمال.
ذات يوم فاجأت الكارثة ذلك الملك. كان مع بعض فرسانه وحاشيته يتجول في البوادي القريبة، يمارس رياضته المعهودة بصيد الأسود والغزلان. كانت ليلة كئيبة تخللتها ريح خريفية باردة اتت مبكرة على ميعادها. كان (تموزي) يستريح في خيمته في معسكر الصيد. كانت الحسان في خيمة مجاورة يعزفن على آلاتهن وينشدن ترانيم غزل ومديح. في اللحظة التي امتدت يده إلى القارورة، أحس بفحيح حارق وقوة جبارة تلتف عليه وتضغط بعنف على أضلاعه!
عندما هرع الحراس على صرخته المكتومة، شاهدوا ما لم يخطرفي البال : كان الملك يتمرغ بهلع ورعب وقد التفت عليه أفعى عملاقة رقطاء. كانت تحدق إليه بغضب، ولسانها المشروط ينقط دماً. كان (تموزي ) يحاول عبثاً أن يحرر نفسه من الأفعى، وتتخبط يداه بحثاً عن أي سلاح، وفمه فاغر قد شل رعباً واختنقت صرخاته. هرع الفرسان والجنود من كل صوب من اجل تخليصه. لا أحد كان يتجرأ على أن يرمي سهمه أو رمحه خشية إصابته. ظلوا يناوشون الأفعى بسيوفهم، وهي ما كفت عن التفافها على الملك وسحبه معها. كانت تزحف خارج الخيمة والمعسكر رغم جراحها إلا أنها لدغت جنديين وفارساً وشلتهم في مكانهم. استمرت في زحفها حتى وصلت إلى مقبرة مهجورة غير بعيدة عن المعسكر.
الجميع قد هبّوا وأحاطوا بالأفعى. الرجال كانوا يحومون حائرين يطلقوق صرخات رعب وعار أمام عجزهم عن إنقاذ ملكهم، والنساء نفشن شعورهن ومزقن ثيابهن وتمرغن بالتراب وقد استحالت أناشيدهن إلى نحيب استغاثة وتراتيل دعاء إلى الإله الأب(ايل) من إجل إنقاذ (تموزي ).
إستمرت الأفعى تزحف بين شواهد مقبرة يقطنها أسلاف منسيون، بينما كانت خطوط شفق نحاسية تضفي على قبور مخسوفة هيئة حيوانات منقرضة تفتح أشداقها لإبتلاع الاحياء. في واحد من هذه القبور، توغلت الأفعى وهي ترسم على وجهها ملامح ساحرة عاشقة تأوي إلى مخدع معشوقها.
في آخر لحظات غياب الملك في القبر، ارتسمت على وجهه ملامح عتب شديد وأطلق صرخة مبحوحة رجت في المقبرة وتداعت أصداؤها في سماء البادية:
ـ "لماذا..لماذا.. يا الهي خذلتني..؟!"
هكذا اختفى الملك، وأيقن الجميع أن (كيجال) إلهة العالم السفلي قد فجّرت غيرتها من (عشتار) براكين حقدها، لبست جلد أفعاها وخطفت (تموزي ) إلى عوالمها المظلمة.
* * *
هذه الميتة المباغتة لم تتح للملك وداع عشيقته، وتهيئتها لوضع جديد. ظلت غائبة في قارورتها لزمن لم تدركه، حتى انتبهت يوماً أنها تخرج من القارورة وأمامها ملك جديد!
كان مفعماً بشباب فيه الكثير من ملامح ملكها إلا أنه كان يتميز بصلعة خفيفة تبرز تحت طاقية تاجه. كان ثملاً يحدق بإندهاش في جسدها العاري الذي اصطبغ بلون نيران المشاعل المنثورة في القاعة. بشرته المحمرة وعيناه الجـاحظتان وشفتاه الغليظتان كانت توحي بمزاج عصبي وحسي وإرادة هوجاء ومجون وشهوة.
أشار إليها أن تقف. ألقى على كتفها شالاً حريرياً أسود، وأخذ يحوم حولها ويتأملها بشغف وجوع كذئب يفتش عن افضل نقطة ينهش منها فريسته. ثم ارتمى عليها وألقاها على البساط، اعتصرها بعنف وراح ينهش ثدييها ويرضعهما كطفل جائع. دون ان يخلع ثيابه، والشال الأسود يلتف على عنقها، ضاجعها بوحشية وعجلة وهو يصدر فحيحاً أقرب إلى النحيب، ثم انبطح على ظهره وغطى وجهه بالشال الأسود، مشيراً إليها أن تعود الى قارورتها.
هكذا استمر الحال. كل ليلة يخرجها ذلك الملك الغريب الأطوار، ثملاً عصبياً، يلقي عليها الشال الأسود، ويحوم حولها، ويرضع ثدييها، ويمارس معها همجيته. ودون كلام يدثر وجهه بالشال ويتركها تعود. حتى اتت ليلة أخرجها من القارورة وارتمى عليها باكياً، يقبل جسدها بتضرع وألم وهو يتمتم :
ـ "سامحيني.. سامحيني.. يجب أن أعترف لك.. أبوح لك بخطيئتي...".
كانا آنذاك في قاعة القصر وقد تركت نوافذه مفتوحة لتنساب نسائم المساء الباردة. لحظة فتح فمه، تسرب من بعيد عواء ذئب! قال إنه ابنها الذي أبعدوه عنها بعد ولادته. صار ملكاً بعد موت أبيه المفاجىء. كان له ثلاثة أخوة من نساء أخريات، تخلص من منافستهم بعد أن بعث أولهم إلى ساحة الحرب وتدبر أمر اغتياله سراً وجعل منه شهيداً من أجل المملكة. اما الثاني، فقد أقنع إحدى عشيقاته بأن تضع سمّاً في شرابه ثم اتهم خصمه الوزير بهذه العملية وذبحه عند قبر أخيه. أما الثالث فقد تخلص منه بأن جعله يفقد عقله، إذ قدم النذور وقام بنفسه بذبح جارية عذراء على جرف الفرات فداءً لإله المياه العذبة الذي استجاب وسلط أمواج العشق على اخيه الشاب وخلب فؤاده وجعله يمضي عمره متسكعاً على شطآن الفرات يلقي بأشعار الهيام على قوافل القوارب المنحدرة في الشط الكبير الراحل الى الخليج.
قال إنه منذ الليلة الأولى كان يظن بأن له علاقة قربى بها. كان قد سمع في طفولته نساء أبيه يتهامسن بحكاية القارورة وأمه المعتزلة في القصر المرمي بين الأهوار والبادية. عندما رآها تخرج من قارورتها لم يستطع أن يكبت رغبة دفينة في أن ينهش جمالها وكأنه بذلك ينتقم من أبيه الذي حرمه منها. إمتزاج حقده وشهوته جعله يخضع لنوازع حُب بدائي أصيل جاهل لأعراف الحضارة ومحرمات العقل.
طلب من أمه الغفران. عاهدها بأن ينقذها من خلود القارورة ويرجعها إلى حياة الحرية الفانية. استشار جميع الكهنة والحكماء والنساك، من دون جدوى. الجميع أجابوا بالإستحالة:
ـ " ما ان يسترخي جسمها وتغمض عينيها حتى يستحيل كيانها إلى سائل تشربه القارورة. إن أبت الإسترخاء والنوم تهلك، وإن كسروا القارورة فإن المرأة تستحيل إلى سائل يتبدد في الأرض وتتبخر حياتها بين الغيوم".
حُكم عليها أن تمضي خلودها في جوف القارورة وأحضان الأحفاد. الأعوام التي أمضتها مع ابنها، كانت أعوام قحط وجدب. فيضانات متتالية من النهرين أغرقت القرى والمدن ودمرت المزارع والبساتين. ثم أن (ايرا) اله الطاعون استثمر الحال لينفخ على بلاد (سومر واكد) كلها ريح الخراب، وأطلق وحوش الموت من اقفاصها، فأبادت الحشود بعد الحشود من البشر. من استطاع ان ينجو بنفسه، إما اختبأ بعيداً في أعماق الهور، وإما هرب غربا إلى البادية او شرقا الى الجبال المحاذية.
لم تغفل اقوام الجبال الشرقية والبادية الغربية هذه الفرصة الثمينة. راحت تجول عابثة في الحواضر قاطعة الطرق. في يوم اسود، بعد أن تبدد جيش (سومر واكد)، وقضت الكوارث على الرجال، تمكن احد أمراء الجبال من اكتساح البلاد وتدمير ما تبقى من حياة. نشروا خراباً فوق خراب وسفكوا دماء فوق دماء. قتلوا جميع زعماء وشيوخ المدينة. حاصروا قصر الملك، وعندما عجزوا عن اقتحامه أحرقوه.
بينما كانت النيران تلتهم القصر، أخرج الملك أمه من القارورة، وبكى على صدرها واخبرها بقرار موته. رفض الهرب من النفق السري المؤدي إلى اطراف المدينة. قال إن موت مدينته وشعبه هو موته. لم يعد راغباً في الحياة بعد الكوارث التي حدثت بسبب خطاياه. كان يؤمن بأن دماءه ستغسل عن أرض البلاد اسباب نكبتها.
ودّع امه وسلمها إلى اتباعه لتعيش مع ابنه الذي هرّبه الى الأهوار. عندما امسكه الغزاة، لم يدرك بأنهم يصلبوه على جذع محروق كان من بقايا تلك النخلة التي شهدت قبل ثلاثين عاماً لحظات جنونية زرع في أثنائها أبوه (تموزي ) بذرته في بطن هاجر.
ذات يوم، وجدت هاجر نفسها امام حفيدها الذي ورث القارورة عن أبيه القتيل. كان فتىً يافعاً قاسي الملامح حنطي البشرة وذا عينين عسليتين ثاقبتين كعيني بحار عجوز. ورث طبع الصرامة والصبر عن أم قادمة من جبال الشرق وماتت بالطاعون، وورث عن أبيه شهوانيته وملامحه الشرسة، أما عن جده فقد إكتسب طبعاً روحانياً وميلاً للإيمان بعقيدة.
هناك بين أحراش قصب البردي التي لم يطأها بشر، أقام جيشاً من الهاربين، وأعلن العصيان من اجل طرد الغزاة. كان يتسلى بصيد الجنود، يتركهم احياء، ثم يخرج جدته من القارورة ليجبرها على ان تشفي غليلها برؤيتها موت سافكي دماء قومها. كان يقطع أعضاءهم ويشويها ويجبرهم على أكلها. يتركهم معلقين حتى الرأس في الماء ليهترئوا حتى الموت. يضعهم عراة في قفص كبير ويهد عليهم العقارب والأفاعي السوداء (العربيد)!
في كل مرة ينتهي من حفلة موت، يختلي بـ(هاجر) في قارب (مشحوف) مفروش ويضاجعها وسط القصب وأفاعي الماء وهفيف الطيور وصرخات الخنازير الوحشية.
* * *
هكذا ظلت (سيدة القارورة) لآلاف من الأعوام تتنقل من ارض إلى أخرى ومن حضن حفيد إلى حضن حفيد آخر. أجيال أمضتها بين الأهوار، وأجيال أخرى في الجبال وفي البوادي وبين البحار. خلال أكثر من خمسة آلاف عام توارثها أكثر من مئة وخمسين عشيقاً من أحفادها حتى ورثها (آدم ) عن أبيه! كانوا أحفاداً من ملوك وقطاعي طرق وأنبياء وعبيد وشعراء ومزارعين ومعتوهين. خلال مئة وخمسين جيلاً عرفت الكثير من الأقوام والأوطان في آسيا وافريقيا واوربا.
أحد الأحفاد تطوع في الجيش المصري الذي كان يحتل بلاد سوريا، فوجد نفسه يستقر على ضفاف النيل. عاشت (هاجر) مع احفادها في مصر بضعة أجيال. من خلال مخزون جدتهم من الحكايات والأخبار والمعلومات، تمكن هؤلاء الأحفاد ان يصبحوا جزءا من العوائل الفرعونية الحاكمة. بعد ان اجتاح جيش الآشوريين مصر وقعت ام احد الأحفاد اسيرة لدى الغزاة. فضلت ان تخفي حقيقة ابنها لكي تحافظ على حياته، فإدعت بأنها احدى عبيد القصر. وجد الصبي نفسه يفصل عن امه وينقل اسيرا الى بلاد النهرين ليصبح عبدا لدى احد اشراف مدينة (اور) في جنوب البلاد.
لم يعرف احد بأن هذا العبد الأسير الأسمر البشرة هو من نفس نسل هذا النبيل السيد الأبيض البشرة! لكن (هاجر) بذكراتها الدائمة الخصب اخبرت حفيدها بهذه الحقيقة المنسية. قالت أن هذه البلاد هي موطن اسلافه وجده الأول (تموز). كانت تتأمل بكشفها هذا ان تقنع حفيدها بقبول الأمر الواقع، لكن النتيجة كانت العكس، إذ قرر الحفيد ان يعلن عصيانه على سيده الذي سخر من كلامه وعاقبه بقطع يده.
كادت ان تنقطع سلالة ذلك العبد المالك للقاروة لأنه رفض ان يقترن بإمرأة. لكن (سيدة القارورة) تمكنت من إقناعه بمعاشرة احدى بغايا المعبد، لكي تجد من يتوارثها من الأحفاد ويحافظ على خلودها. شاء القدر ان تكون هذه البغي ذات عقل شيطاني، فما ان ادركت بأنها حامل من ذلك العبد الأسير حتى تمكنت من معاشرة نفس سيده واوقعته بحبالها واقنعته بانها حامل منه. فولد الطفل في عائلة نبلاء دون ان يشك احد بأن ابيه هو ذلك العبد الأجنبي المقطوع اليد.
يمضي الزمن ليهرب أحد الأحفاد مرة اخرى إلى أهوار الجنوب. لم يكن وريث ملك هذه المرة كجده قبل ألف عام، إنما زعيم عصابة قطاعي طرق ومهاجمة القوافل. فرض سلطانه على القرى المحيطة وتزوج عشرات النساء المخطوفات وأنجب قبيلة من الأشرار وتصاهر مع عشيرة قادمة من البادية المحاذية. كلما اندلعت في روحه نيران شوقه إلى المجهول، كان يخرج (هاجر) من قارورتها لتحكي له عن اسلافه الذين عاشوا هنا قي احقاب مختلفة. بعد كفاح دام لاعوام واعوام تمكنت هذه العشيرة ان تسيطر على بابل وتؤسس السلالة الكلدانية.
كالعادة بعد اجيال واجيال من الغنى والبذخ تفشى الانحطاط في هذه السلالة ودولتها، حتى تمكن الاعداء من اسقاط بابل. لكن الملك الكلداني الاخير الذي يدعى (نبونيد) تمكن من الهرب الى (التيماء)عاصمته الروحية الواقعة في اواسط الصحراء. كان هذا الملك زاهدا بالحكم ومؤمنا برسالة التوحيد. هنالك هو واتباعه امتزجوا مع قبائل الصحراء وراحوا يسنشرون ايمانهم العرفاني.
هكذا بفضل ما تعلمه الاحفاد مما كنزته لهم (هاجر) من معارف الأسلاف، بالإضافة إلى تجاربهم ومعارفهم، نشروا كلمة التوحيد بين الواحات. صار احدهم حكيما بين قومه وراح ينشر دينه بين بين قبائل الجزيرة داعياً إياهم إلى الاستقرار ونبذ الحـروب وروح الغزو والاستلاب. كان يقول:
ـ "إن كانت روح الإنسان تستقر في بدنه، فإن روح القوم تستقر في أرضهم، كذلك تستقر روح الاله في بدن الكون. لن تستقر روحكم إلا بإستقرار بدنكم. أية أرض تفتح لكم بواطنها استقروا فيها واحرثوها، لتكون لكم زوجة خصبة وأماً راعية. عطاء الأرض ورزقها يأتينكم بمباركة الرب، فإبتنوا له بيتاً بين بيوتكم، يبارك أفعالكم..ويكون لكم أبا حاميا".
أثناء الليل شاهدوا حجراً مشتعلاً يسقط من السماء، فعرفوا انها إشارة الاله. حول ذلك الحجر ذبحوا كبش فداء وابتنوا معبداً وبيتاً للرب، ثم ابتنوا بيوتهم واستقرَوا.
هناك تكاثر الأحفاد وكونوا سلالة(قريش) التي تزعمت القبائل وامتلكت كعبة التوحيد. ان (سيدة القارورة) امهم الخالدة هي التي كانت تنقل للأحفاد ميراثهم المنسي وتلهمهم المشاريع الطموحة. حدثتهم عن تواريخ اسلافهم الأوائل وكيف تمكنوا من صنع امجادهم في اور وبابل ونينوى. علمتهم ان يجعلوا معبد المدينة يضم اصنام قبائل الجزيرة كلها، لكي تصبح (مكة) اولى مدن التوحيد. معارف احد الأحفاد التي اكتسبها من حكايات جدته جعلته يعتكف على التفكر في أحوال الخليقة. عندما صار كاهن الكعبة الأكبر، حاول ان يضفي على عبادة الأوثان شيئاً من الإيمان بالله الواحد الأحد. أمر النحات بصنع أصنام كبيرة لـ(اللات وعزى وهُبل ) لتكون أرباباً كبرى تسمو على جميع أرباب الجزيرة، وهي الوحيدة القادرة على أن تكون الوسيط بين الإنسان ورب الكون.
بعد زمن هاجر احد الاحفاد الى سورية هربا من قصة عشق خائبة. اصبح راهبا في الوقت الذي كانت فيه المسيحية طائفة متمردة في طورها الأول. استقر في دير في بادية حوران. كان متعبداً لا يعرف من المرأة غير صورتها الشيطانية المغرية، بإستثناء البتول(مريم)،مانحة حنان وطهر ورحمة أبدية. يوماً اكتشف قارورة أسلافه بين متاعه. عاش أشد فترات عذابه وهو يكافح شهوة عربيدة كانت تستعر في كيانه كلما أخرج (هاجر). كان يأبى أن يلمسها وكاد ان يسلمها إلى الراهب الأكبر على أنها شيطان متنكر بهيئة حواء، لولا أنه اقتنع أخيراً بأنها حقيقة جدته الكبرى وعشيقة اسلافه. يوماً شرب نبيذاً وذرف دموعاً أمام أيقونات المذبح وغرق في تأمل صورة السيدة العذراء. كانت ترانيم تنبعث من بين ممرات الدير تمر على قلبه وتنشر حيرته في أرجاء الصحراء. لم يدر كيف حدث الأمر. خلال غبش دموعه رأى العذراء تنبجس من أيقونتها وتتجسد أمامه على صورة إلهة للجمال والعذرية. كانت تستر مفاتنها بشال مخملي أسود، وحدثته بصوت مفعم بشفقة ودفء أمومي:
ـ"حان الوقت يا ولدي ان ترحل من هنا.. بعث لك الله ملاك خصبه ورحمته.. ارحل بعيداً لتنتشر في الأرض كلمة الرب من افواه نسلك".
نصحته (هاجر) ان يرحل الى الجبال القريبة لينشر بين الناس كلمة الله. هنالك استقر وتزوج إمرأة كردية وخلف منها العديد من البنين والبنات وانتشر احفاده بين الجبال وعلى شطآن دجلة والفرات.
استمرت القارورة تنتقل مع احفادها بين ازمان واوطان، عاشت مع احفاد في الهند والصين وتركستان، واحفاد زنوج افارقة وشقر صقالبة.. احفاد وثنيون وبوذيون وهندوس ومسيحيون ويهود وصابئة...
بعد اجيال واجيال انتهى مصير احد الاحفاد اسيرا بربريا اندلسيا في بلاد الغال، اعتنق المسيحية وتزوج واستقر وخلف العديد من البنون والبنات. عندما كان يحتضر على الفراش، نادى ابنه الأوسط الذي كان شاباً يافعاً مفعماً بروح المغامرة وعشق النساء وأحلام السفر والترحال بين مقاطعات أوروبا. ناوله القارورة وهمس له بصوت مشرف على الانطفاء: (((انها لك.. إن كان الزمن قد غصبني على التناسي فأنت يا ولدي لن تنسى وستكمل عني تاريخي... خذها وستحكي لك عن حلم ستبقى فيه روحي خالدة...)).
بعد تجارب أعوام وأعوام من الترحال والسجن، تمكن من تحقيق حلم أبيه عندما وصل إلى بلاد النهرين التي دلته عليها (هاجر).
هكذا ظلت (سيدة القاروة) خلال قرون وقرون تمضي الأجيال من "حفيد ـ عشيق" إلى نسله. مهما اختلفت شخصياتهم وطبائعهم ومذاهبهم الا ان معشوقتهم تظل السرّ الأبدي الذي يجتمعون عليه ويستمدون منه جذرهم ارواحهم. عبر قرون وقرون، قادوا ثورات عبيد، وصاروا شعراءا وصعاليكا وجنوداً وملوكا ومتصوفين. عاشوا النعيم والجحيم، وبعضهم ماتوا بسلام وبعضهم صُلبوا وأحرقوا ورميت جثثهم في القيعان، وأمهم الكبرى رفيقتهم في حروبهم وسجونهم وقصور غناهم. ظلّوا جيلاً بعد جيل يتوارثونها حتى دار الفلك ليهرب أحد الأحفاد من مذابح المغول في بغداد إلى أهوار الجنوب. استقر هناك مع ذريته، واختلطوا مع العشائر، تناسلوا وانتشروا وعمروا مدناً وقرى.. واستمرت الحياة حتى وصل الدور إلى والد (آدم) الذي اخذ القارورة من بقايا حاجيات ابيه المتوفي وترك اهوار العمارة ليستقر في بغداد.
فصل ثالث
حاضر القارورة
طبعاً أيها السادة، لا أود أن أطيل عليكم الحديث. أقول منذ ذلك اليوم، بدأت مرحلة جديدة في حياة صاحبي (آدم ). وربما يمكنني أن أستعجل وأقول إنها كانت مرحلة حاسمة ليس بالنسبة لحياته وحده، إنما حياتي أنا أيضاً، كما سترون. إنها المرحلة الأكثر غرابة واحتشاداً بأحداث عجاب.
في الليلة الأولى دخل (آدم ) كون (امرأة القارورة). جسمه ظلَّ في عالمنا لكن روحه، عبر بوابة هذه الحورية، شرعت تتوغل في متاهات تاريخ سرمدي. في الليلة الأولى عند الفجر، مارس الحب معها. كل لحظة لذة وارتعاشة كانت زاخرة بأحداث عام. كما لو أن جسمه كان يستحيل إلى كتل سائلة هلامية تتلبس هيئة بشر، يولد وينمو ويمضي فترات عمره بتجاربه وتحولاته حتى يأتيه الفناء في لحظة انتهاء ارتعاشته وخموده بين أحضان (هاجر) وقد اتكأ على السياج تحت ناظر القمر الغارق في حمرة الفجر.
لقد عاد (آدم ) بعد تلك الليلة إلى المنزل الجبلي، وهو يحمل قارورته المستقرة في أعماق حقيبته السوداء. استغرب لأن ضميره ما أنبه إذ خان زوجته لأول مرة منذ أن أحبها. رغم أنه أمضى ليلة بيضاء حمراء ما احسّ التعب إنما أحس برغبة في زوجته تفوق المعتاد. بينما هما متعانقان، كان صوت غناء (فيروز) يمتزج مع تنهدات (مارلين ) لتتشكل منهما ألحان تنطق بلذة الخلود. في لحظات النشوة تلك، كان وجه زوجته يكتسب ملامح (امرأة القارورة)، وترتسم عليه كلمات الأغنية الصادحة من المُسجل :
"أعطنـي النـاي وغـنّ فـالـغنا سرُ الوجـود
وأنين النـاي يبقـى بعد ان يُفنى الوجـود"
حينها أحس (آدم ) بروحه المتسامية في الأعالي قد هبطت إلى أسفله، وراحت تتسرب سائلا ملتهباً في اعماق زوجته، وظلا متعانقين وقتاً طويلاً. ولم يدركا إلا بعد عدة أسابيع أن ساعة الحب هذه كانت ساعة خصب وزرع جنين في رحم (مارلين ).
منذ عامين وهما ينتظران ساعة الخصب هذه منذ أن وافق (آدم ) على تحقيق رغبة زوجته في إنجاب طفل. روت لي (مارلين ) فيما بعد انهما أمضيا العامين من دون أن يحدث الحمل. ظلت تستشير الأطباء في هذا الشأن، حتى قالوا لها إن العلّة تكمن في زوجها. إنه يعاني من عقم خاص ونادر: بذرته ترفض الاندماج مع بذرة أية أنثى، لا لأنها غير قادرة على الاخصاب إنما العكس، فإن بذراته مخصبة وحيوية أكثر من اللازم، وهذا التطرف في النشاط هو الذي يعيق عملية الاندماج مع بذرة الأنثى. ويقولون إن هذه العلة تعود أساساً إلى التكوين النفسي لنوع من الرجال الذين رغم شغفهم العنيف بالمرأة فإنهم في أعماقهم يمقتونها... يمقتون كل ما هو أنثوي وخصب فيها ولاسيما صفة الأمومة. عشقهم الأصيل للموت يخلق فيهم الكره للمرأة لأنها رمز الحياة والخصب والديمومة، فهي الأرض والواقع والتاريخ. في حقيقتهم لا يعشقون في المرأة غير ذلك التوغل في أعماق المجهول، العودة إلى أزلية ما قبل الوجود، إلى سر كينونة أولى كامن في أحشائها. إنهم يمقتون فيها الحياة لأنها بالنسبة إليهم القبر الذي يدفنون حياتهم فيه.
هكذا هي الحال، عندما يطول حرماننا مما نشتهي، يبدأ عشقنا يمتزج مع الحقد ويستحيل إلى جزء منه. الأطباء اقترحوا أسلوب التلقيح الاصطناعي. وافق (آدم ) على أن يعطي بذراته للمختبر ليمزجوها مع بذرات زوجته ليخلقوا اصطناعياً ظروف الأخصاب في رحمها. وقد إنتهت محاولتان من هذا النوع بالفشل، لكن (آدم ) و(مارلين) قررا أن يحاولا مرات أخرى. حتى اتى ذلك اليوم الذي ظهرت فيه (هاجر)، وحدث إخصاب (مـارلين ) الذي أدهش الأطبـاء، واعتبروه محظ صدفة نادرة الحدوث.
* * *
في الفترة الأولى، كان (آدم ) يحمل (امرأة القارورة) في حقيبته الصغيرة، ويسافر إلى المدن والضواحي القريبة من (جنيف )، ويمضي ليلة مع حوريته في فندق ريفي. ثم تجرأ يوماً وصارحني بحاجته إلى غرفتي بضع ساعات كل مرة أكون فيها غائباً. خمنت أن له عشيقة سرية لا يود كشف هويتها، ولم يكن يخطر ببالي أي شيء عن (هاجر). لم أكتشفها إلا بعد فترة. مع الأيام، صار (آدم) أكثر جرأة في اقتحام أماكن جديدة مع حوريته ليمارسا معاً ملذاتهما. يدخل إلى السينما ويجلس في الصفوف الأمامية الفارغة، يخرجها من قارورتها ويجعلها ترتدي ثوباً شفافاً وحذاء خفيفاً ويجلسها بجانبه ويشرح لها الفيلم. يوماً بعد يوم كان يكتشف أماكن جديدة لممارسة اللذة : المسابح، المراقص، القطارات، والأزقة والحدائق، بل وصل به الأمر أنه صار يحس بلذة اشد كلما اشتدت غرابة المكان وصعوبته، لم تفته حتى المتاحف ومكاتب الدولة والبنوك ودور العبادة.
جلب (آدم ) انتباهي بالتغيرات الملحوظة التي اخذت تطرأ على شخصيته. صار اكثر إيجابية بقبول دعواتي وتمضية الأماسي في الحانات والحفلات. بدأ ينعتق من انطوائيته المعهودة وحياته المنمطة بالدار والزوجة والحاسوب. صار يحتسي بتردد بضعة كؤوس نبيذ ثم يطلق العنان لنشوة الثمالة. بل اني نجحت بتوريطه باستنشاق بضعة انفاس من الحشيشة مع الخمر، وكاد ان يفقد وعيه وامضى ليلته بالقيء الشديد، لان مزج الاثنين اشبه بمزج النار بالثلج، يخلق إنفجارات في الروح والبدن، وقليلون اولئك الذين يتحملون الامر. الم اقل لكم بأني اختلف عنه.. حتى صحياً. لم افهم اول الأمر تلك العبارات الغامضة التي كان يهذي بها احياناً عن قارورة وحورية وتاريخ أسلاف. حسبت أنه يكرر عبارات قرأها في كتاب. كنت أندهش وأنا أراه بعد سبعة أعوام من الانغلاق والعزلة، ينطلق معي في ليالي عبثي ويشاركني في تسكعي بين الحانات. بل انه، لأول مرة، راح يسألني عن أخبار الحرب ويشترك في الحوارات الجارية بين الأصحاب. لم يعد يسخر مني وهو يرى كيف أني لا أدرك حياتي إلا من خلال إدراكي لحيوات الآخرين، وأن عيونهم هي مرآة أشاهد فيها وجودي، وأني مغرم بالتنقيب في خباياهم، وصوتى أسمعه في أصواتهم، وذاتي تسكن في ذواتهم. بل أني كثيرا ما كنت اتخيل شهواتي حصاناً جامحاً حبيس اسطبلات الناس، ولكي اطلق سراحه كان علي دائماً ان أتسلل إلى أعماقهم كضيف أو في اسوأ الأحوال كلص!
ها هي (امرأة القارورة) تحيي في (آدم) احلاماً مترسبة في أعماقه رغم ذلك اليوم الذي قررنا فيه الافتراق بعد اقتناعه بانتهاء عصر نُبوته. لقد احترقت فلسفاته وأحلامه الثورية في نيران الشرق البعيد، وما عليه حينذك إلا أن يبحث عن فلسفات وأحلام تتناسب مع طريقه الجديد. اختار النسيان ليكون سلاحه في كفاحه هذا. بدلا عن التنظيم وجد (مارلين ) وبدلا عن القضية وجد (الحاسوب )، أما حلم المدينة الفاضلة وجنة حوريته فلقد استعاض عنهما بعمل طموح وحلم مستقبل زاه، سوف يصبح فيه غنيا واختصاصياً معروفاً ومواطناً سويسرياً مُعترفاً بحقوقه من قبل الدولة والمجتمع. صارمبدأه في الحياة : كلّ شيء هنا أفضل من بلادي. حتى قسوتهم وعنصريتهم أفضل من هناك. أي نوع من الآلام في (جنيف ) كان يداويه باستذكار آلام أفظع وأشرس سبق وأن عاشها في الوطن. لو شتمه شرطي هنا، فانه يستذكر صفعات وركلات ووحشية الشرطة هناك. لو رفضه أحدهم وآذى مشاعره هنا، فإنه يستذكر عنف الناس هناك وقسوتهم على بعضهم البعض، فجسمه ما زال حتى الآن يحمل آثار جراح وحروق ماضية. لن ينسى ابدا ساعات غضب أبيه، وظل عميقا في ذاكرته ذلك اليوم، حينما كان عمره خمسة أعوام، ضربه أبوه وشتمه، ولسبب ظل مجهولا، قام بتعريته من ثيابه وطرده خارج الدار ليكون مسخرة اولاد الحارة، حتى أتته أمه وسترته بعباءتها السوداء. حتى الان يراوده كابوس عريه والناس يسخرون منه.
* * *
ها هو الآن (آدم ) يمضي الوقت مع (هاجر) وهي تسرد له ذكرياتها عن أسلافه. كانت تمتلك ذاكرة مدهشة في خصوبتها وغزارتها. ليس جسدها وحده يعيش خلوداً وشبابا، إنما كذلك روحها ومشاعرها وذاكرتها. تذرف دموعاً على ضحايا وتفرح مع منتصرين، كأنها لم تزل تعيش معهم. كانت كطفل في تساؤل دائم عن معاني الأشياء. كل ساعة تمضيها خارج القارورة، هنالك اكتشاف جديد بالنسبة إليها. تطالبه أن يشرح لها كل شيء : السينما، التلفزيون، أخبار الصحف، التكنولوجيا، المجتمع، الثورة، المرأة، التاريخ. وصاحبي ما قصّر، أفرغ في رأسها كل ما تعلمه من الحياة والكتب وتجارب السياسة والهجرة. لاحظ أنها في أثناء استغراقها في اكتشاف الأمور والإنصات لأحاديثه، فإن وهجاً عجيباً كان ينبعث من عينيها، شبيهاً بذلك الوهج الذي ينبعث لحظة وصولها إلى ذروة اللذة. هذا ما جعل (آدم ) يدون الفكرة التالية: "إنها لا تحس الأشياء وتكتشفها فقط، إنها تمارس معها الحب. إن كان الله قد خلق الإنسان من الطين المعجون باللذة، فإنه قد خلقها من اللذة المعجونة باللذة... إنها هي اللذة بذاتها ".
أكثر ما كان يثير استغراب (آدم ) أنه منذ أن التقى بـ (امرأة القارورة) عادت إلى الظهور في مخيلته صورة تلك المرأة السجينة التي أفعمت خيالات صبانا ونجحنا في أن نطمر ذكراها بعد أن وقع هو في حب (إيمان ) ثم (مارلين )، وأنا في ملذات طيشي. لكن ذكراها بزغت الآن بعنف جعله يعيش من جديد تفاصيل ذلك الحادث الذي غير مجرى حياتنا معا وساهم في قطع شريان آخر بين روحينا:
في أعوام الستينات، وفي سن التاسعة اشتغلنا أنا و (آدم ) في حانوت يجاور (مديرية الأمن العامة). كنا كل عصر بعد عودتنا من المدرسة نحمل المأكولات وقناني المشروب لنبيعها إلى الموقوفين السياسيين. لم نكن نجيب عن أْسئلتهم ونتحاشى النظر إليهم لأن الحراس وأهلنا وصاحب الحانوت أخبرونا بأن هؤلاء مجرمون كفرة يريدون سفك الدماء وتخريب الدولة وفعل الحرام حتى مع اخواتهم وأمهاتهم. يوماً، بعثونا إلى غرفة التحقيق لتسليم العريف (عادل ) طلبه. والحقيقة أن غرفة التحقيق هذه لم ندخلها سابقاً إنما تنصتنا مرات ومرات إلى صرخات الألم الصادرة منها. عندما دفعنا الباب ودخلنا الغرفة المعتمة، واجهتنا رائحة عطنة وتعرق بشري. كان العريف جالساً على كرسي خشبي وأمامه طاولة مفروشة عليها أدوات التعذيب : عصي وأنبوبة بلاستيكية وأسلاك كهربائية وقنينة وقيود، وكذلك بضعة أوراق مجعلكة وأقلام. عندما اتكأنا على الحائط بانتظار تناول العريف لطعامه وشرابه، تحاشينا النظر إلى الإنسان المعلق الذي لاح لنا شبحه أمامنا على الحائط. كانت تمطقات العريف تمتزج مع أنفاس مخنوقة متقطعة صادرة عن ذلك الإنسان. قرصني (آدم ) وهمس بأذني أن لا ننظر. لكننا ما استطعنا مقاومة رغبة قدرية في متابعة قطرات دم متساقطة من الأعلى. رحنا ببطء حذِر نرفع بصرنا لنتابع القطرات تلك. كانت قبضة (آدم ) تشتد كأننا مقبلين على مشاهدة جني. رأينا أولا قدمين بالكاد تلامسان الأرض. كانتا عاريتين والأصابع ترتجف بين حين وآخر، كأنها تجاهد للاستناد أكثر على الأرض. كانتا ناعمتين رشيقتين كقدمي صبي. بخشوع مندهش راحت عيوننا تنساب صاعدة إلى الساقين الأبيضين العاريين وقد رسمت الدماء مجاريها عليهما. عند الركبتين كانت حوافي التنورة السوداء متهدلة ممزقة، أما الفخذان فقد ارتسمت خطوط امتلائهما من خلف القماش.
لأول مرة نشاهد هكذا فخذين حقيقيين وقد بان بياضهما متوهجاً عبر فتوق التنورة. سبقني (آدم ) إلى رفع بصره إلى الأعلى. كان قميصاً ابيض مرقطاً بزهور ملونة ملوثة ببقع حمراء وفاقعة، وقد برز عبرشقوقه ثديان نافران ظهرت حلمة أحدهما. كان الذراعان مرفوعين وقد بان شعر الإبطين. الرقبة الرقيقة كانت منثنية وقد مال بها الرأس مستنداً إلى الكتف. لم نصبر. رفعنا عيوننا لتلتهم وجهاً أنثوياً ما حسبنا يوماً أننا سنراه : امرأة شابة معلقة من معصميها الجريحين بقيد مشدود إلى قضبان نافذة في أعلى الجدار. سوف لن ننسى إلى الأبد ذلك الوجه الفاتن المُعذب، وتلك العينين المكتظتين بأسئلة مبهمة. ستظل إلى الأبد صورتها منطبعة عميقاً في ذاكرتنا، وسيظل وجهها يراودنا في وجوه جميع نساء حياتنا. اما عيناها، فرغم الشعور بهول المصير الذي كان يصبغهما، فإن ثمة القاً صافياً ومتجسدا كماء رقراق ينساب من نبع باكر لم يشرب منه كائن.. حتى ان قشعريرة غريبة سرت فينا كأننا كنا نغتسل بنظراتها الساحرة، ولم أعثر يوماً على مثيل لذلك الوجه وتلك العينين إلا عندما التقيت بـ (هاجر) بعد اكثر من عشرين عاماً على هذا الحادث.
بقينا ثلاثة أيام محمومين، نختلق الحجج، وندخل إلى غرفة التحقيق لنشاهد سجينتنا. كنا نقف مشدوهين امامها، وجلين، مرتجفين، غارقين في مشاعر رهبة وتعبد وعشق وفجور كأننا في حضرة واحدة من آلهة شعب بدائي ناطقة بخصب وخلود. في المساء كنا نختبىء في الحديقة الواقعة خلف الغرفة، نراقب كفيها المشدودين المرئيين عبر قضبان النافذة. نتنصت مرتعبين إلى صرخات عذابها المصحوبة بشتائم الجلادين وكلمة (اعترفي..).
في مساء اليوم الرابع رأيناهم يدفعونها معصوبة العينين إلى شاحنة مع ثلاثة معتقلين آخرين. سمعنا العريف يهمس بالسّر إلى صاحب الحانوت : لقد دفنوهم أحياء في حفرة خارج بغداد، مثل جميع الموقوفين الخطرين الذين يأبون الاعتراف..
منذ ذلك اليوم، بدأت تتحطم فينا معابد ثقتنا وإيماننا بما تعلمناه من معتقدات أهلنا وقومنا ودولتنا. كالفيضان اجتاح الشك وقلق الإيمان روحنا، وطفق بلا رحمة يزيح عنا ما تعلمناه وما سنتعلمه حتى يوم رحيلنا.
سقطنا مريضين، ومكث (آدم ) بعدي بأيام طريح الفراش بين الحياة والموت. كنا معاً صريعين بين أنياب حمى حزننا وخيبة آمالنا، تنهش بنا كوابيس سجينة معلقة شبه عارية تصرخ بنا، ومن عينيها تسكب علينا مياها دفاقة حارة كانت تصلينا وتبث فينا لذة لم نعرفها من قبل.
منذ ذلك اليوم، تغيرت حياتنا، وبدأنا نشق طريقين مختلفين، ونبتغي هدفاً واحداً : حلم بجمال مطلق وخالد. (آدم ) اختار الموت ليخلق جنته الموعودة، يحررسجينته من قيودها ويلبسها ثوباً أبيض شفافا لتكون حورية يحلق معها فوق الجنان وأنهار خمر وعسل ولبن. أما أنا فإن حزني وعشقي لسجينتي قد استحالا إلى لذَّة غريبة ممزوجة بصرخات عذاب ودم. كم من ليال أمضيتها وأنا استمني على جسدها وهي معلقة من معصميها بقضبان النافذة! لم أكن في أعماقي راغبا في التمتع بآلإمها، إنما لكي أشاركها عذابها وأضفي على مشهد جراحها وموتها لذة وشبق الحياة.
صار الموت وسيلة (آدم) ليلتقي حوريته في جنته الخالدة. كان يبحث عنها في (إيمان ) الموصلية، وفي (مارلين ) السويسرية، وفي الثورة والتنظيم والقضية والحاسوب. أما انا فقد فضلت أن أبقيها حية متجسدة في خيالي لأمارس معها شبق الوجود رغم الجلادين وجدار غرفة التحقيق. كنت في الخيال وفي الواقع أغور في جسد المرأة وأنهشها بلهيب شهوتي محاولا أن أغور في أعماقها بحثاً عن عالم سجينتي الخالد.
* * *
الآن، وأنا أنظر في عيني (آدم ) وهو يحكي لي عن حوريته (هاجر)، لم أعد أشاهد تلك السجينة معلقة مشرفة على الموت كما رأيتها دائماً في عينيه، بل اني لأول مرة أشاهدها طليقة مبتهجة في جنان وهاجة وأنهار من مياه ونور. لقد استحال (آدم )، منذ أن التقى بـ (امرأة القارورة) إلى كائن يحيا ويستمر في الوجود مستنشقا حكايات حوريته عن الأسلاف. في دمه راحت تسبح عوالم قديمة بأراضيها وأقوامها وفنائها وخلود سلالاتها.
ما أدركت قوة هذه الحكايات وتأثيرها السحري الخارق إلا بعد أن عشتها أنا أيضاً بعد فترة وجيزة. عرفت فيما بعد أن كل شيء في (هاجر) كان يتجاوزحدود الطبيعي. تجاربها مع أسلافنا جعلت منها امرأة مثلى، معطاءة لأعظم الملذات، متمرسة في إثارة رغبات دفينة، تتحد فيها المكنونات، وتنعدم الفروقات، ويسمو الوجود إلى غايته الأزلية في الرقي والصعود نحو المطلق : الأجمل والأروع والخالد!
كانت تخلب (آدم ) تلك السهولة في ممارسة الحب معها. إنه لم يكن مضطراً إلى أن يداعبها لكي يهيئها، كما تعود مع النساء. كانت دائمة التهيؤ والحرارة والرطوبة. الأكثر من هذا أنها كانت تصل إلى ذروة اللذة في الوقت المناسب تماماً، ولم تجعله يحس، ولا في أية مرة، بضرورة كبت حركته وتهيجه واللجوء إلى العقل لكي ينتظرها حتى تصل إلى الذروة المتأخرة عادة عند غيرها. كان يقول عنها: إنها سرمدية الشهوة.
بدأت علاقتهما بتبادل جسدي محض. كان يعطيها جوعاً عتيقاً ولهيب توق أزرق، وهي تعطيه خصباً خالداً ومهارة خمسة آلاف عام في صنع اللذة. مع الزمن وتوالي اللقاءات المفعمة بحكاياتها، هي عن تاريخ الأسلاف، وهو بشروحاته عن تطورات العصر وأحلام المستقبل، ثمة نشوة جديدة طفقت تنمو وتمتزج مع ارتعاشة جسديهما: نشوة الروح.. نشوته هو بولوج ماض مصنوع من حكايات لا تنتهي، ونشوتها هي بانفتاح على مستقبل متجسد في شروحات حالمة. كان (آدم ) يلتهم منها حكاياتها عن الماضي، ويغورخياله بعيداً في كهوف كلماتها إلى حد أنه كان يتلمس جسمه ويشاهد نفسه في المرآة بحثا عن آثار الأسلاف. وكانت هي تتلقف منه أحاديثه عن عصر (الحاسوب ) وتطور العلم والتكنولوجيا وغزو الفضاء، وتغيب في أحلامه عن: االعدالة والمساواة بين النساء والرجال والغاء الحدود واتحاد الشعوب في دولة ديمقراطية واحدة تقودها هيئة الأمم المتحدة، كما كان يردد لي ذلك في ثمله.
* * *
في هذه الفترة كنت ألاحظ على وجه (آدم ) علامات الصحة والبهجة. صار هو الذي يسخر مني ويناديني : (أيها الهرم ). كان يزورني نهاراً في غرفتي، ويوقظني من نومي. يتفحص رسومي، ويسألني عن مغامرات ليلتي. منذ ان قررنا قبل سبعة أعوام أن يشق كل منا طريقه الخاص، وانا أعيش حياة عابثة مختلفة تماماً عن حياته : أستيقظ بعد الثانية ظهرا. أبدأ بالرسم وأنا احتسي شايي وأطبخ طعامي وأتنصت لأخبار وموسيقى. في المساء كنت اتسلل إلى حانة (القط الأسود) في (كاروج ) وأبدأ باحتساء كؤوس نبيذ أحمر ثم أتنقل بين حانات ومراقص حتى إطلالة الفجر لأعود مع صيد ليلتي. كنت عند الكأس الأولى أشترط أن تكون صيدتي مهرة جامحة اروضها على سريري، لكني مع تناوب الكؤوس كنت أتنازل بالتدريج عن شروطي حتى يصل بي الأمر- عندما يشح الليل بعطائه - أن اتقبل حتى من تتجاوز عمري بكثير، بل إني أحياناً أغمض عيني وأتقبل عجفاء نحيفة قاحلة أوسمينة مترهلة غير سالكة، وكنت أخفف عن ترددي بشيء من راحة الضمير لأني أرضيت امرأة.
كان المهم عندي أن لا أعود إلى فراشي وحيدا. ليس لي في حياتي غير الرسم والحب، وفي كلتا الحالتين المرأة هي الغاية والموضوع. كنت صيادا والليل هو بحري. كنت لا اتعب ولا أمل، وفي صبر الصيادين تكمن قوتي. أرمي سنارتي في بحر الليل مرات ومرات دون كلل حتى الفجر. مرة تخرج لي علبة صدئة، ومرة ضفدعة، ومرة غصن شجرة، ومرة سمكة فاطسة، حتى أصيد تلك البُنية الهائجة التي تظل تلبط بين يدي لأشويها وتشويني على نيران شهواتنا حتى الصباح.
كل نهار، عندما أواجه لوحتي أضفي عليها مسحات ألوان جديدة مما تكور في تلافيف روحي من ذكريات امرأة الليلة السابقة. كل امرأة كانت تترك على لوحتي ألوانها وخطوطها، إن كانت امرأة كريمة محمومة ذات أمجاد في سوح الجسد - وهن قلائل عادة - فإن ذكراها ستجعل فرشاتي تنساب متألقة على القماش برضا وسلام وترسم خطوطاً متموجة راقصة، ونوراً ومياهاً وسماء وحقولا وآفاقا متنائية. وإن كانت امرأة ليلتي متمنعة باردة كموقد بلا حطب - وهن غالبية عادة- تستلقي معي كدُمية منفوخة، عاقلة وتستحي من الفحيح والاستهتار، في نهار الغد ستنهال فرشاتي بضربات مرتبكة غاضبة لتفرغ على القماش ألواناً حارة عنيفة وخطوطا حادة مُتكسرة ومجعلكة، وترسم عواصفاً وغيوماً وحرائقاً وعيوناً مدماة وثقوباً سوداء في كون غامض.
* * *
في كل لقاء كانت (هاجر) تنتزع (آدم ) من واقعه وترميه في أغوار احد عوالمها المنسية. لاتفوت أية مناسبة إلا وذاكرة التاريخ حاضرة فيها. إذا ما رأت فيلما تاريخياً، خرجت منه تذرف دموعاً وهي تحكي له عن جده فلان الذي مر بمثل أحداث الفيلم، في سجن تحت الأرض بعد اجتياح الاسكندر المقدوني لمدينة بابل، وهلم جرا. أو هي تضحك بخلاعة تجلب انتباه زبائن المقهى، وتقول له إن جلسته هذه ونظرته المتفكرة إلى الكأس ذكرتها بأحد أجداده الذي كان شاعراً داعراً في قصر الخليفة.
يوماً، كان (آدم ) يتنزه معها في غابة مطلة على شاطىء بحيرة (ليمان ) عند أطراف مدينة (مونترو). كانت شمس خريف نادرة في طريقها للاختباء وراء جبال (الألب ) المطلة على البحيرة، تاركة في أعقابها وهجاً نحاسياً يجعل الأشجار العارية كشواهد مقبرة خرافية. كانت (هاجر) ترتدي ثوباً أبيض شفافا يضفي عليها هيئة ملائكية منسجمة مع المشهد. كانت تسير أمامه كمهرة معتوهة، مرفوعة الرأس، تتمايل في مشيتها، وخصلات شعر حنّي تتدلى على ردفين مرتجفين.
عندما كان (آدم) يحدثني عن ذلك، كان منفعلا ودموع الارتباك في مقلتيه كطفل يحكي فيلماً مرعباً. غص بالكلمات ليعبر لي عن مشاعر الاندهاش التي انتابته وهو يحدق إلى قامة (هاجر) تتهادى أمامه في تلك الغابة. كان يشعر بإلفة ونكهة عُتق كأنه سبق وزار هذا المكان. لم يسبق له أن رأى (هاجر) بمثل هذه الصورة المشوشة الهلامية كأنها في حلم... انتابه إحساس غريب كان يتجاوز الواقع والمعتاد. لاحظ أنها كانت تصدر همهمات استغراب وتحدق في الغابة كأنها تستذكر شيئاً. ثم فجأة أطلقت آهة تعجب، وتجمدت في وقفتها وهي تحوم برأسها في الأرجاء وترفعه إلى السماء كأنها تستغيث. اقترب منها وحدق إلى عينيها يفتش فيهما عما اكتشفته. كانت دهشته لا توصف. لم يشاهد في حياته عينين بهذه السعة التي تجعل جمالهما من التطرف بحيث أنه يكاد يصير قبحاً. كان فيهما مشهد مجسم كأنه يراه عبر نافذتين يغطيهما الندى :
الخصب والعشق ممزوجان بالدمار والغضب. كانت هناك الغابة مكتظة بأشجار وقبيلة رعاة وجثث محاربين مدججين بسيوف تبرق بصرخات عذاب ورعب ترتج في السماء. وفي طرف المشهد، كانت (هاجر) في حرش الغابة خلف صخرة بعيداً عن الرعاة والمحاربين، عارية تضطجع مع محارب يشبه (آدم )، جسده مخضب بجراح وقدمه المقطوعة تنزف دماء وهو يمارس حُباً وموتاً على جسدها.
لم يدرك (آدم ) كم دام هذا الموقف. خيل إليه أنه قد غاب عن الوعي وتوغل بعيداً في مشهد عينيها وعاش أحداثا بطول أعوام وأعوام. أقسم لي أنه لم يكن مرة مفعماً باليقين بأنه قد عاش يوماً مثلما عاش ذلك اليوم في عيني حوريته. امتدت ذراعيه إليها وراحت أصابعه وشفتاه وانفاسه تغوص في ثنايا لحم عابق بطفولة وفحش. بينما كان يغور فيها كانت عيناه تحدقان في عالم عينيها ولسانه يلعق دموع ذكراها. في لحظة انبثاق الرعشة المخبولة، شق صمت الغابة انفجار اطلاقة وانبعاث حشرجة وضجة بين أغصان الشجرة الهرمة، ثم سقط شيء على صدريهما العاريين مفعماً بحرارة وحركة. حينما انفصلا من هول المفاجأة، كان رعبهما ممتزجاً ببقايا لذة، وشاهدا أفعى على الأرض مرقطة بألوان وجراح، وهي تلبط بين أوراق يابسة وأتربة لتكافح موتاً اجتاح جسدها مع اطلاقة صياد مجهول.
* * *
هنا يتوجب عل أن أخبركم بصراحة أني مع الأيام وتوالي حكايات (آدم ) ومتابعتي للتغيرات التي كانت تطرأ على سلوكه، رحت أنا بدوري أغوص بالتدريج في تشعبات هذه القضية، وتصاعدت في رغبة جامحة في مشاركته في حوريته. كنت عندما ينام عقلي وتنطلق رغباتي الدفينة يتسلل خيال (هاجر) متلبسة هيئة (السجينة) لتمارس بغاءها في أحلامي. رسمتها في خيالي على أجساد نساء صيدي ومارست مجوني معها. صنعت لها في خيالي صورة متكاملة لم تختلف كثيرا عن صورتها الحقيقية عندما التقيتها فيما بعد. توغلت معها بين أحراش البردي وتلافيف الأهوار التي لم أرها في حياتي، إنما عرفتها من حكايات والد (آدم )، حيث امضينا ليالي وليالي ونحن ننصت لحكاياته عن قبائل الأهوار وعن حروبها وشيوخها وحياتها بين المياه والأبقار والأفاعي والطيور والخنازير الوحشية.
حكت (هاجر) عن حياة أبيه وكشفت بعض من أسراره. قالت إنها التقته وهو فتى وزغب وجهه ما زال خفيفاً. بعد أن عاش قصة حب فاشلة مع فتاة من قريته، سرق القارورة من أبيه، وهجر الأهوار ليلتحق باًول فصائل الجيش العراقي. عاشت معه (هاجر) جميع مراحل حياته التي أمضى شطرها الأكبر في محاربة انتفاضات قبائل البلاد : تمردات كردية بين جبال صخرية وثلوج، غزوات قبائل بدوية قادمة من بادية الشام وصحراء نجد، انتفاضات عشائر الجنوب والأهوار ضد بعضهم البعض وضد اقطاعييهم وشيوخهم.
مما أدهشنا أول الأمر أنها كانت تسرد حكايات الحروب والعنف كأنها مثل جميع الأمور الأخرى التي عاشتها. صحيح انها كانت تحزن عندما تتذكر موت عشاقها، إلا أنها ما كانت تتأثر بذكر موت الجموع عبر حروب وطوفانات وطواعين ماحقة. أدركنا سبب عدم حزنها عندما عرفنا أنها خلال خمسة آلاف عام عاشت حروبا وكوارث ما لم يعشها إنسان غيرها : حروب ضد ناس، وحروب ضد طوفانات مدمرة، وحروب ضد طواعين مهلكة، وحروب ضد غزاة أجانب، اضافة إلى حروب عابرة بين أفراد من أجل نزوات حياة يومية. منها عرفنا أننا معشر البشر من سلالة شعوب لا تتناسل بالدم فحسب إنما تحيا وتبني حضارات زاهية وتنشر أدياناً وأفكاراً إنسانية مسالمة، كلها معجونة بالدم.
* * *
الآن فقط تكشف لـ (آدم ) سر ذلك الحدث الغريب الذي جرى يوم كان أبوه يعاني سكرات الموت. اتذكر يوم زارنا رجل يشبه إلى حد بعيد والد (آدم ). لم يكن أحد منا يعرفه، حتى والدة (آدم ) لم تتعرف عليه. قال إنه صديق قديم يعود أصله إلى نفس أصل الأب وقد هجر الأهوار معه وشاركه في جميع حروبه وتجاربه. لكننا لم نسمع به من قبل. قلنا لعل هناك سبباً ما جعل الأب لا يذكره في حكاياته عن ماضيه. كان شيخاً قد تجاوز السبعين وقد ارتسمت على وجهه الأسمر المحروق بالشمس وعلى كفيه آثار جروح قديمة. كان يرتدي ثياب أهل الجنوب التقليدية : عقال وكوفية (يشماغ ) مرقط وسترة فوق صاية قهوائية وقميص ابيض دون ياقة. ومن يده تدلت مسبحة ذات حبات سوداء لامعة بالأخضر وطقاتها تطن بأصوات لذيذة. عندما اقترب من السرير، نظر إليه الأب بابتسامة شاحبة تداري الموت. انحنى عليه الشيخ وعانقه وبكيا بصوت خافت، ثم أخذا يتهامسان بكلمات ما كانت مسموعة، إلا أنني الآن أدرك جيداً وبعد عشرة أعوام على الحادثة أنهما تلفظا بكلمة (قارورة)، وصدرت من الأب كلمة : "شكراً " مسموعة نابضة بوفاء وعرفان. ثم استدار الشيخ ناحيتنا وامر الوالدة والأخت باْن تعدَا قِدر ماء دافيء وطشتا مع آنية فيها شراب (عِرق السوس ) وقدحين وبعض الكعك وثمرات تمر. بعد أن وضعتا هذه الأشياء على الأرض قرب السرير، طلب أن نخرج له صندوق حاجيات الأب القديمة، ثم امرنا أن نتركهما وحدهما ونغلق الباب.
لم نطرح أي سؤال. كنا مأخوذين بحضوره الغريب، بشبهه الكبير بالأب، بالحب الغامض الذي يجمع بينهما، بهذه الثقة التي يأمرنا بها. بعد دقائق خرج وأقفل باب الغرفة وجلس معنا صامتاً طوال النهار. ظل متمدداً على الأريكة تاركا بصره يغيب في إحصاء حبات المسبحة وهو يتمتم بأسماء الله الحسنى. أدى صلاة الظهر ثم حدق فينا جميعاً وكأنه يتبصر في أعماقنا، ويشاهد أفكارنا القلقة، ويربت على قلوبنا الكئية، وشعرنا حينها بتسلل تيارات خدر في ابداننا، ورحنا جميعاً نشاهد بعضنا البعض، ننساب على أرض الغرفة كأننا أخذنا نستحيل إلى مياه، والجدران تذوب كثلج وتتكشف عن عالم شاسع بلا آفاق ولا منتهى:
كنا جميعاً نطوف على سطح كون من مياه، وقد شرع الشيخ في الارتقاء والتناثر في الأعالي. ذرات وذرات شكلت فوق كوننا سماء هائلة وغيوما وكواكب، في كل جزء منها كانت عيون الشيخ تراقبنا، ونحن ما زلنا نذوب وذراتنا تنتثر بين أمواج كوننا، ونشاهد أنفسنا في كل ذرة ماء، وننصت لطنين حبات مسبحة وقد طغت وطغت حتى صارت هي صوت الوجود الأوحد.
عندما صحونا من غفوتنا وجدنا الشيخ قد اختفى وقد انتشرت في الدار ذرات مساء معتمة، فتوجهنا كلنا إلى الغرفة. عندما فتحنا الباب عبقت رائحة نفاذة، جنس وبخور وعِرق سوس ولبن وتمر. كان أبي مغمض العينين، مكسواً بغطاء أبيض، ومستلقياً على سريره الذي أعيد ترتيبه. رأيته يفتح عينيه كأنه في حلم سعيد، ويرسم ابتسامة مفعمة بشُكر وحُب. كان جسمه ووجهه ينبضان بحياة ودفء كنهر ألقى طينه وغرقاه في البحر واستعاد صفاء لونه. كانت آنية عرق السوس وقدحان فيهما بقايا شراب، والتمر والكعك لم يبق منهما شيء. من أشعل عود البخور؟ ومن رتب الفراش وساعد الأب على الاغتسال في الطشت؟ ثم الشيخ، من كان وكيف رحل بعد أن غشي علينا جميعاً؟ كل هذه الأسئلة لم نعثر على اجوبة لها إلا بعد عشرة اعوام، هنا في (جنيف ) وقد التقينا بـ(هاجر). في حينها تذكرت حكايات الأب عن معجزات (الإمام علي ) واستجابته لمن يستغيث به. يقول إنه لم يتوان عن إغاثة النبي يونس عندما ابتلعه حوت، ويوسف عندما رُمي في بئر، ومريم وهي تولد بعيسى، بل إنه اغاث امه نفسها قبل ان تتزوج وتنجبه وانقذها من براثن أسد، لأنه ابدي وخالد.
حدث مرات عديدة عندما كان الأب يمرض، يستيقظ متعرقاً من حلمه ويخبرهم أنه سيشفى لأن (الإمام ) قد زاره قبل قليل. يقول إنه ذو وجه اسمر نوراني، يلف رأسه بعمامة سوداء، يجلله رداء ابيض، يمتطي صهوة جواد أشهب مدججاً بسيفه (ذو الفقار)، ويخاطبه بصوت مجلجل : "يا ولدي من أجل أبنائك أعينك على الشفاء"، ثم يشفى.
لكن في ذلك المساء قد مات الأب دون ان ينطق بكلمة، إنما كان يغمض عينيه ويفتحهما بين آونة وأخرى كأنه يتابع حلما سعيداً. تناوبنا جميعاً على تقبيله ونحن نحاول أن نفك سر خطوط البهجة المرتسمة على محياه كأنه راحل في واحدة من حروبه القديمة.
فصل رابع
آباء وأرباب القارورة
كما ترون، صار يحلو لي ان اتخيل (آدم ) كقصر عتيق قشطت عنه ريح الزمان زينته وعرته من فخامته، ولكن (امرأة القارورة) بسحرها ومهارة فنها أعادت إليه أمجاده ونفخت الروح في قاطنيه وأظهرت إلى العلن جميع خباياه.
ذات مساء ربيعي بارد، زارني (آدم ) في غرفتي في حي (اوفيف). كنا جالسين في ضوء خافت تتخلله أنغام موسيقى جبال الأطلس تنبعث من الجهاز. هذه المرة اصر على رفض مشاركتي نبيذي مرتضيا ببضعة انفاس من الحشيش المغربي. ها هو (آدم ) يعود إليَّ بعد سبعة اعوام من شبه القطيعة فيما بيننا. كنا نلتقي بين حين وآخرلنتبادل الصمت والكلام. كنت أنا فقط من يتحدث عن آخر أخبار الوطن وتطورات الحرب وأطلعه على منشورات الأحزاب وأسمعه آخر النكات الداعرة ثم في الأخير أحكي له عن مغامراتي الليلية وعن لوحاتي. كان أمام هذا السيل من الكلام لا يبادر بشيء سوى أن يهز رأسه ويهمهم، ثم يخرج ورقة وقلما ويشرح لي آخر ما تعلمه عن استخدامات الحاسوب ومجالات تأثيره المتزايدة.
هكذا هو (آدم ) ما تغير منه إلا شكل تعبيره. يبقى دائماً ذلك النبي الذي يكافح رعب إحساسه بالكارثة باللجوء إلى جنة يخلقها في خياله ويؤمن بوجودها ويعمل ليل نهار ليتدثر بنعيمها، والآن فالحاسوب هو جنته، وهو أداة تغيير العالم وإنقاذه. وقد لاحظت أنه كلما اشتدت أهوال الحرب وتلاحقت أخبار كوارثها، انكب أكثر فأكثر على حاسوبه وتعمق انطواؤه في بيته. في أثناء زياراتي له كنت أراه مرتبكاً وقد بدا الشحوب على وجهه، فأعرف أن الكوابيس قد اشتدت في اقلاق نومه. أما أنا فقد بقيت عكسه، فكنت ازاء اشتداد الكارثة أنطلق في عربدتي ثملا محشوشاً أفتش عن خلاص وراحة ونسيان في عيون ناس وأحضان نساء. وفي ثنايا أجسادهن أجد مأواي ونعيمي.
ها هو الآن معي في غرفتي، وبين حين وآخر كنا نكسر الصمت ببعض العبارات، بلا حماسة وعلى سبيل المجاملة، إذ كنا معاً غارقين في فكرة خفية واحدة اسمها "إمرأة القارورة". في اللحظة نفسها التي عزمت فيها على الإفصاح عن رغبتي في فتح الموضوع، رمقني (آدم ) بنظرة خاصة لم أدرك مغزاها! نظرة ذكرتني بذلك اليوم، بعد أن قادنا قطار الزمن إلى مدينة (جنيف ) قبل سبعة أعوام، وحصلنا على أوراق إقامة. يومها كنا نتمشى على جسر مطل على ملتقى نهري (الرون ) و(آرف ). رمى (آدم ) حجراً في الخط المتشكل من التقاء النهرين، وقال لي :
"انظر يا صاحبي إلى هذين النهرين، كيف يفقد (الآرف ) لونه وهويصب في نهر (الرون )، ولا أعتقد أن أحدنا مستعد أن يصب في الآخر ويفقد نفسه فيه، إذن لنفترق يا صاحبي.. في أوراق اللجوء هذه وبين شوارع هذه المدينة سيشق كل منا مجراه الخاص".
أرى (آدم ) الآن قد تسللت يده بهدوء إلى الحقيبة السوداء. وضع القارورة في حضنه، وراحت أصابعه تفتح الغطاء. ارتسمت على محياه ملامح قابلة عجوز تخرج وليداً من رحم. قبل أن يرفع الغطاء، رفع نحوي وجهه الذي بدا لي مغالياً في إلفته واعتياديته، كما لو كان وجهي في مرآة. أشد ما أمقت أن أكون شبيها به. صحيح أني شاركته في جميع تفاصيل حياته لكني كنت دائماً مختلفاً عنه. حتى تجاربنا المشتركة كانت تؤثر فينا بشكل مختلف. أمضينا أعوام المدرسة، تأتينا المعلومات معجونة بالخوف والتهديد والضرب المبرح. أستاذ (عباس ) معلم الدين والتاريخ، كان يختار تلميذاً جديداً يوقفه أمامنا ليكون لوحة يشرح عليها سير المعارك الحربية. كانت كفه المرتجفة تنزلق على جسم التلميذ لتشير إلى جيش الكفار النازل من الرأس وجيش المؤمنين الصاعد من الفخذ، ليلتقيا عند الصرة في معركة فاصلة. وكان هذا الأستاذ يأمر التلاميذ المذنبين بأن يصفع أحدهما الآخر بقوة، ومن يتوانى سينال منه عقابا أشد. لكن النتيجة : آدم مسالم وأنا عنيف. كم من المرات تدخلت لإنقاذه من براثن عصابة من الأشقياء. أنا أيضأ كنت شقياً، وعندما لا أجد أحدا يهاجمني، كنت أسأم وأختار تلميذاً مشاكسا أهاجمه.
* * *
شرع (آدم) برفع الغطاء بمهارة مفتعلة، فنفث من القارورة ضباب خفيف ورائحة مختلطة من عطور شرقية ونكهة بشرية. خلال لحظات كان الضباب يتجسد بشكل كائن غامض، وتناهى صوت أنثوي هامس، مزيج من حفيف حشرة وهمهمة طفل يغفو وفحيح أفعى وتنهدات صبية. لم يسبق لي أن رأيت مشهداً بذلك القدر من الوضوح والتفصيل. عبر جو الغرفة المعتم بدخان سيارات ولفافات حشيش مغربي وأنفاس مخمرة ببهارات الشرق ونبيذ سويسرا، تجلت (هاجر) كواحدة من آفات جمال خرافي طالما صنعت صورتها من ذكرى (سجينة) ما كفت عن زيارتي في ليالي حمتي. الآن قد عرفت أن سرٌ رعب المؤمنين لا يكمن في نيران جهنم وحدها، بل في حسرتهم على حرمانهم الأبدي من لذة تلك الحوريات. إني لو ضاجعت إحداهن سوف لن اخرج منها أبدا. سأهجر باقي ملذات الفردوس من أنهار عسل وخمر ولبن وقصور فارهة ومآدب عامرة، وأغور في أعماق حوريتي وأمض خلودي في رعشة سرمدية.
لمحتني فارتسم حياء على محياها وجسدها. مثل حمم فوارة كانت تنتثر خصيلات شعر حنية على نهديها. غطت عينيها برمشيها واسبلت كفيها تحت سرتها، وأمالت رأسها بعفوية امرأة ألفت جلال جمالها حتى أنها نسيته.
التفتت إلى (آدم )، فمطّ لها شفتيه واشار برأسه صامتا فأطاعت أمره بتلقائية. ناولها من حقيبته السوداء ثوباً شفافاً، ارتدته، ووقفت شامخة بهيبة خاشعة. كان ثوبها أبيض مرقطا تنعكس عليه ألوان سيارات مارقة ومصابيح سينما مقابلة. بدت كالهة بابلية اسقطها التاريخ في عصر أنوار ودخان ومدن مكتظة.
أشار إليها فجلست في وسطنا على وسادة. ثنت ركبتيها على طريقة أميرات العرب، واتكأت بظهرها على النافذة. توهج شعرها بالتماعات حمراء وخضراء وفضية، ثم ناولها لفافة وكأساً، هامساً لها : "احكي".
جرعت من النبيذ واستنشقت بضعة أنفاس. رفعت رمشيها لتدع سيول عينيها تجتاح فضاء الغرفة. راحت ترسم بأصابعها لوحة غرائبية من دخان متصاعد. كان لسانها يتحرك بين شفتيها كقائد يوجه فرقة كلام في حنجرتها. بدا صوتها مزيجاً منسجماً من ألحان متناقضة تنشد في دور عبادة وعهر وقصور أمراء وأكواخ رعاة. راحت تحكي وتحكي حتى أواخر الليل. خفتت الأضواء والأصوات في الشارع، وتسلل نسيم إلى الغرفة عابقاً بروائح فجر مُبلل بمياه بُحيرة "ليمان " المجاورة.
* * *
لم أنتبه كيف جرى الأمر. كما لو كنت غريقاً امضى عمره في الاختناق ومكافحة الموت، وجد نفسه فجأة يطفو على جرف جزيرة تائهة! هكذا وجدتني وحيدا في الغرفة أطفو على جسد (هاجر)!
أين اختفى (آدم )..لا أدري؟!
كانت مستلقية عارية وأنا راكع بجانبها. كنت منكبا على رسم لوحة خليعة على صفحة جسدها. إبهامي كان ينساب بهدوء حذر على ملامحها بدءا بجبهتها، حاجبيها، عينيها، أنفها، شفتيها، حنكها. هبطت إلى عنقها وكتفها، وأنهيت رسم ذراعيها وأصابعها، وصعدت إلى نهديها، وظللتهما حتى انتفخت واحمرت حلمتاها. من أجل إضفاء مسحة أخيرة، رحت بشفتي ألونها وابرز ظلال سرتها وعانتها وفخذيها حتى أصابع قدميها. كان لها جسد مفصل على مقاييس ذوق حلمي. لم تكن بشرتها سمراء ولا شقراء إنما بلون الخبز الحار. ولم تكن نحيلة لتوحي بقحط وشح وفُقر،ولم تكن سمينة لتوحي بنهم وشراهة وإسراف. كانت في الوسط، كأن الذي خلقها صنعها من اجساد اجمل مخلوقاته : قامة معتدلة قليلة الامتلاء ونهدان بحجم رمانتين كبيرتين، تزينهما حلمتان منتعظتان رطبتان بلون الشاي. خصرها دقيق، وردفاها وفيران ثريان على هيئة إجاصة مفشوقة، وعندما تحسستهما بأصابعي تموجا بارتجافات كصفحة بحيرة مسها نسيم.
جمالها أعاد إلى ذاكرتي ما حدثني به (آدم ) يوم التقاها لأول مرة منذ اسابيع. قال إن سؤالا قد انبثق في رأسه : اين يكمن الالهي في الإنسان؟
أمضى عمره وهو يفتش في الناس عن العظمة المقدسة الكامنة في أعماقهم. كان يحاول أن يتجاوز خطوط العمر المرسومة على وجوههم وملامح الزمن والأسى والقسوة والكبرياء والوضاعة وأوهام الكائن الأعلى والأدنى. كان يغوص عبر ظاهر البدن، يفتش في أعماقه عن الخالد، عن الذرة المتوهجة، عن الروح المطلقة التي يتكور حولها البدن الإنساني بأحشائه الهالكة وعناصر ضعفه وفنائه، يحاول أن يزيل عن الوجود عبثيته وعن الموت رُعبه، يتخيل الروح الخالدة شبيهة بعارضة أزياء تختبىء بين زمن وآخر خلف ستار الموت لتخلع جسداً عتيقا وترتدي جسداً جديداً تعرضه أمام احتفال الحياة لأعوام معدودة، ثم تعود من جديد تختبىء وراء ستار القبر بانتظار جسد آخر.
وها أنا اشاهد عارضة الأزياء التي حدثني عنها صاحبي، ولكن ميزة (امرأة القارورة) هي أنها لا تبدل ثوبها الجسدي بل تلبسه من جديد في كل مرة تخرج فيها من القارورة. روحها خالدة، وجسدها خالد أيضا، تجدده وترتديه منذ آلاف الأعوام. عندما تختبىء في القارورة تستريح روحها ويغتسل بدنها بمياه الشباب والديمومة. في كل مرة تعود إلى القارورة كانت تموت، وفي كل مرة تخرج منها كانت تولد. الموت لم يكن نهايتها، والميلاد لم يكن بدايتها.. ما هما إلا نقطتان في دورة عادتها الأزلية، تفني العتيق وتحيي الجديد، وتجعل الروح في انسجام أمثل مع الجسد.
استلقيتُ فوقها. قبلت عينيها واحتضنت ثديها ورضعت. طعم حليب العشيقة أحلى من حليب الأم. إنه مزيج من نكهات حنان وفُسق. تركت أصابعها تنساب لتولجه في منجم رطب حار. مع انتشار حرقة الشبق، كانت رؤى حكايتها تتنامى في خيالي. كانت تعض بأسنانها شفتي وتهصر بكفيها لحمي، وروحي تنزلق بالتدريج في متاهات متصاعدة. فحيحها الوحشي استحال إلى رموز صوتية تختصر تاريخ أعوام وأعوام إلى لحظات لذة سرمدية.
مع اهتزازات جسدينا كنت أحس بجسمي يزداد ثقلا وينجذب بقوة خفية نحو أعماق هوة كونية سرية. كأني ذبت إلى سائل تبتلعه جفرة فضائية مركزها جسد (امرأة القارورة). انحدرت في متاهات أشبه بغيبوبة الساقط في هاوية. كزمن حلم يختصر آلاف الأحداث والصور في بضعة أعشار الثانية، وكحياة (ميكروب ) لا تتجاوز لحظات وتبدو له ربما أغنى وأطول من حياة انسان… هكذا عشت حياة واحد من اسلافي خلال زمن، كل عام منه يعادل لحظة شهيق وزفير من فحيح (هاجر).
* * *
كنت طفلا مستلقياً جنب أختي، بين خرق عطنة وفي أحضان عربة خشبية مهترئة تتمايل بنا بتناغم مع تمايلات أرداف بغال تجرها، وهي تطوف بنا عبر السهول والقرى والمدن المنتثرة على ضفاف دجلة والفرات. على بعد بضعة خطوات كانت تتقدم العربة كلاب ذئبية تتشمم أتربة دروب وعرة بحثاً عن آثار قوم هاربين. كانت هذه الكلاب، بين حين وآخر، تلتقط أشياء لا مرئية من بين تجاويف التربة ثم تتشاجر بعنف كأنها تمزقها بين أنيابها.
كنت طفلا حينما بدأت أسئلة أولى تتسلل كنقاط ماء عبر سقف رأسي :
ـ "من نحن؟ من هؤلاء الهاربون؟ لماذا نتبعهم مع أمي وأبي منذ أعوام وأعوام؟".
شذرات أجوبة تمكنت من انتزاعها من أمي وهي تفلي شعري بحثاً عن حشرات تائهة في رأسي:
ـ "امبراطورنا العظيم وأبو شعبنا ومخصب الهتنا الأم "عشتار"، أمر أباك أن يلحق الهاربين ويتقصى أخبارهم. أقسم أبوك أمام ملكنا وآلهتنا وكهنتنا بأنه سوف يُحرم من بركة خصبهم ويُقصى من نسلهم إن لم يخلص في مهمته بتتبع الهاربين حتى نهايتهم المحتومة..".
في ليال، كان الترحال يضطرنا إلى المبيت في قرية هجرها أهلها بسبب طوفان وطاعون، أو في مدينة قد دمرتها قبائل غزاة. لكي يكافح أبونا وحشة المكان ويطرد الرعب من نفوسنا، وبعد أن نؤدي جميعاً صلاة العتمة، كان يجلسنا حوله ويحكي لنا عن الهاربين الذين لا يعرف أحد عددهم أو طبائعهم أو دينهم :
ـ " أما زعيمهم فإنه رجل يعجز اللسان عن وصفه "!
هكذا يقول أبي، وتتخلل صوته حينئذ ارتعاشة خفية:
ـ "إنه جبار مهيمن يهابه جميع أبنائه وأتباعه، لا يضاهيه في جبروته وفحولته إلا أبو شعبنا وامبراطورنا الأعظم ومخصب آلهتنا.. يعشق السلاح والنساء، خلف من الأبناء ما يفوق عدد ضحاياه في الحروب.. ما رأى عذراء إلا وكان أول من يخصبها، وما وطأ ساحة حرب إلا وكان سيفه أول ما ينضح دماً فوق ترابها. قامته العملاقة تناطح ذرى اعلى الأشجار، وبشرته سمراء كأديم الأرض، وعيناه بئران بلا قاعين، اما صوته فيأتيك من دواخلك..!
في هذه الأثناء كان يقشعر بدني، فأحدق في وجهي امي واختي بحثاً عن أجوبة لأسئلة لا أستطيع تكوينها وإدراكها. كنت احبس دموعاً حارة بينما يدي تمسك قصبة وتروح تخطّ على الطين وجهاً غرائبياً شبيها بالذي وصفه ابي. وعلى ضوء النار المتماوج كان ذلك الوجه المحفور يكتسي لونا نارياً وتأخذ ملامحه بالظهور مع الضوء وكأن الحياة قد دبت فيه.
هكذا مع الأعوام وتوالي حكايات أبي، واستمرار كلابنا في لهاثها بتعقب الهاربين وأشيائهم اللامرئية، راحت ببطء سري تنمو في مخيلتي صورة زعيم الهاربين.
والحق أني كنت مثل أهلي، أصلّي بخشوع وقلبي مفعم برهبة أمام صَنمَي ملكنا وآلهتنا، إلا ان صورة زعيم الهاربين شرعت تحتل حيزاً متنامياً في أعماق روحي. كم من مرات احسست بعار ووجل وانا أحدق إلى وجه صنم ملكنا فأرى ملامحه تتغير تدريجاً إلى ملامح زعيم الهاربين.
ذات يوم كنت مع أختي نلعب بعيداً عن ابوينا. كنا على شاطىء الفرات نأخذ طينا احمر ونصنع منه أشكالا بشرية وحيوانية، إذا بنا فجأة نجد أنفسنا قد انكببنا، دون قصد، على صنع تمثال بشري بطول ذراع يشبه رجلا عظيماً، رؤياه جعلتنا نولول باندهاش :
ـ "هو.. نعم هو!."
كان زعيم الهاربين بذاته..!!
منذ ذلك اليوم، رحنا، أختي وانا، نختلق الأعذار لكي نغيب عن أنظار والدينا. نخرج صنم زعيم الهاربين، نصلي امامه خاشعين مترنمين بأناشيد خضوعنا المطلق له وإيماننا به منقذاً لنا من حيرتنا. صنعنا معه بعد ذلك صنماً لآلهتنا الأم لتتكامل صلواتنا وتتناغم ترانيمنا في خصب وخلود.
* * *
ظلت عربتنا تسير بنا مخترقة اراضي وأعواماً، تقودنا نحو الشباب، وتقود أبوينا نحو الشيخوخة. كلاب ماتت لتخلفها كلاب من نسلها، استمرت في تشممها الدروب وتكالبها على نهش أشياء لامرئية، بغال شاخت ونفقت لترثها بغال تتبع بلا كلل كلاباً ودروباً. ما مر عام إلأ وكرر أبي وعده ان يكون عامنا القادم ميعاد نهاية رحلة بحثنا. سنعود إلى عاصمتنا المقدسة " نينوى الموعودة"، بين أحضان قومنا لنحكي لهم أحداث غربتنا الطويلة. سنبتني هناك بيتاً دافئا على ضفاف دجلة من عطايا الأمبراطور مباركاً بخرزة أفعى ومحروسأ برأس وعل.
في عصر يوم قائظ، أصر أبي على مواصلة المسيرة رافضأ أن نستريح في ظلال بساتين حمضيات مطلة على النهر. قبل الغروب لاحت لنا أطلال مدينة كأنها تنبجس فجأة من بين الهضاب القاحلة. كانت بقايا قصور خربة عراها الزمان من حيطانها وزينتها وأحشائها البشرية، ولم يبق منها غير أعمدة منتصبة وصخور مبعثرة وتماثيل ثيران مجنحة برؤس بشر وروائح عطنة تهمس عبر الريح بحكايات أقوام غابرة.
توقفت عربتنا قرب نصب ضخم لأسد يزني بامرأة. قالت أمي إنها بقايا مدينة كان يقطنها اسلافنا وقد محقتها الآلهة بعد أن سلطت عليها طوفانات وطواعين وجيوش أعداء، لأنهم بطروا وفسقوا وانتهكوا حرمة الآلهة وقدسية الآباء. أبي تركنا واختفى بين الأطلال بعد أن همس لأمي بكلمات مبهمة جعلت الحزن يرتسم على محياها.
عندما اصطبغت المكنونات بضياء الغسق ظهر ابونا منحدراً بين الآثار وبصحبته شيخ يشبهه وتتبعهما فتاة مليحة فيها الكثيرمن أوصاف أختي، وهي تحمل على ظهرها صرة متاعها.
هكذا تم الأمر بصورة مباغتة ما حسبناها. في ذات المساء تمت طقوس زواجـي من ابنة الشيخ، تحرسنا أصنام ملكنا وآلهتنا. بين دموع الوداع وشهقات الدعاء والرجاء، رحلت أختي مع الشيخ حيث تنتظر عربتهم عند الطرف الآخر من الأطلال، ليزوجها إلى ابنه الذي يشبهني والذي أمضى مع أبويه وأخته حياة ترحال وبحث عن هاربين أزليين!
في خيمة بعيدة أمضيت ليلة عرسي سابحاً في بحر لذة تتخلله أمواج حزن، بين أحضان زوجتي وذكرى فراق أختي. عندما شرع وميض السحر يعلو من ضفة دجلة الشرقية ويضفي على المياه حمرة ذهبية فتنعكس على صفحته هياكل نخيل كجثث غرقى ينبجسون من القاع، ناداني ابي واختلى بي عند الضفاف. دون مقدمات كثيرة قال بصوت مبحوح:
ـ " هذه الليلة صرت يا ابني رجلا مسؤولا عن ديمومة نسلنا.. الآن انت مؤهل أن تواصل عبء المهمة المقدسة التي اوكلت إلينا. الزمن يا ولدي قد أنهكني والعمر ما عاد يعينني على إتمام المسيرة. ليس امامي غير أن ابقى هنا مع أمك على ضفاف النهر تحرسنا بقايا الأسلاف حتى يوم اجلنا ".
أشار نحو الشمال وقال:
ـ " هناك ترتمي نينوانا التي فارقناها منذ اعوام واعوام. عليك أن ترحل إليها مع زوجتك لتطلب الغفران من الملك الأب والالهة الأم.. تعتذر عني إذ خذلني العمر وما تمكنت من إتمام المهمة. تتعهد انت باتمامها بعد ان تمنحك الآلهة ومليكنا بركاتهما..
شد على كتفي وأخرج من عبه قارورة خشبية، وعلقها برقبتي قائلا:
ـ " إني ورثتها عن اسلافي، وها انا اورثها لك لتورثها أنت بدورك إلى نسلك.. هي سر ستكتشفه بنفسك عندما تفتحها في خلوتك"..
قبلني وقادني إلى العربة وقد أعدها لنا. ودعته مع أمي. رحلت وبجانبي زوجتي، تقودنا الكلاب والبغال على شاطىء دجلة المنساب من الشمال.
* * *
عند العصر، دخلنا "نينوى" من بوابة شامخة مكتظة بعربات عسكر وتجار تقودها خيول، وعربات اخرى تجرها بغال، وقوافل جمال، وحمير مزارعين. كلما توغلنا نحو مركز المدينة، كان الزحام يشتد ونداءات الباعة تعلو ممتزجة بمزايدات نخاس وتهكمات سحرة ومهرجين مع قرود وأفاع وصبايا ذوات وجوه مكشوفة وصدور شبه عارية.
أوقفت العربة، وطلبت من من زوجتي الانتظار. ترجلت تابعاً كلابي تشقّ دربها بصعوبة وسط الحشود. كنت ألتقط كلمة من هنا وعبارة من هناك، وأمكث منصتاً لأحاديث متقطعة كانت تتمتم بها نساء متلفعات بالسواد. بدا لي ما أسمعه غائماً بين وهم وحقيقة. لم أشأ أن أصدق أذني، قلت لعلي ما فهمت. تجرأت وطرحت السؤال على بائع أسلحة وعقاقير فحولة يدعي أنه صنعها بنفسه من جماجم الاعداء. منه سمعت الحقيقة واضحة رنانة كقعقعة سيوفه :
"زعيم الهاربين استطاع هو وعشيرته الاستيلاء من جديد على السلطة. أعلن نفسه امبراطوراً وأبا للشعب وفحلا مخصباً لالهتنا الأم! أما الأمبراطور السابق فقد فر مع قومه وصار زعيماً للهاربين..!!"
تسمرت مشدوهاً جاهداً أن استوعب هذه الحقيقة الجديدة التي ما فكر بها أبي. تشتتت مشاعري بين غمّ وفرح، بين شك ويقين، بين خيبة من أجل أبي وغبطة من أجل نفسي. ها هو إلهي السري قد صار أمبراطورا وأباً للجميع. الآن سيتحقق أملي بالاستقرار في أرض يقطنها قومي ويحكمها معبودي. لتمحق إلى الأبد خطيئة أسلافي.. لن أظل رحَالا تنبذني مدن وتقودني كلاب وتكبلني عهود ورثتها عن أهلي.
من دون أن أدرك كيف، كنت منساقأ بقوة كلابي التي ما كفت عن الجري والتوغل بين الحشود المتدافعة. وجدت نفسي فجأة أمام باحة كبيرة مطوقة بالعسكر وفي وسطها تجمع كهنة ورجال حاشية يحيطون عرشاً فخما جلس عليه الامبراطور الجديد. قبل ان تتاح لي لحظة تفكير، اندفعت كلابي برعونة ووحشية نحو الأمبراطور وحاشيته. لكن العسكر كانوا أكثر منها سرعة وشراسة فانقضوا عليها ومزقوها بسيوفهم ورماحهم، ثم انهالوا عليّ ركلا وضرباً حتى غبت عن الوعي.
* * *
عندما أفقت كان صوت الحارس يناديني عبر فتحة صغيرة. ناولني صحن حساء وأمرني أن أصمت حتى يأتيني قرار الأمبراطور، وأشار إلى فجوة صغيرة في أرض الزنزانة يمكنني استخدامها لقضاء الحاجة.
لم أكن أدري الوقت ليلا أم نهاراً حينما فتحت القارورة في عتمة الزنزانة. كنت قد نسيتها تماماً حتى فوجئت بوجودها معلقة في رقبتي مختفية تحت بقايا ثيابي التي مزقها العسكر عن بدني كشجرة قضم الجراد وريقاتها.
فقط عندما خرجت تلك الإلهة الخلابة انتبهت إلى البدر يطل من كوة صغيرة في أعلى الجدار. رأيتها متجلية أمامي بفتنتها وسحـرها، فشعرت كأن روحي تتسلل من وحشة قبر وخوائْه إلى دفء رَحم وخصبه. بعيدا عن عيون الحراس، تعالت أنفاسنا وتمازجت بصرير حشرات وضوء بدر متكىء على قضبان. طفتُ مع أمواج أزمان بلا ملوك ولا آباء ولا كلاب ولا هاربين.
ذات ليلة كنت مستلقياً مع إلهتي قرب الفجوة، عندما تهادت إلي أصوات حمحمات وشهقات كطيور في أعشاشها. دنوت فمي من الفجوة وصرخت :
ـ "من هناك؟ ".
بعد لحظات صمت، سمعت من يصرخ تحت الأرض :
ـ "نعم أسمعك.. من أنت؟! "
أجبت بسرعة:
ـ "أنا سجين.. وأنت؟! "
أتاني الجواب :
"أنا.. أنا أيضا.. أنا.. انا.. انا.. انا.."
لم يكن جوابا متوقعا ابداً.. صدحت كلمة "انا" بعشرات الأصوات، ربما مئات.. أصوات رجال انتشرت تحت الأرض ليعلنوا جميعهم أنهم سجناء مثلي.
عبر قنوات الأرض تبينت الحقيقة المرعبة: زنزانتي محاطة بعدد هائل من زنزانات تحتوي رجالا قابعين مثلي بانتظار مجهول. عبر فجوات أرض مظلمة عابقة بعتق وموت اكتشفنا هوية مشتركة:
إننا سجناء امبراطور قدسناه وعبدناه عندما كان زعيما للهاربين. إننا من ذرية آباء أمضوا دنياهم في تعقب كلاب طائشة.. وإن كلاً منا تزوج أخت الآخر، ولنا أمهات يندبن خيبة ازواجهن عند خرائب الأسلاف!
* * *
لم أدرك كم أمضيت من الزمن عندما فتح الحراس الباب وقادوني مثل كومة لحم ورموني أمام الامبراطور. بعد إعلان غفرانه لخطيئة مشاركتي أهلي في تتبعه عندما كان زعيماً للهاربين، عمدني الكهنة بمياه الخصب الجارية من تمثال إلهتنا الأم. ولكي أتوب عن جميع خطاياي وخطايا آبائي، أمروني أن ألحق الهاربين واتقصى اخبارهم. اقسمت أمام ملكنا وآلهتنا بأني سوف أحرم من بركة خصبهم وأقصى من نسلهم إن لم أخلص في مهمتي بتتبع الهاربين حتى نهايتهم المحتومة.
في الفجر، جلبوا لي زوجتي التي كبرت بطنها في اثناء سجني. اركبونا عربة تجرها بغال وتقودها كلاب وقالوا: ارحل ولتحميك عيون ملكنا وإلهتنا وتبارك صلواتك لهم.
خارج بوابة العاصمة، كانت الأراضي القاحلة مرقطة بأعداد وأعداد من العربات التي تجرها بغال وتقردها كلاب تنهب الدروب نحو آفاق مجهولة. لكني ما ان تلمست قارورتي حتى قررت ان لا اسير في من تلك الدروب، إنما اتجهت بعربتي إلى النهر. عند الشاطىء فككت البغال وتركتها تسير وحدها تابعة الكلاب التي ما كفت عن عراكها من أجل اشياء لا مرئية.
انسابت بنا عربتنا فوق المياه، وعلى ذراعي تغفو زوجتي وتحت إبطي تحيا قارورتي من نبضات قلبي. كان بدر ليلتنا متألقاً بين نجومه ويطوف معنا في سماوات تقودنا إلى سماوات. كان النهر ينحدر في واديه ليمنح خصبه لأراض وأقوام تناسلوا حول ضفافه منذ حقب تاريخ سحيق، تتغير أسماؤهم ووجوههم ولغاتهم وأديانهم إلا أرواحهم تظل تتناسخ خالدة في ذات الأنهار والأطيان ونفحات الريح. تعالى في الفضاء عويل نسوة يندبن غياب المنتظر، وينثرن فوق المياه صواني شموع تنساب نحو شواطىء وخلجان أزلية الجريان.
* * *
صحوت ليكون العويل صفير سيارة إسعاف تمرق في الشارع. وجدت نفسي في غرفتي مضطجعا وحدي، وعبر النافذة كان يأتيني الصفير مخترقا صمت المدينة الغارقة في إغفاءة صبيحة يوم الأحد، ممتزجا بعبق البحيرة القريبة. ليس هناك من أثر لـ (هاجر) غير عطر مسك وبقايا ليلة حمراء!
فصل خامس
قرصان القارورة
لعلكم تتفقون معي أن (آدم ) راح ينزلق أكثر فأكثر في متاهات (هاجر)، وينقاد بلا حذر إلى نزواته معها. في كل كلمة تلفظها، تجتمع مفاتن ومغريات نساء عصور عاشتها.
دون أن يخبرني بهدفه الخفي طلب مني أن أعثر له على حفلة مناسبة يمكن أن يرقص بها مع زوجته (مارلين )، وتعهد بدفع بطاقة دخولي. اتذكر انه كان مساء سبت ربيعي. بعد أن تعشينا معاً في بيته وبرفقة زوجته، أحتسيت وحدي نصف قنينة نبيذ ونصفها الآخر حملته لي (مارلين ) في حقيبتها. ثم هيأنا لفافة حشيش لندخنها آنا وآدم في الحفلة. اما (مارلين ) فأنها لم تكن من مفضلي المسكرات، لكنها كانت مبتهجة معنا بطفولة واضحة. أخبرتني انها منذ فترة طويلة لم تذهب إلى حفلة راقصة. طالما حسدت (آدم ) في سري على زوجته، رغم عدم رغبتي في الزواج، إطلاقا. اكثر ما يجذب فيها، عيون خضراء تشعة طيبة، وخصال إنسانية ترغم رجـلاً مثلي على ان يعاملها برقة ويرتاح لطلب عون منها، وإن كان لا يحتاج إليه.
عندما وصلنا إلى قاعة (البالاديوم ) كانت الساعة تقارب العاشرة مساء. كانت حفلة صاخبة بشباب وموسيقى جاز حديث. ما إن جلسنا حتى همس (آدم ) في أذني :
ـ "عندي مفاجأة، تعال وياي.."
لم أكن أدرك ما يبتغي. الح بالعثور على زاوية قريبة مستورة. حينئذ فقط انتبهت إلى الكيس الذي كان يحمله. من باب يحاذي باب المرقص صعدنا سلالم عمارة خالية حتى الطابق الثالث. هناك أخرج القارورة من الكيس وهو يبتسم بطريقة شيطانية صار يتقنها عندما يسكر. اطلق سراح حوريته وألبسها ثوبها وحذائها ثم لف فوطة حول رأسها فتدلت كراكيش سوداء حول جبهتها فبدت كأميرة جنوبية.
بعد أن قمت بتقديم (هاجر) إلى (مارلين ) على أنها إحدى صديقاتي، حرصت على مرافقتها وهي تتهادى بقامة شامخة وخطوات ملكية وئيدة جعلت رؤوس الحضور تلتفت إليها. كنت اتساءل عما يجول في دواخلهما: هل هي التي أقنعته بلقاء زوجته ام هو أراد إقحامها في تفاصيل اجتماعية لم تثر اهتمامها من قبل.. لماذا يجب أن تتعرف بـ (مارلين )؟ لم تذكر في جميع حكاياتها أنها رغبت يوماً في التقاء زوجة أحد عشاقها. ايكون هذا دليلا على رغبة في الخروج عن سلوك تعودت عليه منذ القدم؟ لعلها خطوة أولى نحو خطوات اعمق في درب مجهول العواقب. أليس من المنطقي أن حياتها ستغدو صعبة لو أنها عايشت تفاصيل حياتنا اليومية؟ ستهبط من علياء وجود خالد إلى تفاصيل دنيا محبوكة من غيرة وتضحية ومنافسة وصدق ونفاق ومراوغة ورغبات امتلاك.. وهنا يكمن الخطر، لأنها ستستحيل حينذاك إلى امرأة أرضية تهتم بالعادي وتمارس من خلاله لذة وجودها. ليتها تعلم أن ما تتضمنه حياتنا من شعارات عظيمة ومبادىء واحلام كبرى ما هي في الأساس إلا أقمشة براقة محاكة بخيوط من تفاصيل يومية عادية ومشاعر خفية ونزوات إنسانية! لو أنها تدري أن طبخات الحب والوفاء يتحسن طعمها كلما أضيفت إليها توابل غيرة وكره وامتلاك. في أشد الأحقاد ثمة نكهة حُب، وفي أسلم المبادىء ثمة نكهة حرب، وفي أقدس المشاعر وأطهرها ثمة نكهة مجون وشهوة..
* * *
موسيقى متصاعدة من الأرجاء سارعت في تصاعد مفعول الثمالة. كانت القاعة تدور والجدار ينشق عن فضاء بلا افق. كأن الجميع يرقصون على كوكب طانش يهيم في كون. اصابني خوف لذيذ من السقوط في فراغ. رأيت (هاجر) وقد اصابها دوار النشوة ، تقترب من باحة الرقص ونظراتها تنساب بخفر، تارة ناحيتي، وتارة ناحية (آدم رمارلين ). إنها ملكة ترقب أتباعها. كنت ممتلئا بتردد غير عقلاني من الاقتراب منها. لا ادري كيف أفسر هذا! كأني لسبب غامض خجلت من (مارلين ). وقعت فريـسة تأنيب ضمير. لعل علاقتي مع (هاجر) قربتني إلى (مارلين ). لست على يقين.
كنت واقفاً عند ناصية مرتفعة قليلا، تجعلني أشرف على الراقصين، وأتلقى أصوات مكبرات الصوت بانسجام ووضوح. عينا (مارلين ) كانتا مفتوحتين على سعتهما وتشعان خضرة وحباً نادراً كفيلا أن يمنح زوجها السعادة ويغنيه عن أية امرأة.. لكنه مثلي، في روحه وجسده ثمة ينابيع شهوة فياضة تكفي لارواء اكبر الواحات والفيض نحو واحات اخرى. في الماضي كانت ينابيع ملذات(آدم) تفيض عن واحة زوجته وتسيل ضائعة في صحارى من السؤال والغموض. لكن (إمرأة القارورة) اتت لتجمع في مجراها فيضانه وتصنع نهرا يسقي مدنا واقواما ويهيم في بحار وبحار.
بدأت (هاجر) تنساب ببطء ثعباني مع موسيقى زنجية متصاعدة. راحت بالتدريج تفك لجام اعضائها وتدعها تتضوع بأنوار وانغام ملونة. بدت تماثل بحركاتها نافورة البحيرة، حيث يعلو الماء رقراقا بطيئا واطئا ثم ينمو ويتصاعد ويشتد مندفعا حتى الاعالي. انه مشهد ولادة ونمو..
عينا (آدم) كانتا ترقبان (هاجر) وهو يراقص (مارلين) التي بان قليلا انتفاخ بطنها رغم ثوبها الفضفاض، متمايلة بحذر خشية على جنين ما تجاوز بعد شهره الثالث. كان جسدها يتراقص دون ابتذال وبعنف انيق كأمواج هادئة متناغمة. ياترى هل تصدق لو قيل لها إن جنينها ما زرعت بذرته في بطنها إلا بفضل هذه المرأة التي اراقصها! بخصبها الخالد منحت أمانا كليا لـ (آدم) واطلقت عنان شهوات روح ملجومة وجعلت بذرات خصبه تنساب بخدر لذة حقيقية كان ينتظرها طيلة عمره.
حتى انا بدأت تراودني في الفترة الاخيرة فكرة الانجاب. اشد ما امقت في الحياة دور الابوة. لكني في احلام يقظتي كنت انساق الى رغبة عابثة اود بلهفة لو انفذها:
ان امنح بذوري الى (بنك الاخصاب) ليكون لي ابناء من عدد لا يحصى من النساء. يصحبني حلمي الى ما بعد عدة اعوام، حين اكون اشيب وقورا، ارى فجأة امامي عشرات الابناء يتصلون بي ليعلنوا لي اني ابوهم البيولوجي! سأكون سعيدا لأني زرعت روحي في اناس سيخلفوني ويحافظون على ديمومة نسلي. سأتمتع بتبعيتهم لي وشعوري بأني ابوهم من دون ان اضطر يوما الى ممارسة دور مقيت.
الا تكون إذن غريزة الابوة تعبيرا عن رغبة الجسد في ان يكون أزليا وسرمديا مثل الروح؟ أيكون الخالدون هم بغير خصب، ووحدها الأجساد الفانية تحمل خصبها في داخلها لأنها بالخصب تكافح موتها؟ لعل الجسد يمضي اعوامه وهو يشقى من اجل ان يكون خالدا ومطلقا مثل الروح، وما الموت إلا محاولة الجسد ترك المكان لجسد اعلى واسمى واقرب الى الروح؟ هل هذا يعني ان سنة الوجود الواقعي هذه الحركة الأزلية من اجل بلوغ الوجود الأسمى والأرقى؟ أليس الإنسان إلا مرحلة عليا في هذا الوجود المحسوس لأنه هو وحده من شعر وفكر وتمتع بخيال واقترب من ذلك الوجود الأعلى اللا محسوس؟ هل سيؤدي بنا الرقي البيولوجي وتناسلنا لحقب وحقب حتى تبلغ اجسادنا كليا ذلك الوجود الاعلى المطلق؟ حينها سنصبح خالدين نتناسل ونتناسل من دون موت ولا ولادة!
انتبهت الى ان كل واحد منا، نحن الاربعة، كان نظره مشتتا بين الثلاثة الآخرين. كنت اشاهد(مارلين) و(هاجر) و(آدم) كيف تستحيل اشكالهم الى تكوينات هلامية من ضوء ودخان وموسيقى. كنا بحركاتنا نخوض حوارا حنونا وهمجيا، مفعما بأسى وعتاب وصراع رغبات. صارت كل حركة من جسد احدنا استجابة لحركة الآخرين. (هاجر) قد توسطت الباحة تحت ضوء ابيض يشع بهالة بنفسجية. اسبلت جفنيها الى الأرض، ورفعت ذراعيها، وشرعت تتمايل بحركة افعوانية جعلت من نهديها وردفيها في عربدة للانعتاق من ثوبها الشفاف. عند كل حركة تبديها كانت ترتفع عن الأرض وعيناها تبرقان بضوء خلاب يغمر الفضاء. كما لو في حلم، أخذ الأذان يصدح في وسط إيقاعات افريقية سنغالية :
ـ "الله أكبر.. الله أكبر... حي... "
وامتد أنين بلال حبشي عبر قرع طبول وأنغام قيثار إلكتروني يستنجد بجليل جبار ليعين الإنسان في حيرته الأبدية. بدأ ينبجس أمامي مشهد غرائبي :
كأننا في غابة وسط قوم من حُقب غابرة، نمارس طقوس عبادتنا في حضرة آلهة من ضوء وموسيقى. كان جسمي يتفتت ويفقد وزنه.. يذوب وينساب مع أجساد الآخرين. نستحيل بالتدريج إلى خلايا تنتثر في الغابة. مثل طيور نحوم أسراباً حول (هاجر) ونحطّ على جسدها. نخترق اللحم، ونسبح في الدم، ونذوب في كون من ماء ونور. صارت (هاجر) بحيرة، ونحن صرنا ثلاثة أنهار نرفد فيها، والراقصونوثبت من صفنتي فجأة على صوت (آدم ) كان يخضني وهو يسألني بصراخ مخنوق بضجيج : ـ "هاجر.. ما شفت هاجر..؟ "
فتشنا عنها في الأنحاء من دون العثور على أثر. إذن لقد صدقت مخاوفي. ها هي تمضي بعيدا في التمرد على طباعها. يقيناً ان غيرتها قد دفعتها إلى هذه النزوة. فكرنا أنها انساقتّ لثملها وراحت تتسكع في المدينة. انطلقنا إلى البحث عنها بعد أن بعثنا (مارلين ) في تكسي إلى الدار. كنت وراء (آدم) أتبعه وهو يحوم في عتمة ما بعد منتصف الليل بين الأزقة وعلى ضفاف نهر (الرون ). كان مثل معتوه يلهث ويثب هنا وهناك محدقا في الزوايا المظلمة وبين وجوه النساء بحثاً عن حوريته. حركاته توحي أنه في ساعة مصيبته هذه يتمتع بحواس لاقطة تفوق المعتاد، وأن غرائز الحياة جميعها كانت في أقصى نشاطها لتلقي اية إشارة.
كانت السماء مكفهرة بغيوم سوداء تبعثرها ريح مبللة برذاذ مطر. اتكأ على السياج، وترك نظراته تغيب في أعماق المياه وتنحدر معها جنوباً نحو مصبها في البحر. كان يدمدم هامساً يسأل السماء ويشكو لها بهمهمات غير واضحة. تهالك على مقعد بعد أن أعياه تعب وبرد رقلق. جلس واضعاً رأسه بين ركبتيه وذراعيه وأجهش بنحيب مكتوم. كان الشارع مضاءً بمصابيح فندق (هيلتون ) ويضجّ بعصف ريح وصخب مكتوم قادم من علب ليل مختبئة.
كلما اقتربت من آدم، كنت أميز بعض كلمات همهمته. لعلي كنت أتوهم سماعي لمفردات تاريخية كثيرة، أسماء شعوب قديمة وحروب وملوك. بل إنه ردد اسماء سبق لي أن عرفتها في حيوات عشتها مع (امرأة القارورة). بدا بهيئته الكسيرة كتمثال مهمل. كان العرق ينفذ منه غزيراً حاراً ناضحاً باْحاسيس خسارة وضعف وحيرة. امتدت يدي لتمسد شعره وتنساب على كتفه. هل حقيقة اني كنت أشفق عليه وابتغي مساعدته أم إني كنت اشفق على نفسي وأبتغي إنقاذها؟
مع الاستغراق في خدر انتشر في أوصالنا، كانت أصوات صخب تتضح أكثر فأكثر. آنذاك، أدق الرادارات مهما جهدت، لن تستطيع ان تلتقط سوى خليط عجيب من أصوات متناثرة من حشد نوافذ وأبواب وسطوح وجحور: أحاديث وشخرات وآهات وضحكات وصفعات وأغنيات وزجاجات تتكسر وسيارات مارقة وصرير حشرات، كل هذه الأصوات كانت تمتزج وتذوب في صخب أمواج البحيرة الهادرة لتشكل صوتا كونياً واحداً. لكن (آدم ) قام فجأة كأن نداءا خفياً قد جذبه. انحدر نحو اليمين حيث تتوغل شبه جزيرة صغيرة في الماء (مسبح باكي ). كلما توغلنا في المكان بدت تتوضح من بعيد نغمات غناء يصدح ممتزجا بضجيج الامواج. بلغنا اشجار اربعة عملاقة منتصبة وحيدة على الجرف، طالما بدت من بعيد مثل زوجي عشاق متوحدين يمضيان وقتهما بتأمل المياه..
هناك وجدنا هاجر..!
لم تبد الدهشة عليها ولا على (آدم ) كأنهما كانا على موعد. كانت بثوبها المرقط واقفة تحت خيمة الاشجار، مزروعة في هذا المكان منذ القدم. كانت تصدح بلحن عراقي شجي لكنه بلغة غريبة.. ربما كانت سومرية او اكدية.. لا ادري. كانت عيناها ترمقان افقا مظلماً، ويرتشف صدرها ريحاً عابقة بروائح كائنات ترسبت في قاع البحيرة عبر التاريخ. كم من أقوام شربت واغتسلت في مياهها.. وكم من دماء حروب سالت فيها! كم من أرواح يائسة انتحرت فيها.. وكم من همسات عشق ومداعبات ترطبت بمويجاتها! ستظل مانحة للحياة بمياهها النقية المتألقة المغرية بأكلها وشربها والغوص فيها.
من دون أن تكلمنا أخذتنا بين ذراعيها. في اللحظة التي وضع فيها (آدم ) كفه على صدرها وضعت أنا كفي عليه.. وعندما انسابت شفتاه على شفتيها، انسابت شفتاي أيضا.. وعندما استلقى معها على رمال الشاطىء تحت الاشجار الشامخة، كنت أنا كذلك أستلقي معها ويلتحم جسدي بجسدها واغور في عالم عتيق تحييه وتخلقه ارتعاشاتنا الراقصة في احتفال الوجود.
* * *
وجدت نفسي غلاماً اعيش في قرية ضائعة بين أهوار الجنوب. كان ابي تاجر حبوب تقياً، يمضي وقته في عبادة أصنام جلبها من (بابل )، عاصمة قومي البعيدة المرتمية على الفرات. كان جلفاً لا يفكر إلا بتجارته وبالانتقام من العار الذي جلبته له أمي. أتذكر أن عمري كان لا يتجاوز ثلاثة اعوام عندما دخل علينا أبي في ليلة حالكة. كنت مستلقيا في حضنها وهي تهدهدني بحكايات جدي الذي جال الأرض بحثا عن اكسير الخلود. سوف لن أنسى أبداً صورة تلك الابتسامة الحنونة والاندهاشة الساذجة التي ارتسمت على وجه أمي وهي تستقبل خنجر أبي. كان يصرخ بوحشية وبجنون :
ـ "خائنة.. خائنة... "
امسكني من قدمي وسحبني عنها بعنف. ارتمى عليها، خلع عنها فوطتها السوداء وجرها من قصيبتيها الحنيتين. أتذكر جيدا انها كانت تنظر إليه وعلى وجهها ابتسامة مندهشة، عندما كان خنجره الكلداني يحفر جرحه على عنقها البض الأبيض.
ما ظل يحيرني طيلة عمري أنها عندما كانت تموت والدماء تفور منها، لم تكن غاضبة ولا محتجة، إنما نظرت إلي بهيئة حزينة عاتبة، كأنها تقول :
ـ "انظر الى أبيك.. يكافح ويجهد نفسه لحد انه يضحي بي من اجلك.. كل هذا من أجلك يا ولدي.."
أمضيت الأعوام بعد مقتل أمي، وانا في خضوع مطلق لإرادة أبي. لم افقه أي شيء عن قصة خيانتها. لم اسمع أي تعليق على الموضوع مرة اخرى ابدا. عشت مع زوجته الجديدة. كانت أسيرة ارمنية، اشتراها من (آشور) مدينة اخوالي. كان أبي مستعداً لعمل المستحيل ليتخلص من ذكرى امي. كان يرغب في ان يمسح عن الوجود أي أثر يذكٌره بها. لكنني كنت ذلك الأثر الوحيد الذي لم يساعده ضميره على ان يتخلى عنه. كنت رمز خيبته ونقمته، وصار بدني ارضاً خربة يحرق فيها أقذار عمره. رغم عطف زوجته عليٌ ومحاولتها ان تعاملني مثل أخوتي الذين انجبتهم، إلا انها ما كانت تستطيع حمايتي دوماً من عنف لسانه وغلاظة قبضتيه. عند اية بادرة خطأ كان يرجمني بجميع شتائم قومي ويضربني بعصاه المنقعة بالملح، ثم يأخذني دفعا ًليسقطني في النهر وهو يدعو عليٌ الانقبار في عوالم سفلى.
رفض أن أتعلم القراءة والكتابة. كانت العادة أن يقوم أحد الكهان بتبني الطفل لتعليمه القراءة والكتابة والدين، لكن أبي كان يبتغي أن يحولني إلى حيوان لا يفقه من الدنيا إلا أوامره. جعلني راعياً لأبقاره، امضي النهار معها عند أطراف الأهوار، أعلفها واحميها من هجمات خنازير وحشية وذئاب تزحف من الصحراء المجاورة. كنت أزور سراً أحد الكهان ليعلمني رموز كتابتنا وثقافة اسلافنا. كنت أصنع ألواحاً من طين أحمر لأخط عليها حكايات هدهدة امي، وأزينها برسوم عوالم بعيدة زارها جدي بحثاً عن شباب وخلود. عندما يهدني الجزع، كنت أخرج سراً تمثال إلهتنا الحنون (عشتار)، أسندها إلى سيقان قصب البردى، وأسيح دموع الخلاص. يختلط دعائي بخوار أبقار واصوات طيور وحشرات وهفيف ريح، فتستريح روحي إذ أشعر بالكون يشاركني آلامي ورجائي.
* * *
ذات ليلة كنت على حالي وحيدا اصلي لألهتي تحت ضياء قمر متسلل عبر سعفات نخيلات متفرقة في مقبرة القرية. تجمدت عروقي وارتعشت خوفاً وانا أتنصت لأصوات غريبة تصدر من طرف المقبرة. أصوات مبهمة كأنها توحي بدينونة موت وانبثاق حياة، بألم وشهوة. شرعت أقترب من مصدر الصوت تابعا هاجس فرح كان يحدثني عن قدوم (عشتار) بعد ان استجابت لصلواتي واشفقت علي من عذاباتي.
عندما اقتربت لم اجد ما تمنيت. كان شيئا آخر لم يخطر ببالي! من بين شواهد القبور رأيت ابي الهرم مستندا بجلسته الى قبر جدي. كانت في أحضانه إمرأة تفوق في حسنها وبهائها أعظم آلهات الجمال. أبي الأسمر بذراعين محروقين بشمس وسفالات عمر وأقذار تجارة، كان يحتضن ذلك الملاك. تخيلتها فراشة في أحضان عنكبوت. كانت أصوات حبهما تأتيني ناشزة مبهمة: فحيح شهوتها مفعم بألم وشكوى، وفحيحه يشبه همهمة ذئب يتمطق بلحم فريسته.
طفقت فيضانات نقمة وغيرة تجتاح روحي كأني أشهد عملية اغتصاب حقي وشرفي. راح جسدي يلتصق بشدة بالأرض وانا متمدد على بطني. أسناني كانت تعض حجارة قبور، وانفاسىِ معفرة بتراب وأصابعي راحت تمزق جلد الأرض وتغور بعيدا فيها. عيناي التصقتا بمشهد فجور يُرتكب امامي. استحال كياني إلى كتلة من لهب مركزها أسفل سرتي. انتشرت في بدني وفي الأرض قشعريرة غريبة من لذة واندهاش.. ارتعاشة زمن طويل. طاف جسمي على موجات متلاطمة ما عرفتها من قبل!
في لحظات خُمود أصواتهما خَمدتُ انا فجأة وانسبتُ في غيبوبة من الراحة. بقيت لزمن مستلقياً على ظهري انظر إلى السماء وأنا في حالة من النشوة جعلتني أستهجن فكرة أن ثمة شيئاً في الحياة يستحق الغضب او الحزن. كنت حينئذ في صلح مطلق مع الوجود. بدت لي النجوم شموع زفاف القمر على نجمة الزهرة.
عند بزوغ خطوط الشفق بين جذوع النخيل وشواهد القبور، صحوت من شبه إغفاءتي على أصوات قُبلات وهمسات. رأيت أبي يخرج قارورة من متاعه. وضعها أمامه على الأرض ثم احتضن المرأة وقبلها بنهم وقلق. وإذا بها فجأة قد ذابت وتلاشت، ثم أغلق أبي القارورة وحشرها في متاعه ورحل.
* * *
منذ تلك الليلة لم أعرف الراحة. كل لحظة تمر أحسها خسارة محسوبة من عمري. هكذا فجأة اكتشفت أني رجل أملك من القوى المكبوتة ما يؤهلني ان أتخلص، ليس من سطوة أبي وحده، إنما حتى من اعظم الطغاة. لم أكف عن مراقبة أبي في لياليه الماجنة عند قبر جدي. وكلما رأيت (امرأة القارورة) في أحضانه، تفاقمت قوى حقد ودمار في اعماقي.
ذات ليلة قدحت في روحي شرارات الشر. بينما كانا يتضاجعان على قبر جدي، هبت ريح الغرب جالبة معها زمهرير الصحراء وذرَّات حمراء مشبعة بشهوة انعتاق وانتقام. انطلق عواء ذئاب جائعة في أعماقي، وامتزج بصفير الريح. في اللحظة التي نهضت فيها من بين القبور والخنجر الكلداني يزأر في يدي، رأيت أبي من دون أن يراني، يترك القارورة على الأرض وينزوي بعيداً عن قبر جدي. كانت لحظات حاسمة ارتعشت فيها أوصالي. بات القتل بالنسبة إلي حينئذ كلذة مخبولة وطائشة. كدت اتجه إليه وأطعنه في قلبه، لكن رؤيتي للقارورة خلبت لبّي وجعلتني أرتمي عليها وانهبها.
من دون تفكير ركضت.. مع عصف الريح ركضت وركضت حتى وجدت نفسي في حوشنا. الخنجر ما زال يعوي وأنا اريد ان اقتل. دون تردد وثبت على الأبقار. رحت اطعنها وأبقر بطونها بوحشية لا مثيل لها، وأقطع مصارينها بأسناني.
كنت بحالة فقدان تؤهلني لقتل اي إنسان يواجهني. شيء وحيد كنت اعي أهميته هو القارورة في عبّي. روحي كمنت فيها.. بل تاريخي وحياتي وعواطفي تكومت فيها. كنت أتذوق دماء الأبقار الحارة. أتناولها بين كفي، أشربها وأغسل رأسي بها حتى صرت كتلة تراب معجون بدم.
وجدتني أتجه إلى جرف النهر. رميت نفسي في قارب أبي (المشحوف ). إنحدر بي في المجرى الكبير المتفرع من نهر دجلة. كنت أحتضن القارورة وأقبلها. كل صرخة كنت أحسها تهدم جدارا من سجن ماضيٌ وتفتح امامي مستقبل حرية وانتقام.
* * *
عندما هدأت العاصفة وانزاح الظلام والغبار، انبلج فجر ذهبي، غمر بألق شفاف سطح المجرى وبساتين النخيل المحيطة. كانت تأتيني من بعيد أصوات فلاحين ورعاة وحيوانات. ركنت المشحوف بين الأحراش، وهبطت محتضنا القارورة. اختبأت تحت ظلال نخيل وكتل قصب، وفتحتها. لم تسألني عندما خرجت، ولم تتح لي مجال الكلام. حدقت إليّ بحزن وعجب كأم تشفق على حماقات ولدها. أمسكتني من ذراعي وقادتني إلى الماء. خلعت عني ثوبي الممزق الملطخ، وراحت تغسل عني أقذار انتفاضتي. كنت أشاهد خلال عينيها مياه النهر تنأى بعيداً ملوثة بتاريخ ضعفي وخنوعي.
بقيت بصحبة معشوقتي أتابع بمشحوفي مجرى النهر. لأيام وليال كنت اعتاش على سرقة المزارع والبساتين وبيوت الفلاحين المنتثرة على الشاطىء. رغم أن عمري آنذك لم يتجاوز الأثني عشر عاما إلا أني صرت رجلا بالغاً بفضل ما منحتني إياه (امرأة القارورة) من مشاعر فحولة وثقة بالذات.
عندما وصلت إلى شواطىء الخليج اشتغلت بحاراً في سفن تمخر عباباً ممتدة حتى محيط الظلمات. الأعوام وتجارب الزمن وأحقاد الماضي التي ما انفكت تفور كالبركان في روحي، صيرتني قرصاناً همجيا. كنت أجول البحار بحثاً عن سفن التجار لأستولي عليها وأفتك بناسها. لم يكن لدي أي صديق في حياتي غير (امرأة القادورة). البشر كانوا بالنسبة إلي واحدا من اثنين : اما عدو أخشاه واحاربه، وإما تابع حقير أسحقه لأفرض عليه مشيئتي. كانت (هاجر) مرفئي الوحيد الذي يرسو فيه جسدي وروحي من دون سلاح ولا مشاعر عداء ولا خوف أو احتقار. كانت هي سلامي الأبدي المختبىء في أعماق قارورتي.
حتى أتى يوم تغيرت فيه حياتي من جديد. امرأة أرضية أتتني كزخة مطر اطفأت نيران حقدي وانبتت محلها زهور حب برية. ذات يوم، هاجمنا سفينة قرطاجية تائهة قرب شواطىء إفريقيا الشمالية. لم تواجهنا صعوبة بالاستيلاء على السفينة لأن جميع بحارتها وركابها كان الجوع والعطش قد أنهكهم بعد ان أمضوا الأشهر تائهين في البحر الكبير. أعطيت أوامري بجمع الغنانم في جهة والأسرى في جهة أخرى. كنت واقفا عند شرفة القيادة، أراقب عملية تقسيم الغنائم والتخلص من الأسرى الضعفاء برميهم إلى البحر. كانت هناك كومتان متجاورتان، واحدة من ذهب وفضة وأحجار كريمة، واخرى من رجال ونساء منهوكين من جوع وعطش وأقذار.
كان صمت البحر قد فرض هيمنته حتى على قلوب القراصنة الصاخبة بشهوة السلب والقتل. الجميع كانوا ينتظرون بتلهف أوامري. فجأة، وثب احد البحارة الذي اسكره العرق الكنعاني، ارتمى على فتاة جاثمة في مقدمة الأسرى. أمسكها من شعرها واستل خنجره وهم أن يذبحها وهو يطلق زئيراً منتشياً بالنصر. عندما ارتفع وجه الفتاة إلى السماء، كنت مطلاً عليها من فوق. للحظات التقت عيناها بعينيٌ.. كانتا صافيتين مفعمتين بزرقة سماء وسكون بحر. ما رأيت في عمري وجهاً بريئا ًمطمئناً كهذا. بسطت أمامي سيماء طفولية كتلميذة تبحث عن رضى في عيني أستاذها في أثناء درس الموت. خلبتني طمأنينة الأطفال هذه. مثل عاصفة، اجتاحت مخيلتي صور الماضي : ابتسامة امي وخنجر أبي واعوام تشردي وملامح ضحاياي. أطلقت عوائي وسحبت مطواتي وقذفتها بلهفة مشرف على السقوط. في اللحظة التي مس فيها حد الخنجر عنق الفتاة، اخترق نصل مطواتي إذن القرصان. ارتعد كجرذ مَصلي وسقط أرضاً. اغمضت الفتاة عينيها، وانتشر على وجهها رذاذ دم القرصان.
* * *
منذ ذلك اليوم، تغيرت حياتي من جديد. كانت الفتاة ابنة احد أمراء قرطاجة. كانت عائدة من زيارة اعمامها في صور ويافا ودمشق. هجمات السفن الرومانية وتهديداتها جعلت سفينتهم تضيع الطريق وتهيم في البحر. اسيرتي هذه غلبتني. اسمها (عازار) وهي حقاً عذراء روحاً وجسداً. نفخت علي بأنسام اطمئنانها، وبردت فيٌ رمضاء قلقي، وجعلتني اهجر بلا رجعة حياتي السابقة. صارت لي حزمة نور تشق غيوم العنف المتراكمة في سماء حياتي. تشبثت بها كدخيل في حضرة قديس مُخلص.
شددتً الرحال معها تاركاً ورائي قراصنتي وتاريخي الأسود. لم أصطحب معي غير قارورتي، حيث تستقر (هاجر) لتظل في عيني رمز تاريخ أشتيه وأحن إليه وأمارس عليه سطوتي المطلقة. من أجل أن أنال رضى عائلتها وابيها الأمير، تطوعت في جيش قرطاجة. حصلت على حقوق المواطنة وأصبحت ضابطا في أسطول فرقة بحرية مكلفة بحماية الشواطىء من هجمات أسطول القاند الروماني (شيبيو). آنذاك كان الزعيم القرطاجي (هانيبعل ) منذ خمسة عشرعاماً وهو يشن حرباً طاحنة مستمرة لاجتياح روما وكسر شوكة امبراطورية طامحة إلى التوسع.
علاقتي بـ (سيدة القارورة) ما طرأ عليها أي تغيير، ظلت عشيقتي السرية ورفيقتي في خفايا شهواتي وأنيستي في سفرياتي وأيام ابتعادي عن حبيبتي (عازار). قرطاجة راقت لي. كنت اعيش فيها بسلام وبحبوحة مع أميرتي. نمضي ساعات العصر في حديقة قصر أبيها المطلة على سواحل البحر الكبير. زرقة الماء والسماء وخضرة بساتين الزيتون المنعكسة في عينيها ظلت تزيد من الطمأنينة في روحي، وتعوضني عن أعوام قحط ودم وسط اهوار طفولتي وبحار شبابي.
* * *
الزمن ما شاء ترك ناري تخمد تماماً. هبت ريح الحرب، وتأججت من جديد مع المخاطر التي أخذت تحيق بمدينة قرطاجة. لم يدم زمن تنعمي بالحُب والغنى والاستقرار. ودعت أميرتي والتحقت بحملة عسكرية بقيادة (آزروبعل ) الشقيق الأصغر لـ(هانيبعل ). رحلنا معه إلى أرض الرومان لنجدة شقيقه الذي ضعفت جيوشه بعد خمسة عشرعاماً من المتاهات الحربية في أرض الأعداء.
لكن حملتنا انتهت بكارثة. نجحنا في أرض الإسبان واجتزنا جبال (البرانس ) ونهر (الرون ) ثم جبال (الألب ) حتى وصلنا إلى سهل شمال إيطاليا. لم يبق إلا القليل لكي نبلغ هدفنا بالالتحاق بجيش قائدنا الأكبر. لكن (آزروبعل ) لم يتحل بحنكة أخيه وبعد نظره. أضعنا أياماً ورجالا في افتعال حروب هنا وهناك، واكتساح قرى عزلاء وتطويق مدن مسالمة من دوق اية نتيجة معقولة. تأخرنا عن غايتنا ومنحنا الوقت لاعدائنا ليجمعوا قواتهم. عند نهر (ميتور)، ذات صباح باكر، استيقظنا على أصوات أبواق حشود الرومان بقيادة (نيرون ). وقعنا في كماشة جيشين كاسرين. عندما حل المساء كان جيشنا قد أبيد، وقائدنا قد قُطع رأسه ليرسله (نيرون ) إنذارا إلى (هانيبعل ).
استطعت ان أنجو بحياتي بعد أن نهشت قدمي اليسرى طعنة رمح روماني. اختبأت في غابات منتشرة على ضفاف النهر. التجأت إلى قبيلة من الرعاة السلتيين الهاربين إلى الشمال بعيداً عن سوح الحروب. شاء حسن طالعي أن تكون هذه القبيلة من الناقمين على الرومان. لقد آووني وساعدوني على قطع قدمي الجريحة بفأس محمية.
حتى في أشد أوقات آلامي وإنهاكي كنت أكافح غيبوبتي مفكراً بقارورتي التي اخفيتها في طرف الغابة. كانت أحلامي زاخرة بصورة ماض دام وبحث أبدي عن انعتاق وسلام. تارة يأتيني طيف أميرتي (عازار) متوهجاً بخضرة زيتون وزرقة بحر، وتارة يأتيني طيف (هاجر) ليحميني من ريح وأمواج وحشود سُحب.
* * *
ما أن استطعت أن أعرج على قدمي حتى تسللت إلى الأحراش بحثا عن قارورتي. كانت هناك شمس مائلة إلى الغروب وخطوط أشعة نحاسية تلون اغصان وتسكب بريقاً شهوانياً على الأوراق. في كل مكان كانت هناك بقايا جثة جندي قرطاجي. امتزجت عفونة موت بروائح زهور أقحوان وأشجار أرز وزيزفون. لأول مرة في حياتي أحس بمثل هذا الرعب والمقت أمام مشهد الموت. كنت أرتعد والهث كذئب جريح يفتش عن منفذ في طوق حصار. رحت أقفز على أطرافي الأربعة، أشق أحراشاً بأصابعي وأشم حشائش بحثاً عن قارورتي. خُيل إلي ان خطوط الأشعة قد استحالت إلى رماح نحاسية محمية لتخترق بدني من كل مكان. وجدت قارورتي منزوية بين حشائش مدماة. اخرجت معشوقتي وارتميت على صدرها لأذرف دموع هزيمتي وحيرتي. كنت بحاجة همجية إلى ان أدخل فيها.. أحتمي بجدار صدرها من الرماح. مارسنا الحب بين بقايا جثث الرفاق. عبر كل ارتعاشة من جسدينا كنت اشعر بحمم مدمرة تنقذف لتحرق مغارات روحي المسكونة بوحوش ما قبل التاريخ.
بقيت لاجئاً عند قبيلة الرعاة خلال أعوام. كنت أتنقل معهم بين غابات واودية وأنهار وجبال. كنا نفتش عن ارض سلام تأوينا بعيدا عن حروب الرومان وغزوات القبانل الجائعة. توجهنا إلى الشمال وعبرنا جبال الألب. رحنا نمضي على ضفاف نهر (الرون )، نتبع صعودا مياهه الهابطة جنوباً نحو البحر الكبير. رغم الثلوج وأوجاع الترحال وهجمات الخصوم، إلا أن قبيلتي لم تتوقف عن مسيرتها، مدفوعة بعزم جبار لا ينضب : الرغبة في الخلاص.
اما أنا فـ (هاجر) كانت خلاصي وملجأي الخفي كلما ورم الحنين قلبي. في منامي كنت أعيش كوابيس أوطاني القديمة: الأهوار موطن أسلافي وعذابات طفولتي. البحر موطن عنفواني وثورة فتوتي وشبابي. قرطاجة موطن حُبي وسلام روحي. تعلمت لغة قبيلتي السلتية وعاداتها، ورافقت رجالها في مصاعبهم ونزواتهم، وعاشرت نسائها خفية وعلانية.
ذات يوم كاد ساحر القبيلة أن يمحقني بغضبه، لولا اني أذعنت ووافقت على أن اتزوج ابنته بعد أن حملت مني. كانت شابة شهباء، حمراء الشعر، مُسترجلة، يسمونها (كارل ) بدلا من (كارلا). شكلها العملاقي وحركاتها الرجولية توحي بجفاف وخشونة غريبين عن طباع الأنثى. مع الزمن اكتشفت حقيقتها. كانت تتعمد هذا المظهر لتلبي رغبة أبيها الذي لم يحقق حلمه بإنجاب ولد. علاقتنا بدأت عندما شاركت هي أباها في قطع قدمي واشرفت على مداواة جراحي. انبثقت منها فجأة ينابيع مشاعر رقراقة وملذات انثوية مختفية وراء مظهرها الذكوري. عندما حملت مني، رضيت ان ترتدي ثياب النساء، وتركت شعرها يطول. وكانت تجيبني عندما أناديها (كارلا). حتى النمش الأحمر الذي يغطي وجهها وانحاء جسدها، صار يضفي حرارة على لحظات لذتنا. منحتني من الحًب ما جعلني أتناسى الماضي واندمج يوماً بعد يوم في حياة القبيلة. أنا بدوري، لم أقصرعن منحها اعظم الحُب، لكن مشاعر قلبي كانت بين حين وآخر تفيض وتغرق غيرها من النساء. اكتشفت أن قلبي كان مثل مدينة، لا يمكن لامرأة أن تكفيها، لعلها تستطيع احتلال اكبر القصور والاستيلاء على معظم الثروات، إلا أنها يقينا ستنسى بضعة مساكن شاغرة.
تعلمت من ساحر قبيلتي بساطة الحياة والوفاء وعبادة الطبيعة والتمسك بالأمل حتى لو كان وهمياً. حاولت أن انقل إليه معارفي التي اكتسبتها من ماضيٌ. حدثته عن آلهة (بابل ونينوى) واسرار عبادة النجوم ومكتشفات الفلك وأبراج البشر. علمته ابجدية الفينقيين وثقافتهم. حدثتهم عن علوم المصريين وفلسفة الاغريق وقوانين الرومان. والأهم من كل هذا، إني، من خلال (كارلا) علمت نسائهم استخدام مساحيق التجميل اليمانية وصنعها من الصخور والأشجار والزهور. يوم ولدت (كارلا) لي ابنا، عم الفرح الجميع، وكانت مناسبة لأن تتبرج النسوة ببراعة وسخرية.
ارتفعت مكانتي بين أفراد القبيلة، لأني أولا منحتهم ذكراً سيدعم قواهم، وثانياً لأن ابني هو حفيد ساحر القبيلة، وسيرث حتماً موهبة جده ومعارفه وقدراته السحرية. امتناناً منهم وافقوا على أن اختار بحريتي اسم ابني. عندما أسميته (آدم )، استغربوا وضحكوا، لكنهم اخيرا هزوا رؤوسهم اقتناعا.
انتهى بنا المطاف أن وجدنا أرضاً خالية آمنة عند طرف الضفة الغربية لبحيرة (ليمان ). حططنا الرحال بعيداً عن قرية يقال لها (ففه ). كان ابني ينمو في أحضان جده، وهو يبخره ويقرأ عليه تعاويذه ويبصق في فمه لينقل إليه معارفه. كنت سعيداً إلى درجة لا توصف وأنا أرى ملامحه تتضح وتأخذ هيئة حنطية تميزه عن باقي أبناء القبيلة. فشلت في أن أقنعهم بالموافقة على ختانه. رغم جميع ايماني الغليظة لم يصدقوا بوجود قوم عقال على الأرض يمكن أن يوافقوا على قص لحمة من ولدهم.
* * *
الزمن، من جديد، لم يمهلني لأظل أباً لهذا الطفل وزوجا لهذه المرأة وابناً لهذه القبيلة. كنت ذات ليلة في خلوتي مع (هاجر) بين صخور عند سفح منحدر حتى ضفاف البحيرة. في هذه الليلة جلبت معي طفلي لتمضي معه (هاجر) بعض الوقت لرغبتها في ذلك. كنت أتمعن في خطوط الشفق المتسلل وراء الجبل. فكرت بوعيد الساحر وتحذيره من غضب الجبل. منذ أسبوع وهو ينذر القبيلة من كارثة محدقة. لم نوف بنذرنا المعتاد للجبل. شح الموسم ومرض الحيوانات منعانا من التضحية بقرباننا السنوي.
فجأة ارتج الكون بضجيج وحشي جبار، واهتزت الأرض، حتى خلت أن القيامة قد قامت. كانت كتل صخرية عملاقة تتساقط من أعلى الجبل تجتاح الوادي وتحيله إلى كتلة هائلة من غبار ممزوج بصرخات ألم واحتضار. لولا حماية الصخرة العملاقة التي كنا مستلقين تحتها، مع (هاجر) وطفلي، لانسحقنا جميعنا قبل الآخرين.
بعد دقانق معدودة هدأ الضجيج وانقطع تساقط الصخور. عندما نهضت ونظرت إلى الشاطىء الأخضر الذي تركت فيه قبيلتي منذ ساعة، لم أشاهد غير الصخور. لقد اختفى رجال قبيلتي ونساؤهم واطفالهم في غفوة أبدية يين حيوانات وأعشاب وشجيرات زيزفون. صخور.. لا شيء غير الصخور! مئات الأجساد والأحلام والذكريات قُبرت في دقائق تحت الصخور. ها هو جزء آخر من ماضيّ يتبدد تحت احجار جبل أحمق، غضب لأنه لم ينل قربانه.
كيف اصف لكم مقدار الجزع الذي أصابني والخيبة التي هدت قواي.. استفاق ذئبي من غفوته وشرع في عواء حزين، جعل الذئاب تحوم حول الصخور بحثاً عن بقايا جثث. ارتميت على الصخور من أجل التهامها وإخراج موتاي. لولا تعلقي بولدي ووجود (هاجر) معي لكنت لبٌيت نداء حاجة ماسة إلى نسيان ازلي.
بعد سبعة أيام أمضيتها في مأتم صامت أمام قبر قبيلتي وزوجتي، كنت جالساً على ضفاف البحيرة، رجلي المبتورة تستبرد أوجاعها في الماء. كنت وحيداً انظر إلى ولدي الذي يغفو بجانبي بعد أن اعتنت به(هاجر) وعادت إلى قارورتها. شمس حزيران كانت تستفيق متثائبة من وراء جبال الألب الشامخة على الضفة المقابلة، تأخذ حمامها الصباحي في المياه الذهبية الزرقاء. ريح رقيقة هبت من الجنوب، بثت رعشة خفيفة على سطح الماء، وجلبت معها أسراباً من طيور سنونو محملة برمال صحارى وعفونة أهوار وبحار. خلال حياتي كلها لم اشعر مرة هكذا اني وحيد. لم يبق لي غير حلم بعودة مستحيلة إلى الأوطان. استعرٌت فيٌ نار الحنين إلى (عازار) وقرطاجة.. إلى الخليج وسفينتي وحياة القرصان.. إلى قريتي والأهوار وإخوتي الصغار. نظرت إلى الطفل وفكرت بالمصير الذي ينتظره في صحبتي. إني غريب في أرض حتى أصحابها غرباء عنها. جرمان وهلفت وغاليون، قبائل جائعة تتقاتل من أجل قطعة أرض تستقر عليها، رومان وأتروسك وقرطاجيون، جيوش مدججة بحضارة تتحارب من أجل سيطرة ونفوذ.
لم أعد ارى من الطبيعة سوى غضبها وشحها وثلوجها وطواعينها والذئاب التي هيجتها روائح الموت. قمت متوكئأ على قدمي الخشبية محتضناً قارورتي وولدي مع اسماله، وتوجهت إلى قارب صغير. استلقيت ووجهي قبالة سماء تلمع بزرقة صافية بينما قاربنا ينساب بنا مع ريح الجنوب ليقودنا اينما يشاء.
عندما فتحت عيني، كنت وحيدأ على الشاطىء، وقد اختفى (آدم ) وقارورته. تركاني وحيداً في صباح احد ربيعي وقد غادرت الغيوم السماء وعادت طيور البجع تتهادى جماعات جماعات ولم يزل زوجي الاشجار يطلان علي وقد توهجت خضرت اوراقهما بحمرة الشفق النحاسية. وعندما نهضت أحسست بآلام غير طبيعية في قدمي اليسرى جعلتني اعرج على الرصيف.
فصل سادس
سيـرة ســيـد الوجـود
من دون مقدمات كبيرة أفتح لكم الفصل الذي أعلن فيه (أدم ) عن رغبته في إطلاق سراح (هاجر)! انا تقريبا قد تكهنت بهذا. صاحبي ما تغير.. رغم عزلة الأعوام السبعة، فإن عالم حوريته أعاده من جديد إلى نبي يسعى إلى تغيير التاريخ وتحسين سنة الوجود. راح ينظر إلى (امرأة القارورة) كسجينة تعيش عبودية خلودها، لا تعرف من الوجود غير ملذات عشاقها وعذاباتهم، تولد بمولدهم وتموت بموتهم، محرومة من تذوق الحياة بأوجاعها وأفراحها.
ما كف (آدم ) عن مقارعة الزمن من اجل تخليص حوريته. لم افهم لماذا كلما رأى جنينه يكبر في بطن زوجته، اشتد هوسه بتخليص حوريته. كان مقتنعا بقراره كأنما (هاجر) قد امضت آلاف اعوامها وهي تنتظر يوم يأتي هو ليخلصها من خلودها.. كأنه يبتغي إنقاذها من الموت. لعله في حقيقته كان يرغب في ان يجعلها فانية مثله. إنه مثل جميع المنقذين، دون وعي منهم يخفون بذرات أنانية في اعماق إنسانية صادقة وطاهرة.
في الليالي التي أمضيتها مع (هاجر)، كنت أحاول إقناعها برفض رغبة (ادم )، لكن حماسته قد نفذت بعيداً في أغوارها. جعلها تنكب على قراءة الكتب وتتابع أخبار العالم وأحداثه. مع الأيام راحت حكاياتها تمتلىء أكثر وأكثر بأسئلة ورغبات. وصار حلمها أن تعيش يوماً كامرأة عصرية صوٌرتها لها كتب وأفلام وصحف وأحاديث (آدم ). من أجل إرضاء عشيقها قبلت أن تضحي بخمسة آلاف عام من ذكريات العشق وملذات آلاف أعوام قادمة؟ علمها (آدم ) أن تغيظني بقولها إني ليس حباً بها أريد بقاءها خالدة في قارورتها، إنما لكي أمارس سلطتي عليها واتمتع بملذاتها!
اني على يقين بأن (آدم) سيتأسف على قراره هذا. سيفقد الى الأبد متعة الشهوة الخالدة التي تنمحه اياه سيدته. صحيح ان حبها له سوف لن يتأثر، لكن عطاءها الجسدي سوف يختلف تماماً. ستحافظ على حرارتها واباحيتها معه، غير انها ستكون فاقدة لطواعيتها القديمة وخضوعها الطبيعي لنزواته. سوف لن تكون تابعة له في ملذاته بعد ان تكون قد اصبحت إمرأة طبيعية خاضعة لقوانين الحياة ومتطلبات البدن والروح. ستتصاعد خيبته بها وهو يراها تستحيل الى إمرأة تتعب وتمرض وتحلم برجل يمنحها الأمان ويخفف عنها اوجاع الوحدة. سترفض دور العشيقة وتطالب بدور الزوجة. حينها سيفقد معها جنون المتعة وتلقائيتها. سيتوجب عليه ان يحترم كينونتها البدنية، يتباطأ اثناء الممارسة، يداعبها وقتاً ليهيئها، وعليه ان يمارس بانتباه حتى لا ينتهي قبلها ويحرمها من ذروة النشوة. وعندما ينتهي، اياه ان ينسحب ليدخن سيكارته مثلما يفعل معظم الرجال، بل عليه ان يبقى ملتصقاً بها ويداعبها لأن لذة المرأة لا تنتهي مع الذروة، بل تدوم وتنخفض بالتدريج.. نعم عليه وعليه وعليه..
لكني رغم ذلك وافقت على دعمه في مشروعه، لا إقتناعا بل خشية على سلامة علاقتنا. اتفقنا على طرق المستحيل لتخليصها من سحر القارورة. فكرنا في إمكانية كشف أمرها للناس وطلب العون من المعنيين، غير أننا تخلينا عن الفكرة فوراً، إذ خشينا المخاطر: سينكب، مختصون وجراحون وسحرة وكيميائيون على إجراء تجاربهم وتحاليلهم على بدنها. ستتكالب صحف ودور دعاية وازياء وسينما وأجهزة إعلام، جموع مغامرين ومكتشفين، ليصنعوا من (هاجر) رمزاً خالدا لأحلام خائبة. بلا شك انها ستتحول إلى مشكلة سياسية بين الدول المعنية بحقوق امتلاكها، حينها سنفقد حتى صلتنا بها.
قلنا لا. رحنا نجرب استشارة أصحاب الأمر من سحرة وروحانيين ومتضلعين بالتنجيم وعلوم ما وراء الطبيعة، من دون ان نكشف بالضبط تفاصيل معضلتنا. اتصلنا بمتفقهين من اتباع الطوائف الهندية - الآسيوية في (جنيف وباريس وبرلين ولندن ) : بوذيون وهندوس وباغوانيون وغيرهم من الطوائف القديمة والجديدة. راح (آدم ) يمضي وقته بمراسلة متصوفين إسلاميين، ويتصفح كتباً عربية قديمة تتحدث عن التصوف والسحر والطبّ. طالعنا كل ما وجدناه من كتب متعلقة بحضارات الشرق الأوسط القديمة واديان الشعوب السامية وقبائل الصحراء. اتصلنا بنساك ورهبان سريان في الشام والعراق، وزرنا اديرة عديدة بين جبال الألب وجيرا. لا شيء.. دائماً لا شيء. نتيجة وحيدة خرجنا بها:
العودة إلى الصحراء. هناك نشأت المعضلة، وهناك يكمن حلها. حكماء الصحراء وحدهم يملكون سرالقارورة. أي جزء يقصدون من هذه الصحارى الممتدة من اليمن حتى الشام ثم سيناء وصولا إلى الصحراء الكبرى المشرفة على المحيط الأطلسي؟! امضينا ليالي بطولها، نخرج (هاجر) من قارورتها لتشاركنا حيرتنا. سخرنا منها في البدء عندما أشارت علينا بالاتصال بالشيخ الذي وضعها في القارورة. لكنها أقنعتنا وهي تقول انها متيقنة من خلوده :
ـ"لا يمنح الخلود إلا من كان خالدا".
لكن أين يمكننا العثور على هذا الشيخ؟ (هاجر) كانت تجهل اسم الصحراء التي التقته فيها. ظروف تنقلها وترحالها، ما أتاحت لها تمييز وحفظ اسماء الصحـارى والبوادي التي اجتازتها مع ملكها (تموزي ) خلال عامين من البحث. كان يمكنها ان تصف لنا المكان وتتذكره بتفاصيله، ولكن دون معرفة الأسماء. تقول إن الجبل كان أحمر، صخوره ورماله تشع بألوان نحاس.
جمعنا لـ(هاجر) كل ما استطعنا تحصيله من كتب مصورة متعلقة بالصحارى العربية وبوادي شرق البحر المتوسط. كنا نمضي معها الساعات لتطلع على الصور وتتذكر الأماكن التي مرت بها. أولا، تركزت الظنون على منطقة البتراء قرب خليج العقبة لأن الصخور الحمراء منتشرة فيها. لكن (هاجر) عرفت المنطقة وتذكرت انها اجتازتها مع "تموزي" بعد أن التقوا بأحد نساكها، وانها عرفتها مرة اخرى مع احد احفادها بعد قرون طويلة.
بعد ليال من الجدل والاستقصاء توصلنا إلى نتيجة أكيدة هي ان المكان المطلوب هو صحراء سيناء: صخورها وجبالها حمراء، تربط بين آسيا وإفريقيا، وملتقى جميع قبائل وقوافل شعوب الصحراء. وهي منذ القدم الملجأ الطبيعي لنساك وزهاد أديان مصر والهلال الخصيب وجزيرة العرب.
لم يبق لنا اختيار آخر سوى السفر إلى سيناء. خلال أسابيع بذلنا الجهود لتخطي مصاعب مالية وإدارية. تدبرنا التأشيرة والمال، وهيأنا خرائط ودراسات مختصة بسيناء.
* * *
في مدينة الإسماعيلية على قناة السويس، التقينا دليلنا (موسى)، أصله يعود إلى عشائر فلسطينية حافظت على مسيحية مفعمة بروحانية البادية. كان شابا بوجه منحوت يمزج بين الملامح المصرية والشامية، حنطي البشرة بأنف دقيق وفك عريض بارز وعينان حادتان صغيرتان كعيني صقر. في الصباح كان (موسى) قد هيأ لنا سيارة (بيك آب ) ومتاع سفر مع أدوات مختلفة وخنجرين ومسدس. انطلق بنا متوغلا في شمس زاحفة من اعماق الصحراء.
قُبيل رحيلنا، بعيداً عن أنظار (موسى)، أخرجنا (امرأة القارورة)، وهي بعد أن جالت انظارها في السماء أشارت إلى غيمة راحلة نحو جنوب شرق الصحراء، قالت إن تبعناها سنصل إلى شيخ الخلود.
سبعة أيام ونحن نجول تحت ظـل غيمة تقودنا بين دروب وعرة وجبال صخرية وذئاب وعواصف رملية كانت تخرب خيمتنا وتطفيء نيراننا وتكسونا بغبار أحمر. اجتزنا مدناً صغيرة وقوافل سائحة منذ القدم واديرة قبطية ومراكز عسكرية وتلالا وجبالا وسواحل ممتدة إلى سواحل وسواحل لا تنتهي.
عند انتشار أنوار الشفق كان ينتابنا إحساس ممزوج بشموخ وضآلة أمام مشهد اتحاد الأرض والسماء، ونحن اجنٌة ننبثق منهما. كم من أنبياء وحكماء صنع هذا الالتقاء؟ هذا السكون الذي يوحي بالعدم والبدائية، يستحيل مع صفير الريح إلى اناشيد تتغنى بالأزلية.
في تلك الليلة خيمنا في المكان الذي قادتنا إليه غيمتنا. كنا قريبين من (جبل موسى) وجبل (القديسة كاترين ) حيث يستقر دير قبطي يقطنه رهبان وإله بدوي. كان التعب قد أنهكنا، وتفاقمت حساسيات فيما بيننا. كنا قد اتبعنا نظام اَنْ ينام اثنان ويبقى الثالث مع المسدس مستيقظاً للحراسة، ويتم التناوب كل ساعتين.
كانت نوبتي عند الساعة الحادية عشرة. رفيقاي كانا يغفوان بعد أن أمضينا امسية اسمعنا خلالها (موسى) حكاياته عن تواريخ وأماكن تتداخل بحرية لا تعرف حدوداً. عن (الأعور الدجال ) الشيطان الذي يذبح المؤمنين ولا يقتله إلا عيسى. وعن قوم (ياجوج وماجوج ) الذين سيهدمون سور الدنيا ويجتاحون الأرض فسقا. أشار إلى الجبل الأحمر الذي نصبنا خيمتنا تحت ظلاله وقال إنه (جبل موسى)، من قمته كان النبي موسى يكلم الله. ومن أراد ان يستجيب الله لدعائه ليصعد إلى القمة يدعو ويستغفر. عندها خطف في السماء شهاب قدح وانطفأ. دلينا موسى استعاذ بالله ولعن الشيطان وقال إن الشهب هي نيران يرميها الملائكة على (إبليس) عند اقترابه من أبواب السماء.
* * *
كانت ساعتي تشير الى منتصف الليل، وانا جالس في السيارة. صاحباي كانا يهجعان خارج الخيمة على مبعدة خطوات. ثمة نسيم رقراق كان يبث الخدر ويجعلني انساب منخلبا في رؤى سماء زاخرة بنجوم متطايرة ومتوهجة كأسهم نارية في احتفال من الصمت. مشاهد متنوعة من ذكريات تمر في الخيال كشريط سينمائي من مقاطع لصقت بعبث.
من وراء الجبل ظهر القمر قريبا كأنه يستريح على القمة. على ضوئه الذي غمر الساحة رأيت نقطتين تلمعان من مسافة قريبة. فوق صخرة مدببة كانت هنالك افعى مرقطة طويلة ترفع رأسها وتثبت نحوي عينين براقتين. رغم جفلتي وتقززي، فاني انسجمت مع احساس مبهم بالانجذاب. دون مشيئتي امتدت يداي الى القارورة المخبأة في صندوق السيارة، ربطتها على بطني بينما اصبعي متوترة على زناد المسدس. وجدت نفسي اتبع افعى تزحف متسلقة سلالم صخرية. بين حين وآخر كانت تتوقف وتلتفت نحوي بعينين قمريتين. سخرت من نفسي لأني امام مشهد الافعى انتابني شعور لا يعبر عن تقزز او خوف، بل رثاء وإشتهاء وتهكم، إذ كان جسمها متماوجا يتلوى على صخور مبلولة بضوء شاحب، فتبدو تارة كطفل يزحف وتارة كفاتنة تتمايل!
لم ادرك كم مضى من الوقت عندما رأيتها تقف عند مدخل مغارة يتسرب منها وميض شموع. نظرتني وتسللت الى الداخل. كلما اقتربت كانت رائحة بخور تعبق. هواجس كثيرة تصارعت في رأسي: قاعدة عسكرية، مخبأ عصابة، مسكن زهاد؟ استنشقت عميقا الهواء ثم زفرت كأني بذلك استنشق شجاعة وازفر خوفا. احكمت حولي رباط قارورتي وتشبثت بالمسدس، ثم ولجت الى الداخل..
وجدت نفسي فجأة اقف عند باحة واسعة. امامي مباشرة شيخ جالس كما لو كان في انتظاري. فتح عينيه ونظر الى بإلفة طبيعية كأنه اعتاد رؤيتي. تسمرت مبهورا عندما تذكرت فجأة انه نفس الشيخ الذي زارنا اثناء احتضار والد (آدم)! اما المكان فقد ادهشني بالتطابق العجيب مع ذاكرتي عنه. سبق لي وإن تخيلته من خلال وصف (هاجر)، لكنه كان من شدة تماثله كأني قد عرفته ورأيته من قبل. في وسط الباحة كان الشيخ مفترشا حصيرة ومتكئا على جذع سنديانة هرمة، اغصانها مورقة تمتد في الانحاء المعتمة من المغارة. كان يرتدي ثوبا ابيض فضفاضا ونظيفا، ويضع طاقية بييضاء مزخرفة بثقوب على رأسه الاشيب. بدا وجهه اسمر بلحية وشعر فضي، كوجه إمام او نبي مرسوم على لوحة شعبية. كان متربعا في جلسته وشفتاه تتحركان بتناغم مع تساقط حبات مسبحة سوداء تبرق بخضرة.
قلت :
ـ " السلام عليكم "..
بينما يدي تجهد كي تخفي مسدسي تحت قميصي.
سمعت منه همهمة مع سقوط خرزات مسبحته، وارتسمت خطوط علي محياه تشبه ابتسامة. عندما جلست قباله ميزت في عينيه لونا عسليا صافيا يوحي بطفولة وخدر كتطواف على مياه.
لحظتها اتاني يقين عجيب بأن هنالك لغة وحيدة يمكنها ان تحاورني مع هذا الشيخ، لغة وجد وانعتاق من المحسوسات. ملامحه ونظراته وهيئته كانت تنطق بلغة كونية خاطبت فيَ مجاهل كينونتي. بلا صوت ولا مفردات كان حوارنا يدخل القلب مفعما بعتاب وحنان وتعنيف وسؤال.
عندما وضعت القارورة أمامه، استمرت حبات مسبحته متساقطة متناغمة مع أصوات مبهمة تصدر من بين شفتيه كتراتيل بدائية. لفّ مسبحته حول القارورة، وحملها بين كفيه، ونهض ماشياً بخطوات وئيدة. توغل في أعماق المغارة حتى غاب.
زحفت إلى الحصيرة، وجلست مكانه، واتكأت على جذع السنديانة. ليس هناك من أثر لحياة غير اوراق وكتب وصفائح طينية مصفوفة ومتناثرة على أرض وعلى رفوف صخرية : كتابات مسمارية على صفائح فخار، كتابات قبطية على اوراق بردي، كتابات آرامية وسريانية وعربية واغريقية ولاتينية على قطع جلد وقماش، كتب صفراء، اناجيل وتوارة وتلمود وقرآن، كُتب حكمة وتصوف ودواوين شعر.
مع انسام الريح كانت اوراق متيبسة تتساقط من السنديانة وتتدحرج إلى اعماق المغارة. كل ورقة كانت تحمل هيئة إنسان، جميع الأشكال والأعمار والأجناس. حالما تصفر ورقة وتتيبس، كان الإنسان فيها يحتضر وتنمحي صورته.
رحت ادور مبهوراً، ابحث بين الأغصان عن أوراق قد تحمل هيئة أناس أعرفهم. على غصن يمتد حتى مدخل المغارة، رأيت ورقتين وحيدتين تتدليان تحت ضوء القمر. إحداهما خضراء خضراء مغمورة بندى، وكانت تحمل هيئة (هاجر)، الأخرى نصف مصفرة وأصاب جفاف اطرافها، وكانت تحمل هيئة (آدم)! لكن اين ورقتي، لا ادري؟
حينها سرت في أوصالي قشعريرة من خدر لذيذ، فانكمشت على نفسي، واسبلت جفني، ورحت التحم بجذع السنديانة. مثل سائل اذوب واتسرب اليها عبر مساماتها وجذورها. انتشر بين اغصانها واوراقها. اين ورقتي.. ابحث عنها بلا جدوى. انقسم الى ملايين وملايين الذرات، انتثر في اللامنتهى، نور جليل يغمر الوجود. متحرر كلياً من قيود المكان والزمان. خلال زمن لا ادري كم طال، قامت روحي بالطوفان عبر ملايين وملايين الأعوام والأميال حتى الجذور اللا وجودية للوجود.
* * *
إني الزمن السرمدي.. إني الكينونة المطلقة.. إني جماد في لا وجود.. اني خلود الخلود...
إني الاندماج الكلي. إني درَة أخلقها، وبها تتكامل خلقتي. متداخل مع أجزائي وذاتي في رحم دُرَتي : نوري بظلامي، صلابتي بليونتي، وضوحي بغموضي. إني سكون ونسيان وغيبوبة شاملة. إني جمود وموت خارج حدود المكان والزمان. خلال حقب لا تحصى من لا حياة وأنا حبيس رحم دُرَتي. تنمو فيَ حاجة غريبة إلى أن اكافح جمودي وإندماجي. أقرف من نعومة ملمسي، وأختنق من صلابة أعماقي. حدودي الدُرية تضيق علي وتكبت فيَ رغبة غريبة لم أعرفها مسبقاً:
حركة وعربدة في وجود بلا حدود، وانطلاق في آفاق مجهولة. إني اكافح جمودي واندماجي، أتكور حول ذاتي وأكدس حاجة متعاظمة إلى الحركة. في لحظة سأم كبرى يتصاعد فيّ غضب مقدس. يتراكم في أعماقي كل ما في كينونتي من طاقة للتمرد وحاجة إلى الانعتاق. بصورة لا أتوقعها... أنفجر..! أنفجر بعنف يجعلني اتمزق اشلاء لا متناهية، حتى أحسب اني استحيل إلى نثار ازلي الانقسام، مصيري التلاشي في المجهول.
أنا الدرة المتوهجة، أتناثر إلى عدد هائل من الأجرام والأكوان والأفلاك، تتقاذف مني اشلاء وحمم جبارة، تحيل اللا وجود إلى احتفال ناري من حركة أزلية وأضواء خلابة وانفجارات متعاقبة. اكتشف أني موجود، اني اتحرك وأتلذذ بتحسس تكويني، أتلاعب بذاتي وأعبث بأجزائي المتناثرة. أدور حول بعضي البعض، أتنافر وأتجاذب، أنطوي واتمدد، أتعاطى وأتلقى.
أنا اللذَّة، رعشة الوجود الشبقية الخلاقة. اللذة، هي هاجسي في خلق ذاتي وصيرورتي وجوداً كلياً. اللذة حركة، تناغم اندماج وانفصام، اقتراب وتناء.. إنها وجود وحياة وانسجام اضداد. بالتوافق الأمثل بين الولوج والخروج، الانغلاق والانفتاح، تنبثق لذة قصوى وارتعاشة نشوى، فيتحقق الحب الأسمى والوجود الأكمل.
أفجر هذا الكوكب وأطفي نيران ذاك. أجعل بعضها يرتطم بآخر، وبعضها ينفصل عن بعض. أخبو شموسا وأشعل أخرى. اغيّر شكل وجودي الهلامي كيفما أشاء. أرصع جسدي بنجوم، وأزين وجهي بأقمار. أختار الليل لراحتي، وأتأمل صورتي في مرآة أعماقي. اما النهار فللعبي وممارسة سلطتي على أجزائي.
حُقب طويلة تمضي وأنا أزاول عبثي بذاتي، ولعبي مع مكنوناتي، بالتدريج تبدأ اللذة تضمر والسأم يسري فيٌ وينمو. تكرار اللذة يبدد متعتي، ويُميت أنفاس اندهاشي. السأم نقيض اللذة، ينبثق من تكرار واختلال التناغم بين الاضداد. هو المغالاة في التقارب إلى حد الجمود والانقبار، وهو المغالاة في التباعد إلى حد الضياع والانتثار. إني في الإندماج أسأم، في الانفصام أسأم، ولذتي تكمن في انسجام ترددي بين الاثنين.
أتمعن في حالي، وأشاهد مكنوناتي الكوكبية تخبو وتبرد، تتجمد وتتصالب وتستحيل إلى كرات ملونة. تدورحول نفسها وحول شموس تحتمي بلهيبها.
هناك كوكب يجلب انتباهي. ما الذي يشدني إليه؟ أ ألوان خلابة ام هيئة مغرية؟ لعله في الموضع الأهم من تكويني : الرأس..! كوكب الأرض هذا ينقذني من سأمي، يصير لي موضعاً خصباً لازدهار شهواتي، أحسه واداريه، أمارس عليه إبداعي وابتكاري، أنفخ فيه ريحي الخلاقة، اسقيه مياه خصوبتي. اشق بحاراً وانهاراً، احفر اودية، وابني جبالاً، اخلق أراض وأحيلها إلى صحارى صلعاء، وأجعل غابات تنمو في اراض اخرى.
أتولع بهذا الكوكب الأرضي. هو سلوتي ومبتغى لذتي. اداعب جباله الناهدة، أشمٌ رائحة غاباته، ابلل روحي ببحاره وانهاره، وأتيه بصحاريه الموحشة. عندما يهدني التعب أستبرد بمساحاته المتجمدة وأتركها تذوب وتتبخر لتصبح غيوماً انفخها في الأعالي.
إنه كوكب يمنحني لذًة إدراك الجمال، ولذة أسمى وأشهى: إدراك الحياة وامتلاكها. اهناك أمتع من مراقبة الحياة تنمو على الأرض؟ اشجار واعشاب وأسماك وحشرات، تتلاقح وتتوالد وتتكاثر ثم تهرم وتضمر وتموت.. ائية روعة!
إنها لذة أن تبني وتهدم، ان تخلق وتميت، أن تمنح الحياة وتستلبها. ان تكون الها وشيطانا بذات الوقت.. انها أعظم ملذات اللذة.. انها السلطة.. انها الوجود!!
أني ادرك وجودي من خلال ميلاد وفناء مخلوقاتي. لا اكتفي بهذا. أمضي إلى الامام في إبداعي وعبثي. اخلق حيوانات ذوات إحساس لكي تدرك ما أفعله بها. تفرح وتحزن، تخاف وتتألم، تجوع وتبتهج بالشبع، والأهم من كل هذا أنها تحس الموت وتهابه. الحيتان والزواحف والكواسر والطيور، جميعها تحت سلطتي. مخلوقاتي التي تشعرني بكرمي وشحي، بشفقتي وطغياني. كما أشاء أحييها، وكما أشاء أميتها. إنها عبدي الوضيع وإبداعي العظيم.
كوكب الأرض اخلقه واكمل به خلقتي. خلاله أدرك ماهية كينونتي. إني جسم جبار: المجموعة الشمسية رأسي، والأرض دماغي ومأوى خيالي.. إنها مركز هواجسي وأحلامي وإدراك ملذاتي.. تطور الحياة على كوكب الأرض يعني تطور الخيال في رأسي. الكائنات الحية خلايا تفكيري. جميع ما تقوم به النباتات والحيوانات هي صور يبتكرها خيالي.
قبل أن ينوجد الإنسان في رأسي، كان تفكيري في أرقى صوره ممثلاً بالحيوانات، وديعة ضعيفة ووحشية كاسرة. لذتي تتصاعد إلى أقصاها، عندما ما أتنصت وأشاهد خلاياي الحيوانية تمارس غرائزها في رأسي : فحيح الحُبّ المتفجر وتأوهاته، صرخات ضحايا الافتراس وفتك الوحوش الجائعة.
لكن الحيوانات تبدأ تثيرسأمي : تفرح وتحزن، تحب وتكره، تخاف وتجرأ، لكنها لا تدرك من الوجود سوى البقعة التي تقطنها. تتوالد وتحيا ويلتهم بعضها البعض وتموت وتستحيل الى تراب، دون أن تفكر، حتى للحظة واحدة، انها جزء من وجود خالد ومطلق. وان ولادتها رغبتي، وحياتها خيالي، وموتها تعبي.
السأم اللعين من جديد يتسلل كداء في كياني. لعلي سأنفجر مرة ثانية، أبحث عن مصير آخر ولذة جديدة. أخشى على نفسي من نفسي. أحاسيس السأم تتراكم وتتراكم طوال أزمان وأزمان، حتى انطلق فجأة بانفجارات متعاقبة : براكين زلازل وعواصف وطوفانات جبارة تمحق عن كوكب خيالي خلايا حيواناتي البليدة، مخلوقاتي التي تقرفني بعدم إدراكها لجبروتي. تصطبغ الأرض بدماء وحوشي. حتى البحار والسُحب تغدو حمراء بدمي. أفرغ فيها عواطف كبت وأزمان سأم.
بالتدريج، غضبي يخبو، وانفجاراتي تخفت. تهدأ العواصف، وتنقشع العتمة الحمراء. تعود البحار الى أحواضها والأنهار الى مجاريها. شمسي تسكب أشعة لاهبة على أطيان ارضي المعجونة بمخلوقاتي. بالتدريج تنبجس من بين الأطيان كائنات غريبة. كالفطر تنمو وتتمطى تحت الشمس مجففة نفسها. مع الوقت، تتصلب وتتخذ هيئة حيوانية هي من اجمل ما أرى. امارس لذتي بمراقبة مخلوقاتي الجديدة هذه. اعينها على النمو، وأضفي عليها تلاوين إبداعي: أحسّن هذا الأصبع، وأصغر ذلك النهد. أغير موضع الأذنين، وأصغر منخري الأنف. أطيل الحنك وانتف الشعر، وارتب العضوين ليسهل تلاقيهما واندماجهما...!
إنها مخلوقاتي الجديدة العظيمة، مصنوعة من انفجـار حاجتي الى لذة أبدية لا تنضب.. من غضبي وخيبة أملي وتوقي الى جمال أمثل وانسجام مطلق. أجعلها تتمتع بأرقى خصال حيواناتي القديمة: وفاء كلب وخداع ثعلب، وحشية نمر ووداعة غزال، انقضاضة صقر وانسيابة حَمَام، تطفل جرثوم ونفع نحل، بلادة سمكة وذكاء قرد، قُبح اخطبوط وفتنة حصان … ثم أنفخ فيها ريحي الخلاقة لتصير:
إنـــــــسان!!
الانسان هو اكتمال خلقتي.. انه اروع ما في عبثي واعقل ما في جنوني..
انه الخلايا الأطور والأمثل في رأسي. مخلوق على صورتي، نموذج باهر لتكويني. أميزه عن جميع كائناتي. أضع فيه أعظم مافي خصالي "الخيال ".. إنها ملكة التفكير بما فوق المرئي والمحسوس، تذكر الماضي واكتساب الحاضر وتكهّن المستقبل. والأهم من هذا، انه يدرك وجودي، يتذكره ويحلله ويتنبأ به، يهابني، ويشيد لي المعابد، ويقدم لي القرابين، ويؤلف عني أسرارا واساطير. بأسمي ينشر الحب والأخوة، ويقدس العدل والحق، وبأسمي يعلن الحرب وينشر الخراب ويسفك الدماء ويمارس الطغيان.
إني للإنسان رمز الخير عندما يصنع خيراً، وإني له رمز الخير ايضاً عندما يقترف شراً. لذتي جنته، وسأمي جهنمه، ونزواتي هي شيطانه. بالإنسان أكمل خلقتي، وأبصر وجودي، وأصبح قادراً على سرد حكاياتي.
بالإنسان أجعل الكائن الحيّ يسمو ويرقى، يبتكر ويخلق ويعطي. بالإنسان أيضاً أستحيل انا إلى إنسان يحمل جوعاً أبدياً إلى المعرفة وتعرية المستور وإضاءة المُعتم. أمضي وجودي بين جواب وسؤال، يقين وشك، تقارب وتناء. بالشك والسؤال أخاف وأبتعد، وباليقين والجواب أثق وأندمج. جواب يقودني الى سؤال، وسؤال يقودني الى جواب. انها لذة المعرفة وحركتها السرمدية.
تتعاظم قدرات خيالي وتتنوع عوالمي. أمضي شغوفاً بخلق التاريخ، ولادة وموت، دول وشعوب وأديان. انتصارات وهجرات وثورات واكتشافات... جميعها خيال بخيال يدور في رأسي. جموع البشر لا تدرك ابداً حقيقتة كونها شعوباً من الخلايا، تعيش نزوات وجودي، سأمها من سأمي ولذتها من لذتي، تحيا وتموت وتتجدد في مخيلتي.
سعادتي بمخلوقي الجديد ما تلبث أن تتصدع. لا يأتيني السأم وحده. بل يجلب معه طوفانا من اسئلة وشكوك تمس إيماني بتاريخ صيرورتي. معضلتي تنبثق وتنمو مع توغل الإنسان أكثر فأكثر في متاهات الأسئلة والأجوبة. كلما تتراكم مكتشفاته، تتراكم شكـوكه وشهوات تمرده على سلطتي، كأتباع ما ان يطلعوا بإفراط على اسرار سلطانهم وخفاياه حتى تتصاعد فيهم روح التآمر والخيانة.
ليتني ما خلقته... يجعلني أفقد ثقتي بحقيقة كينونتي المطلقة. أ أكون أنا حقا خالق الإنسان؟ إني أتساءل أحياناً كيف يتسنى لمخلوقي أن يخرج عن طاعتي إن كان حقا جزءأ من وجودي؟ أيتنكر عضو لباقي الجسد؟ أليس الإنسان ماهو سوى خيال في رأسي، وحياته اجمعها تدور في ذهني، وأفكاره انعكاس لأفكاري؟ إذن، المعضلة تكمن فيٌ أنا... شكي في ذاتي أنا، يعبَر عنه الإنسان بشكه في وجودي انا!
أن الإنسان مخلوق على صورتي، يمتلك دماغاً فيه ما لا يحصى من خلايا الخيال، وهومثلي يخلق عوالمه وشعوبه واحلامه.. يخلق في رأسه تاريخاً كاملا يبدأ بعذابات انفصام وينمو في حركة سرمدية تبتغي حُباً واندماجاً. إذن هو كائن مطلق صغير يعيش في رأسي أنا المطلق الأكبر. إدراكي لهذا الأمر يقودني إلى اعتقاد غريب يهزني ويحطم فيٌ يقيني بكمالي، ويبدد لذتي بجبروتي : إذا كان الإنسان بما يمتلكه من ثقة بذكائه وكماله وسموه على باقي المخلوقات، ما هو سوى خلية خيال في دماغي، وهو لا يدرك حقيقته هذه.. قد يخمنها او يتخيلها إلا انه أبدا لن يلمسها ويتيقن منها. إذن، كيف لي أن أتيقن من أني لست مثل الإنسان؟
أيعقل أن أكون انا خلية كُبرى تائهة في وجود اعظم من إدراكي؟ ربما أني لست سوى خلية خيال في رأس مُطلق اعظم وأجلّ مني بما يفوق قدرتي على إدراكه، وجميع مراحل وجودي حتى الآن ما هي سوى خيال في رأس الكائن المطلق الأكبر!
إذن من أنا...! ؟
أ أكون خلية خيال في رأس إنسان. الإنسان هو مُطلقي الأكبر وهو عبدي. إني خالقه لأني وجوده الكلّي، وهوخالقي لأني بعقله اكتشف وجودي.. إنه عقل الوجود وكينونته العليا ومركز خياله واسمى مراحل الانسجام والتناغم بين المتضادات : ذكورة وانوثة، فاعل ومنفعل! حكمة ومشاعر. الإنسان، لذُّة الوجود القصوى. بالارتعاشة تتحد بذرتا ذكره وانثاه، وبالارتعاشة تنمو حياته. إني كلي... إني مطلق.
إني الحياة : شهوة الجسد للحركة والانطلاق في رحاب الطبيعة الأم.
إني الموت : شهوة الروح للتحرر من قيود الجسد والانطلاق في رحاب الوجود الاسمى.
اني الحُب : شهوة شهوات واتحاد الملذات وأمل الروح بتحقيق حريتها في حركة الحياة وحرارتها.
وجودي في انسجام حيرتي، في تضادي المتناغم بين إنسانيتي الفانية وكينونتي الخالدة. بين بدني الزائل وروحي السرمدية.
لا تزال قبائل روحي وشعوبها تنطلق في ارجاء رأسي، تجتاح غابات وصحارى وانهار وبحاراً. آلاف من حالات ولادة وموت. تستقر روحي على ضفاف دجلة والفرات. تستقر وتتناسل وتبني السدود وتحفر السواقي وتشيد المدن والمعابد والأبراج.. تزرع وتصنع وتحكي وتكتب وتخـوض الحروب، وبالطين الاحمر تصنع تاريخها. تعيش طوفانات وطواعين واجتياحات جيوش غزاة.. ترحل شمالا وجنوبا إلى أنهار وصحارى وبحار وأهوار وجبال. تولد روحي مرات ومرات، وتموت روحي مرات ومرات. تسقط في هاوية سحيقة… تسقط وتسقط وتسقط حتى ترتطم!؟
* * *
وجدتني مبطوحاً على الأرض. كنت وحيداً يغمرني ضياء الشفق الأحمر. بدت السماء ملطخة بألوان وشتات غيوم كوجه امرأة متبرجة. انتبهت إلى صرخات بعيدة ترتج بين أرجاء الوادي، تنادي بأسمي. نهضت مرتعبا تفحصت جسمي بحثاً عن كسر أو جرح. كنت سالماً بثيابي ومسدسي، وقارورتي متكئة على صخرة وبجانبها قارورة زجاجية لم اشاهدها من قبل!
كانت صرخات (آدم ) و(موسى) الدليل تشق الوادي منادية بأسمي. منذ ساعة وهم يجولون الوادي بحثاً عني. أخفيت القارورة والقنينة في حقيبتي، وقمت إليهم. اختلقت عذراً امام الدليل عن غفوتي المباغتة جنب صخرة عند سفح الجبل. عندما اختليت بـ(آدم ) وحكيت له ما جرى لي في ليلتي، لم يصدقني لولا رؤيته للقنينة. اطلعته على ما اعتقد بأني عرفته من الشيخ، دون ان ادرك كيف ومتى قال لي ذلك:
ـ"من اجل إبطال سحر القارورة، بعد ان تخرج منها (هاجر)، تملأ القارورة بسائل القنينة وتغلق غطائها، فتتحرر منها المرأة إلى الأبد. ذلك السائل هو إكسير خلود، من يشربه ستبتلعه القارورة من جديد ويصير مثلما كانت (هاجر)"!
هكذا إذن، كما ترون، أنهينا سفرتنا في (سيناء) وعدنا إلى (جنيف )، بعد ان امضينا ساعات الصباح الأولى نجول دون جدوى في أنحاء جبل موسى وجبل كاترين. اختفت المغارة ومعها غيمة رحلتنا. ليس هناك غير صخور حمراء. ليس من اثر غير بيضة افعى عثر عليها الدليل. وضعها في كيسه ليعمل منها تعويذة لطرد الشر وكسب الأحبٌة.
فصل سابع
ضياع القارورة والرحيل اليها
لكي أجنّبكم الملل من الاسهاب في سرد هذه الحكاية، أدخلكم مباشرة في فصل انتقالي، ويمكنكم اعتباره (اخير) إن كان لكل بداية آخرة. لكن سنٌة الوجود تقول ايضا ان كل آخرة لا بد ان تؤدي الى بداية.. الا يعقب الموت الميلاد، مثلما يعقب الميلاد الموت!. على اي حال، كما سترون انه فصل فراق وغياب وانتقال، فصل عذابات الطلق التي تسبق الميلاد..
وصلنا إلى (جنيف ) ونحن بلهفة إلى تجربة سائل الخلاص على حوريتنا. كانت الساعة الرابعة عصراً وشمس حزيران تزين سماء البحيرة، جاعلة سطحها ينبض بارتجافات متلالئة كهشيم مرايا. ذهبنا من المطار مباشرة إلى بيتي. كنا قلقين نلهث كأننا مقبلين على اختراق احدى المحظورات العظمى. اقفلنا باب غرفتي وفتحنا النوافذ وأسدلنا الستائر، ثم احرقنا بخوراً ورتبنا افرشة. هيأنا الشراب والدخان وأشعلنا شموعاً يتراقص وميضها على إيقاعات عودٍ وطبلة، ثم توكلنا!
اخرجت قنينة الاكسير، بينما تناول (آدم ) القارورة واخذ يفتحها. بدا كأنه يشارك الأضواء ارتجافاتها. أستكون حقاً آخر مرَة تخرج فيها حوريتنا من قارورتها؟ سينغلق عليها عالم فنائنا لحظة يغرق في السائل عالم خلودها.
ها هي الآن تظهر امامنا مغادرة قارورتها إلى الأبد. أجزاء جسدها كانت متفتحة لاستقبال عالم جديد - قديم، وهي في كامل نضجها وطراوتها، حلمتاها محمرتان شبيهتان بعيني ساحر. ابت ارتداء ثوبها لأنها تريد أن تمض لحظات قطع سرتها عن عالم قارورتها عارية كالوليد. تناولت كأس شمبانيا وشربت نخب لقائنا الأبدي. استنشقت نفساً طويلاً من اللفافة، ورمتنا بعينين متألقتين بمشاعر مزيجة من العرفان والغموض. قالت إن حياتها ستظل حتى الموت تابعة لحياتينا، وإنها لن تنفصل عنا أبداً.
كتمت ضحكة عندما فكرت أن هذه الحورية هي جدتنا الكبرى وعشيقة اسلافنا منذ بضعة آلاف عام. لم ينطق اي منا بكلمة. كان الفراغ مملوءاً بأنغام عود تراقص إيقاعات طبلة وصفير ناي. نظراتنا كانت تتلاقى وتتناءى محاولة دون جدوى تغطية مشاعرنا. قرأت حُبٌاً في نظرات (آدم ) وأسئلة يخشى التعبير عنها.
في تلك اللحظات، كنت فريسة أفكار وافكار، ورأسي كان مذياعأ اجتاحته مئة موجة. كانت موجة الشهوة والامتلاك هي الأقوى. كنت ارى علاقتي بـ(آدم ) قد عقٌدتها وعمقتها (هاجـر) بغرائبها وأعاجيبها، كان يستحيل في روحي إلى طفل وديع تكومت عليه حشرات اسئلتي.
امام انظار (هاجر) المتلهفة، تناول (آدم ) القارورة ومدها إليٌ. فتحتُ القنينة وشرعت بما أستطيعه من هدوء في سكب اكسيرها في القارورة. في هذه الأثناء كانت (هاجر) تتكىء على حائط وتغمض عينيها غارقة في غيبوبة بينما السائل ينسكب مشكلاً خيطاً دقيقاً يبرق بوهج شموع. لم تكن تقوى على مشاهدة قارورة خلودها تفيض وتنغلق من دونها. عندما انتهيتُ، ظلت هاجر غائبة مسبلة الجفنين. لأول مرة أراها تتعرق وتنبجس من جسدها قطرات لزجة تنزلق من جبينها وأبطيها. كانت تعيش لحظات تاريخية ستحررها إلى الأبد من عبودية خلودها.
وضعت القارورة في حقيبتي. وبحركة واحدة رفعنا يدينا، انا و (آدم )، ولمسنا (هاجر) معاً في اللحظة نفسها. فتحت عينيها وفاجأتنا بهيئة غير معهودة: نظرت إلينا بحيـاء وغطت نفسها بكفيها وإرتسمت على محياها ابتسامة ضنك وقلق، وبان تعب بشري على جسدها!
* * *
منذ تلك الأمسية، (هاجر) لم تعد (امرأة القارورة). في هذه الفترة، وقبل ان تحدث الكارثة، استحوذ على (آدم ) فرح طفولي لنجاحه في تحقيق رغبة عشيقته في الانعتاق من القارورة. كان يتأملها ويحلم أنها ستندمج بالحياة، ويشعر بالزهو كإله ينبهر بروعة مخلوقه. لم يكن ينصت لي عندما أقول إنها ستفقد إلى الأبد قدرتها على خلق لذة الخلود. ستغدو إمرأة أرضية، عبدة للحياة ببهجتها وبؤسها، خاضعة لأهواء المناخ وقوانين الدولة واخلاق المجتمع. سوف لن تكون لذتها كامنة في إرضاء عشيقها. قلق الموت والمرض سيدفعها إلى استثمار كل لحظة من عمرها من اجل الأفضل : سوف تحب، تكره، تغار، تكرم، تقسو، تتقن التهذيب وطقوس العلاقات اليومية.
كان (آدم ) يحلم انها عندما تحصل على إقامة رسمية ستمضي الوقت في دراسة اللغة الفرنسية والبحث عن سكن مناسب والاتصال بالناس والتعرف على( جنيف ) والتطبع على الحياة الجديدة. سوف لن تفوت لحظة واحدة دون اكتساب وتعلم. لذتها الكبرى ستصير المعرفة. سينبثق إلى الحياة نبوغها في التاريخ ولغات المشرق القديمة.. لغات عشاقها من الأحفاد : سومريون واكديون وآرميون وأقباط وبربر وعرب واكراد واتراك وفرس وافارقة واوربيون. بل انها ستبهرهم بمعرفتها للإغريقية واللاتينية. ستجلب الانتباه بمعارفها الموسوعية المفصلة عن تاريخ شعوب شرق البحر المتوسط وحكاياتهم وعاداتهم، وستكذب حين تدعي أنها قد درستها.
لكن الكارثة قد حلت مباغتة كصاعقة أحرقت حتى جذور حلمه. لم يخطر بالحسبان أن تكون النهاية سريعة مأساوية وساخرة إلى هذه الدرجة. بعد أن أمضينا الأسابيع الأولى في تدبير وضع إقامتها الشرعية كامرأة من هذه الدنيا. بعد جهود حصلنا لها على أوراق هوية مزيفة. اسكناها في فندق وعلمناها كيف تجيب عن أسئلة الشرطة، ثم كلفنا أحـد المحامين ليحصل لها على إقامة لجوء سياسي.
حتى الآن لم نعلم بالضبط كيف حدث الأمر! جهزناها صباحا، ورافقت المحامي إلى شرطة الأجانب، ولكنها لم تعد. انتظرنا وبحثنا ولم نجدها، حتى اتصل بنا المحامي مساء وقال إنهم سيطردونها.. سيسفرونها الى بلادها، أي الى العراق! هكذا ببساطة مأساوية ما خطرت على بالنا حتى بصورة نكتة. لم تنفع جميع اتصالاتنا بمقرات الأحزاب ولا بالمنظمات. هكذا وكأن قوة المصير إجتاحت قلوب جميع المشرفين على تسفيرها. قالوا إنها لا تتمتع بشروط حق اللجوء، وسبب الحرب ليس كافيا، خصوصاً وانها إمرأة، بعيدة عن خطر العسكرية. قالوا إن بلادهم مكتظة بالأجانب ومضطرون إلى مثل هذا الإجراء. وقالوا إنهم متأكدون أنها لن تضطهد في بلادها.
قالوا ثم قالوا، وانا و(آدم) أمضينا الليل ثملين برعب الكارثة. عند الفجر وكانت غيوم سوداء تغطي سماء المطار، عندما لحقنا اللحظات التي لاحت فيها (هاجر) محاطة برجال البوليس وهم يقودونها إلى الطائرة. صرخات (آدم ) الهستيرية لم تسمعها. وعندما أغلقوا الباب عليها استحالت الغيوم إلى غربان سوداء حطت على الطائرة وحملتها محلقة بها في سماوات الغياب!
* * *
نعم، (إمرأة القارورة) لم تفقد قارورتها فحسب، بل فقدتنا نحن ايضا، آخر آحفادها العشاق! امام هذه الكارثة لم نمتلك غير الصمت. ادركنا ان أية محاولة كلام مهما كانت فلن تنفع. يا ترى هل صحيح كان الأمر هكذا بهذه الاستحالة أم اننا تخيلنا هذا لكي نبرر حالة الخنوع والجبن التي هيمنت علينا؟ كيف حصل اننا لم نقم بأي خطوة جريئة ولتكن مجنونة من اجل منع تنفيذ هذا القرار الظالم؟! لو هددنا، مثلا، بالانتحار امام العالم، لو كشفنا حقيقة تاريخها العجيب.. لو قمنا بأية خطوة جريئة.. لو.. لو .. لكن إرادة الاستسلام كانت هي الاقوى.. لا أدري.. حتى الآن لا أدري كيف حصل هذا؟
هل صحيح ما يقال بأن هذا القدر الاحمق ما كان له ان يفرض نفسه علينا وعلى جميع المعنيين بتنفيذه، لو لم يكن مدعوما برغبة حقيقية كامنة في اعماق (هاجر) نفسها؟ قرأت مرة في كتب الروحانيين الآسيويين عن تلك الفلسفة القائلة: " ان كل ما يحدث للانسان، ايجابا كان أم سلبا، لا يمكنه ان يتحقق من دون مشاركة واعية او غير واعية من قبل الانسان نفسه.. ان الله والظروف الخارجية والصدفة، لا يمكنها ابدا ان تفرض مشيئتها من دون تواطئ الضحية وقناعتها الباطنية المندثرة في الاعماق بأنها تستحق قدر الخير أم الشر هذا"!
هذه الفكرة جعلتني اراجع كل ذكرياتي عن حياة (هاجر) خلال الأشهر الأخيرة التي اعقبت انعتاقها الأبدي من القارورة. كم من المرات عبٌرت بصورة غير مباشرة عن حنينها الى أرض الأسلاف، بلاد النهرين، وطن احفادها وعشاقها الكثار. كانت تمضي وقتها بسماع الاغاني العراقية ومطالعة أي كتاب يتحدث عن العراق. كانت تمضي منبهرة في مطالعة الصور التاريخية من آثار ومنحوتات ورسوم متعلقة بمختلف حقب تاريخ الوطن. عندما كنت اقطع عليها صفنتها كانت تغرق بالدموع وهي تسرد لي احدى ذكرياتها المتعلقة بتلك الصور.
اني على يقين ان مشكلتها لم تتوقف عند الحنين الى الوطن، بل زادت عندما هاجت في نفسها رغبة جياشة بأن تبدأ حياة جديدة.. نعم حياة جديدة بكل ما يعني ذلك من تغيير لكل تفاصيل الحياة: الارض والناس.. ويبدو ان الحياة الجديدة بالنسبة لـ(هاجر) كانت تعني بكل بساطة: العودة الى الحياة القديمة، حياة الوطن والاسلاف.. هجر سويسرا وهجرنا نحن ايضا، انا و(آدم)، خصوصا بعدما ادركت بأن عودتنا الى الوطن في ظل الظروف الحالية، امر مستحيل.. لا ادري مدى صحة مثل هذه الافكار، انها مجرد تخمينات.. اني حائر، ابحث عن أي تفسير لهذه الكارثة..
قررت بكل ما امتلك من طاقة وقدرة على التحدي والصبر ان التجئ الى النسيان. ان اية محاولة لتأنيب الذات لن تنفع، الفأس قد وقع في الرأس، وأي كلام سوف يعمقه أكثر. النسيان هو الحل. هذا ما قلته انا، اما (آدم ) فالنسيان يعني له المستحيل إذ انبجست فيه فوارة شهوات مخبولة بتعذيب الذات وانتظار الخلاص. (امرأة القارورة) بفتنتها الخالدة قد أدخلته جنة حلمه، وعندما صارت فانية راح ينزلق من جديد نحو جهنم انتظاره. يوم هبطت من علياء خلودها واختفت في الغياب راح يتهاوى وراءها مثخناً بجراح سقطته وبحثه عن حورية جنته.
كان يلتقيني كل ليلة ويبوح لي بشجونه، وكلماته ترتسم أخاديد على جبينه. يقول إننا جبناء، كان يجب ان نفعل المستحيل لنحميها. إننا قد خناها عندما تركناهم يرحلونها. ثم يفرك عينيه ويقول إنه تعب من السؤال وليس من الخمر. كان يمضي نهاره في محاولة العثور على أي خبر من طرف(هاجر). دون جدوى اتصل بالصليب الأحمر وبالعديد من المعارف من المسافرين إلى الوطن. لا شيء.. لا شيء.. سوى أخبار الحرب والخيبة.. كان يدمدم مع نفسه ويغرق في تأملات خيبته وكآبته. بعد أن يثمل ينطلق بشكوى تنمو وتستفحل. تارة يتحدث كفيلسوف جوال، وتارة يرقص بطريقة تثير سخرية وشفقة. كان يبدو كمدمن محروم من حاجته.
أدمن ليالي (جنيف ) بعبثها المحدود والمكرر. كان توقه يشتد إلى لقاء الأصحاب ليشكو لهم خيبته، ويظل يسرد عليهم حكايات اسلافه ومغامراته مع (امراة القارورة)، حتى أنهم بدأوا بالتهكم منه واعتبروه ضحية أوهام مرضية. اما شغفه بالنساء فكان يطغى ليصبح هوساً. كان يريد إخماد جوع ذئب مسعور أطلقته (امرأة القارورة) ورحلت..
يوما بعد يوم كنت أرى (آدم ) ينحدر في دربي حتى تجاوزني. لم يعد يهتم بـ (مـارلين )، ولا بحاسوبه وعمله. راح يمضي لياليه في ثمالة بين المراقص والحانات مفتشا عن حوريته في كل امرأة.
* * *
ذات ليلة سبت، بعد تسكع بين حانات وكؤوس نبيذ، يجد(آدم) نفسه في قاعة كبيرة، تصدح بين ارجائها موسيقى صاخبة واناس يرقصون محتفلين. إنها حفلة تنكرية يرتدي فيها الحاضرون أقنعة حيوانات وتيجان وأزياء أمراء عرب ومحاربين رومان وصيادين من عصور بائدة. رغم ثمله فإنه يحاول أن يغصب نفسه على إبطاء الشرب كي لا تسقطه الخمرة وتفسد ليلته. يشاهد مقاعد مترامية بين جمهور في حركة دائبة. شبان وشابات بعضهم يدخل حلبة الرقص ويضيع في غمرة عتمة وأنوار براقة، وبعضهم يغادر الحلبة، متصبباً عرقاً.
يرسم (آدم) على وجهه ملامح وقار، ويدع نظراته تسرح بنرجسية على أجساد الراقصين والراقصات، كأنه يستمد منهم كبرياء وجوده. نظره يتركز على امرأة، كما لو انه يعرفها. ثيابها مرقطة بزهور وفراشات.. بلوزة قصيرة تكشف عن زندين بضين وخصر نحيف وسرّة شهية. بنطالها يضيق على فخـذين وردفين متمرسين بالمشاكسة، بينما رأسها يتلوى بتناغم مع جسم نافر كمهرة جامحة. إنه يفكر أين رأى هذه المرأة؟ يبدأ بـ (مارلين ) و (هاجر) ثم يتقهقر إلى أعوام (إيمان ) حتى تبزغ باهرة كنهار ثلجي تلك (السجينة) التي ما فارقت روحه، يراها تترك قيودها وتتسلل من غرفة تحقيق رأسه.
حركات هذه المرأة تثير فيه رغبة جامحة في الافتراس، أن يلتهمها وتلتهمه مثل ثعبانين يتقاضمان من ذيليهما حتى النهاية. نظراتها الصقرية تزيد من نضوح عرق حار. ثمة حكات ونغزات طفيفة يحسها تنمو في أنحاء جسمه، وتسري قشعريرة خدر في رأسه هابطة إلى أسفل ظهره. تغمره أمواج متلاطمة من لذة ووجع. يصحو من استغراقه على ضحكات قريبة منه. شاب وشابة يلمسانه من خلفه ويقولان له بمزاح :
ـ "ذيلك رائع.. كأنه حقيقي! "
يلتفت إليهما، ويشاهدهما يمسكان بذيل طويل غليظ.. ليس لعبة، بل هو مكسو بشعر كث، وملتصق بلحمه من نهاية غضروفه وقد شق بنطاله!
يحاول (آدم ) أن يطمئن نفسه أن لا أحد ينتبه إليه فالجميع متنكرون. يستدير عازماً أن يغادر القاعة ليتدبر حالـه. فجأة، تتوقف الموسيقى والرقص ويسود لغط بين الجمهور. تتردد كلمة (اللعبة.. اللعبة)، وتمتد أصابع كثيرة مشيرة إليه!
يحيطون بالمرأة وهي واقفة بغرور تحدق فيه وعلى محياها ترتسم ابتسامة تجمع بين الوداعة وشهوة الافتراس.
الأصابع والعيون تزداد اعدادها وهي تشير ناحية (آدم). الجمهور ينزاح مشكلاً دائرة حولهما والمرأة شامخة أمامه كند قديم. يتجمد في مكانه، ولولا أسئلته المتراكمة لشك في حقيقة كونه بشراً مثل الأخرين. صوت مكتوم يعربد في أحشائه يدعوه إلى منازلة المرأة ونهشها. فجـأة تنطفىء مصابيح القاعة ويُسلط عليهما ضوء شديد شاحب، وتنبثق عبر مكبرات الصوت ضربات طبول بدائية وأنغام ناي حزين تتصاعد بتناسق مع اشتداد الضوء.
جسم (آدم ) ما يكف عن التثاقل والانتكاس. انه يبذل جهده ليقاوم حاجة الانحناء الى الأرض. يجد نفسه مجبراً على الوقوف على أطرافه الأربعة، ورأسه يحوم مهتزاً وعيناه ترمقان المرأة ببلاهة، وهي تقبض بكفيها على سيف متوهج جمراً!
تسري فيه رعشة رعب عندما يرى ظلّه على الأرض : ظل ثور حقيقي.. ذيله وقرنيه وبوزه ووبره، بل حتى مشاعره يحسها لأول مرة هكذا بدائية ووحشية بلا أعراف أو محرمات.
مع اشتداد قرع الطبول وتصاعد أنين الناي ينبثق شاب وشابة من بين الجمهور، ويقتربان من (آدم) بخطوات مسرحية، ويراوغانه بحركات ماهرة مدروسة. عندما يقتربان منه ويمسانه بخفة، يشعر بنغزتين حادتين كأنهما دبوسان يتوغلان بين أضلاعه. تتعالى هتافات تشجيع مصحوبة بضحكات واصوات تقزز تستقبل الشابين وهما يرجعان إلى عتمتهما.
روح (آدم) تهتاج وتنزف بأسئلة تفوق نزيف جراحه، وتبدأ أعاصير من القلق تجتاح كيانه، وأعصابه تبث إيعازات رعب تجعل القلب تتسارع نبضاته ويضخ دماً كبارود في العروق، فيحمر وجهه وتتجعد ملامحه وتجحظ عيناه وتتكور في أحشائه صرخات احتجاج تعلو وتعلو، وينفتح فمه، ولكن ليست كلمات رفضه هي التي تخرج إنما خوار ثور غاضب وجريح.. ثم يندفع بجموح نحو المرأة.. عيناه وقرناه مصوبة نحو سرتها، ليخترقها ويدخل فيها، لكنها تزوغ عنه بحركة متمرسة، وتثب واقفة قباله ووجهها الذي لم تفارقه ملامح الشفقة والاشتهاء، ينضح عرقاً على سيفها ويزيده بريقا.
مرة ثانية يخرج شاب وشابة، ويراوغان (آدم) بمهارة ومرح ثم ينغزانه بين اضلاعه، ويغوران في العتمة تصاحبهما هتافات تشجيع وتقزز. يشعر بنار تشب في لحمه وينسكب سائل حار على خديه بينما ترتج في صدره كلمات تنمو وتنمو كجنين :
ـ "يا إلهي رحماك... كم إني وحيد.."
هدير الطبول والناي يطغى على صخب الناس، والمرأة تدور حوله بإغواء، فتهتز تعرجات جسدها لتموج زهرات وفراشات ثيابها بتمايلات نشوانة. يهتز رأس (آدم ) يميناً ويساراً ويقعد مستنداً إلى طرفيه السفليين، ليلملم ما تبقى من قواه مدفوعاً ببصيص أمل أن يخرج حياً من هذه المهزلة. لكن في أعماقه ثمة هاجساً يجول، يرغب في ان تحل النهاية فورا ويُسدل الستار على المهزلة وعلى حياته معها.
يتكور بدنه وتتحفز أطرافه ويثب من مكانه كأي ثور هائج يتركز مصيره على طرفي قرنيه، وعيناه مشدودتان إلى السرة بحبل غيرمرئي من نور وموسيقى... دون أن تميل المرأة عن مكانها سوى خطوة واحدة تتحاشى نطحته بخفة، وترفع سيفها الجمري، وتصوبه بدقة لا تخطىء، ويهبط مختالاً براقاً ليخترق أسفل العنق ويتوغل نارياً في صدره. يستقر النصل في القلب فيقشعر بارتعاشة محايدة أصيلة هي خلاصة رعشات الوجود.. تنهار قواه ويتداعى مقعياً على الأرض. لم يعد يسمع شيئاً. تحت الضوء الشاحب يصطبغ ظل الثور بالدم..
ـ " قتلتيني يا امرأة.. قتلتيني يا إلهة..!!"
بينما هو يضطجع على الأرض، يشاهد وجه المرأة يحوم فوقه وفي عينيها نظرات متأملة كأنها تتطلع في لوحة. تتكاثر حوله وجوه رجال ونساء عرفهم وحمل أسماءهم وعاش حيواتهم ولا تزال بذرات كينوناتهم تتخاصب فيه صانعة رعشة الحياة.
في أثناء لحظات احتضاره وقبل أن يغمض عينيه، راح يهذي بكلمات متعبة غاضبة:
ـ "من أية سلالة حمقاء انت يا أنا؟ من أي تاريخ طائش تتوارث يا وجودي؟ كم صحارى موحشة في روحي.. كم أنهار خِصب وموت في عروقي؟
* * *
عندما وجدته منبطحاً على الحائط. لم أتعرف عليه في البدء. كانت الساعة تتجاوز الثالثة صباحاً وقد عدت من أمسية عاقلة مع بعض الأصحاب بينهم (مارلين ). لقد تخلف (آدم ) عن موعده وتركنا نمضي الأمسية مشغولين بغيابه. حتى زوجته لم يخبرها. كنا نعرف في دواخلنا أنه قد بدأ يتغير متحولاً إلى عابث سئم لا يحتمل أي ارتباطات مهما كانت أولية وضرورية.
أسفه المتفاقم خلق فيه تقلباً في المزاج وميلاً عنيفاً إلى إيذاء النفس. منذ ساعة تركت (مارلين ) بعد سينما ودردشة في مقهى مع الاصحاب. كنت راغباً باكمال ليلتي في حفلة راقصة على أمل العثور على إمرأة تقبل أن تمض الفجر معي. قريباً من القاعة في شارع (كاروج ) وجدت (آدم ) ثملا والنبيذ الأحمر يلطخ ثيابه. لم أسمع منه حكاية تحوله إلى ثور ومقتله بسيف المرأة إلاٌ في اليوم التالي، بعد أن استيقظ ظهراً في غرفتي.
كان لا يمل أبداً تذكر (هاجر) وتكرار سؤاله :
ـ"ماذا تعتقد.. أين هي الآن.. ماذا فعلوا بها.. هل اكتشفوا أنها تحمل هوية عراقية مزيفة.. أية أحكام سيطبقون عليها.. وهل يصدقون حكايتها لو أباحتها لهم.. ربما سيعتبرونها معتوهة أو جاسوسة.. حتى وإن عفوا عنها، كيف يمكنها الحياة دون أحفادها.. لعلهم...".
ولم أكن أجيبه بأية كلمة إنما كنت أتخيل لو أنها بقيت حتى الآن كيف ستكون علاقتي بها. يقيناً أني سالتقي بها على الدوام. سوف لن أتمكن من إقناعها بالاستمرار في عشقنا. ستقول إنها لم تعد ترض بمثل هذه العلاقة. صارت مثل جميع النساء، من الصعب عليها فصل الجنس عن العاطفة. بقدر ما يمتزج الجنس بالعواطف وأحلام الحُب، بقدر ما تحصل على لذة أكبر. أليس الشهوة والعاطفة لدى المرأة ممتزجتين تماماً، من الصعب فصلهما عن بعض؟ يبدو أنهما عند الرجل متجاورتان، يمكنه مزجهما ويمكنه فصلهمـا. وستقول لي (هاجر):
ـ"ربما لهذا السبب تستطيعون أنتم الرجال أن تحصلوا على لذة من البغايا، بينما هن لا يحصلن إلاٌ على نقود وقرف..!"
وستضيف ايضا :
ـ "لعل الأمر نابع من التاريخ. أليس منذ الأزلية وفعل الجنس عندكم أيها الرجال يبتغي اللذة المانحة للنسل، بينما الجنس لدينا نحن النساء يبتغي النسل المانح للذة.. فعل لذتنا مسكون بهاجس تكوين إنسان في بطوننا سنخلقه ونحمله ونغذي فيه الحياة؟"
هكذا كنت امضي الساعات كل يوم اتخيل حواراتي مع (هاجر) التي هجرتنا. رغم اني كنت، كما يبدو في الظاهر، لم اتأثر كثيرا بغيابها ولم تفجع حياتي كما حصل لـ(آدم)، الا اني رغم ذلك، لا استطيع ان اتخلص من حضورها في روحي وكياني وساعات يومي. كل حركة اقوم بها وكل خبر اسمعه او كتاب اقرأه او أية حادثة مهما كانت تافهة تمر بي، كل شيء كل شيء كنت اتخيل بأني اسرده الى سيدتي الغائبة واحاورها عنه. بلغ الامر اني رحت اقولب حياتي حسب النصائح والآراء التي كنت اسمعها منها في خيالي، حتى وجدت نفسي قد تغيرت تماما. اني على يقين بأنها لا زالت حيٌة في مكان ما واني احادثها حقيقة بواسطة توارد الخواطر..
(آدم ) لا زال ينزلق الى حياة عابثة شبيهة بحياتي المعتادة، بينما أنا أنسحب الى حالة من الانكفاء على الذات والتفكير بطريقة أقل شهوانية.. صرت اميل اكثر فأكثر الى البقاء في غرفتي وتمضية وقتي في رسم وتأمل. لقد خفٌت فيٌ نيران توقي الى الناس والنساء والأصحاب..
كنت أحس في أعماق (آدم ) هموماً لا يريد الإفصاح عنها مباشرة، إنما فضٌل أن يواريها خلف قناع من تساؤلات فلسفية وشكوك وجودية، لكني خمنت من خلال أحاديث متقطعة مبهمة يفصح عنها في أثناء ثمالته أن في أعماقه تجري مقارنة لا تكل بين زوجته و(امرأة القارورة). لعل تجربة (هاجر) قد نبشت في روحه إحساساً ينتاب الكثير من الأحبة والأزواج : تهب أنسام الأخوة فتخمد حرارة الشهوة؟ الروحان تنسجمان أكثر فأكثر مع ديمومة العلاقة، لكن جسد الرجل يمل التكرار.
بعد حوارات عديدة مع سيدة الخلود حول هذا الموضوع،عرفت بأن الشهوة لدى الرجال نقيض الأخوة.. انها غرائبية وبدائية متحررة من العقل والتفاهم، بينما الأخوٌة تعوٌد ومعرفة وثقة وتقدير. ينفصل بدن الرجل عن إمرأته رغم ان روحه قد تظل مشتبكة مع روحها. على الأرجع أن المعضلة لاتكمن في شهوانية الجسد وطهارة الروح، بل في محدودية قدرة الجسد على بلوغ شهوانية الروح الخالدة. انها تلك القصة الأزلية عن معانات الجسد عندما يدرك مع العمر ضعفه امام ابدية الروح. كلما شعر الجسد باقتراب يوم الفراق والفناء كلما تشبث بالجنس الذي يمنحه بعضا من وهم الخلود خلال لحظات اللذة وبلوغ الذروة السماوية.
* * *
كنت التقي بـ(مارلين ) في مناسبات عديدة. في كل مرة كنت اقرأ على محياها آثار حزنها وقلقها على زوجها وجنينها. ما كانت تفقه سرٌ التغيرات التي طرأت فجأة على (آدم ). أنا من انتبه إلى عودة أحاسيس غريبة يفترض أنها فارقته بعد أن تركنا الوطن. حبه لزوجته قد غدا شبيهاً بحبه القديم لأهله. في كل مساء عند عودتنا إلى الدار في بغداد، كان قلب (أدم ) مضطرماً بهاجس خوف ورغبة أن تكون قد حلت نكبة بعائلته، وجميع إخوانه وأخواته ووالديه قد قضوا نحبهم في حادثة. كان حلم يقظة أقرب إلى الواقع، حتى أنه كان يتوهم للحظات ان أبناء الجيران الراكضين في الزقاق مقبلون ليخبروه بالكارثة. كان خياله يسرح في الحالة التي سيكون عليها عندما يتلقى الخبر. سيحزن ويبكي ويندب لكنه سيتحرر من عبودية حبهم.
أتساءل أحيانا إن كان تعلق (آدم) بعالم حورية حلمه ليس سوى تبرير لحتمية موت، ومكافحة رعب فناء، وإضفاء جمال على قُبح غياب. في انتظار النهاية كان يمضي عمره في بحث عما يعوضه مؤقتاً عن جمال الآخرة. لقد يأس من حُب أمه التي كانت كراعية لقطيع من أبناء وبنات، ليست مهمتها أن تمنح الحُب إنما أن تعلف وتوفر حداً ممكناً من الحياة. ويأس بعد أن فارقتنا (السجينة) ودفنوها حية، ثم ملّ من انتظار (إيمان) بعد عشق بائس من طرف واحد دام بضع سنوات. أمضى أعوامه يؤمل نفسه بإنتظار مجهول مطلق سينقذه من بؤسه. خلال أعوام شغفه بـ(إيمان) تملكه وهم، أنه سيكون نبياً. أمضى لياليه مترقباً هبوط الملاك (جبرائيل) برسالة النبوة من السماء. أراد أن يصير ككل الأنبياء، مخلصاً ومنذراً بالكارثة. أليس الأنبياء ما هم إلا منذرون بكارثة ومبشرون بخلاص؟ إدراكهم لرعب الموت والفناء يقربهم إلى القوة المطلقة. كل منهم يدعو إلى مشروعه الخاص لتهيئة الناس لمواجهة مصير محتم. في فتوته، توقه إلى النبوة تلبس شكل (سوبرمان). قرائته الحكايات المصورة جعلته لأعوام طويلة ينتظر هبوط القوى الجبارة من حطام كوكب أسلافه المجهول، ليمتلك القدرة على إصلاح العالم وخلق الإنسجام المطلق. مع بروز زغب شاربيه برزت فيه رغبات التغيير من خلال السياسة، إذ ارتدى نبي روحه ثياب ثائر عصري.
إني أغيظ (آدم ) أحياناً، عندما أقول إن التنظيم كان له أماً وحورية حُرم منها، والدولة كانت رباً وأباً عانى من سلطته وجبروته. اختار تنظيماً ثورياً، لينتقم لسنوات حرمانه وجفاف حياته. غرق في تصوف حُب الجماعة والتضحية بالحياة من اجل حرية وسعادة وأنوثة ولذة مطلقة : آلهة الرحمة صارت تنظيماً، والمؤمنون صاروا كادحين، والجبار صار دولة، والشياطين صاروا برجوازيين، اما جنة حوريته فقد صارت مدينة حُب ومساواة!
الحقيقة أني عندما انضممت معه، لم اكن اختلف عنه في جميع هذه الأمور. هو كان يناضل ليفني حياته من اجل الثورة، ويقول انه سيبقى خالدا في ذاكرة الشعب. أما انا فكنت أناضل لأنتزع حياتي واغتصب لها وهم إنعتاقي.. امارس تمردي على واقع بائس، ومن اجل تمتعي بإيذاء رجال اقوياء يخصون فيّ فحولتي ويغتصبون حريتي بقوانينهم واخلاقهم واكاذيبهم وسجونهم. اني ضد الحاضر من اجل الحاضر، أما(آدم) فكعادته ضد الحاضر والماضي من اجل مستقبل بعيد بعيد حتى يبلغ آخرته وجنة حوريته الخالدة!
* * *
لا ادري كيف وجدت نفسي ذات يوم اقوم بإقناع (آدم ) و(مارلين ) بتمضية يوم أحد في نزهة في جبال الألب التي لم تنقطع الثلوج عنها حتى في الصيف. بينما كان القطار يشق دربه نحو مقاطعة (فاله)، كنت أتمعن في وجوهنا ترتسم عليها خطوط هاجس بأننا نقوم برحلتنا مدفوعين بخفايا بعيدة عن متعة الثلج. لم تكن النيات واضحة، حتى أنا كنت مشتتاً بين رغبتين : الترفيه عن (مارلين ) وخلق فرصة تفاهم بينها وبين (آدم ) بينما في الأعماق هنالك شبه رغبة مدفونة : أن نقف جميعنا أمام بعضنا البعض لتتمزق عنٌا شرنقة غموض وحيرة نسجتها الظروف حولنا. كنت راغباً في أن أتخلص بضربة طائشة من وضعية مقلقة وطارئة.
كانت شمس (ايلول ) تلقي بضيائها على وجهيهما وقد طاف نظرهما عبر النافذة على تدرج الوان رائع في القه، يبدأ من زرقة بحيرة وخضرة شاطئ وعتمة سفح وبياض قمة، ثم زرقة سماء فضية تتخللها غيوم سائحة.
وصلنا القرية واستأجرنا زلاقات. تمنيت لو أن (هاجر) مستمرة معنا في وجودها، تحكي لنا عن تواريخ اوطان وشعوب واناس حالمين واشرار وطيبين وابطال مسحوقين. اني على يقين انها ستحب (مارلين) مثلنا، ولوجدت فيها إمرأة تجيد الصداقة والاصغاء. انتبهت الى ان عواطفي إزاء (مارلين) كانت تتعمق وتتلبس شكلا غريبا عن طباعي القديمة. كانت مشاعر خاصة فيها من العادي بقدر ما فيها من الغموض. وانا ارقب بطنها تكبر بالجنين، كنت احس كأني معني مباشرة بالأمر..؟!
امضينا النهار في القمة المثلجة، تغمرنا اشعة ذهبية تنسكب على ثلج فضي. جلسنا في المقهى لاحتساء بعض النبيذ. دون إعداد أو تفكير، وكأني انفذ إرادة عليا اشبه بمصير قدري، امتدت كفي خلسة الى حقيبتي السوداء. نظرت الى القارورة التي تركتها( هاجر) وغابت. لعل (مارلين) لم تفقه غايتي وهي تراني اسكب سائل الخلود في قارورة النبيذ الاحمر. والحقيقة اني انا نفسي لم اكن افقه معنى ما اقوم به. كنت انفذ إرادة عليا اوحتها لي سيدتي. هي التي ما كفت في الايام الاخيرة عن مطالبتي بالقيام بهذه الخطوة الغريبة التي اجهل تفاصيل نتائجها، غير نتيجة واحدة وحيدة، هي التي تهمني:
" اننا بعد احتساء سائل الخلود سوف ننتقل الى عالم سيدة الغياب..!!"
كان (آدم) يرقبني بصمت متواطئ، بينما (مارلين) ترمقني ولمعان الفضاء في خضرة عينيها، ثم قامت هي برفع قارورة النبيذ الممزوج بسائل الخلود، وراحت تصب في كؤوسنا. ثلاثتنا معاً رفعنا الكؤوس واتجهت ابصارنا نحو بطن (مارلين) ووضعنا اكفنا عليه، ونطقنا معاً بصوت واحد:
ـ " نخب صحتك ايها القادم.. ليغمرك سلام ابدي..".
بقينا جالسين بعد ان انتهينا من نبيذنا. كانت الشمس قد حطت قبالتنا على قمة الجبل. رأيت في عيونهما كيف ان (هاجر) بحضورها وغيابها قد اثرت فينا جميعا. هل تدرك( مارلين) انها تحمل جنينها بفضل خصب (إمرأة القارورة)؟ اما انا و(آدم) فقد نقلتنا الى دورة حياة جديدة. يخيل الي اننا عندما انطلقنا من جزيرة طفولتنا، كل منا شق طريقا في المحيط معاكسا لاتجاه الآخر. حينما اكملنا نصف دورتنا حول الارض، في الوسط، عند جزيرة هجرتنا التقينا معا بـ ( هاجر). كانت حلماً فيه اجتمعنا واندمجنا، لكننا انفصمنا بعد ان غرقت جزيرة حلمنا في غياهب بعيدة. عدنا من جديد الى درب الافتراق، لنكمل النصف الأخير من دورتنا العكسية في محيط المجاهيل: هو يشق درباً اتيت انا منه، وأنا اشق دربا اتى هو منه، عسى ان نلتقي مرة أخرة في جزيرة عالم آخر.
أحسست بنشاط مفاجىء ورغبة جامحـة في التزحلق والانطلاق كأن جرعات الاكسير قد دست يداً عابثة في رأسي. معا ومن دون كلام قمنا وتناولنا زلاقة خشبية طويلة وتوجهنا إلى منحدر قريب. كان المكان يعج بأناس يلعبون ويهبطون بزلاقاتهم. وضعنا زلاقتنا متجهة ناحية المنخفض. جلست أنا أولاً، وجلست (مارلين ) بيني وبين (آدم ) واضعة القارورة في حجرها. شبكت ذراعيها حولي، وند عنها فجأة صوت متوجع:
ـ " ارجوك تمهل.. أظن.. جنيننا هائج فـ … ".
ولم أسمع بقية الكلام. ينقطع صوتها بضجة مرور خاطف لزلاقة. ثم لا أدري أي يد قوية عابثة تدفعنا دون أن نتدارك الأمر. تشق زلاقتنا دربها منحدرة بسرعة متصاعدة. تنزلق اكثر فأكثر دون ان أمتلك اية قدرة على التحكم بها. ليس طبيعياً أن تطول هكذا مسافة الانحدار، هناك عادة مرتفع رملي يوقفنا. (مارلين ) يشتد تشبثها بي، وذراعا (أدم ) تحيطان بنا، وتتعالى صرخاتها :
ـ "الجنين... الجنين...."!!
الأصوات تبتعد وتختفي. الناس والزلاقات وأشجار الأرز تتبدد كأنها على شاشة آخذة بالاحتراق. الزلاقة تعدو وتعدو.. تلتهم الدرب نحو الهاوية العظيمة.. لا تنفع جميع محاولات إيقافها.. الثلج يملأ أحذيتنا، وتغور أصابعنا فيه.. عبثاً نحاول أن نرمي أنفسنا.. ملتصقين بالزلاقة كأننا جزء من خشبها!
يبدو محتماً سقوطنا في أعماق الهاوية ليضمنا الوادي في أحضانه. شعورنا بالمصير القادم يشدنا إلى بعضنا ولا نعد نميز بين أحاسيسنا. مثل معجزة خرافية إذ رأينا زلاقتنا تجتاز حافة الهاوية وتمضي مُحلقة فوق الوادي.. نحن نطير وتحتنا غابات.. غدير متجمد.. صخور عملاقة.. أكواخ رعاة..!
زلاقتنا تتقدم نحو قمة الجبل المقابل.. نحو شمس مضطجعة هناك.. نغور في خيوط هالتها النحاسية.. صرخاتنا تمتزج بصرخات (مارلين) وهي تعلو بكلمة واحدة :
ـ"الجنين... ".
نتوغل ونتوغل في أعماق قرص الشمس مغمورين بشلالات انوار ذهبية.
الانوار تتكشف شيئاً فشيئاً عن مشهد عجائبي:
زلاقتنا مستمرة باندفاعها في صحراء ممتدة أمامنا نحو أفق غير مرئي. بثور وأورام منتثرة على السطح. رمال معفرة بآثار جمال وخيول وآلات. في الآفاق تنتشر ينابيع تنبثق منها نيران أزلية، هالاتها نحاسية داخنة تلطخ ازرقاق السماء، وروائح نفط نتنة آسنة تعبق في الهواء. الأب يقول عنها:
ـ "إنها من بقايا الشعوب العاصية.. اندثرت بأموالها وخطاياها في الأعماق.. ها هي الأرض تهضمها وتتجشأ بها نفطا وغازاً مشتعلاً... ".
حول ينابيع النار تستلقي جثث : عسكريون ومدنيون، نساء وأطفال، جثث بأزياء مختلف حقب التاريخ، تعبث بها ريح من رمال ودخـان وصرخات تعبق بروائح موت وميلاد.
صرخاتنا ممتزجة بعصف الريح ترتج في الفضاء، وزلاقتنا ما تكف عن اندفاعتها. تتجه نحو نهر يشق مجرى افعوانياً وسط الصحراء. على شواطئه تنتثر حقول قمح وبساتين نخل وحمضيات. في مياهه الغرينية الحمراء تستقر سرتنا. الأم تقول:
ـ "إن عشت يا ولدي فبفضل هذا النهر.. مثل أسلافك. يوم ميلادك رمينا إليه سرتك. بمياهه تكونت خلقتك. وبمياهه ستظل خالدة روحك...".
بسرعة جياشة بقوة المصير، كنا نشق دربنا وسط نيران وجثث منتثرة في صحار وقرى ومدن محترقة، مندفعين بشغف تواق إلى أحضان النهر حيث دوامات حميمية ابتلعت ولفظت من قبلنا أقواماً وأقواماً...
رغم رعب الحقيقة والدوامات الجائعة التي تنتظرنا، إلا ان صراخنا يخفت وتسري فينا خدر وسكون، ويعم روحنا صفاء شذري، وتتجسد أمامنا رؤية تبهرنا بوضوحها:
جنين ينبجس من دوامتنا، يطفو مع قارورته فوق الماء، وتمتد الينا يد حنونة تساعدنا على الزحف حتى الشاطىء..
عبر لجة الحيرة وغبش الرؤية تتجلى( سيدة القارورة) فوقنا شامخة بقامتها الخلابة ترتسم على محياها حقول وقرى ومدن مغمورة بخضرة واضواء نيران أزلية...
من هنا تبدأ حكايتنا الحقيقية القادمة...